الفصل الأول
ليس من الحق في شيء القول بأن الاعتزال في زماننا لكل تجمع قل أو كثر أهله في هذه الفرقة الحاصلة في الأمة اليوم ليس من الدين ، وأن فاعله منافق كما نقل عن بعضهم ، ومثل هذا القول جهل ولا يقره من يتبع السلف بحق ، لمخالفته الصريحة لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل القول بأن هذا من النفاق ولا يفعله إلا منافق هو ردة عن الإسلام ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ، وقائله إن كان ممن يجهل وأقيمت عليه الحجة المعتبرة ثم أصر على قوله لاشك أنه يكفر ومثله لا يكون إلا منافقا مطموس البصيرة .
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله . عن عطاء بن يزيد أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضـل ؟ فقال : ( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ) قالوا : ثم من ؟ قال : ( مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره (1). وهذا مقيد بوقوع الفتن , وروى البخاري هذا الحديث في كتاب الرقاق ، باب : العزلة راحة من خلاط السوء . وقرن معه رحمه الله حديث أبي سعيد الآخر وبه : سمعت النبي يقول : ( يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن )(2). وهذا الحديث الأخير بوب له أيضا في الإيمان قوله ، باب : من الدين الفرار من الفتن(3). ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه استدراك النووي إيراد البخاري لهذا الحديث في الترجمة فقال : لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا . وهذا استدراك في غير محله ، إذ أن مراده في قوله هذا ، أن بالامتثال للأمر يصبح الفرار دينا . وقال ابن حجر في شرح الحديث : لفظه صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان ، وأما زمنه فكان الجهاد فيه مطلوبا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا اهـ(4). ويشهد لذلك حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه ، أو رجل معتزل في باديته يؤدي حق الله تعالى الذي عليه )(5). وعن أبي هريرة : ( أظلتكم فتنة أنجى الناس فيها صاحب شاء يأكل من رسل غنمه )(6).
وروي في هذا المعنى عن عروة عن كرز الخزاعي ، قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه ويذر الناس من شره )(7)وسيأتي إيراد حديث عروة لاحقا بأتم من هذا اللفظ ، وفيه فائدة جليلة وعروة رحمه الله من الفقهاء السبعة عالم المدينة ، قال عنه الزهري : عروة بحر لا تكدره الدلاء .وقال : جالست سعيد سبع سنين لا أحسب أن عالما غيره ، ثم تحولت إلى عروة ففجرت به ثبج بحر(8). وقد عمل عروة رحمه الله بهذا الحديث عندما أدرك الاختلاف والتنازع ، ورأى جور من جار من ولاة بني أمية وكان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع علي بن الحسين بن علي ، فذكرا جور من جار من بني أمية والمقام معهم وهم لا يستطيعون تغيير ذلك ، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم ، فقال عروة لعلي : يا علي ، من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم ، فخرج عروة فسكن العقيق(9). وقال أنس بن عياض حدثنا هشام بن عروة قال : لما اتخذ عروة قصره بالعقيق ، عوتب في ذلك ، وقيل له جفوت عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية ، والفاحشة في فجاجكم عالية ، فكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية .ثم قال : ومن بقي ؟ إنما بقي شامت بنكبة أو حاسد على نعمة(10).
وفي التمهيد علق أبو عمر بن عبدالبر على حديث أبي سعيد : ( ألا أخبركم بخير الناس منزلا ؟..) الحديث . بقوله : في ذلك حض على الانفراد عن الناس واعتزالهم والفرار عنهم . والعزلة فضلها رسول الله ، وفضلها جماعة العلماء والحكماء ، لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس . وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت . وقد جاء في غير هذا الحديث : ( إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ) ولم يخص موضعا من موضع . وقال رسول الله لابن عمرو : ( إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم ، فالزم بيتك واملك عليك لسانك ، وخذ مـا تعرف ودع ما تنكر ) . وعن بكير بن الأشج : أن رجالا من أهل بدر ، لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .
وكان طاووس يجلس في البيت ، فقيل له تكثر الجلوس في البيت ؟ فقال : حيف الأئمة وفساد الناس .
وقال أبو عمر : فر الناس قديما من الناس ، فكيف بالحال اليوم في ظهور فسادهم وتعذر السلامة منهم ، ورحـم الله منصورا الفقيه حيث يقول :
الناس بحـر عميق والبعد منهم سفينة
وقد نصحتك فانظر لنفسك المسكينـة اهـ(11).
وقال أبو سليمان الخطابي :
أنست بوحدتي ولزمت بيتي فدام الأنس لي ونما السرور
وأدبـنـي الـزمـــــان فــلا أبالي هجـــــــرت فـــلا أزار ولا أزور
و لست بسائل مــا دمـت حيا أسار الخيل أم ركب الأمير(12)
والقائل بهذه المقالة الردية الفظيعة لا أدرى أين هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعب الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ) قال أبو عمر : هذا الحديث إنما ورد خبرا عن حال آخر الزمان ، وما المحمود في ذلك الوقت لكثرة الفتن ، وقد كان رسول الله يحض في أول الإسلام على لزوم الخواص للجماعات والجمعات ويقول : ( من بدا جفا ) والحديث المذكور أحسن حديث في العزلة والفرار من الفتنة والبعد عن مواضعها من الحواظر وغيرها ، والفتنة المذكورة في الحديث تحتمل أن تكون فتنة الأهل والمال وفتنة النظر إلى أهل الدنيا ، وفتنة الدخـول إلى السلطان ، وغير ذلك من أنواع الفتن ، ولم يرد الفتنة النازلة بين المسلمين الحاملة على القتال في طلب الإمارة دون غيرها من الفتن ، بل أراد بقوله : ( يفر بدينه من الفـتن ) جميع أنواع الفتن ، وفي ذلك دليل على فضل العزلة والانفراد في آخر الزمان كزماننا هذا اهـ(13).
رحم الله أبا عمر لو أدرك زماننا لعلم فضل زمانه ولعرف بأنه لم يدرك آخر الزمان ، ولو عاين ما نحن فيه وما فشى في زماننا لفر بدينه ما استطاع الفرار ، ولأيقن أن زمانه ليس كما كان يظن ، ولعلم أن ما نحن فيه هو آخر الزمان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بخبره ، الذي تتحقق فيه الفتن ويكثر فيه الهرج ، ويقبض فيه العلم ، وتنتهك فيه كل المحارم ، وفيه تقع أشراط الساعة ، من توسيد الأمر إلي غير أهله وطلب العلم من غير أهله ، ويصبح الناس من غير عقول ، ينقلب عندهم الباطل حقا والحق باطلا ، كقول هذا الضال : لا يعتزل إلا منافق لا يريد الصلاة مع المسلمين ! .
