....

الإسراء كان للمسجد الأقصى أولا ثم لجبل سنا
.....
تلك حقيقة ربانية أمتنا جهلتها ومكر يهود عزز وثبت تلك الجهالة ليومنا هذا بإسقاطهم للمسجد الأقصى على القدس دون غيره مع أنه بدء بذلك الإسراء بمسجد المدينة ، نازعين عنها القداسة وهي أعظم ما تكون آخر الزمان وكانت تلك الآيات متضمنة لهذا المعنى نبوءة ، ثم بإختزالهم معنى الإسراء على بيت المقدس هم بذلك يعودون لدعوى اليهودية بقدسية ما أبطل الله تعالى قدسيته وأزال عنه حرمته ، حتى أنهم بعودهم له وبعد أن عشعش مكرهم فيه وأباطيلهم عاد تعالى ونبأهم على لسان المسيح صلى الله عليه وسلم أنه سيدمر ثانية حتى ما يتبقى منه حجر على حجر ، وصدقت نبوءته عليه الصلاة والسلام قيل بعده بسبعين عاما .

وكان تدبير الشيطان من خلال أولئك اليهود من زمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بعزم وإصرار وتصميم لتحريف تلك النبوءة لأنها بالضد مع أصل معتقدهم الكاذب دعوى الخلاص أنه فيهم ببني إسحاق وليس بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ببني إسماعيل ، ومنهجهم بالتحريف راسخ ذو مدرسة وخبرات عريقة على مر التأريخ " اكذب وبدل للأجيال الآتية " .

وأعانهم على ذلك إلتباسات حصلت على ما أخبر صلوات ربنا وسلامه عليه في قصة إسراء الله تعالى به والعروج به للسماء ، خصص هذا الفصل لمناقشتها مع بيان فضل المسجد النبوي وأنه هو حقا المسجد الأقصى لا ما زعم لهذه الأمة والتبس أمره عليهم .

قال تعالى يوحي للخلق عن ذلك الإسراء نبوءة ما يلي :

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُلِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً .

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ، فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْالْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً 


﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً 

﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً . وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ، قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ *إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ** إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً 


وهنا سيكون الكلام خلاف ما سبق في كل تفاسير تلك الآيات ــ سواء في هذا المنتدى المبارك أو في غيره ــ ، وسندلف معكم لتفسير تلك الآيات دراسة ، دراسة ندرسها لنثير خفاياها ، من بعد ما وقع عليها من اللبس ما لو كشف عنكم لذهلتم جدا ولعجبتم كيف يمر كل هذا على آيات بينات من كتاب الله عز وجل القرآن ، وتطمس بذلك أعظم نبوءة قرآنية قضى تعالى فيها ما سيكون على هذه الأمة بآخر الزمان ، وما كان على من سبقها ممن اقترن مصير خلفهم بمصير خلف هذه الأمة حتى تشابهت أحوالهم جميعا قديما وبآخر الزمان تشابها عجبا من كل وجه ، وتضادا أعجب من كل وجه كذلك .

وكم درنا ودارت الأمة من قبل حولها ، وكان فيما فات نزاعنا مع أمتنا حولها في التشكيك بتعيين المسجد الأقصى على ما تم لعمر رضي الله تعالى عنه بمشورة كعب الأحبار اليهودي ، ذلك اليهودي الكذاب المنافق المرابط لكذبة أخرى بزعمه تعيين جبل موسى صلى الله عليه وسلم جبل النار سنا ، يوهم بعض الصحابة أنه حقا هو جبل الله فأخذوا يشدون الرحال له للصلاة حتى تبين لهم مخالفة عملهم هذا بنهي المصطفى صلى الله عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس . ومراده صلوات ربي وسلامه عليه شرعا لا يجوز السفر لقصد الصلاة في غير تلك المساجد ، ويخرج عن ذلك ما لا يسمى سفرا كالذهاب لقصد الصلاة بمثل مسجد قباء بالمدينة ، أما القصد للصلاة لما لا يتم القصد إليه إلا بالسفر وشد الرحل فهذا منع منه شرعا ، ولا يلزم من ذلك بقاء ذلك الحكم لبيت المقدس ، بل هذا حكمه مع المسجدين حين كان وليس المراد بقاء ذلك أبدا ، وقد اشار صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى حين نذر أحد الصحابة الصلاة فيه إذا فتح الله تعالى لرسوله مكة ، فوجهه صلى الله عليه وسلم للصلاة بدلا من ذلك بالمسجد الحرام ، ثم لما أصر قال له : أنت وشأنك . 

وفي رواية أنه قال له : والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس 

وأخرج أحمد ومسلم من حديث ابن عباس : " أن امرأة شكت شكوى فقالت : إن شفاني الله تعالى فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج ، فجاءت ميمونة تسلم عليها فأخبرتها بذلك فقالت : اجلسي وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة .

وهذا مبناه على التعيين المتعارف عليه في العامة في تلك الأزمان ولم يتم على وفق الدين والوحي الرباني ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك وشأنهم معه لا يعني تأييدهم في تعيين ذلك المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام ، فالقول ببيت المقدس يراد به المدينة لا عين المسجد وهذا ما غفل عنه الكثير ولم يعو أثره في التعيين ، فلم يكن هناك مسجدا وبيت صلاة وقصة عمر في فتح بيت المقدس مشهورة حتى أنه كان يسأل كعب أين يرى أن يصلي فلم يكن هناك مسجدا ولا حدودا لمثل ذلك إنما افتتحت المدينة وسوئل كعب الكذاب عن تعيينه وقيل بالأكاذيب هناك للأسف كالصخرة التي كذب لأجلها شقيقه بالكذب الآخر وهب بن منبه فقال : قال الله لصخرة بيت المقدس : لأضعن عليك عرشي ولأحشرن عليك خلقي . أخرجه عبدالرزاق عن النعمان بن المنذر .
 
 وهذا كذب بين وتحريف للكلم من بعد مواضعه على عادتهم والحق أن تلك الفضيلة الكائنة آخر الزمان  مستحقها مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجبلها المحبوب ولأجل ذلك كانت محبته في القلب ، فهناك سيؤتى بالعرش على قمة ذلك الجبل ، وهناك سيحشر الخلق ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ... )

 لن يكون إلا لأحد المقدس لكن الكذاب اليهودي نزع ليهوديته مثل ما نزع شقيقه بالكذب كعب حينما أشار لعمر أن يضع تلك الصخرة بين يديه قبلة .

فقدست حتى باتت كالوثن واجتمع مكر اليهود هناك مع مكر بني أمية ، أولئك ليضاهئوا المسجد الأقصى الحقيقي مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبنو أمية ليضاهئوا المسجد الحرام بسبب استيلاء ابن الزبير على تلك الناحية ، وهكذا عشعش المكر واللبس والكيد في مخيلة هذه الأمة حتى أضاعوا المسجد الأقصى الحق ، مكان سكنى الرب العظيم آخر الزمان وحلول كرسيه هناك ليحكم الأرض كلها ويتمجد ببهاء منه ، وكان ليهود في استعجال تحقق ذلك هوس شديد حتى تمنى من تمنى منهم لو يقع ذلك ويروه بأعينهم ولو كان ليس من صالحهم المهم أنهم يرون تحقق تأويل ذلك ، وفي ذلك قوله عز وجل : ﴿ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً  . 

كانوا يستعجلونه والله يمهلهم حتى تعقدت نفوسهم وباتوا بمرض من ذلك شديد جدا حتى صدق عليهم قوله تعالى أنهم يدعون بالشر دعائهم بالخير لأنهم في عجلة منه كل جيل منهم يريده يتحقق بوقته ، مع أنه سيكون شر عليهم لكن لمرضهم النفسي وشديد كفرهم وجحدهم له تمنوا حصوله ولو كان ضدهم المهم أنهم يرون ما وعد الله عز وجل أمامهم بالواقع ، لعلهم ليرتبوا أوراقهم مجددا ويرون ما عليهم فعله بعد ذلك على عادتهم بتفويت ما لا يأتي لصالحهم رجاء يأتي يوما ما فيكون لصالحهم ، مثل ما تعاملوا مع بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حين أبوا الإيمان به ما لم يأتي لهم لا عليهم .

﴿ وَيْلٌ لِمَنْ يَجُرُّونَ الإِثْمَ بِحِبَالِ الْبَاطِلِ ، وَالْخَطِيئَةَ بِمِثْلِ أَمْرَاسِ الْعَرَبَةِ وَيَقُولُونَ : لِيُسْرِعْ وَلْيُعَجِّلْ بِعِقَابِهِ حَتَّى نَرَاهُ لِيُنَفِّذْ مَأْرَبَهُ فِينَا فَنُدْرِكَ حَقِيقَةَ مَا يَفْعَلُهُ بِنَا . 

وَيْلٌ لِمَنْ يَدْعُونَ الشَّرَّ خَيْراً ، وَالْخَيْرَ شَرّاً ، الْجَاعِلِينَ الظُّلْمَةَ نُوراً وَالنُّورَ ظُلْمَةً وَالْمَرَارَةَ حَلاَوَةً وَالْحَلاَوَةَ مَرَارَةً ، وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ ، وَالأَذْكِيَاءِ فِي نَظَرِ ذَوَاتِهِمْ ، وَيْلٌ لِلْعُتَاةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُتَفَوِّقِينَ فِي مَزْجِ الْمُسْكِرِ ، الَّذِينَ يُبَرِّئُونَ الْمُذْنِبَ بِفَضْلِ الرِّشْوَةِ ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْبَرِيءِ حَقَّهُ .

