علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلم أشراط الساعة *


 


 

 

          قال الإمام البخاري رحمة الله تعالى عليه في صحيحه من كتاب الفتن وأشراط الساعة . باب : إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة . عن حذيفة رضي الله عنه قال : لقد خطبنا النبي خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت فأعرف ما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه . متفق عليه

 

وفي هذا الخبر أبين دليل على أن ليس كل ما أخبر عنه المصطفى من أخبار الساعة وأشراطها قد أحصاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلموه بالإتفاق كما لم يعلموا أدلة الأحكام بالإتفاق ، فقد يخفى هذا ما لا يخفى غيره وهكذا هو الأمر بأحاديث الأخبار ، فقد ينسى هذا ما لا ينسى الآخر ، بل قد ينسى أحدهم ما يذكر به لاحقا , وقد لا يذكره فيطويه النسيان .

 

وعلي رضي الله عنه من الذين سمعوا ووعوا ، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصه ببعض الأخبار دون غيره ، مثل خبر الخارجي ذو الثدية لما أصر على وجوده مع القتلى !! ، ولما قالوا له : ليس معهم ! . أصر على أنه معهم !! ، وهذا ليس من علم الغيب المبتدأ ، بل هو ما خصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأصحاب ، وذلك أيضا مثل خبر زمن قتله وصفة ذلك ، حتى كان يتساءل متى يبعث قاتله فيخضب ما بين هذه وهذه !! ، يشير لمنكبيه .

 

ولما سأله الناس هل اختصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ـ يريدون بذلك الأحكام قطعا ، وإلا قـد ثبت حفظه وانفراده ببعض الشيء دون غيره ـ ولذا كان جوابه لهم على اعتبار القصد وبين لهم ما عنده في الأحكام ونفى الإختصاص بالأحكام دون الناس وذلك فيما ثبت عنه في الصحيح .

 

روى البخاري عن أبي جحيفة قال : سألت عليا رضي الله عنه : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ ـ وقال مرة : ما ليس عند الناس ـ فقال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن ( إلا فهما يعطى رجلٌ في كتابه !! ) ومـا في الصحيفة ، قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر .

 

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث : في رواية الحميدي : إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه . وكذا في رواية النسائي ، وتقدم في كتاب الجهاد عن مطرف بلفظ : إلا فهما يعطيه رجـلا في القرآن . وليس المراد تعميم كل مكتوب ومحفوظ لكثرة الثابت عن علي من مرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في الصحيفة المذكورة ، والمراد ما يفهم من فحوى لفظ القرآن ويستدل به من باطن معانيه .

 

وقال في موضع آخر : الاستثناء الثاني في الحديث منقطع ومعناه ، لكن إن أعطى الله رجلا فهما في كتابه فهو يقدر على الاستنباط فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار . وقد روى أحمد بإسناد حسن عنه قوله : والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله وهذه الصحيفة . وهو يؤيد مـا قلناه أنه لم يرد بالفهم شيئا مكتوبا اهـ .

 

قلت : وقد حملوا معنى الحديث ـ حديث أبي جحيفة ـ على علي رضي الله عنه وأخطأوا في هـذا الحمل والصحيح أنه في المهدي فهو الذي يؤتيه الله تعالى فهما في كتابه وهـو المعنى المراد في قوله تعالى المذكور سابقا : ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾ أي يؤتيه الله علم ذلك بالفهم .

 

وقد وردت الإشارة لهذا المعنى فيما يؤثر عند أهل الكتاب عن أنبيائهم في أمـر المهدي كما ورد عنه فيما ينسب لزبور داود عليه السلام قال في خبره : اكشف عن عيني فأبصر معجزات من شريعتك .

 

وفيه : علم عجيب فوق طاقتي أرفع أن أدركه ، أين أذهب من روحك وأين أفر من وجهك . وعند إشعياء : يوقظ كل صباح ، يوقظ لي أذنا لأسمع كالمتعلمين ، السيد الرب فتح لي أذنا وأنا لم أعاند ، إلى الوراء لم أرتد .

 

ومن الخطأ استدلال ابن تيمية رحمه الله في حديث علي هذا وحمله مفهومـه على ( علماء الحديث ) وقد وسع في ذلك ضيقا وعمم مقصورا ، والصحيح ما قررته هنا أن ذلك خاص في المهدي لا يجوز اعتقاد ذلك لغيره ، فهي أخص صفات المهدي به ومفتاح أمره الذي لن يهبه الله إلا له اهـ(1).