وقول صاحب التمهيد في تأويل الحديث وتجويزه العمل بهذا الحديث في وقته ، أعم مما أنا بصدده ، فقد ينازع في هـذا التعميم والتعيين ، كما ينازع وينكر حثالة هذا الزمان وقوع الفتن التي أنذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زماننا ، وأمثلهم المقر بوقوع هذه الفتن ، ويعد هذا أضل وأجهل من الجميع ، لأنه مع إقراره بوقوعها يضرب صفحا عن جميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف في اعتزال الفتن والفرار منها ، وهذا فيه تعطيل لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من أخبث المذاهب الرائجة اليوم في الناس ، تعطيل الدين باسم الدين . كيف والفتن اليوم إنما هي الفتن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر منها وينذر شرها ويعظم ذكرها من دون سائر الفتن ، وكان ينص على أنها كائنة في آخر الزمان ، وكان يقول من صفاتها كذا وكذا . ورحم الله أبا عمر ما أشد كلامه على هؤلاء الذين من عظم البلاء إدراكهم ، فهم جثث لا عقول لها .
ومن شبه هؤلاء وما أكثر ما تقدح في قلوبهم الشبه والأضاليل ، قولهم أنهم هم الجماعة والله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بالجماعة والتمسك بها ، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا . ومن خبث طويتهم وتلبيسهم الشيطاني ، أنهم قالوا بجماعتين لا جماعة واحدة ، جماعة البيعة الملزمة لطاعة من اجتمعوا على إمامته وولايته وجماعة الفكر والاعتقاد وإيمان القلب ، كالإيمان بصفات الله وأسمائه ، وأوهموا أنفسهم وأتباعهم بأنهم جماعة الحق وأنهم يحمدون عند الله تعالى على ذلك ، فإن احتج عليهم محتج بما يخالف ما هم فيه ، بحجج من الكتاب والسنة ، مثل أن الأمر بالاعتصام والاجتماع للأمة عامة وليس لهذه الناحية أو تلك ، أتوا بما فيه الثناء والحث على الاجتماع على معتقد السلف في الأسماء والصفات لله ، وعلى ما كان عليه الصحابة وجماعتهم واجتماعهم يوهمون الدهماء من الناس بأنهم داخلون في جملة هذا المعنى ، وإذا قيل لهم بأن اجتماع القلوب على توحيد الله وصفاته لا يغني عما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم من جمع الكلمة والاجتماع على رأس يكون جنة لمن خلفه يذب عنهم ويحفظ لهم دينهم وحقوقهم كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الاجتماع للسمع والطاعة واجب على الأمة كلها ، قالوا : هذا شق للعصا وتفريق للكلمة وخروج عن مظلة الإسلام ، ومن ثم يأتون بما ذكر الله تعالى ورسوله وسلف الأمة في السمع والطاعة والجماعة ، ينزلون ذلك على جمعهم واعتصامهم المخصوص بهم من دون سائر الأمة ، وإنما يكفي سائر الأمة من دونهم الاجتماع على الإيمان بأسماء الله وصفاته ، والاعتقاد بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، حتى أنه لو أراد أن يدخل في طاعتهم تلك أحد من المسلمين ممن يريد الخروج من بين أظهر المشركين ، لمنعوه ولرموه في الحبس ، ويستدلون بأنه : من خلع يدا من طاعة وفارق الجماعة كان غادرا لا حجة له عند الله حتى يعود للجماعة ، وهذا ليس من جماعتهم فتعين عليهم رده .
الله أكبر لقد هدم الإسلام وهم في جماعة ، ولقد تشتت الأمة وتفرقت وهم بعد في جماعة ، بل وقعت الفتن التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونص على ذكر حال أهلها وهم في جماعة مـا زالوا عاضين عليها بالنواجذ ...!! ، والحق أن الأدلة في إبطال مزاعمهم تلك ، وأنه لا شرعية لها في الإسلام كثيرة جـداً ، وأخص منها بالذكر هنا هذا الحديث الذي يعد عند العلماء أحسن حديث في العزلة والفرار من الفتنة والبعد عن مواضعها ، وهو شاهد لحديث أبي سعيد الخدري المذكور سابقا ولمعناه ، بل زاد على رواية أبي سعيد فوائد عظيمة جليلة بها يعرف أن رواية أبي سعيد سلط عليها الحذف والاختصار ما أذهب نظارة الرواية وقلل من فائدتها ، وهو مما لا يحمد عليه رواة الحديث وحملته بل يعتبر ذلك تقصيرا منهم غفر الله لهم ، وهو حديث عروة بن الزبير رحمه الله قال : حدثني كرز بن حبيش الخزاعي قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله هل للإسلام منتهى ؟ قال : ( نعم ، من أراد الله به خيرا من عجم أو عرب أدخله عليه ، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضهم رقاب بعض ، فأفضل الناس مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربـه ، ويدع الناس من شـره )(14) ومعنى منتهى الإسلام ، أي يبلغ نهايته ، يقال : انتهى بنا المسير إلى موضع كذا ، إذا توقف . قال الله تعالى : ﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾(15) قال أبو عبيدة : أي منتهاها ، ومرسى السفينة حيث تنتهي . والحديث رواه الزهري عن عروة عن كرز بلفظ : هل للإسلام من مدة أو منتهى ينتهي إليه ؟ .. وفيه : قال الرجل : كلا إن شاء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بلى والذي نفسي بيده )(16) وذلك لما كره الأعرابي أن يكون للإسلام نهاية يقف عندها ، وتقع الفتن والهرج فبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك كائن ومقدر لا مناص منه . ولقد سبق وأن ذكرت بأن راوي هذا الحديث عروة بن الزبير قد عمل بمقتضى هذا الحديث واعتزل المدينة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا بهذا الحديث عندما وقع التنازع في زمانه واختلف الناس .