لِهَذَا كَمَا تَلْتَهِمُ النَّارُ الْقَشَّ ، وَكَمَا يَفْنَى الْحَشِيشُ الْجَافُّ فِي اللَّهَبِ ، كَذَلِكَ يُصِيبُ أُصُولَهُمُ الْعَفَنُ ، وَيَتَنَاثَرُ زَهْرُهُمْ كَالتُّرَابِ ، لأَنَّهُمْ نَبَذُوا شَرِيعَةَ اللهِ وَاسْتَهَانُوا بِكَلِمَةِ القُدُّوسِ لِذَلِكَ احْتَدَمَ غَضَبُ الرَّبِّ ضِدَّهم ، فَمَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِمْ وَضَرَبَهُمْ ، فَارْتَعَشَتِ الْجِبَالُ ، وَأَصْبَحَتْ جُثَثُ مَوْتَاهُمْ كَالْقَاذُورَاتِ فِي الشَّوَارِعِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَرْتَدَّ غَضَبُهُ وَلَمْ تَبْرَحْ يَدُهُ مَمْدُودَةً بِالْعِقَابِ 
 " اشعيا عليه الصلاة والسلام "


﴿ تَعَالَ الآنَ اكْتُبْ هذَا عِنْدَهُمْ عَلَى لَوْحٍ وَارْسُمْهُ فِي سِفْرٍ ، لِيَكُونَ لِزَمَنٍ آتٍ لِلأَبَدِ إِلَى الدُّهُورِ , لأَنَّهُ شَعْبٌ مُتَمَرِّدٌ ، أَوْلاَدٌ كَذَبَةٌ ، أَوْلاَدٌ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْمَعُوا شَرِيعَةَ الرَّبِّ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّائِينَ: « لاَ تَرَوْا »، وَلِلنَّاظِرِينَ : « لاَ تَنْظُرُوا لَنَا مُسْتَقِيمَاتٍ. كَلِّمُونَا بِالنَّاعِمَاتِ. انْظُرُوا مُخَادِعَاتٍ حِيدُوا عَنِ الطَّرِيقِ مِيلُوا عَنِ السَّبِيلِ اعْزِلُوا مِنْ أَمَامِنَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ ، لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ : لأَنَّكُمْ رَفَضْتُمْ هذَا الْقَوْلَ وَتَوَكَّلْتُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالاعْوِجَاجِ وَاسْتَنَدْتُمْ عَلَيْهِمَا ، لِذلِكَ يَكُونُ لَكُمْ هذَا الإِثْمُ كَصَدْعٍ مُنْقَضٍّ نَاتِئٍ فِي جِدَارٍ مُرْتَفِعٍ ، يَأْتِي هدُّهُ بَغْتَةً فِي لَحْظَةٍ ، وَيُكْسَرُ كَكَسْرِ إِنَاءِ الْخَزَّافِينَ ، مَسْحُوقًا بِلاَ شَفَقَةٍ ، حَتَّى لاَ يُوجَدُ فِي مَسْحُوقِهِ شَقَفَةٌ لأَخْذِ نَارٍ مِنَ الْمَوْقَدَةِ ، أَوْ لِغَرْفِ مَاءٍ مِنَ الْجُبِّ .

لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ : بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ ، بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ ــ ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ــ ، فَلَمْ تَشَاءُوا . وَقُلْتُمْ : « لاَ بَلْ عَلَى خَيْل نَهْرُبُ ». لِذلِكَ تَهْرُبُونَ . « وَعَلَى خَيْل سَرِيعَةٍ نَرْكَبُ ». لِذلِكَ يُسْرُعُ طَارِدُوكُمْ يَهْرُبُ أَلْفٌ مِنْ زَجْرَةِ وَاحِدٍ ، مِنْ زَجْرَةِ خَمْسَةٍ تَهْرُبُونَ 
 " اشعيا عليه الصلاة والسلام "


﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ 

فهذا وعده لهم وهذا كشفه لحقيقتهم حتى أمر نبيه أن يكتب تلك التفاصيل ليقرأوها جميعا على مر الدهور ، وأنهم عصاة ردوا كلمات الله تعالى وآيات بيناته وذكره المجيد ، وأنه لا زال يدعوهم للتوبة والإحسان وآخر ما فعل ذلك بالقرآن كما في سورة الإسراء يحثهم على الإحسان والتوبة ويذكرهم بقضائه عليهم ، لكن لم يفد فيهم ذلك وتعلمون أنتم كيف أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عن هزيمتهم أمام المؤمنين حتى يسلطون عليهم وترتخي أيديهم لا تقدر ترفع سلاحا بوجه مؤمن ، ويؤخذون أسرى مسك اليد لا حول لهم ولا قوة ، كما أخبر بذلك النبي اشعيا ، ويدب بقلوبهم الرعب فيفرون من الصارخ الألف منهم يفر أمام صرخة مسلم ، ويكون بذلك لهم هزيمة منكرة من بعد ما اعتمدوا على قوتهم وجيوشهم وأصروا بأن لا يرجعوا للرب عز وجل القدوس .

ولما كان ذلك من كلام النبي اشعيا عن مواعيد الآخرة فيهم وعلى عادتهم دمجوا ذلك الذكر الموصى بكتابته ليبقى بينهم فيقرأوه أبد الدهر ، دمجوه بذكر من سيجتبي الرحمان عز وجل من هذه الأمة ليخلصهم ويبعث فيهم معلما يرشدهم وينبههم لله تعالى ولخلاصه الموعود فيسلموا له ويؤمنوا به ويستكينوا إليه ، فدمجوا ما يخصهم بما يخص أولئك على عادتهم ليوهموا شعبهم بأن الكلام إنما يرجع إليهم وأن الخلاص المنتظر ما هو إلا فيهم ، كذبا وتدليسا وتحريفا لكلام الأنبياء وتبديله من بعد مواضعه ، فقال هناك النبي اتماما لما سبق ذكره للغاية التي قلت أن يرجع عليهم ذلك الخلاص وتلك النجاة ، مع أن ما قيل قبله إنما هو وعيد بحقهم وسيأتيهم بغتة حتى لا تكون لهم قائمة بعده ، ومكر أولئك هو يبور :

﴿ حَتَّى أَنَّكُمْ تَبْقُونَ كَسَارِيَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَل ، وَكَرَايَةٍ عَلَى أَكَمَةٍ وَلِذلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَاءَفَ عَلَيْكُمْ وَلِذلِكَ يَقُومُ لِيَرْحَمَكُمْ ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ حَقّ . طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ لأَنَّ الشَّعْبَ فِي صِهْيَوْنَ يَسْكُنُ فِي أُورُشَلِيمَ ــ يريد بطوبى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فطوبى للغرباء ــ . لاَ تَبْكِي بُكَاءً يَتَرَاءَفُ عَلَيْكَ عِنْدَ صَوْتِ صُرَاخِكَ حِينَمَا يَسْمَعُ يَسْتَجِيبُ لَكَ ، وَيُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ خُبْزًا فِي الضِّيقِ وَمَاءً فِي الشِّدَّةِ. لاَ يَخْتَبِئُ مُعَلِّمُوكَ بَعْدُ ، بَلْ تَكُونُ عَيْنَاكَ تَرَيَانِ مُعَلِّمِيكَ ، وَأُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: «هذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ. اسْلُكُوا فِيهَا». حِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ وَحِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَسَارِ .

ثُمَّ يُعْطِي مَطَرَ زَرْعِكَ الَّذِي تَزْرَعُ الأَرْضَ بِهِ ، وَخُبْزَ غَلَّةِ الأَرْضِ ، فَيَكُونُ دَسَمًا وَسَمِينًا ، وَتَرْعَى مَاشِيَتُكَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ فِي مَرْعًى وَاسِعٍ ، وَالأَبْقَارُ وَالْحَمِيرُ الَّتِي تَعْمَلُ الأَرْضَ تَأْكُلُ عَلَفًا مُمَلَّحًا مُذَرَّى بِالْمِنْسَفِ وَالْمِذْرَاةِ وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ جَبَل عَال وَعَلَى كُلِّ أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ سَوَاق وَمَجَارِي مِيَاهٍ فِي يَوْمِ الْمَقْتَلَةِ الْعَظِيمَةِ ، حِينَمَا تَسْقُطُ الأَبْرَاجُ ــ جعل تعالى الفتنة التي فبركوها باسم ابن لادن وجماعته باسقاط تلك الأبراج علامة على قرب تحقق كل ما ذكر هناــ .

هُوَذَا اسْمُ الرَّبِّ يَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ غَضَبُهُ مُشْتَعِلٌ وَالْحَرِيقُ عَظِيمٌ سَخَطًا ، وَنَارٍ آكِلَةٍ ، وَنَفْخَتُهُ كَنَهْرٍ غَامِرٍ يَبْلُغُ إِلَى الرَّقَبَةِ لِغَرْبَلَةِ الأُمَمِ بِغُرْبَالِ السُّوءِ ، وَعَلَى فُكُوكِ الشُّعُوبِ رَسَنٌ مُضِلٌّ ، وتَكُونُ لَكُمْ أُغْنِيَّةٌ كَلَيْلَةِ تَقْدِيسِ عِيدٍ ، وَفَرَحُ قَلْبٍ كَالسَّائِرِ بِالنَّايِ ، لِيَأْتِيَ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ ، وَيُسَمِّعُ الرَّبُّ جَلاَلَ صَوْتِهِ ، وَيُرِي نُزُولَ ذِرَاعِهِ بِهَيَجَانِ غَضَبٍ وَلَهِيبِ نَارٍ آكِلَةٍ ، نَوْءٍ وَسَيْل وَحِجَارَةِ بَرَدٍ ، لأَنَّهُ مِنْ صَوْتِ الرَّبِّ يَرْتَاعُ وبِالْقَضِيبِ يَضْرِبُ ، وَيَكُونُ كُلُّ مُرُورِ عَصَا الْقَضَاءِ الَّتِي يُنْزِلُهَا الرَّبُّ عَلَيْهِ وَبِحُرُوبٍ ثَائِرَةٍ يُحَارِبُهُ 
 " اشعيا عليه الصلاة والسلام "


وأقول : من هناك من الصدر الأول وقع التباس شديد في ذلك التعيين لم يكن يقبله القلب ولا العقل ولم يكن بمقدورنا نمرره بسلام ، لأن التشكيك بذلك بقي قائما لبراهين تؤيده وتعارض ذلك التعيين ، وعليه تم تدوين ما في هذا الملف في موقعنا المبارك من خلال شبكة النت ليستفيد الناس ممن يمكنهم الإطلاع عليه :
.... قدس سليمان أكبر كذبة في الإسلام ... 

