﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ، لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ ، قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
سأتجاوز الوقوف مليا عند كون هذه الآيات قد وردت في سورة المؤمنين بالذات ذلك للتأكيد على المؤمنين بأن يتعلموا منها الخير ويتجنبوا الشر وسننه ، ألا وإن من سنن الشرور السمر ولما يكون السمر بالهجر والمراد هنا كلام التخليط ، فذلك آكد بالنهي لأنه أبعد عن الخير ، وحين ترى المؤمن مبتلى بالسمر والكلام الفاضي فلن تجده إلا فارغا شبه مخبول تستعصي عليه سبل الخير وأن يمسك بأثبتها ويحسن جمعها .
نعم مما يؤسف له أن هذا مما عمت به البلوى في عصرنا حتى وقع به من يحسب على الصلاح وتجد منهم من لا ينصاع لنهي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السمر بعد العشاء لأنهم في التفاهات والتخاليط أبدا لذا لا يشعرون ويدركون بركة ذلك النهي ، بل يفقد أكثرهم القاعدة التي يبنى عليها معنى ذلك النهي فتنشب بهم الغفلات حتى يتوهم الشيطان عن تلك القاعدة وثمراتها والخيرات التي تبنى عليها ، ولما كان الشيطان له مغنم في ذلك ألهى بني إسرائيل بتلك المخالفة حتى نسبت له لقبا فسماه الله تعالى بها على لسان موسى كليمه عليه الصلاة والسلام ، فقال عز وجل :
﴿ قال فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ﴾
لأنه كان راعي لهو وإلهاء وسمر حتى غلب عليه في بني إسرائيل ذلك الوصف من كثر ما يتعاطاه بينهم ، يحدثهم باللغو من الشعر والقصص التافه والمديح الزائف فيجمعهم حول نيران الليل كثيرا ليلهيهم بذلك عن الخير وهو يعدهم للشر ، وبالفعل نجح في ذلك فزين لهم بعد ذلك السمر كله عبادة العجل ، وهنا يرد ما يتعين به اطلاق العنان لبيان أخطر ما في مشكلة ذلك السامري مع اليهود ومن اتبعه من بني إسرائيل .
وأول الدلالات على أن ذاك السامري ليس إلا إبليس قد تمثل لبني إسرائيل على أنه من جملة اليهود ليضلهم بمكره وكيده حتى يزين لهم عبادة العجل فنجح للغاية مع من اتبعه ولم يتب - هنا تأكيد على من لم يتب ، لأن من لم يتب لهم قصة منفردة مذهلة ، أما من تاب فقد حسم المولى عز وجل أمرهم بالقرآن ، مثل ما حسم كذلك أمر من لم يتب وسيتضح الفرق في ذلك لاحقا - .
أقول : أول الدلالات على أن السامري ما هو إلا إبليس اللعين على ما ألمح المهدي خليفة الله تعالى ورسوله في كتابه الأول عليه الصلاة والسلام ، وضمنهما ابن صياد وجها ثالثا للشيطان ، أن ( الإلقاء ) بالباطل ليلبس به الحق صفة مثل ما أنها لإبليس هي للسامري ما يدل على أنهما بالحقيقة والحق شخصية واحدة ، فعن الشيطان قال تعالى في ذلك :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ولا محدث إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾
وعن السامري قال عز وجل :
﴿ قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾
والرب تبارك وتعالى لم يثبت ذلك صفة لكليهما إلا للتلميح إلى أنهما شخصية واحدة وهو ما قرره المهدي صلوات ربي وسلامه عليه من قبل ، وما أبسط الكلام فيه أنا بدوري هنا للتأكيد عليه ، وهذه الدلالة الأولى .
أما الثانية : فهي أنه لما فتنهم السامري الشيطاني بعبادة العجل كانوا فريقان ، فريق تاب الله تعالى عليهم بكتابته عليهم التوبة بأن يقتلوا أنفسهم ، فقال عز وجل في ذلك كما في سورة البقرة :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
فهؤلاء قتلوا بالفعل وتاب عليهم سبحانه وأكد على ذلك تبارك وتعالى في سورة النساء فقال :
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾
وهنا يعلمنا المولى عز وجل أن موت الصاعقة لما طلبوا مشاهدة ذات الإله العظيم سبق موت التوبة شرطا لعبادتهم العجل ، وأيضا أكد في هذه السورة أنه تاب عليهم لعفوه عنهم بقتلهم أنفسهم ، وعلى عكس موت الصاعقة كان موت التوبة على التأبيد ، أما موت الصعقة فقد بعثهم بعده وفي جملتهم رسوله موسى ونبيه عليه الصلاة والسلام .