ولا يستفاد من هذا الحديث الاستدلال على بطلان كل تجمع ، وزعامة كل داعية ووعل فقط ، بل يستفاد منه أنه عند وقوع الفتن والهرج عند منتهى الإسلام ، لا يوجد أهل حديث وطائفة منصورة وغرباء كما يزعم هؤلاء الضلال السفهاء ، وكيف يكون لهؤلاء عند الهرج والفتن وجود والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند الفتن منتهى الإسلام بل كيف تكون هناك جماعة فضلا عن أن تكون هناك طائفة وفرقة ناجية ، وكل من ادعى ذلك فهو كاذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يكون عند منتهى الفتن كما أخبر رسول الله خليفة الله أو خليفة لله على رأس فسطاط لا نفاق فيه ، وكل من عداهم فسطاط نفاق لا إيمان فيه . ومن قال بغير هذا فهو محجوج بما سيثبته هذا الكتاب بأننا في زمان الفتن الثلاث التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تكون في آخر الزمان ، وهي التي يكون الإسلام قد انتهى عندها وخير الناس فيها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مؤمن معتزل ) ولم يقل شيخ حديث ولا شيخ تدريس ، وإنمـا قال : ( مؤمن معتزل ) . وعن حذيفة في ذلك قال : ( خير الناس فيها الغني الخفي ، وشر الناس فيها الخطيب المصقع والراكب الموضع )(17). ومما يشهد لحديث كرز في معناه ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال حين تطاول الناس في البناء في زمنه : يا معشر العريب الأرض الأرض ، إنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة(18).
واليوم لا جماعة فعدم الإسلام وانتهى ، فوجب ترك ما يوجبه وجود الجماعة ، وبطل كل اجتماع ، ووجبت العزلة لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان من الأمر بالاعتزال عند تحقق الفتن . وفي هذا الحديث يعرض عمر بزمن هؤلاء الذين تطاولوا في البناء ، وهذه الصفة من أظهر أشراط الساعة فيهم ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عندما سأله عن وقت قيام الساعة قال : ( ولكن سأحدثك عن أشراطها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان ) وفي رواية : ( ما الحفاة العراة ) ؟ قال : ( العريب ) . وفي رواية لابن مسعود في أشراط الساعـة ، جعل مجـرد وجودهم في القصور من أشراط الساعة ، فقال : ( إن من أشراط الساعة ، أن يكون رعـاة الغنم الحفاة العراة في بيوت المدر )(19). قال القرطبي : المقصود الإخبار بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به .
قلت : وليس الأمر مقصورا على رعاة الشاء من دون العرب ، بل يشمل العرب جميعهم ، وإنما خص هؤلاء بالذكر تحقيرا لحالهم ولزمانهم ، وحتى يكونوا وتكون حالهم أظهر العلامات الدالة على قرب قيام الساعة ، وقد ظهرت فيهم هذه العلامة بعد ظهور البترول وكثرة المال ، ونزوح أهل البادية للأمصار ، ما احتاجوا معه لكثرة البناء ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص هذا الأمر وحده بالذكر مما هو كائن في زماننا هذا ، بل أكثر في ذلك حتى صار المقطوع به أن هذا الزمان زمان الفتن التي ذكر ، وأن أشراط الساعة المتحققة في هذا الزمن لهي دليل قاطع على قرب قيام الساعة والأمور العظيمة .
قال ابن مسعود : يوشك أن يأتي زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه ، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود والهوى فيه قائد للعمل . قيل : متى ذلك الزمان ؟ قال : إذا أميتت الصلاة وشيد البنيان وظهرت الأيمان واستخف بالأمانة وقبلت الرشا ، فالنجاة النجاة . قـال : فأفعل مـاذا ؟ قال : تكف لسانك وتكون حلسا من أحلاس بيتك(20)، وخير الناس في ذلك الزمان غني مستخفي ، وشر الناس الراكب الموضع والخطيب المصقع . وفي لفظ إذا رأيتهم شرفوا البناء وجاروا في الحكم وقبلوا الرشا ، فالنجاة النجاة(21). وهذا صريح في تعيين زماننا ، وأنه زمان العزلة والفرار من الفتن ، لأنهم شرفوا البناء وقبلوا الرشا ووقع الجور والظلم وكثر الخطباء . قال أبو عبيد رحمه الله : كل شيء رفعته فقد أشدته ، ولا أرى البنيان المشيد إلا من هذا ، يقال : أشدت البنيان فهو مشاد ، وشيدته فهو مشيد إذا رفعته وأطلته(22) .
وقد كثرت الروايات في ذم الزمن الذي يتطاول فيه الناس بالبنيان وهو زماننا هذا ، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كيف أنت إذا أدركت ثلاثا ؟ أعيذك بالله أن تدركهن : طول البنيان وشدة الزمان ، وكذا )(23). وعن سلمان : إن من اقتراب الساعة أن يظهر البناء على وجه الأرض(24). وعن جندب كان يقول في أمراء وقته : إن هؤلاء القوم قد ولغوا في دمائهم وتحالفوا على الدنيا وتطاولوا في البناء(25). وقول جندب وقبله ما قاله عمر في تطويل البناء يدل على كراهة الصحابة لهذا الأمر ، وذلك لأنه ذكر لهم أن ذلك صفة قوم يكونون آخر الزمان ، ظهورهم مع بنيانهم من أشراط الساعة ، فكرهوا ذلك وذموه وخشوا أن يكون هذا في زمنهم ، وهذا منهم في وقتهم فكيف لو أدركوا ما فيه هؤلاء الأوباش من الناس يتقلبون في قصورهم يقولون نحن علماء ، إننا بخير إننا جماعة !! ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : يتطاولون في البنيان وتظهر الفتن ويتقارب الزمان ويكثر الهرج ، الفرار الفرار ، ويريد هؤلاء الجهلة أن نترك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وخبره لسفاهة عقولهم ، تَباً لهم في قرنهم هذا. وعن أبي أمية الجمحي رضي الله عنه قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له : ( من أشراطها ثلاث ، إحداهن التماس العلم عند الأصاغر ) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا(26).