وحق لنا ذلك لأن ما يسمونه " القدس " أو المسجد الأقصى على حسب مداركهم حقا هو أكبر كذبة كانت في الإسلام ، من بعد ما أبطلت قداسته وأحرق في زمن نبوخذ نصر ودنس أشد التدنيس واحتقر أهله أشد الاحتقار وانزلوا من التشبث بتلك القداسة المدعاة على الله عز وجل ورسله رغم أباطيلهم وأكاذيبهم ، حتى ذكر تعالى من سلط عليهم وعلى مقدسهم بـ " عبادا لنا " وهم قد كانوا رؤوس الشرك والوثنية في ذلك الزمان ، وديس بنو صهيون كذبة أورشليم تحت أقدام أولئك الوثنيون ، فكيف بعد ذلك يقبل العقل والقلب ذلك التعيين الباطل ليكون مرجعا لتلك الآيات من القرآن كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إنما الباطل عشعش برؤوس الضالين والتائهين ، ممن لم يقوى على التفريق ما بين ما هو رؤيا منام ورؤية عين ومشاهدة واقعية ، وزادوا على ذلك اعمال التحريف والتبديل ، حتى انتهوا لظلام مطبق انتهى إليه الحق فطمس بعقولهم عن التعيين الحق الذي أراده الله عز وجل ، فلا هم على هذا أيقنوا إبطال قداسة بيت المقدس ، ولا هم عينوا الحق الذي يريده الله تعالى بالمسجد الأقصى ، فهم في ضلال على ضلال ظلمات بعضها فوق بعض .

وكل تفسير لقوله تعالى : ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ  ، على أن المراد دخولهم بزمان عمر رضي الله عنه فباطل من قائله أيا كان القائل وهو اعتقاد ذهب له بعض المتأخرين ، فما بالكم من اعتقد بمضي القضائين في العصور الغابرة ما قبل الإسلام ؟! ، وهو قول للمتقدمين وبالاتفاق على اختلاف بينهم في عين المسلط في القضائين ، لكنهم اتفقوا أن ذلك جرى قبل الإسلام .

وسحق ذلك القدس سحقا وسلبت أوانيه وتلك الأبهات الكاذبة المبطلة واندرست معالمه جدا وحرقت غرفه ، وهدمت أسواره لأنه دخل دائرة اللعن إلى الأبد .

وكل من ادعى رجعة القداسة له وبأي زمان بعد ذلك فهو كاذب كاليهود تماما بل أشد وأشر ، نقول بهذا ونعتقده مع كامل المسؤولية في ذلك ، وقد بلغ بهم الكذب في ذلك حتى نسبوا للنبي نفسه صلى الله عليه وسلم إقراره بذلك دسا دس عليه هذا الزعم ووقع بحباله أكابر حتى ساقه الطبري في تفسيره وأسف على فعله ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى .

اندرست معالمه يومها ولا يدخله الا المحتقر الذليل من الزراع والعبيد ، تعمد نبوخذ نصر يترك في ذلك المحترق كل ذليل مهان ضعيف لا يخشى منه ممن ليس بهم قوة ولا عندهم عتاد بتاتا ، وترك العامة هناك من بقي وسلم من السبي والمهانة الكبرى التي جلبتهم لبابل ، وكانوا هناك سقط متاع لا يمكن حملهم جميعا فتركوا لعل تخرج منهم جباية وضرائب تعود لبابل بالنفع وذلك الحل الممكن .

حصل ذلك بمباركة مثل النبي ارميا عليه الصلاة والسلام وقبله اشعيا صلوات ربي عليهم وبارك ، لعنوا بني اسرائيل وبلغوهم بما قضى ربنا عليهم لشرورهم وأنهم ساقطون لا محالة من تقديسه ، وطردوا من الرحمة وابطلت تلك القداسة للأبد ، وكان البلاغ بالقضائين من طيات التوراة نفسها على لسان موسى صلوات ربي وسلامه وضعت اللعنة والمباركة أمامهم يقرأون تفاصيلها للأبد ، ثم جاء اشعيا وارميا عليهما الصلاة والسلام للتأكيد على ذلك وللزيادة في تفاصيل ذلك الأمر الجلل والخبر الرباني ، ثم حصل وتأولت بدايته في حياة النبي ارميا وتم كل ما أوحى عليهم الله عز وجل ، وأخطأ من السلف من زعم أن القضاء الأول تحقق قبل ذلك في زمان النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام على ما نقل عنهم الطبري في تفسيره ، بل هناك الغازي سنحاريب ارجعهم الله تعالى وضرب جيشه بالهلاك وسلم اليهود وسلم هيكلهم ، وما تحقق القضاء الأول إلا في زمان النبي ارميا بقوة جحافل الجيش العراقي الأول للقضاء الأول ثم كان ابتداء تحقق القضاء الثاني على يد جيش العراق الثاني ، وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى وسنته أن يرتبط القضائين بجيش العراق قديما وحديثا .

ولم تقم لهم قائمة من ذاك الوقت إلا على أيدي شرذمة أدعياء كذبة توسلوا كورش الفارسي بعد سقوط بابل على يديه ، توسلا يخالفون قدر الله تعالى وقضاؤه ليبنوا تلك الأسوار المهدمة المحترقة ومن ثم يزعمون الخلاص أنه لهم ، ومن هناك بدأت الحقارة والمهانة والذلة والخزي عليهم لأنهم يعملون الكذب ويدعون الباطل ويعينون ما لم يعينه الله تعالى ، وينسبون لأنفسهم ما ليس لهم ، وعليه حرفت النبوءات وطمس الحق وباتوا بظلام دامس إلى هذا اليوم ، ومما يؤسف له أن يقع صحابة كبار بشركهم هذا المدعى حتى أنهم يحرمون من هناك للحج والعمرة احتسابا للأجر وهم غافلون عن هذه الحقيقة الشرعية يجهلونها لما إلتبس عليهم منها الكثير .

ثم كان على جحر تلك الفئران المحق الثاني والإنهدام الأبدي على يدي الرومان بعد زمان المسيح عليه الصلاة والسلام ، حتى محي من الوجود محيا كاملا وقيل حرثت أرضه وباتت مزارع وبساتين لا يهتدى له على معلم .

وهكذا كان لهم الرب دوما في ذلك بالمرصاد : ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً . ما يؤكد على بطلان حرمة ذلك المسجد ، وأن كل ما عادوا له عاد لهم الله تعالى بالهدم والإزالة .

ومثل ما بدأوا هناك كذبتهم الكبرى في اليهودية ، عادوا اليوم مع مخابيل البقية ليلعبوا لعبتهم القديمة بعد الهدم والإزالة الأخيرة ، ولم يكن ليتم لهم ذلك لوما الكذبة الكبرى في الإسلام بتعيين ذاك المكان بالقدس الأول ، وأنه المسجد الأقصى الذي ذكره تعالى في القرآن بتلك الآيات ، والحق من اليوم وصاعدا لا تسموه إلا بمسجد كعب الأحبار . 

جاء الفاروق ومستشاره اليهودي لتبنى أكبر كذبة في الإسلام واشنعها ، قالوا : هذا ، بيت المقدس ، هذا المسجد الأقصى . وهي والله كذبة شنيعة عظمى بني عليها من الأباطيل والأكاذيب ما يشيب لها شعر الرأس وينكسر قلب المؤمن حزنا وكمدا ، لكن نور الله عز وجل هو الغالب وظلمات الشيطان ستبدد .

وبسبب ذلك سرى تحريف اليهودية المجرمة للإسلام للأسف الشديد .

أقول : قد ذكر الله تعالى بآيات سورة الإسراء ذلك المسجد مرتين ، وأحال بعد القضاء الثاني لذكر المسجد بالأول بقوله ( كما دخلوه أول مرة ) ما يدل على أن المراد ذات المسجد لا غيره لإيراده كاف التشبيه ، ولم يرد بتاتا ما جرى بعد القضاء الأول مثل ما تصوره الكثير : ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً  ، فلا علاقة بتاتا لذلك المسجد بالقضاء الأول إنما تعلقه بالقضاء الثاني وهذا ما جهلوا حقيقته في الإسلام حتى التبس عليهم ذلك بسبب التثنية بذكر المسجد والتثنية في القضاء بعد ما وضع الله عز وجل كل ذلك بالسياق من كلامه ، فتوهموا أن تلك التثنية في القضاء بالإفساد تعود للمسجد ذاته بما أن ذكره أتى على التثنيه هو الآخر ، فجر أذهانهم ذلك التوهم لإعتقاد أن التعدد في القضاء يسري على المسجد فيكون التعدد متعلق به في الحادثتين وبأهله في تصورهم وهم اليهود ، وعلى هذا معتمد اعتقاد السلف في تفسير تلك الآيات لهذا قالوا في تفسير تلك الآيات أن هذا مما حصل قبل الإسلام وليست الآخرة آخرة عمر الدنيا بل الأخرى من القضاء وهي الثانية ، وانخبل أكثرهم بأم رأسه باعتقادهم حصول القضاء الأول في زمان داود عليه الصلاة والسلام ، وأصحاب هذا القول ولو كانوا من السلف لا شك أنهم أصيبوا بعمى عقلي وتصور منكوس لتأريخ بناء بيت المقدس وهدمه ، إذ من المعلوم أن المسجد لم يكن له وجود بعهد النبي داود عليه الصلاة والسلام بل بني بعهد ابنه النبي سليمان عليهما الصلاة والسلام ، وهذا مثبت بعهد اليهود المقدس وله شاهد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يقال أن الإفساد الأول حصل بزمان داود عليه الصلاة والسلام ومع هذا يحمل بعضهم الدخول للمسجد في زمانه والمسجد لا وجود له حينئذ ؟!