أما من لم يتب ويقبل الشرط بقتل نفسه جزاءا لفعلهم المنكر بعبادة العجل ، فهؤلاء قال تعالى عنهم ما يلي في سورة الأعراف :
﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ، وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
فكما قرر وأكد ثانية على قبول توبة من تاب منهم بقتلهم أنفسهم ، بين مع ذلك مصير من لم يتب منهم واتبع السامري على ما ألقى للنهاية بأن لهم الذلة في الحياة الدنيا وسينالهم الغضب الرباني على ما كتب بقدره عليهم حين تحل الخواتيم والعواقب على جميع الأشرار والكفار ، وأولئك هم الذي اختاروا عبادة الشيطان واشربوا في قلوبهم حب عبادة العجل قال عنهم تعالى :
﴿ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾
وحين نبذ السامري وضرب له الأجل السابق تأكيدا عليه من المولى عز وجل نبذ معه الفريق الذي اتبعه ، الذين رفضوا قبول شرط التوبة بقتل النفس على ذلك ، وهؤلاء هم الذي اشربوا في قلوبهم حب عبادة العجل أي الشيطان ولهذا ترون من أبرز رموز عباد الشيطان اليوم وقبل " رأس العجل " ، وهو لا زال يخاطبهم من خلاله كما كان من قبل له خوار :
﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ، وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
ومن قبل التوبة غفر له ومن أبى كان مصيره الوعيد بالخزي والذلة والعذاب المهين في الحياة الدنيا .
﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾
وقال تعالى في خبر نبذه :
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
وهنا يأتي علينا بيان الدلالة الثالثة على أن السامري ما هو إلا الشيطان نفسه ، ولما كان ليس من الحكمة برأيه أن يجعل تجليه لهم صريحا اتخذ لهم العجل وسيطا ، ومثل ما جمع الله تعالى لهما الإلقاء جمع كذلك لهم الإرجاء ، وهذا لم يكن إلا لأنهما ذات المخلوق الكريه الملعون ، فعن الشيطان قال تعالى :
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ، قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
هذا بالنسبة لإنظار ابليس وأما السامري فكما مر معنا قبل ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ ﴾ ، وهذا صريح في أنه الشيطان ، لأنه على اعتبار أنه بشري فستكون تلك الدلالة الرابعة التي تؤكد على أنه ليس إلا الشيطان نفسه فقد منع أي بشر من الخلود بنص القرآن ولم يبق إلا أنه الشيطان للإرجاء الصريح هنا والبقاء من غير مساس أي تجلي فلا يسمح له بالتجلي ثانية بعد ذلك إلا ما قدر بتجليه بصفات الدجال وهو ليس إلا وجها آخر للشيطان الإبليسي ، وبغير تلك التجليات لا يسمح له ولو مر عليه وعلى الناس من القرون ما يمر﴿ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ ﴾ .
وما لعبته بذلك السمر وما سول لهم من عبادة العجل بعد ذلك إلا تحقيقا لوعيده بقوله : ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ ، فقعد لهم بذلك السمر وذلك العجل ، لكن كيده دوما في ضلال ومن اتبعه هم الخاسرون .
وهنا لا يسعني تفويت فرصة بيان العجب في تقدير المولى عز وجل على ما يعمل الشيطان أن كتب عليه ومن اتبعه نزاعا في الأرض وفصلا نظير ما حصل بين الملائكة في القديم حين امروا بالسجود لآدم فأبى ومن اتبعه وانقسم الملأ إلى فريقين ، فريق اتبع الشيطان وما أملت عليه نفسه الأمارة بالسوء وفريق اتبع كلمات الله عز وجل فسلم ، وكذلك في شأنه لما تجلى بين بني إسرائيل ، ففريق قبل كلمة الله تعالى في التوبة وفريق عصى واتبع السامري فهم يتوارثون عبادة العجل واتباع الشيطان من ذلك اليوم ليومنا هذا ولا أرى قيادات العالم اليوم إلا منصاعة لأمره وخاصته يعبدون العجل ويتكاتمونه بينهم خشية أن يعلن فيجري له مثل ما جرى في زمان موسى عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ ، وهيهات مهما يخبئ لهم ابليس خططه فالله كاشف أمره وجاعل مكره في ضلال ، وليأتينهم نسفا أشد وحرقا أعظم من حرقهم الأول ونسفا أشد لباطلهم ، وربكم أقوى منهم جميعا وأشد طولا .