ومن أظهر الأحاديث التي في البناء وتدل على عصرنا هذا ، وفيها زيادة في توصيف الحال تثبت صحة ما قررته في تعيين زماننا بأنه زمان الفتن والنكبات المهلكات ، ما رواه أبو إسحاق الحربي رحمه الله في غريب الحديث عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو(27) قال : إذا ظهرت بيوت مكة على أخاشبها فخذ حذرك(28)ـ والأخاشب جبلين بمكة ـ . ورواه نعيم بن حماد بإسناده عن مجاهد قال له ابن عمر : إذا رأيت بيوت مكة قد ظهرت على أخاشبها ، وجرى الماء في طرقها ، فخذ حذرك(29). وقال بعضهم بأن الأزرقي ذكره في أخبار مكة ، قريبا من هذا اللفظ عن يوسف بن ماهك قال : كنت مع ابن عمرو إذ نظرت إلى بيت مشرف على أبي قبيس فقال : إذا رأيت بيوتها ـ أي مكة ـ قد علت أخشبيها وفجرت بطونها أنهارا فقد أزف الأمر . وروى هذا الحديث بزيادة مفيدة أيضا الداني في السنن الواردة في الفتن عن شريك بن عبدالله عن ابن عطاء عن أبيه عن ابن عمر قال : يبنى ـ يريد المسجد الحرام ـ فيكون أحسن ما يكون ، ويعلوا البنيان على رؤوس الجبال فإذا رأيت ذلك فقد أظلك الأمر(30). وقوله في الحديث خذ حذرك ، وأزف الأمر ، هذا فيه إنذار بقرب وقوع أمر عظيم ، وتحذير من قرب قيام الساعة ، وقوله هذا غاية في النذارة . وقد تابع شريك على هذا الحديث شعبة عند ابن أبي شيبة ، وهشيم عند القاسم بن سلام في غريب الحديث .
وهذا الحديث قصر رواته عن سياق لفظه تاما ، ورواه أكثرهم بالمعنى ، وكم من حديث أفسدوه بالرواية بالمعنى والحذف ، يظهر ذلك من اللفظ الذي ساقه أبوعبيد في الغريب عن ابن عمرو قوله : إذا رأيت مكة قد بعجت كظائم وساوى بناؤها رؤوس الجبال ، فاعلم أن الأمر قد أظلك فخذ حذرك(31). وفي هذا بيان لما ذكر نعيم والأزرقي بالمعنى لجريان الماء في بيوتات مكة كالأنهار . وهذا الحديث عجيب وحسن في لفظه ومعناه ، ولم تقترن هذه الصفات بغير زماننا هذا ، مما يثبت ما تقرر في كل ما ذكرت أن زماننا هذا يجب الحذر فيه كما قال ابن عمرو ، وقوله : أن الأمر قد أظلك . لا شك أنه يريد أمر الله سبحانه وتعالى ، لقوله : ﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾(32) وقال المغيرة بن شعبة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمـتي ظاهرين على الحـق حتى يأتيهم أمـر الله وهم ظاهرون )(33) وفي رواية : ( لا يزال أهـل الغرب ظاهرين على الحـق حتى تقوم الساعة )(34) وأهل الغرب هم أهل الحد ، لا كما فهم بعض أهل الحديث بأنهم أهل الدلو ، أي يريد العرب . وقوله في الحديث : ( إذا رأيت مكة قد بعجت كظائم ) قال أبو عبيد : الكظامة السقاية وكنت سألت عنها الأصمعي وأهل العلم من أهل الحجاز فقالوا : هي آبار تحفر ويباعد ما بينها ، ثم يخرق ما بين كل بئرين بقناة تؤدي الماء من الأولى إلى التي تليها حتى يجتمع الماء إلى آخرتهن ، وإنما ذلك من عوز الماء ليبقى في كل بئر ما يحتاج إليه أهلها للشرب وسقي الأرض ، ثم يخرج فضلها إلى التي تليها ، فهذا معروف عند أهل الحجاز اهـ(35).
والآن ها هي مكة تبعج كظائم بمواسير يمر من خلالها الماء على كل بيت ومسجد وغيره في مكة ، فسبحان الله عالم الغيب والشهادة وصدق رسوله الكريم ، مع ما بلغه البناء الشاهق من ارتفاع حتى زاد وعلا أكثر جبال مكة طولا ، وكل هذا والناس في غفلة وجهل مما يراد بهم ، يحسبون أنهم أولياء لله أحبهم ففتح عليهم من خزائنه وما علموا قبحهم الله ، أن الله جل وعلا إنمـا يستدرجهم من حيث لا يشعرون ، قال تعالى : ﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحـوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾(36).
هذا وفي فضل الاعتزال عند الفتن والعمل به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين الكثير ، وسيأتي لاحقا زيادة تفصيل في ذلك . ولو علم قائل هذه المقولة الردية ومن هو على شاكلته ، أنه صـح عن عبدالله بن عمرو قوله : ( يأتي على الناس زمـان يجتمعون في مساجدهم ليس فيهم مؤمن )(37). وأنه لو أحتج محتج على أن هذا حاصل في زماننا لما استطاع أن يدفع هذا بمقولة معتبرة وحجة قاطعة .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : ( يوشك أن يصلوا في آخر الزمان في مساجدهم ، فلا يكون فيهم مؤمن ) قلت : يا رسول الله ، ويكون فيهم منافقون ؟ قال : ( نعم أظهر من اليوم فيكم )(38). وروي عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتين على الناس زمان يجتمعون في المساجد ويصلون وما فيهم مؤمن ، إذا أكلوا الربا وتشرفوا البناء )(39). وعن ابن مسعود : ( وليصلين القوم الذين لا دين لهم )(40). وقيل لجابر عن افتراق الناس في زمانه وما أحدثوا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا )(41). ومن أدنى ما يصح بتحققه وقوع الفتنة في زماننا ، ووجوب العمل بمقتضى الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتزال ، انفراط عقد الجماعة الواحدة للمسلمين كما ذكرت سابقا ، وترك الناس الاعتصام بحبل الله المتين كما أمر ، وانقطاع عقد الإمامة الشرعية من دهور ، التي لا يصح وجود الجماعة من دونها ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ) ، قال : تدرى ما الإمام ؟ : الإمام الذي يجمع المسلمون عليه كلهم يقول : هذا إمام . فهذا معناه . وقال : الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس(42).
وقد نقل الإمام حرب صاحب أحمد : أن الخلافة في قريش ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة ، ذكر ذلك في جملة أقوال الأئمة أهل السنة فقال : من خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عـاب قائلها فهو مخالف مبتدع خـارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحـق اهـ(43).