ومن لم يلتفت لذكر المسجد في آيات سورة الإسراء وهو بصدد تأويل خبر القضائين ، فلا شك في توهان عقله ولا بد من علاقة لذلك بما أن الله تعالى أوقع ذكر كل ذلك بسياق تلك الآيات وقدم ذكر المسجد وربط القضاء الثاني به .

وهذه ولا شك الحجة القوية على أن أولئك كانوا يتخبطون في تفسير كلام الله تعالى وتأويل أخباره ، مثل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، فحال من نحى تعلق التأويل بالمسجد المذكور بالمطلق كحال من كفر ببعض الكتاب ، فالرب ذكر ذلك صريحا هناك ، وأشر من هؤلاء من جعل الدخول للمسجد يعود للمشركين ، وخلاصة هذه المذاهب اثبات جهل الأمة المركب على تأويل الكثير من آيات الذكر العظيم وبينات الرب عز وجل بالقرآن والأنبياء من قبله .

ومع هذا أقول : أن الحق في أن التعدد بالحادثتين والإفسادين لا يعود لذات المسجد الذي تصوروه بأذهانهم ولو وقع ذكره خلال السياق للآيات ، كما لا يعود للمسجد الحق الذي يريد تعيينه الله تعالى ، لأن المسجد المذكور بسياق تلك الآيات الذي يعني تعالى خلاف ما تصوروه هم ولا يمكن يكون كذلك ، أللهم إلا بعلاقة الدخول الأول وشبهه الثاني ، أما الإفسادين منهم فلا علاقة لهما بذلك المسجد الذي قرر ذكره ربنا تعالى بتلك السورة ، هذاأولا .

وثانيا : أنه للقضاء الأول لم يذكر المسجد مطلقا بل ذكر الديار دون ذكر المسجد وما ذلك إلا لحقيقة ما جرى هناك إذ سقطت قدسية ذلك البيت وهان عليه وهو واقع الحال ، حتى حكوا أنه دنس وايقنوا هوانه على الله عز وجل ، لكن في الإسلام يجهلون هذه الحقيقة جهلا مطبقا ، والمسجد المقدس لما يقضي الله تعالى عليه ينتهي بتاتا والعائد فيه تائه ، مثل ما سيجري على البيت الحرام كان لا يمكن يوصل له وقصة أصحاب الفيل منصوص عليها في القرآن ، لكن لما يقضى عليه بالهدم هذا يعني انتهاء عمرانه وهو ما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كائن آخر الزمان ، وبيت المقدس كالحال مع بيت الله الحرام آخر الزمان ، لما يقضى عليه بالهدم هذا يعني انتهاء أمره ، وقد ألمح صلوات ربي وسلامه عليه مع الذي نذر يصلي ببيت المقدس فكان توجيهه أن يصلي بالبيت الحرام ويدع عنه ما قاله ردد ذلك عليه ثلاث مرار لما أشرت هنا ، ولما أصر تركه وشأنه .

وثالثا : الدخول المذكور عند القضاء الثاني للمسجد المذكور تعلقه بالإسراء لا القضاء الأول حتى يعود عليه مثل ما تصوره من تصوره فارتبط ذلك بذهنه ببيت المقدس وحسب معنى كلام الله تعالى على ذلك ، وهم في خطأ من تعيين المسجد أصلا ، ومن باب أولى يقع منهم الخطأ في تعيين القضاء الثاني زمان دخول المسجد ، والرب عز وجل في كلامه عن تلك الأخبار لم يطابق بالذكر ما بين التسليطين ، ففي التسليط الأول وصفهم بعباد له وخروجهم لليهود بالبعث ، خلاف وصف الآخرين اقتصر بذكرهم على ( الدخول للمسجد ) اشارة لشرف مقامهم ومدخلهم ولأنه قصد لإخفاء معنى عظيم وهو البعث الشرعي ، عكس الأولين لما كان بعثهم المراد به القدري أظهره ولم يخفيه ، وذلك ما اقتضاه الخبر كونه نبوءة وتعلقه بالنبوة ، فأعرض عن وصف أولئك بالداخلين لأن دخولهم لم يكن للمسجد بالأساس بقدر ما قصدهم كان للمدينة كلها والديار لهذا وصفهم بمقتضى ذلك : ﴿ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً  .

أما المتأخرين فوصفهم بأشرف ما هم فيه وهو دخول ذلك المسجد ، الدخول الذي سيكون سببا مباشرا وأكيدا على اساءة وجوه يهود بسبب ذلك ، وذلك لأنه مما يأملون ويصرون على الله عز وجل أن يكون فيهم ذلك ولهم ، لكن لما يظهره الله تعالى في غيرهم فحينذاك تسوء وجوههم حقا ، وهو أشد ما أبغضوا من قدر الله تعالى عليهم .
 
( فَإِذا جاءَ وَعدُ الآخِرَةِ لِيَسوءوا وُجوهَكُم ) ، ولما كان المراد المهدي بذلك هنا استخدم المعنى نفسه فقال ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ) أي رأوا إظهار أمره وتعيين شخصه الذي كانوا يدعون عليه .

وقريب من هذا التشريف بالدخول ووصفهم بذلك ما قاله تعالى عن رؤيا أخرى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم في دخوله المستقبلي للبيت الحرام فقال هناك :

﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً 

فالدخول هنا دخول نبوءة ومصداق رؤيا ، وبالإسراء الدخول المذكور سيكون دخول نبوءة ومصداق وحي .

وأقول : أن الدليل القاطع من ذات الآيات الذي يثبت تقرير الحق في أصول هذه الدعوة المباركة عن ذلك ، والذي يهدم ما كانوا عليه ولا زالوا ، وهو أن الله عز وجل لما أحال للدخول للمسجد أنه سيكون كما الدخول الأول ولهذا أتى بالكاف التي تفيد التشبيه فقال ( كما دخلوه أول مرة ) ولو كان مقدر أن يبقي لهم تعالى بقية من عقل بهذا الموضع لأدركوا مدى خطورة هذا المعتقد الذي أجمعوا عليه واتفقوا عليه على مر العصور ، ولهذا من فطن منهم لذلك المحذور من المتأخرين قال : المراد دخول عمر وجيشه 

وهذا للأسف شبه تحريف لأن السياق الأصل فيه أن يعود الدخول لأقرب مذكور والمذكور الأول دخول نبوخذ نصر بالظاهر من سياق تلك الآيات وهو ولو لم ينص على ذكر المسجد بالإفساد الأول إلا أن دخوله كان واقع صريح وقد فصلوا عما جرى عليه بأخبارهم وأنهم جاسوا خلال الديار كما أخبر تعالى وفي جملة تلك الديار مسجد سليمان فأفسدوا فيه وسلبوا كنوزه بحال غير مسبوقة على الإطلاق .

أقول : و يمنع هذا التحريف على معنى الخبر وهو ما يعد دليلا آخر لإبطال ما هم عليه ، لأن الله تعالى أراد بالدخول للمسجد الذي يريد ذكره تعالى وهو بالسياق أقرب مذكور للتشبيه ، لا الذي قدروه بأذهانهم الضالة هنا في تعيين المسجد المذكور ، فلهذا يكون التشبيه حق بمراد الله تعالى باطلا على مرادهم ، والله عز وجل أراد يعميها عليهم ، وكيف لا وهم مرروا أن الدخول الثاني كما الأول والأول كما علموا تم بعد افساد بني اسرائيل الأول الذي قضى وفقه الباري عز وجل أن يسلط عليهم إن فعلوا ذلك عبادا له أولي قوة وتجبر وبأس فيجيسوا خلال الديار افسادا وتدميرا ومن ضمن ذلك المسجد الذي بناه النبي سليمان عليه الصلاة والسلام دمر تماما وزالت قداسته بذلك التسليط ، وقد علمت البشر من فعل ذلك ، لقد كانوا رؤوسا للشرك والوثنية في ذلك الزمان وفعلوا بالمقدسات ما فعلوا ، فكيف يمكن شرعا وبمقتضى العلم والحكمة الربانية أن يأتي الله عز وجل ويشبه هذا الدخول الثاني بأولئك القوم الذين علمتم وعلمت البشرية حالهم ، فكيف يشبه أولئك بهؤلاء وهم من سيكون على أيديهم تحقيق القضاء الثاني عليهم ، بعد أن يفسدوا الإفساد الثاني .

أما بخصوص دخول عمر رضي الله تعالى عنه ومن معه فهو غير معني بتاتا بالدخول الذي نص على خبره المولى عز وجل ، ولم يقل به من تقدم من الأئمة بل هو كما قلت قول محدث عصري ، لأن الأقدمين شبه اتفقوا على أن القضائين والتسليطين مما سبق بهما الإسلام ، والذي جر من قال بالقول المتأخر ابتداع تعيين بيت المقدس على ما اجمعت عليه الأمة خلاف مراد الله عز وجل بآيات سورة الإسراء ، وما رأوا من افساد اليهود اليوم وامدادهم بالبنين والمال واحتلال ما يعتقدونه المسجد الأقصى ، فاطمئنوا لمذهبهم الأخير وهو باطل من كل وجه وليس مراد الخبر على هذا ، بل مراد الخبر جهلوه من كل وجه سواء كانوا السلف أو الخلف ، فالقضاء مثلا بالمرتين مرهون بجيوش العراق ، الجيش الأول منهم في زمان تدمير بيت المقدس ، والجيش العراقي الثاني في زمان غزو الكويت لتقترب نهايتهم ويكشف كذبهم وتسوء وجوههم ، وسيأتي مزيد تفصيل عن وجه القضائين على سبيل التفسير الحق لا ما قاله واعتقده المفترين بأقوالهم على غيب الله تعالى وبنبوءاته .

واعلموا أن القضاء هنا بمعنى الاخبار ، أي أنه عز وجل نبأهم بأنهم سيفعلون هذا وأنه بعد كل افساد منهم سيسلط عليهم من يفعل بهم ويفعل : ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ  ، ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ  .