وفي الختام أقول :
يجب العلم ممن أتبع الحق بأن السمر منهي عنه ولما يكون باللغو فهو آكد على البطلان ، ولا يأتي مسموحا به إلا بما رخص به الشارع وهو بحالات استثناء وخاصة جدا على مابين ، وأما غير ذلك فمجرد أكاذيب وأباطيل لا يقع بها إلا الحمقى والذين لا يعلمون ، لهذا نراه دأب دائم في المتأخرين وكأن السامري بينهم وقائدا لهم جميعا وما أكثر عجوله بينهم اليوم فلا يعرفون بها إلا السمر وأبرز تلك العجول ما يسمى التلفاز فجل الناس وملايين البشر تجدونهم حوله يسمرون جسدا له خوار يقرر لهم من خلاله كل باطل وكفر .
وما نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السمر إلا لأنه كان من عمل الشيطان في بني اسرائيل ليضلهم وكل أعمال الشيطان مكروهة عند الله عز وجل ورسله ، فلا يليق بالمؤمنين أن يتخذوها دأبا لهم ومنهاجا خصوصا السمر ولو ادعوا لتبريره ما يدعون من طلب العلم الشرعي فتلك مجرد أكاذيب وذريعة لتحقيق مبتغاهم من وراء ما اعتادوا عليه من سمر لتدوير اللغو والهجر فيما بينهم ولو كانوا صادقين لطلبوا العلم كما كان يطلبه من سبقهم من طلبة العلم الشرعي حقا ، كانت تنعقد جلساتهم له بعد صلوات الفجر وحين ترتفع شمس النهار كانوا ينصرفون لشؤونهم ، أما أن يكون دأبهم خلاف ذلك واجتماعاتهم لا تكون إلا في أغلب النهار ويضيفون إليه اجتماعهم بالمساء ويتعمقون فيه للغاية فذلك سمر السامري حقا لا سواه .
.....
﴿ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾
هنا نهي قرآني عن أن يستأنس الحديث من دعي لبيت النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة نكاح ، وخرج الأمر الرباني على أن يخرجوا من بعد أن يطعموا فلا وقت للحديث بقصد السمر ، كان ذلك يؤذيه صلوات ربي وسلامه عليه ولما كان شديد الحياء لم ينهاهم عن ذلك رغم ثقل ذلك عليه واعتراضه لخصوصيته ، لكن الله اعترض والله عز وجل من فوق سمائه نهى .
وانظروا بالمقابل لعادات جل الخلق اليوم ، لا يطيب لهم السمر إلا في ذلك الوقت خصوصا بمثل تلك المناسبات وفي غير تلك المناسبات ، يجلسون بسمر وطرب لآخر ساعات الليل لا يبالون بمخالفة نبيهم صلوات ربي وسلامه عليه في نهيه عن ذلك ولا بهدي ربه له وأمره لأصحابه كيف يفعلوا بمثل ذلك ، ولا تجد من ينهى عن ذلك ويأمر بالتأسي بهداه ، فتضرب الدفوف والمزامير لآخر ساعات الليل بحجة اقامة الأفراح لكن على سنة السامري لا النبي المصطفى المختار صلوات ربي وسلامه عليه ، وخاب من اتخذ الشيطان له قدوة وتأسى بطرقه ونهجه .
وإن كان ذلك النهي نزل رغم تلك المناسبة وهي نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته وأي نكاح ؟! ، وأي زوجه ؟!
زوجه الله تعالى منها من فوق سماواته ، ومع هذا كره الله ورسوله السمر لتلك المناسبة ، فما بالكم فيما دون ذلك ؟
قال القرطبي رحمه الله تعالى : الْحِجَاب نَزَلَ يَوْم الْبِنَاء بِزَيْنَب أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمْ اهـ .