ومما لا شك فيه أن عامة الأمة إلا مــن رحم ربي وهم القلة الطريدة ، على خلاف ما نقل حرب عن الأئمة هنا في الإمامة ، وهم في ذلك مبتدعة ضلال خارجين عن الجماعة ومنهج السنة وسبيل الحق ، وهم داخلون أيضا ولا شك في معنى حديث حذيفة عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ( من فارق الجماعة واستبدل الإمارة لقي الله ولا حجة له ) . وذلك أنهم استبدلوا ما شرع الله لهم في الإمامة بروابط ووطنيات وجامعات ما أنزل الله بها من سلطان ، مفارقين ما كانت عليه الجماعة ، فلا حجة لهم عند الله تعالى ، وزد على ذلك أن الفتن التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها واقعة في الأمة آخر الزمان قد تحققت ، ونحن الآن في سنوات الهرج التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من شرها ويكثر الإخبار عنها ويأمر بالاعتزال عندها . روى ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافراً )(44). وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ... ) قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : ( كونوا أحلاس بيوتكم )(45).
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن بين يدي الساعة هرجاً ) قالوا : وما الهرج ؟ ـ ونرى أنه قال : الكذب ـ قال : ( القتل ) ، قالوا : وما يكفينا أن نقتل كل عام كذا وكذا من المشركين ؟ قال : ( ليس ذلك ولكن قتلكم أنفسكم ) قالوا : وما عقولنا ؟ قال : ( إنه تختلس عامة عقول أهل ذلك الزمان (46)، ويؤخر لها هباء من الناس يرون أنهم على شيء ) وما أراها إلا ستدركني وإياكم(47)، وما أعلم المخرج لي ولكم منها فيما عهد إلينا نبينا إلا أن نخرج منها كيوم دخلنا فيها(48).
أنظر كيف هذا الصحابي الجليل يخشى أن يدركه ذلك ، ثم انظر إلى أمان هذا الجيل التعيس كيف حاله وهو قد أدرك ذلك بالفعل ، لتعلم أن القوم قد ذهب بعقولهم ، فهم لا يدركون من الأمر ولا في الأمر خبرا ولا تأويلا ، لقد تاهوا ورب الكعبة على وجوههم . وقـد كان أبو أمامـة يقول : اعقلوا ولا أخال العقل إلا قد رفع(49).
وعن خالد بن الوليد في أيام الهرج متى تكون . أن رجلا قام إليه وهو يخطب فقال : إن الفتن قد ظهرت فقال خالد : أما وابن الخطاب حي فلا ، إنما ذاك إذا كان الناس بذي بلاء وذي بلاء ، وجعل الرجل يتذكر الأرض ، ليس بها مثل الذي يفر إليها منه ، فلا يجده ، فعند ذلك تظهر الفتن . وفي لفظ آخر فيه : تلك الأيام التي ذكر رسول الله بين يدي الساعة أيام الهرج ، فنعوذ بالله أن تدركنا وإياكم تلك الأيام(50). قال أبو عبيد : معنى الحديث تفرق الناس وأن يكونوا طوائف مـع غير إمام يجمعهم ، وبعد بعضهم عن بعض . حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن حميد قال : كان يقال : ( لا تقوم الساعة حتى يكون الناس برازيق ـ يعني جماعات ـ )(51).
وعند تنازع ابن الزبير وخصومه ودخول المختار الكذاب الكوفة قال موسى بن طلحة بن عبيد الله : والله لأن أكون أعلم أنها فتنة لها انقضاء أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا ، وأعظم الخطر . فقال له رجل : يا أبا محمد ما الذي ترهب وأشد أن تكون فتنة ؟ قال : أرهب الهرج ، قال : وما الهرج ؟ قال : الذي كان أصحاب رسول الله يحدثون ، القتل بين يدي الساعة ، لا يستقر الناس على إمام حتى تقوم الساعة عليهم وهم كذلك ، وأيم الله لئن كان هذا لوددت أني على رأس جبل لا أسمع لكم صوتا ولا ألبي لكم داعيا حتى يأتيني داعي ربي(52). ويشهد لحديث أبي موسى المذكور آنفا ، حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خير من الجالس ، والجالس فيها خير من القائم ..) قال: يا رسول الله ما تأمرني ؟ قال : ( من كانت له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ) قال : فمن لم يكن له شيء مـن ذلك ؟ قال : ( فليعمد إلى سيفه فليضرب بحده على حرة ثم لينجو ما استطاع النجاء )(53). ومثله عن ابن مسعود وفيه : قتلاها في النار ، قلت : متى ذلك يا ابن مسعود ؟ قال : تلك أيام الهرج حيث لا يأمن الرجل جليسه ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان ؟ قال : تكف لسانك ويدك وتكن حلسا من أحلاس بيتك . قال وابصة الأسدي : فلما قتل عثمان طار قلبي مطاره ، فركبت حتى أتيت دمشق ، فلقيت خريم بن فاتك فحدثته ، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لسمعه من رسول الله كما حدثنيه ابن مسعود(54).
وقال سعد عند فتنة مقتل عثمان : أشهد أني سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنها ستكون فتنة )(55). وذكر مثل حديث ابن مسعود وأبي موسى ، وهذا صريح من سعد على حمله مقتل عثمان على هذا الحديث ، والصحيح أن هذه الفتنة إنما تكون في آخر الزمان ، وكان سعد يفتي عندها بالاعتزال ، وقد اعتزل بعد قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه الإمام الشهيد قال الحسين بن خارجة : لما كانت الفتنة الأولى أتيت سعد فقلت له : في أي الطائفتين أنت ؟ قال : لست مع أحد منهما ، قلت : فكيف تأمرني ؟ قال : ألك ماشية ؟ قلت : لا . قال : فاشتر ماشية ، واعتزل فيها حتى تنجلي(56). وروى عنه الطبراني في الأوسط أيضا في الاعتزال عند الفتنة ، وقد عمل بمقتضى هذه الرواية ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنها ستكون بعدي فتن يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ) قلت : فأي الرجـال أرشـد ؟ قال : ( رجل بين هاذين الحرمين في قلة يقيم الصلاة لمواقيتها ويحج ويعتمر ، فلا يزال كذلك حتى تأتيه يد خاطئة أو منية قاضية )(57).