وحرم عليهم دخولها ومنع عنهم الأمن : ﴿ أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  . ما دخلوها إلا وأفسدوا فيها ومن ذلك قتلهم الأنبياء حتى قتلوا النبي زكريا عليه الصلاة والسلام بالهيكل عند المذبح قدموه قربانا لسوء معتقدهم وبغضهم للرب عز وجل وشديد كرههم لما قدر وبلغهم الأنبياء عن ذلك قال المسيح عليه الصلاة والسلام :

﴿ فويل لهذا الجيل الكافر لأنهم سيحملون تبعة دم كل نبي وصدّيق مع دم زكريا بن برخيا الذي قتلوه بين الهيكل والمذبح ، أي نبي لم يضطهدوه ؟ ، أي صدّيق تركوه يموت حتف أنفه ؟ ، لم يكادوا يتركوا واحدا ، وهم يطلبون الآن أن يقتلوني ، يفاخرون بأنهم أبناء إبراهيم وأن لهم الهيكل الجميل ملكا ، لعمر الله إنهم أولاد الشيطان فلذلك ينفذون إرادته ، ولذلك سيتهدم الهيكل مع المدينة المقدسة تهدما لا يبقى معه حجر على حجر من الهيكل  "الإنجيل الصحيح برواية تلميذه البار برنابا 214 "


فكان منهم حقا الإفساد الأول وسلط عليهم كما أخبر تعالى جيش نبوخذ نصر ، ثم الآن الإفساد الثاني وسيسلط عليهم عبيده المؤمنين ، لكن ليس بالمكان الذي دخل فيه الجيش الأول ، لأن ذلك محال للأمرين الذين بينا ولا زلنا :

الأول : عدم صحة تعيين مكان مسجد سليمان ، لإندراس بناءه ولا يصح يعتمد على تعيين كعب الأحبار أو العامة في ذلك الزمان ، هذا وجه ، والوجه الآخر أن قدسية ذلك المسجد أبطلت وهكذا كان قضاء الله تعالى خرج بأن تزال قدسيته بالمرة ولا يمكنهم العودة له ولم يسمح بذلك ولن يقرهم فيه أبدا وكل ما يعودون يسلط عليهم الرعب والهدم والإزالة ، كما فعل ذلك مرارا ، فكل ما رجعوا رجع إليهم بحكمه الأبدي إنما هي بدع وأكاذيب زعموها على الأنبياء وما قالوه في ذلك لهذا لن يقرهم تعالى فيها ، ولا يصح بتلك الأكاذيب بتاتا الرجوع لذلك البيت بدعوى القدسية هذا وإن سلمنا جدلا بصحة ذلك التعيين ، فكيف وهو مما لا يصح به بتاتا ذلك التعيين ، إذا أمرهم فيه ضلال فوق ضلال : ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ  .

وكم أخطأ الطبري في تفسيره بإيراده حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم يروونه عن حذيفة رضي الله تعالى عنه وخلاصة ما فيه ينافي الحق وقد أتى مجرم من بينهم ليضع ذلك على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ومثل الطبري يأتي ليرويه في تفسيره تقريرا للتفسير الصحيح برأيه لتلك الآيات ، فيقول :

حَدَّثَنَا عِصَام بْن رَوَّاد بْن الْجَرَّاح , قَالَ : ثنا أَبِي , قَالَ : ثنا سُفْيَان بْن سَعِيد الثَّوْرِيّ , قَالَ : ثنا مَنْصُور بْن الْمُعْتَمِر , عَنْ رِبْعِيّ بْن حِرَاش , قَالَ : سَمِعْت حُذَيْفَة بْن الْيَمَان يَقُول :

قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمَّا اِعْتَدَوْا وَعَلَوْا , وَقَتَلُوا الأَنْبِيَاء , بَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ مَلِك فَارِس بُخْتَنَصَّرَ وَكَانَ اللَّه مَلَّكَهُ سَبْع مِائَة سَنَة , فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْت الْمَقْدِس فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَهَا , وَقَتَلَ عَلَى دَم زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا , ثُمَّ سَبَى أَهْلهَا وَبَنِي الأَنْبِيَاء , وَسَلَبَ حُلِيّ بَيْت الْمَقْدِس , وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَة أَلْف عَجَلَة مِنْ حُلِيّ حَتَّى أَوْرَدَهُ بَابِل " قَالَ حُذَيْفَة : يَا رَسُول اللَّه لَقَدْ كَانَ بَيْت الْمَقْدِس عَظِيمًا عِنْد اللَّه ؟ قَالَ : " أَجَلْ بَنَاهُ سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ مِنْ ذَهَب وَدُرّ وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد , وَكَانَ بَلَاطًا بَلَاطَة مِنْ ذَهَب وَبَلَاطَة مِنْ فِضَّة , وَعُمُده ذَهَبًا , أَعْطَاهُ اللَّه ذَلِكَ , وَسَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِين يَأْتُونَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فِي طَرْفَة عَيْن , فَسَارَ بُخْتُنَصَّرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء حَتَّى نَزَلَ بِهَا بَابِل , فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيل فِي يَدَيْهِ مِائَة سَنَة تُعَذِّبهُمْ الْمَجُوس وَأَبْنَاء الْمَجُوس , فِيهِمْ الْأَنْبِيَاء وَأَبْنَاء الْأَنْبِيَاء ; ثُمَّ إِنَّ اللَّه رَحِمَهُمْ , فَأَوْحَى إِلَى مَلِك مِنْ مُلُوك فَارِس يُقَال لَهُ كُورَس , وَكَانَ مُؤْمِنًا , أَنْ سِرْ إِلَى بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى تَسْتَنْقِذهُمْ , فَسَارَ كُورَس بِبَنِي إِسْرَائِيل وَحُلِيّ بَيْت الْمَقْدِس حَتَّى رَدَّهُ إِلَيْهِ , فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيل مُطِيعِينَ لِلَّهِ مِائَة سَنَة , ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا فِي الْمَوَاضِع , فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ اِبْطِيَانْحُوس , فَغَزَا بِأَبْنَاءِ مِنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّرَ , فَغَزَا بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى أَتَاهُمْ بَيْت الْمَقْدِس , فَسَبَى أَهْلهَا , وَأَحْرَقَ بَيْت الْمَقْدِس , وَقَالَ لَهُمْ : يَا بَنِي إِسْرَائِيل إِنْ عُدْتُمْ فِي الْمَعَاصِي عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالسِّبَاءِ , فَعَادُوا فِي الْمَعَاصِي , فَسَيَّرَ اللَّه عَلَيْهِمْ السِّبَاء الثَّالِث مَلِك رُومِيَّة , يُقَال لَهُ قَاقِس بْن إِسْبَايُوس , فَغَزَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر , فَسَبَاهُمْ وَسَبَى حُلِيّ بَيْت الْمَقْدِس , وَأَحْرَقَ بَيْت الْمَقْدِس بِالنِّيرَانِ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذَا مِنْ صَنْعَة حُلِيّ بَيْت الْمَقْدِس , وَيَرُدّهُ الْمَهْدِيّ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَهُوَ أَلْف سَفِينَة وَسَبْع مِائَة سَفِينَة , يُرْسَى بِهَا عَلَى يَافَا حَتَّى تُنْقَل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَبِهَا يَجْمَع اللَّه الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ اهـ .


قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وَقَدْ رَوَى اِبْن جَرِير فِي هَذَا الْمَكَان حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ حُذَيْفَة مَرْفُوعًا مُطَوَّلا وَهُوَ حَدِيث مَوْضُوع لا مَحَالَة لا يَسْتَرِيب فِي ذَلِكَ مَنْ عِنْده أَدْنَى مَعْرِفَة بِالْحَدِيثِ وَالْعَجَب كُلّ الْعَجَب كَيْف رَاجَ عَلَيْهِ مَعَ جَلالَة قَدْره وَإِمَامَته وَقَدْ صَرَّحَ شَيْخنَا الْحَافِظ الْعَلامَة أَبُو الْحَجَّاج الْمِزِّيّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّهُ مَوْضُوع مَكْذُوب . وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى حَاشِيَة الْكِتَاب اهـ .

قلت : لا شك أنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقول معناه مما دون كاتب العهد من تحريفات بكتابهم ، في دعواهم الكاذبة بمشروعية رجوعهم من بابل ، وبذكر كورش الفارسي المجوسي السامح لهم بترميم مسجد سليمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأن الواضع لهذا مجرم فقد زاد أن كورش هذا مؤمن ولم يرد بقلم محرفهم الأول ذلك فزاده هذا المجرم على لسان رسول الله ، بل كان مجوسيا مشركا ، وأصل ذكر كورش هناك موضوع على لسان النبي اشعيا صلى الله عليه وسلم وكلامه عنه من نبوءات الخلاص آخر الزمان ويريد به المهدي عليه الصلاة والسلام ، فأتوا المحرفة ليصرفوا ذلك عن المهدي لذلك المجوسي حتى يتسنى لهم تدعيم كذبهم بالخلاص والعودة للهيكل ومسجد سليمان بزعمهم ، وكل ذلك كذب في كذب يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، لكن أن ينسب ذلك للسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا مما يثبت سريان كذب اليهود للمسلمين حتى يدونه مثل الطبري في تفسيره لتلك الآيات تحديدا .

وليس مجرد كذب بل غباء ينم عن جهل تأريخي ، إذ أن نبوخذ نصر ليس في زمان زكريا بل كان قبله بكثير ، فزكريا النبي عليه الصلاة والسلام ممن تأخر زمانه عن غزو جيش نبوخذ نصر بتأريخ بعيد جدا ، يدرك هذا بديهة من ميلاد المسيح وحياته ، فأين المسيح وأين نبوخذ نصر ؟!

وهذا شبه استهتار بعقول الناس وتجهيل حتى يوضع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقله من يقال عنه إماما للمفسرين بكتابه وأين في تفسير تلك الآيات من سورة الإسراء التي تم فيها تعيين المسجد الأقصى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، حقا إنه مكر يهودي قديم تسرب للمسلمين ليدخل على تقرير الحق في تعيين مقدساتهم .