نعم ، حتى أن من بركات ذلك النهي والزجر عن السمر فرض الحجاب على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم اللآتي هن قدوة لنساء المؤمنين ، وانظروا لتلك المحارم التي تنتهك اليوم في تلك المخالفات إذا ما جمع لها انتهاك حرمة الحجاب .
وقد رويت أحاديث في تفصيل ذلك ذكر منها القرطبي في تفسيره فقال :
الْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ : سَبَبهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَب بِنْت جَحْش اِمْرَأَة زَيْد أَوْلَمَ عَلَيْهَا , فَدَعَا النَّاس , فَلَمَّا طَعِمُوا جَلَسَ طَوَائِف مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجَته مُوَلِّيَة وَجْههَا إِلَى الْحَائِط , فَثَقُلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَنَس : فَمَا أَدْرِي أَأَنَا أَخْبَرْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَوْم قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي . قَالَ : فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْت , فَذَهَبْت أَدْخُل مَعَهُ فَأَلْقَى السِّتْر بَيْنِي وَبَيْنه وَنَزَلَ الْحِجَاب .
قَالَ : وَوُعِظَ الْقَوْم بِمَا وُعِظُوا بِهِ , وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ﴿ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ ﴾ - إِلَى قَوْله - ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْد اللَّه عَظِيمًا﴾ ، أَخْرَجَهُ الصَّحِيح اهـ .
وخلاصة ما روي في ذلك النهي عن السمر سواء قيل أنه بعد تحين الطعام في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في دعوة نكاح أو غيره ، ففي كل ذلك أدب الله تعالى الثقلاء أن يتعدوا الحد ، وعلى الجميع الإنتشار بعد ذلك يمنع عليهم الجلوس للسمر .
ونقل القرطبي رحمه الله تعالى في هذا الخصوص قوله : َخَصَّ وَقْت الدُّخُول بِأَنْ يَكُون عِنْد الإِذْن عَلَى جِهَة الأَدَب , وَحِفْظ الْحَضْرَة الْكَرِيمَة مِنْ الْمُبَاسَطَة الْمَكْرُوهَة .
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَقْدِير الْكَلام : وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ وَأُذِنَ لَكُمْ فِي الدُّخُول فَادْخُلُوا , وَإِلا فَنَفْس الدَّعْوَة لا تَكُون إِذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُول . وَالْفَاء فِي جَوَاب " إِذَا " لازِمَة لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاة .
وأَمَرَ تَعَالَى بَعْد الإِطْعَام بِأَنْ يَتَفَرَّق جَمِيعهمْ وَيَنْتَشِرُوا . وَالْمُرَاد إِلْزَام الْخُرُوج مِنْ الْمَنْزِل عِنْد اِنْقِضَاء الْمَقْصُود مِنْ الأَكْل . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُول حَرَام , وَإِنَّمَا جَازَ لأَجْلِ الأَكْل , فَإِذَا اِنْقَضَى الأَكْل زَالَ السَّبَب الْمُبِيح وَعَادَ التَّحْرِيم إِلَى أَصْله اهـ .
وما هي سنن القوم في زماننا في ذلك وسواه ؟
إلا باجتناب هذا النهي والتأديب الرباني فنراهم ينتهكون ذلك بأنواع المعاذير والحيل التي لم يجعل الله ورسوله لهم فيها سبيلا على الحق إلا مراكب الأهواء والغفلة وعدم التأدب بما أمر الله عز وجل وكان عليه نهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ، لقد تركوا هداه في كل شيء تقريبا وعدم من يحيي تلك السنن ويوجه لها ، بل باتت تلك السنن مستنكرة جدا في ذلك وغريبة ، أما البدع والمنكرات فيه فهي الأصل الذي لا يجوز غيره وعلى ذلك سبيل الناس كافة اليوم إلا من رحم ربنا عز وجل وقليل هم ، الذين يمتنعون من سمر أولئك ولو بحجة تلك الأعراس وتلك الولائم والمناسبات .
فهذه سبيل الله تعالى ورسوله ، وتلك سبل الشيطان السامري ، والناصح لنفسه لن يكون إلا مع الله تعالى ورسوله ولا شك ولو خالف ذلك من خالف ، ولو اجتمع الخلق كلهم على خلافه : ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
نشرت المقالة في موقع المهدي
24/9/2011
Powered by Backdrop CMS