وعن عبدالله بن عمرو قال : بينما نحن حـول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال : ( إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ ) قلت : كيف أفعل عند ذلك ؟ قال : ( إلزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمـر العامة ) وفي لفظ آخر عنه : ( يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مـرجت عهودهم وأماناتهـم واختلفوا فكانوا هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ ) فقالوا : وكيف بنا يا رسـول الله ؟ قال : ( تأخذون ما تعرفون وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم )(58). وروى البيهقي في السنن أنه قال لابن عمرو : ( آمرك بتقوى الله ، عليك بنفسك وإياك وعامة الأمور )(59). وهذا صريح في النهي عن الدخول في عامة أمور الناس عند هذه الفتن ، وذلك لما في هذا المدخل من الهلاك وعدم النفع البتة ، لأن الناس في ذلك الزمـان قد غربلوا غربلة ولم يتبق إلا حثالة الناس فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالكف والاعتزال ، وكيف لا يترك الدخول في عامـة أمور الحثالة كما أمر
رسول الله والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عنهم : ( يذهب الصالحون الأول فالأول ، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر ـ الشك من الرواة ـ لا يباليهم الله باله ) . قال البخاري : حفالة وحثالة(60). وسيأتي تفصيل الكلام في بيان حال هؤلاء الحثالة .
وقد بقيت زمنا متحيرا من حال هؤلاء الدعاة السفهاء ، وكيف سعيهم الحثيث فيما هم فيه حتى أيقنت أنهم هم الحثالة ، فبطل عجبي عند ذلك وعلمت لماذا لم يأخذوا بقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم وأمره بكف اليد واللسان واعتزال الناس وعامة أمورهم ، والأمر بذلك صريح بين .
وعن أبي ثعلبة الخشني عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر )(61). وعملا بهذا الحديث اعتزل أبو ثعلبة عليا ومعاوية .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالابتعاد عن العامة وأمر العامة فقط ، بل ذم واحتقر من يتكلم بذلك ، فكيف بالساعي المجتهد وقد عد الناطق بأمر العامة من أشراط الساعة وعلاماتها ، وبين أنهم يكونون من أتفه الناس عند ذلك ، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أمام الدجال سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ) قيل : ومن الرويبضة ؟ قال : ( السفيه يتكلم في أمر العامة ) قال ابن كثير : تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناده جيد(62). وذكره عبدالرزاق مرسلا عن عبد الله بن دينار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه : ( وتنطق الرويبضة في أمر العامة ) قال : وما الرويبضة يا رسول الله قال : ( سفلة الناس )(63).
والدعاة الأحداث وكل ناطق بأمر من أمور العامة وما أكثرهم ، يكثرون البربرة بذلك وليس لهم من الأمر شيء ، ولا يلتفت لما يقولون ، وتجدهم أبدا ليس لهم إلا رجرجة الحنك والتشدق بالكلام ولي اللسان ، تراهم في التلفاز والمذياع وعلى صفحات الجرائد والكتب والمجلات ، وحتى المنابر التي ما كان يرتقيها إلا الأمراء أصحاب الشأن ، وإنما يرتقي المنابر في زماننا هؤلاء الذين هم من أظهر علامات الساعة ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن جملتهم كل قارئ للأخبار العامة .
مواضيع الفصل الأول | ||
ليس من الحق إنكار الاعتزال مطلقاً
|
||
القائل بأن الاعتزال من النفاق ولا يفعله إلا منافق،مرتدعن الإسلام لإنكاره ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم
|
||
حـديث الخدري المرفوع : ( يأتي زمـان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال . . )أصل في جـواز الاعتزال عند الفتن
|
||
عـروة يعتزل في زمـان بني أمية وهو من الفقهاء السبعة رحمهم الله تعالى
|
||
الاعتزال عند الفتن قد يكون في الجبال أو الشعاب،وقد يكون في السواحل و الرباط أو في البيوت
|
||
القول بوجود جماعة للمسلمين اليوم دعوى كاذبة يراد بها التلبيس على الجهال
|
||
لا دليل على وجوب الاجتماع إلا على جماعة المسلمـين وإمامهم ، وهي معدومة في زماننا وما عداها فرق وأحزاب يجب اعتزالهم ومباينتهم
|
||
كل مدعي لجماعـة اليوم بأن لها ما لجماعة المسلمين التي أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم التزامها فهو مبطل في دعواه تلك وتكذبه كل الأحاديث في الفتن والاختلاف
|
||
لا تتحقق فتن الهرج التي أخبر عنها رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند منتهى الإسلام ، ولذا أوجب الرسول الاعتزال
|
||
أشر الناس في الفتن خطباؤها والناشطون المجدون
|
||
إشادة البنيان علامـة لظهور الشرور والفتن المنتظرة ، لذا كرهه كبار الصحابة
|
||
من علامات نزول البلاء ارتفاع البنيان في مكة،وجريان الماء في بيوتها ، وأن يكون بناء المسجد الحرام على أحسنما يكون
|
||
من جهل الإنسان اعتباره انفتاح النعم على الناس علامـة لرضى الله تعالى عنهم
|
||
في الزمان الذي يشرف فيه البناء ، لا يجتمع في مساجدهم مؤمن
|
||
الخلافة في قريش ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة
|
||
الفتن التي أخبر الرسولصلى الله عليه وسلم أنها كائنة آخر الزمان تحققت في زماننا هذا
|
||
أبو موسى كان يخشى أن تدركه هذه الفتن
|
||
إنما يكون ظهور الفتن إذا عم الشر والبلاء الناس
|
||
خالد بن الوليد كان يخشى أن تدركه سنوات الهرج والفتن
|
||
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ظهـور الفتن والهرج أن يلحق المرء بإبله أو غنمه أو أرضه فراراً من الشر
|
||
سعد بن أبي وقاص يعتزل في زمانه خشية أن الفتن أدركته وأمـر أهله ألا يخبروه بشيء من أمـر الناس إلى أن تجتمع الأمة على إمام
|
||
أرشد الناس عند الفتن المعتزل
|
||
عند الاختلاف والفـتن يجب الاعتزال والابتعاد عن العامة وعامة أمورهم
|
||
عند ظهـور الشح واتباع الدنيا وإعجاب الناس بآرائهم ، يسقط وجوب الأمر والنهي بوجوب الاعتزال
|
||
الدعاة الحدثاء ومشايخهم من الرويبضات السفلة
|
( 1 ) فتح الباري (6/6) ، وأبو داود (3/5) بلفظ : ( أكمل الناس إيمانا ) ، والترمذي (4/186) .
( 2 ) فتح الباري (11/330) .
( 3 ) فتح الباري (1/69) .
( 4 ) فتح الباري (11/332) .
( 5 ) الحاكم في المستدرك (4/446) ، والدارمي في سننه (2/201) ، والترمذي (4/182) .