الثاني : عدم صحة تشبيه دخول الجيش الثاني بالجيش الأول وهو مذهب واختيار الكثير من السلف روي عن كثير منهم ذلك ، لأن الأول كانوا أهل شرك ووثنية وفعلهم ضد القداسة الربانية ، أما الجيش الثاني فليس كالأول من كل وجه ، فدخولهم رباني ويدعم القداسة ، بل بهم ستعود القداسة الربانية ثانية للبشر ، وكل من زعم أن القداسة الربانية ستعود ثانية في العالمين بغير سبيل هؤلاء فهو كاذب .

وهذا مني على سبيل الإجمال والإيجاز ، أما على سبيل الشرح المفصل الضروري والتفسير الحق لما وقعوا به من خلل باعتقادهم في تعيين المسجد الأقصى ، فأقول وبالله تعالى أستعين :

أولا هنا يرد سؤال مهم جدا ألا وهو : متى تم تعيين ذلك المسجد ، هل كان ذلك بدخوله بعد هجرته من مكة لها حتى بركت الناقة بأرض المسجد ؟

أم أن ذلك تم بإسراء الرب عز وجل بروحه للمدينة وأمر جبريل له أن يصلي هناك بمسجده قبل ما يهاجر لها باليقظة ؟

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ 

﴿ وَالْفَجْرِ .. وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ 

لا شك بأن الجواب الأوفق للقرآن من السنة ، وإنما السنة بهجرته أتت لتأكيد ذلك التعيين ، فكان دخوله بالروح أولا ثم من خلال أمر القوي المتعال للناقة أن تبرك بأرض المسجد لتأكد ذلك التعيين بأنه رباني ليس لأي مخلوق دونه عز وجل ، فهو الذي يعلم ويختار أي البقاع هي المباركة والتي ستتلقى المباركين .

ولأهمية شأن تلك المدينة المباركة ومسجدها المبارك أخبر تعالى بكتابه الزبور عن ذلك التعيين فقال هناك :

﴿ تَفْرَحُ مَدِينَةُ اللهِ حَيْثُ مَسَاكِنُ الْعَلِيِّ بِنَهْرٍ دَائِمِ الْجَرَيَانِ . اللهُ فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ. يُعِينُهَا اللهُ فِي الفَجْرِ المُبَكِّرِ . مَاجَتِ الأُمَمُ وَهَاجَتْ ، فَتَزَلْزَلَتِ الْمَمَالِكُ ، وَلَكِنْ مَا إِنْ دَوَّى بِصَوْتِهِ حَتَّى ذَابَتِ الأَرْضُ .

تَعَالَوْا وَانْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ الَّذِي صَنَعَ عَجَائِبَ فِي الأَرْضِ . يَقْضِي عَلَى الْحُرُوبِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا. يَكْسِرُ الْقَوْسَ وَيَشُقُّ الرُّمْحَ، وَيُحْرِقُ الْمَرْكَبَاتِ الْحَرْبِيَّةَ بِالنَّارِ . اسْتَكِينُوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ ، أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ وَأَتَعَالَى فِي الأَرْضِ 


وعلى لسان نبيه اشعيا كذلك عليه الصلاة والسلام بقوله :

﴿ مِنْ أَجْلِها لاَ أَسْكُتُ لاَ أَهْدَأُ، حَتَّى يَخْرُجَ بِرُّهَا كَضِيَاءٍ وَخَلاَصُهَا كَمِصْبَاحٍ يَتَّقِدُ . فَتَرَى الأُمَمُ بِرَّكِ ، وَكُلُّ الْمُلُوكِ مَجْدَكِ ، وَتُسَمَّيْنَ بِاسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ الرَّبِّ ـ كان اسمها يثرب فسميت طيبة ـ ، وَتَكُونِينَ إِكْلِيلَ جَمَال بِيَدِ الرَّبِّ ، وَتَاجًا مَلِكِيًّا بِكَفِّ إِلهِكِ ، الرَّبَّ يُسَرُّ بِكِ ..
وَيُسَمُّونَهُمْ : شَعْبًا مُقَدَّسًا ، مَفْدِيِّي الرَّبِّ ، وَأَنْتِ تُسَمَّيْنَ : الْمَطْلُوبَةَ ، الْمَدِينَةَ غَيْرَ الْمَهْجُورَةِ


وبالفعل عينها الرب تعالى بذلك الإسراء وتم لها الإسم الجديد كما في الحديث المتفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت بقرية تأكل القرى يقولون : يثرب ، وهي المدينة ، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد " . " هذه طابة وهذا أحد , جبل يحبنا ونحبه " . متفق عليه .

وروى النسائي عن يزيد بن أبي مالك عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : 

" أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل فركبت ومعي جبريل ، فسرت فقال : انزل فصل . ففعلت ، فقال : أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة "

فهذا التعيين الذي ورد ذكره في الزبور وإليها نسبت المهاجرة آخر الزمان المهدي ومن معه ، وأمرهم مفصل في الأنبياء بشكل مطول وموسع ومر عليكم الكثير من ذلك ، وهو ما إذا حققه الله تعالى سيسوء بذلك وجه اليهودية كلها ، ولا أشد عليهم سيكون من ذلك بحمد الله تعالى وفضله على عباده :

﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ 

لأن بذلك البعث دمارا لليهودية نهائي وبه سيتم فضحهم ، وكيف لا تسوء وهي ترى التابوت المقدس الذي كان فيهم معظم والعصا ولوحي العهد يقرأ في غيرهم ليتم الله تعالى بذلك فضحهم وخزيهم ، وكل تلك مع الله عز وجل شهادات عليهم وعلى العالم أجمع ، وقد بلغوا بهذا صراحة وجعلت العصا من المؤكد على أن بها وعيدا لهم آخر الزمان لقول الرب عز وجل لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام التالي :

﴿ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: « رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا

وكانت سنة الله تعالى فيهم من قبل تنصيب شهادة عليهم مثل ما فعل بأمره يشوع عليه الصلاة والسلام :

﴿ وَكَتَبَ يَشُوعُ هذَا الْكَلاَمَ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ اللهِ . وَأَخَذَ حَجَرًا كَبِيرًا وَنَصَبَهُ هُنَاكَ تَحْتَ الْبَلُّوطَةِ الَّتِي عِنْدَ مَقْدِسِ الرَّبِّ ، ثُمَّ قَالَ يَشُوعُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ : إِنَّ هذَا الْحَجَرَ يَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْنَا ، لأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ كُلَّ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي كَلَّمَنَا بِهِ ، فَيَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ لِئَلاَّ تَجْحَدُوا إِلهَكُمْ 

وكفى بالله شهيدا على ذلك بنفسه تعالى وسيقوم بهذا المقام آخر الزمان عليهم وعلى غيرهم من سائر الأمم هو وشهاداته تبارك وتعالى مع الأنبياء الذين اختارهم لذلك المقام ، ومع ما قلت قبل ، سينزل على أحد مثل ما نزل في زمان بني إسرائيل لما رأى اضطهادهم من فرعون مصر وجيشه ، وقرر هذا بوحيه على النحو التالي : 

﴿ اِسْمَعُوا أَيُّهَا الشُّعُوبُ جَمِيعُكُمْ أَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا ، وَلْيَكُنِ السَّيِّدُ الرَّبُّ شَاهِدًا عَلَيْكُمُ ، السَّيِّدُ مِنْ هَيْكَلِ قُدْسِهِ " ميخا عليه الصلاة والسلام "

﴿ وَأَقْتَرِبُ إِلَيْكُمْ لِلْحُكْمِ ، وَأَكُونُ شَاهِدًا سَرِيعًا عَلَى السَّحَرَةِ وَعَلَى الْفَاسِقِينَ وَعَلَى الْحَالِفِينَ زُورًا وَعَلَى السَّالِبِينَ أُجْرَةَ الأَجِيرِ : الأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ ، وَمَنْ يَصُدُّ الْغَرِيبَ وَلاَ يَخْشَانِي ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ  " ملاخي عليه الصلاة والسلام "

﴿انْتَظِرُونِي لأَنِّي عَزَمْتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَقُومُ فِيهِ كَشَاهِدٍ أَنْ أَجْمَعَ الأُمَمَ وَأَحْشُدَ الْمَمَالِكَ لأَسْكُبَ عَلَيْهِمْ سَخَطِي وَاحْتِدَامَ غَضَبِي ، لأَنَّ الأَرْضَ بِكَامِلِهَا سَتُؤْكَلُ بِنَارِ غَيْرَةِ غَيْظِي  "صفنيا عليه الصلاة والسلام "


﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً 

﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ . فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ 

﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ . يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ . إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 

نعم ، فعليهم سيكون الخزي والسوء حين يقوم الله تعالى شاهدا عليهم بتابوته وعصاه ولوحي عهده ورسله ، فيخزون وتسوء وجوههم وعليه أكد بالنص على ذلك في سورة الإسراء وسورة تبارك ، وسماه في سورة الفتح بدائرة السوء فقال عز وجل :

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً .. وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِعَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً 


وعن : 

شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل ، فقال له جبريل : انزل فصل . فنزل فصلى ، فقال : صليت بيثرب ثم قال : انزل فصل مثل الأول . قال :صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى . 


انتبهوا هذا قبل لا يصل بعد لبيت المقدس ، فمن هي تلك الشياطين التي اختزلت كل ذلك وارجعت المسجد الأقصى لبيت المقدس دون طيبة ؟!

حقا عبث إبليس وجنده اليهود هناك ، ومن أين لهم تعيين بيت المقدس أو الطور أو المسجد الأقصى ؟!

إن التعيين الحق لمن يهديه الله عز وجل لتعيين جبل سنا حقا ، والتابوت ، والعصا ، فمن هدي لتعيين ذلك بالحق من الله تعالى هو من سيهديكم لتعيين المسجد الأقصى بالحق ، تيقنوا ذلك ولا ترتابوا .