 

ومما انفرد بذكره رضي الله عنه في أخبار ما يكون بعد خلافة عثمان رضي الله عنه وجاء الواقع مصدقا لما قال ما يدل على أنه قال بذلك عن علم من المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وذلك فيما رواه عنه سيف بن عمر التميمي حين تجهز لغزو الشام أنه قال في خطبته لأهل المدينة : أن الله عز وجل بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر قائم واضح لا يهلك عنه إلا هالك ، وأن المبتدعات المشبهات هن المُهلكات إلا من حفظ الله ، وأن سلطان الله عز وجل عصمةُ أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ٍ ولا مستكرهٍ بها ، والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إليها .

 

يريد إلى المدينة وهذا لا يعلم إلا بالوحي ولا يمكن قوله بالرأي ، وهو مما ثبت يقينا فيما بعد على تطاول العصور بالناس والسلاطين وكانت الحال كما قال منذ خروجه إلى العراق لم يعد سلطان المسلمين العام إليها ولن يكون إلا كما قال رضي الله عنه حين يأرز الإيمان إليها وذلك بقيام خلافة المهدي عليه السلام فيها .

 

وقد أكد على هذا المعنى رضي الله عنه من وجه آخر على ما رواه أيضا سيف التميمي في كتاب الردة والفتوح فقال : عن القاسم بن محمد أن عليا مر على فتيين بالمدينة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وذلك قبل أن يبايع وهما يقولان : قُتل ابن بيضاء ومكانه من الإسلام والعرب ثم والله ما انتطحت فيه عنـزان ! ، فقال علي : ما قلتما ؟! ، فأعادا عليه ، فقال : بلى والله ! ورجال بعد رجال وكتائب بعد كتائب ، وزحوف بعد زحوف ، ورجال وكتائب ، وزحوف في أصلاب رجال ، حتى ينادى !! أو يخرج ابن مريم !! .

 

وهذا كسابقه ليس مما يقال بالرأي ، وزاد أن لا انتهاء لذلك حتى ينادى باسم المهدي عليه السلام وحينها فقط يعود سلطان المسلمين المظفر وتزول الفتن والمحن عنهم .     

 

       ويعد علي رضـي الله عنه بحـق من أعلم الصحابـة بأشراط الساعة وأكثرهم إحاطة بأخبار ذلك لكن الأحاديث المنقولة عنه بهـا قلة لكنه إذا حُدِّث عنه أتتك منه عجائب المفاريد مثل ما مر معنا قبل وسيمر .

 

ولقلة المرويات عنه في هذا الباب أسباب من أظهرها عزوف أكثر رواة الحديث عما يروى عنه بحجة أن الشيعة كثيرا ما يكذبون عليه ، مع أنهم لم يحرصـوا على رواية الصحيح من ذلك عنه ، بل ترك ذلك حتى اختلط بما كذب عليه بالفعل ، حتى كاد يندرس بل قلَّ عنه ما روي عن طريق الثقات .

 

وصار في المتقدمين مجرد الرواية عنه رضي الله عنه في هذا الباب بابا للتهمة بالكذب ، أو التشيع ، حتى جبن الكثير عن الرواية عنه .

 

بل بلغ الأمر أن يتهم بالرواية عنه سواء بالأخبار أو المناقب الراوي عنه بالتشيع حتى ولو كان صحابيا مثل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

وإليكم هذه الرواية الذهبية عنه في شرط من أشراط الساعة ما مر عليَّ مثلها قط ، أنه قال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتعطفن هذه الآية عليكم عطف الضرُوس(2) على ولدها : ﴿ ونريد أن نَمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين (3) .

 

يريد آيات سورة القصص : ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين ِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ علا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ .

 

وهذا من نبأ ما يكون آخر الزمان .

 

وقد كان يتوهم بعضهم عليها أن هذا مما يراد به بني أمية وليس كذلك ، بل هي داخلة في عموم ما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ما كان في السابقين سيكون في هذه الأمة مثله ، وسيحمل أمر شرار هذه الأمة وخيارها على ما حمل عليه شرار وخيار من سبق ، ورد ذلك عنه في أكثر من خبر .

 

ولا فرعون علا واستضعف العباد وجعلهم شيعا مثل فرعون هذا القرن " أمريكا " الملعونة ، فقد فعل بها بأهل الإسلام وغيرهم الأعاجيب ، وكان ساستها وعسكرها من أشر المفسدين في الأرض .

 

وها هي آخرا تستضعف عباد الله من المسلمين ، وسيمن الله على عباده بإهلاكها كما أهلك فرعون وجنوده ، وسيورث الرب عباده الأرض كما وعد على أنقاض دولة هذا الفرعون الطاغوت .


 

 


 

* نشرت هذه المقالة في موقع المهدي بتاريخ 30/3/1424 هـ الموافق 31/5/2003 .

(1) من كتاب ( نثر الدرر في جواب إشكالات على أمر المنتظر ص 21 ) .

(2) قال شريك : الضروس هي الناقة ينحر ولدها ويحشى جلده ، فتعطف عليه وتدر .

(3) رواه علي بن الجعد في مسنده .