( 6 ) عبدالرزاق في المصنف (11/353، 368) ، والحاكم في المستدرك ( 4/432) ولفظه تاما .
( 7 ) نعيم بن حماد في الفتن (1/188) رواه من طريق الأوزاعي عن عبدالواحد بن قيس عن عروة . وقد تصحف على الناسخ لمخطوطة كتاب الفتن لنعيم فأثبته بإسم عبدالوهاب . وعبدالواحد فيه كلام قالوا : له أوهام . ورواه الداني في السنن الواردة في الفتن (2/428) ولفظه تاما ، مع هذا الحرف الذي اقتصر عليه نعيم في روايته . وما اقتصر على ذكره نعيم ، ذكره الداني في روايته مع تمام الرواية ، ويشهد له رواية الخدري في الصحيح . وأما تمام الحديث من غير هذا اللفظ عند نعيم ، فقد تابع عبدالواحد الزهري على رواية سائر الحديث من غير هذا الحرف ، رواه الطيالسي في مسنده (1/182) ، وعبدالرزاق في المصنف (11/362) ، والحاكم في المستدرك (4/455) ، وابن أبي شيبة (7/449) ، وفيه تفسير الأساود قال : والأسود الحية ترتفع ثم تنصب .
( 8 ) تاريخ يحي بن معين (2/219) .
( 9 ) ابن سعد في الطبقات (5/181) .
( 10 ) أبو عمر في التمهيد (7/221) وفي بيان فضل العلم (2/200) ، والخطابي في العزلة (80) .
( 11 ) التمهيد (17/440) .
( 12 ) التذكرة للقرطبي (613) .
( 13 ) التمهيد (19/220) .
( 14 ) سبق تخريج هذا الحديث ، والزيادة في آخره يشهد لها حديث أبي سعيد في الصحيح . والحديث بهذا اللفظ التام رواه الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن (2/428) ، ويشهد لمعناها أيضا مـا جاء عن ابن مسعود وحذيفة من طرق عدة : ( أخبركم بخير الناس في ذلك الزمان كل غني خفي ، وشرهم خطيب== ==مصقع أو راكب موضع ) فانظر اليوم لهؤلاء الدعاة السفلة الأشرار ، فستجدهم كلهم خطباء وكلهم موضع لهم صياح ونباح ، يريدون أن يغيروا زعموا من فرط السفاهة والبحر قد طم .
( 15 ) سورة النازعات (42) .
( 16 ) عند الطيالسي ، وعبدالرزاق ، والحاكم .
( 17 ) عبدالرزاق في المصنف (11/394) ، والحاكم (4/529) ، وراجع الإبانه لابن بطة (1/591) .
( 18 ) الدارمي في سننه (1/79) ، وبيان فضل العلم (1/62) لابن عبدالبر .
( 19 ) عبدالرزاق في المصنف (3/156) ، والداني (4/850) .
( 20 ) الحلس : هو كساء على ظهر البعير يلزمه . ويقال : حلس بالشيء لا يكاد يبرحه . وقال أبو علي إسماعيل القالي في الأمالي : قيل له حلس للزومه الظهر . والعرب تقول فلان حلس بيته إذا كان يلزم بيته (2/292) . وفي مختار الصحاح : حلس البيت كساء يبسط تحت حر الثياب ، وفي الحديث ( كن حلس بيتك ) أي لا تبرح (63) .
( 21 ) رواه ابن بطة في الإبانة بإسنادين (2/591) ، وذكر الحسني في الإشاعة أن ابن أبي الدنيا رواه بلفظ : كان ابن مسعود يقول كل عشية خميس لأصحابه : سيأتي على الناس زمـان تمات فيه الصلاة ويشرف فيه البنيان ..الخ . الإشاعة (ص145) ورواه عبدالرزاق في المصنف باختصار (2/382) ، وأشار إلى خطبة ابن مسعود هـذه ابن وضـاح في البدع (24) ، وأبو عمر في بيان فضل العلم (2/181) ، والداني (2/231) ، (3/675) .
( 22 ) غريب الحديث (3/129) .
( 23 ) ذكره إبراهيم بن أحمد بن شاقلا البغدادي في نقولاته من كتاب الضعفاء للساجي ، وقد طبع مع تعليقات الدار قطني على المجروحين لإبن حبان (293) .
( 24 ) ذكره السيوطي في الدر المنثور قال : أخرجه ابن أبي شيبة عن سلمان (7/472) .
( 25 ) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/300) .
( 26 ) عبدالرزاق في المصنف (11/249،257 ) ، وبيان العلم (1/157) ، راجع الهيثمي في الزوائد (1/140) ، وفتح الباري (1/140) .
( 27 ) هكذا هو عند الحربي وعند غيره من طرق ابن عمر ، والصحيح والله أعلم ( ابن عمرو ) .
( 28 ) غريب الحديث للحربي (2/544) .
( 29 ) نعيم بن حماد في الفتن (1/43) .
( 30 ) الداني (4/895) .
( 31 ) غريب الحديث لأبي عبيد (1/269) .
( 32 ) سورة النحل (1) .
( 33 ) البخاري في الاعتصام ـ الفتح ـ (13/293) .
( 34 ) رواه مسلم في صحيحه برقم (1925) .
( 35 ) غريب الحديث لأبي عبيد (1/269) .
( 36 ) سورة الأنعام (44) .
( 37 ) رواه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (40) ، والفريابي في صفة المنافق (80) ، ووكيع في الزهد (2/533) ، والحاكم في المستدرك .
( 38 ) رواه أبو نعيم في صفة المنافقين . ذكره في حاشية الزهد لوكيع ( مكتبة الدار 2/533 ) .
( 39 ) رواه أبو مطيع صاحب النعمان ، وقد طعن في البلخي هذا ، الإمام أحمد وأبو داود ، إلا أن لحديثه شواهد ، ولا ضير على الزيادة في روايته ، فشواهدها أكثر وأكثر . وقد ذكر روايته الذهبي في ترجمته في الميزان (1/575) .
( 40 ) عبدالرزاق في المصنف (3/363) .
( 41 ) رواه الإمام أحمد ، راجع الفتن والملاحم لإبن كثير (1/39) .
( 42 ) السنة للخلال (1/81) .