وانتبهوا أيضا ففي الخبر عن صلاته ببيت المقدس لم يجر عليه الإتفاق من وجهين :

الأول : اختلفت الروايات في ذلك واشتهر الخلاف عليه ، فمنهم من روى أنه صلى ببيت المقدس ــ ولما يكون الحق بأن الإسراء مناما فلا يعني صلاته به تعيين مكانه فتلك أمثال ضربت له بالمنام آيات لله عز وجل ورؤى الأنبياء حق ــ ، ومنهم من روى أن صلاته بالأنبياء وقعت في السماء وليس ببيت المقدس .

والثاني : انكار حذيفة رضي الله تعالى عنه انكارا قاطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ومر بيت المقدس أنه صلى فيه ، بل قال بأنه مره مرورا ولم ينزل عن ظهر البراق لا هو ولا جبريل وأقسم على ذلك ، وحديثه في ذلك مشهور رواه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وفيه :

عن عَاصِم عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش قَالَ أَتَيْت عَلَى حُذَيْفَة بْن الْيَمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ لَيْلَة أُسْرِيَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول : فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا بَيْت الْمَقْدِس فَلَمْ يَدْخُلاهُ قَالَ قُلْت بَلْ دَخَلَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتئِذٍ وَصَلَّى فِيهِ قَالَ مَا اِسْمك يَا أَصْلَع ؟ فَأَنَا أَعْرِف وَجْهك وَلا أَدْرِي مَا اِسْمك قَالَ قُلْت أَنَا زِرّ بْن حُبَيْش قَالَ فَمَا عِلْمك بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ لَيْلَتئِذٍ قَالَ قُلْت الْقُرْآن يُخْبِرنِي بِذَلِكَ قَالَ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فَلَجَ اِقْرَأْ قَالَ فَقُلْت ﴿ سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الأَقْصَى ﴾ ، قَالَ يَا أَصْلَع هَلْ تَجِد صَلَّى فِيهِ ؟ قُلْت : لا ، قَالَ وَاَللَّه مَا صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتئِذٍ وَلَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَتْ عَلَيْكُمْ صَلاة فِيهِ كَمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ صَلاة فِي الْبَيْت الْعَتِيق وَاَللَّه مَا زَايَلا الْبُرَاق حَتَّى فُتِحَتْ لَهُمَا أَبْوَاب السَّمَاء فَرَأَيَا الْجَنَّة وَالنَّار وَوَعْد الآخِرَة أَجْمَع ثُمَّ عَادَا عَوْدهمَا عَلَى بَدْئِهِمَا قَالَ ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى رَأَيْت نَوَاجِذه. قَالَ وَيُحَدِّثُونَ أَنَّهُ رَبَطَهُ لا يَفِرّ مِنْهُ وَإِنَّمَا سَخَّرَهُ لَهُ عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة .

قُلْت أَبَا عَبْد اللَّه أَيّ دَابَّة الْبُرَاق ؟ قَالَ دَابَّة أَبْيَض طَوِيل هَكَذَا خَطْوه مَدّ الْبَصَر . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بِهِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير مِنْ حَدِيث عَاصِم وَهُوَ اِبْن أَبِي النَّجُود بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن 
اهـ . " تفسير ابن كثير "

قلت : وحذيفة من علمتم رضي الله تعالى عنه ، ولو كان هذا مسلما وباح به النبي صلى الله عليه وسلم لما خفى علمه على من هو مثل حذيفة رضي الله تعالى عنه ، وهذ يدل على أن تفاصيل الإسراء وما جرى فيه والعروج بروحه إلى السماء مما قد يدخله من كلام القصاص ومن ذلك ما أنكره حذيفة وهو مروي عن غيره .

عكس نزوله بالمدينة وابتداء الإسراء به إليها ، وصلاته هناك بأمر من جبريل واخباره في ذلك التعيين أنها ستكون دار المهاجرة ، فهذا مروي عن صحابيين ولم ينقل عن أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم انكار ذلك ، فيعتمد وهو الحق ، فثبت على هذا صلاته بالمدينة ليلة الإسراء أما ببيت المقدس فتم النزاع في ذلك والخلاف عليه .

وأقول : نعم صدق الله تعالى وصدق رسله ، إن الفجر المبكر هو أول مبعثه صلى الله عليه وسلم ، وإن تعيين المسجد الأقصى هو بتعيين المدينة من الله عز وجل ، صدق الله بكتبه وكذب الوراقون .

ولعظم ذلك أقسم تعالى بذلك الفجر المبكر وبسريانه ذاك ، والمقصود به خصوص السريان للمسجد الأقصى ، وعموم الذهاب به كما ذهب بإدريس عليهما الصلاة والسلام ، على ما ترجح وجزم به القلب : أن محمدا صلوات ربي وسلامه عليه كما إدريس في الجنان العليا ، لقوله عز وجل :

﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ 


ووالله ذهب به وسيرى ما وعده وسيسأله وإياهم بالدنيا قبل الآخرة ، كيف لا وهو القائل تبارك وتعالى لعبده في سورة الإسراء تحديدا :

﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَعَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (2) ، وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ــ هذه تحديدا نبوءة الزبور والمقرره بالإنجيل حين يقبضه تعالى إليه ويعده ببعث حفيده ليكون له سلطانا نصيرا ــ ، وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً .. 

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً 

يريد بالفجر ما تقرر بالزبور أنه أول بعثه وحين ذاك يعين له المسجد الأقصى بطيبة الخير والنور من خلال الإسراء به ليلا من المسجد الحرام ولاحقا يهاجر إليها صلوات ربي وسلامه عليه ، وأمره يقيم الصلاة لأوقاتها وعليه أن يقرأ آيات وبينات ذلك الفجر أوله وآخره ، بما فيها من تفاصيل وأنباء مثل ما ورد هنا بآيات سورة الإسراء نفسها من ادخاله مدخل الصدق وإعادته بمخرج الصدق ، وأن يجعل له مقاما محمودا بذلك ولحفيده معه ، حين يأتي الحق ويزهق الله الباطل ، فهذا وأمثاله من قرآن الفجر : ﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً  ، ولهذا أثبت تعالى أنه مشهودا أي بتحقق تأويله سيكون مشهودا من الأنبياء والعالمين كلهم الذين سيدركون ذلك بوقته ويكونون شهودا عليه بسبب ما سيجري هناك من عظيم مجد الله عز وجل وباهر آياته ونصره للمؤمنين والأشهاد .

﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 


﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ 

أقول : ولعظيم شأن ذلك التعيين أنزل على الأنبياء ذكره كما مر معنا ، وكنى عنه في الزبور على ما تقرر هناك بالفجر المبكر ، هناك سيتم تعيين المدينة المقدسة مسكن الله العلي العظيم وقدسه وبهائه ، وتم ذلك على ما تقرر بالإسراء بروحه الطاهرة الزكية ، وقيل له إنزل فصل إنها دار المهاجرة .

بل أقسم الرب بذلك الفجر في القرآن تعظيما لذلك التعيين وذلك المبعث المبارك والإسراء فقال عز وجل :

﴿ وَالْفَجْرِ ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ... وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ... فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ


يعرض هنا بعذابه على الأمم السابقة الأمم التي ستكون بآخر الزمان ، بصنوف من العذاب الذي مس الأمم تلك حين يكتمل الفجر ، أي برجعة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبذلك يكون اكتمال الفجر .

ولما كان مقدر عليه الغياب بعد بعثه الأول أدخل تعالى بجملة تلك الأقسام سريانه بليل كناية عن الإسراء به ليلا ليعين له مسجده بالمدينة وكناية عن قبضه إليه عز وجل بعد ذلك ، وإلا كما قال من عقلاء السلف أن الليل لا يسري بل يسرى به ، وقد صدق سري بمحمد صلى الله عليه وسلم ليلا لمسجده بالمدينة وسرى به بعد ذلك ليرجع آخر الزمان بعد ما يوطئ لقدميه حفيده المرسل من الله عز وجل أعدائه ، فيكون رجوعه آخر الزمان ايذانا باكتمال ذلك الفجر ، الفجر الذي قال عنه في الزبور أيضا في تمام تلك النبوءة العظيمة عن قبضه وارسال حفيده من بعد ذلك ليتسلط بقدرة الله تعالى على اعداء جده :

﴿ شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ ، فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ مِنْ رَحِمِ الْفَجْرِ ، لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ 

حين يرجع من رحم ذلك الفجر يريد غيبته عن الناس ، من بعد طل حداثته ، أي بعثه الأول ولم يكتف بوصفه بالطل حتى أضاف وصف الحداثة ، أي ابتداء بعثه بالأول .

والطل قيل الندى وقيل المطر الخفيف القليل ، وكل ذلك مقارنة بفضل الله تعالى العظيم الذي سيكون له آخر الزمان حين رجعته عليه الصلاة والسلام فيباركه الله تعالى جدا ، بعد بعثه الأول والمشبه بالندى أو المطر الخفيف نسبة مع الوابل الذي سيكون آخر الزمان بتلك البركات العظيمة .
 
( وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى ) .


والمرجح أن التفسير الصحيح لمعنى الطل هو المطر الخفيف لاعتبارين .

الأول : قوله تعالى في ذكر الطل بالقرآن حين جعله المقابل من الوابل : ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  . قابل بالمطر الخفيف المطر الغزير ، ولم يقابله بالندى .

الثاني : لما ألمح صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى في حقيقة أمره هذا في أمته من بعده ، لم يشبه ذلك إلا بالمطر لا الندى فقال صلى الله عليه وسلم :

ابشروا ابشروا انما أمتي كالغيث لا يدرى آخره خير أم أوله ، أو كحديقة أطعم منها فوج عاما ، ثم أطعم منها فوج عاما ، لعل آخرها فوجا يكون أعرضها عرضا ، وأعمقها عمقا ، وأحسنها حسنا ، كيف تهلك أمة أنا أولها والمهدي أوسطها والمسيح آخرها ، ولكن بين ذلك ثبج أعوج ، ليس مني ولا أنا منهم . ( ذكره الإمام في الفصل الرابع من كتابه وجوب الاعتزال وهناك خرج مسألة المفاضلة ما بين أول الأمة وآخرها بما لا مزيد عليه فليراجع هناك ) .