( 43 ) حادي الأرواح لابن القيم (292) قال الإمام صادق اللهجة عليه رحمة الله ابن تيمية : ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه ـ إن صحت ـ وهـو قوله وقول عامة أهل العلم . ( إقتضاء الصراط المستقيم 148) . وذكر الخلال في السنة عن أحمد قوله : لا يكون في غير قريش خليفة . وهو اعتقاد الأئمة رحمهم الله كما ذكر حرب . وقد علق على ما ذكره الخلال عن أحمد في الإمامة محقق كتاب السنة للخلال ـ عطية الزهراني ـ بقوله والحق أنه لا يمنع أن يكون هذا الأمر في غير قريش . ويعلل هذا بأنهم لم يقيموا الدين ، وكأن من دونهم قام بالدين ، وهذا السفيه مثال لمن نحذر من شرهم في زمن هذه الفتن ، وهو ثمرة خبيثة من ثمار هذه الجامعات المدرسية المحدثة ، التي ما أقيمت إلا لتفريخ أمثال هذا الجاهل ، وما هو إلا كما قال حرب : مخالف مبتدع خارج عن الجماعة .
( 44 ) الإيمان لإبن أبي شيبة (35) .
( 45 ) أبو داود (4/101) ، والحاكم (4/451) ، ونعيم (1/171) ، وغيرهم .
( 46 ) وروى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تكون فتنة ، تعرج فيها عقول الرجال حتى ما تكاد ترى رجلا عاقلاً ) وذكر ذلك في الفتنة الثالثة .رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (1/62) ، وسيأتي لاحقاً تفصيل الكلام في هذه الفتن وتعيين زمانها.
( 47 ) هذه مسألة كَؤود عزّ من يدرك غورها ، ولقد تورط الكثير من الصحابة بإعتقاد قرب وقوع فتنة الهرج من زمنهم وقد كان أبو هريرة يقول : لقد خفت الله مما استعجل القدر .ومنهم أبو موسى قال لما قتل عثمان : هذه حيصة من حيصات الفتن ، وبقيت الرداح المطبقة التي من ماج ماجت به ومن أشرف لها استشرفت له . الداني (2/284) وقال سعد عند مقتل عثمان : أشهد أني سمعت رسول الله يقول : ( أنها ستكون فتنة القاعد فيها .. الخ ) . وهذا كله في الفتنة الأخيرة التي إنما تقع في آخر الزمان وليس في زمانهم . وعند البخاري عن شقيق قال : كنت جالسا وأبو موسى وعمار فقال أبو مسعود : ما رأيت منك شيئا أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر ، قال عمار : يا أبا مسعود وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئا منذ صحبنا النبي أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر . الفتح (13/54) . وكل من حمل ما جرى في زمن علي على أحاديث الفتن كما فعل أبو موسى وسعد فحمله باطل فظيع . والأمر أظهر من أن يخفى ، لإخبار النبي أن ذلك يكون في آخر الزمان ، ألا ترى إلى أن أبا مسعود كان يتقارب النهاية جدا فلامه علي على ذلك وقـال له : أنك تفتي الناس ؟ فقال : أجل وأخبرهم أن الآخرة شر . قال : فأخبرني هل سمعت منه شيئا ؟ قال : نعم سمعته يقول : لا يأتِ على الناس سنة مئة وعلى الأرض عين تطرف . فقال علي : أخطأت إستك الحفرة ، وأخطأت في أول فتياك ، إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ ، هل الرخاء إلا بعد المئة . أبو يعلى (1/360) ، والحاكم (4/498) ، وكيف يحمل ذلك على ما حدث في فتن آخـر الزمان وهذا خباب يحدث عن رسول الله قوله : ( تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، والساعي في النار ) عبدالرزاق (10/119) . وعن حذيفة : ( شر الناس فيها الخطيب المصقع والراكب الموضع ) ـ سبق تخريجه ـ ، وفي صحيح مسلم قال في هذه الفتنة : ( القاتل والمقتول في النار ) وغير ذلك كثير . وهذا الحمل الباطل هو الذي دفع بإبن عمر إلى اعتزال ابن الزبير وقال مقولته الرهيبة حين سأله رجل عن القتال مع ابن الزبير أو الحجاج ؟ فقال : مع أي الفريقين قاتلت فقتلت ففي لظى . الحاكم (4/471) ، وعند نعيم كان يقول : ابن الزبير ونجدة والحجاج ، يتهافتون في النار تهافت الذباب في المرق (1/176) ، فليتنبه لهذا الأمر المهم فإن أحاديث رسول الله في الفتن ما زالت ملتبسة على الناس من قديم .
( 48 ) رواه أبو يعلى في مسنده (13/237) ، وأحمد (4/406) ، وعبدالرزاق (11/361) ، وقال أبو حاتم رواه الحسن عن أسيد عن أبي موسى . العلل (2/426) .
( 49 ) تاريخ أبي زرعة (1/543) .
( 50 ) رواه نعيم في الفتن (1/45) ، وذكره الهيثمي في المجمع (7/310) ، وقال صاحب الفتح : أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن (13/15) ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/38) .
( 51 ) غريب الحديث (4/100،28) .
( 52 ) رواه ابن سعد (5/162) ، ونعيم بن حماد باختصار (1/158) .
( 53 ) رواه مسلم (9/18) ، وأبو داود (4/99) .
( 54 ) أبو داود (4/99) ، ونعيم (1/139) .
( 55 ) راجع تخريجه في الفصل الثالث حاشية رقم (306) .
( 56 ) المستدرك للحاكم (4/452) .
( 57 ) الطبراني في الأوسط (3/149) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/307) .
( 58 ) رواه أبو داود (4/124) ، وعبدالرزاق في المصنف (11/359) ، وابن بطة في الإبانة (2/587) ، والبخاري وأبو يعلى (9/442) ، وغيرهم .
( 59 ) السنن للبيهقي (8/165) ، والسنن الواردة في الفتن للداني (3/574) .
( 60 ) فتح الباري (11/251) ، وابن حبان (6813) ، وأحمد في المسند (4/193) .
( 61 ) أبوداود (4/123) ، وابن ماجة (2/1330) ، والحاكم (4/322) ، وغيرهم . وله طرق وألفاظ غير الذي ذكرت .
( 62 ) الفتن والملاحم (1/62) ، ورواه أحمد عن أبي هريرة ، والطبراني في مسند الشاميين عن عـوف بن مالك من وجهين وفيه : وما الرويبضة ؟ قال : ( من لا يؤبه له ) (1/50) . والحديث عند الحاكم وابن ماجة عن أبي هريرة ورواه أبو يعلى والبزار عن عوف .
( 63 ) المصنف (11/382) .