وقطعا هو يعلم أي الخيرية تكون أعظم لكن لا يدرى عنها باعتبار من جهل تلك النبوءات وجهل ولم يوقن بوجوب عودته آخر الزمان ليتم كل ما كتب تعالى بالبينات وتأويل الذكر حين يتجلى ربنا تعالى فوق المدينة وينفذ اختياره تقديس نفسه من هناك أمام مرأى العالم كله على ما بين وفصل في الكثير من النبوءات والتي سيكون كتاب فضل المدينة هذا من أجمع وأبين ما يتم فيه الكشف عن هذا المعتقد إن شاء الله عز وجل .

وكيف لا تكون الخيرية هناك لهذه الأمة والرب تعالى سيظهر مجده من هناك في تحقيق وعده العظيم بأن يبارك في هذه الأمة كما بارك فيمن سبقها ، وأن يستخلف منها عباده الأتقياء كما استخلف من الذين سبقوهم ومكن لهم في الأرض ، فتبارك الله الحكيم العليم القوي العادل :

﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 

﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (3) كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ 

نعم كما استخلف الذين من قبلهم ، والمماثلة مثل ما تقرر في هذا الكتاب من كل وجه بل أعظم على ما بينت وسأبين ، فشق الحجر في السابقين أعظم منه سيكون في المتأخرين ، هنا جبل كامل سينشق فيخرج منه الماء .

كذلك النار في الأولين لا تقاس بالنار في المتأخرين والتي سيكون من عظمها أن يراها العالم كله من حول المدينة كما قال ونقل " باروك " : ﴿ فإن الله يُظهر سناك لكل ما تحت السماء  .

أو في الزبور : إنك تنير بأبهة من الجبال الأبدية وسيمر معنا لا حقا التفصيل في ذلك عند بيان الفروق بالبركة ما بين الخلاص الأول والخلاص الثاني الأخير .

وبوجوب تلك المماثلة تعين اختيار المهدي عليه الصلاة والسلام كما اختير أول خليفة في بني اسرائيل من خلال الوحي ، ويجهل ويضل كل من بسط أمر تعيين المهدي وعده واعتقد به أن يكون من دون وحي الله عز وجل ، وقد كشف عن وجه تعيين المهدي من خلال مثال النبي صلى الله عليه وسلم بالمنام ، هناك قالت نبوءة دانيال عليه الصلاة والسلام في بيان كيف يكون ذلك ، وهو ما حصل بالتمام مع المهدي عليه الصلاة والسلام وتم تعيين شخصه بتلك الرؤيا .


﴿ مِنْ بَاشَانَ أُرْجعُ ، أُرْجعُ مِنْ أَعْمَاقِ الْبَحْرِ .. مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ دار السلام لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا 

وهذا من الزبور أيضا يصرح به الله عز وجل بارجاع المصطفى صلى الله عليه وسلم من باشان الجبل المقدس وهناك سيكون هيكل الجبار من فوق طيبة مهيب عظيم وتسلم له ملوك الأرض وتقدم له الهدايا .

وبخصوص قوله ( يسر ) وردت طرفة عمن نقل عن الأخفش فقال الْمُؤَرِّج :

سَأَلْت الأَخْفَش عَنْ الْعِلَّة فِي إِسْقَاط الْيَاء مِنْ " يَسْرِ " فَقَالَ : لا أُجِيبك حَتَّى تَبِيت عَلَى بَاب دَارِي سَنَة , فَبِتّ عَلَى بَاب دَاره سَنَة فَقَالَ : اللَّيْل لا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ فَهُوَ مَصْرُوف , وَكُلّ مَا صَرَفْته عَنْ جِهَته بَخَسْته مِنْ إِعْرَابه أَلا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَتْ أُمُّك بَغِيًّا " , لَمْ يَقُلْ بَغِيَّة ; لأَنَّهُ صَرَفَهَا عَنْ بَاغِيَة اهـ . " تفسير القرطبي "


ولما كانت آيات سورة الفجر حول هذا المعنى دار الوعيد هناك بعذاب الأمم السابقة يعمل مثله بالأخيرة حين يحصل كل ذلك ، ولهذا قال تعالى : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ  .

وعليه كانت تلك الأقسام العظيمة ، بالفجر وهو ما قرر هنا ، والشفع المصطفى صلى الله عليه وسلم وحفيده وكل له اسمه الخاص ، والوتر وهو اسمهم الجامع ( أحمد ) .

وكان في كل ذلك اقسام منه تعالى عظيمة على تعذيب أولئك المدركون إكتمال الفجر ، والحجر المقصود به ما سيجري على أولئك حين نزول العذاب المتصل اللازم الذي لا نهاية له ، وفي ذلك قال تعالى :

﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً 


فتكفيهم تلك الأقسام على أني سأجري هذا عليهم مدحورين منبوذين لا يرون خيري على عبادي ولا يخالطونهم بنعمي آخر الزمان ، فهذا معنى كونهم بالحجر أي المنع من كل ذلك ونصيبهم العذاب ، ولا يصاحبوني ولا يستعتبون ولا يجاوروني .

وقال أيضا تبارك وتعالى في معنى الحجر :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً 

ذلك هو الفجر كناية عن أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر حفيده معه الذي نطق به الإنجيل بقوله ( فإذا كبر هو أخذه كفيه ) ، وعنه قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( اسمه يواطئ اسمي ) .

كناية عن هذا الأمر العظيم والذي من تأويلاته قداسة في أبناء المهدي ، ومن لم تكن له تلك المبشرات وأولئك الأبناء فلن يكون له ذلك الفجر ، وبذلك نطق نبي من أنبياء الله عز وجل وهو اشعيا عليه الصلاة والسلام فقال :

﴿هأَنَذَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمُ الرَّبُّ آيَاتٍ ...
إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ ، إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هذَا الْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ


﴿ بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ ، هكَذَا يُبَارَكُ الرَّجُلُ الْمُتَّقِي الرَّبَّ  " الزبور "

جعل لتحقق البشارة بأولاد المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحقق أمر هذا الفجر العظيم آخر الزمان ، والمعنى لن يكون أوان وابتداء تحقق تأويل تلك البينات ما لم يتحقق للمهدي هذا الأمر ، فكان ذلك علامة من الله عز وجل في ذلك .

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ 

...............

طبعا الإيمان هنا يعود على الوعد لا القرآن .
** من قبله هنا يعود لتحقق الوعد بالآخرة ، لأن آياته كانت تتلى عليهم وليس القرآن ما كان يتلى عليهم .
(1) الأشنان مادة ما تبيض بها الملابس قديما والإشارة هنا لتبييض وجوه المؤمنين آخر الزمان وقد سبق التفصيل في هذا المعنى بكتاب : " طي السماء " يراجع هناك . 
(2) فيما ورد عند أحد الأنبياء عن المقام المحمود دليل على أن زمان تحقق ذلك بالدنيا لا الآخرة على حسب فهم المفسرين للقرآن في هذه الأمة وحملهم ذلك للنبي في يوم العرض الأكبر ، وهذا من التباس العقيدة عندهم والإيمان بالغيب والحق ، ولو أنه لا يعنيهم إلا أنهم أفسدوا على من يدرك زمان ذلك بأن هيأوهم لإعتقاد بطلان هذا وأنه من العبث بتفسير آيات الكتاب ، ويكفي ضلالا أن تظن السوء بأمر قدره الله تعالى وأحب فعله لأحب خلقه وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قال النبي صفنيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ فَالرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ ، جَبَّارٌ يُخَلِّصُ . يُسَرُّ فَرَحاً بِكِ ، وَيُجَدِّدُ بِمَحَبَّتِهِ حَيَاتَكِ ، وَيَبْتَهِجُ بِكِ مُتَرَنِّماً . وَكَمَا فِي يَوْمِ مَوْسِمِ عِيدٍ ، أُزِيلُ عَنْكِ بَلاَيَاكِ ، فَلاَ تَتَحَمَّلِينَ مِنْ أَجْلِهَا أَيَّ عَارٍ . فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أُعَاقِبُ الَّذِينَ ضَايَقُوكِ ، وَأُخَلِّصُ الأَعْرَجَ ، وَأُعِيدُ الْمَسْبِيَّ ، وَأُغْدِقُ عَلَيْهِمْ مَدْحاً وَشَرَفاً فِي كُلِّ أَرْضٍ تَعَرَّضُوا فِيهَا لِلْخِزْيِ . فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجْمَعُكُمْ وَأَجْعَلُ لَكُمْ مَقَاماً شَرِيفاً مَحْمُوداً بَيْنَ جَمِيعِ شُعُوبِ الأَرْضِ ، حِينَ أَرُدُّ لَكُمُ ازْدِهَارَكُمْ. هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ ﴾
(3) اعقب ذكر طي السماء بذكر توريث المؤمنين الأرض , وكل من جهل من هذه الأمة حقيقة معنى طي السماء هنا اخطأ باعتقاد زمان توريثهم للأرض ، فمن قال أن المراد الجنة لاعتقاده الباطل أن الطي بمعنى طي خلق الله تعالى للسماوات على ما نراها اليوم .
لكن الحق أن ذلك الطي ليس كما فهموا إنما على ما بينه الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام بكتابه " يوم نطوي السماء ... " أن الطي عائد لما نشروا من اقمارهم الصناعية فوق السماء ، ولا يكون ذلك الطي لتلك الأقمار مما خلق الله تعالى هناك إلا حين يقع منه التمكين للمؤمنين بتوريث الأرض أرضهم بالدنيا ، ولهذا اعقب بذكر هذا بعد هذا .

 
 
... يتبع