الفصل الأول
وأقول بعد هذا : ممن توسع بتفنيد هذه الشبهة الغبية أخونا الشيخ " سالم بن حمود الخالدي " حفظه الله وفك أسره بمقاله الرائع ( السالمية في نصح أتباع المهدية " قواعد أصولية مع المخالفين " ) و كتابه ( محاججة اللئام ) .
ومما قرر فيها حفظه الله تعالى ما يلي :
وحقيقة قولهم أن من وصف بأنه رسول وجب وصفه بأنه نبي ، باطل وليس بين الوصفين تلازم لانفكاكهما ووجود أحدهما دون الآخر كما وجد نبي ليس برسول ، وهذا يدل أنه ليس بينهما تلازم إذ أنه يمتنع في بداءة العقول والفطر في الأشياء المتلازمة وجود اللازم دون الملزوم ، أو وجود الملزوم دون اللازم ، وكذلك ثبت في القرآن والسنة الثابتة وصف الملائكة بأنها رسل وهم ليسوا بأنبياء وهذا كله يدل على عدم التلازم بين هذين الوصفين وأيضاً قراءة ابن عباس التي تثبت إرسال المحدّث حجة في هذا المقام وقد قال ابن حجر : ولا يلزم من دعوى الرسالة دعوى النبوة (1).
والله تعالى قال : ﴿ ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً ﴾ . فهو لم يقل وخاتم المرسلين , والآية لا تدل على أن كل رسول نبي ، فلا تلازم بينهما . ونحن لا نسلِّم بهذه القاعدة أن كل رسول نبي , وعندنا فيها تفصيل .
ثم إنهـا قاعدة مختلف فيها بين أهل العلم كما هو في كتب التفسير ، والفاصل في ذلك قراءة ابن عباس الثابتة التي رواها سفيان بن عيينة في جامعه والحميدي في مسنده بإسناد من أصح الأسانيد على وجه الأرض عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، وصحح إسنادها الحافظ ابن حجر في الفتح وعلقها البخاري بصيغة الجزم في كتاب الأنبياء في صحيحه وهي قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ .
وهي وإن كانت ليست من القراءات السبع إلا أنها حجة في مثل هذه الأمور بالاتفاق لصحة إسنادها وقيام الدلائل على نفي الكذب والخطأ عنها .
واعلموا أنهم ليس عندهم دليل لا من القرآن ولا من السنة التي توجب اليقين على هذه القاعدة فيرجع احتجاجهم بالظنيات وهي غير مقبولة في هذا الأصل العظيم ألا وهو الإرسال نفياً وإثباتاً (2).
وهي قاعدة لم يجمع عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل ولم يؤثر ذلك عن أحدٍ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من التابعين لهـم بإحسان فيما نعلم ، فإن هذه الأصـول الثلاثة الكتاب والسنة الثابتة وإجماع الصحابة والتابعين لهـم بإحسان هي التي تعرض عليها أقوال الناس وأفعالهم وما ينتحلون من الدين فإن وافقه وإلا كان باطلا والقاعدة التي يحتجون بها ليس عليها دليل مما ذكرنا وإنما ذكرها بعض أهل العلم ولم يذكروا عليها دليلا وهـذا هـو التقليد بعينه والتقليد يفيد الظن ولا يوجب اليقين والظن لا يغني من الحق شيئا والقول بلا حجة لا يجب قبوله ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله وكذلك لا يلزم المسلمون باعتقاد محدث لا أصل له في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة وليس عليه إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان (3).
ومن تأييد الله للمهدي أنه لم يجعل للمخالفين في القرآن ما يكون لهم عليه حجة ، وبهذا أراد الله إضعاف حجتهم أمـام المهدي فقال سبحانه : ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ . ولم يقل المرسلين , لأن الله يعلم أنه سوف يرسل المهدي وأنه يكون بعد النبي عليه السلام رسول فلذلك قال بعد قوله : ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ . ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ ليبين لهؤلاء أنه ذكر النبيين ولم يذكر المرسلين لأنه يعلم أنه سوف يُرسل بعد النبي عليه السلام , فلو كان يعلم أنه لا يرسل بعد النبي أحدا لذكر لفظ المرسلين حتى لا يكون فيه تأييد لمن يدعي أنه رسول الله بعد النبي فكان عدم ذكر المرسلين تأييدا واضحاً فاضحاً لمن خالف المهدي حيث جعل جانب المهدي قوي مؤيد وجانبهم ضعيف مخذول من الحجة , وبهذا بان بأن ليس معهم على اعتقادهم هذا حجة وما هو إلا َّ التقليد الأعمى والجهل المركب اهـ(4).
وزاد في موضوع آخر من تقريراته بالقول في هذا الخصوص : قال تعالى بعدها : ﴿ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾ وإعراب ﴿ رَسُولاً ﴾ تمييز ، وهذا يدل على تنوع مَن يُرسله الله وأنت من هذا النوع يعني رسولاً وليس نبيّاً فلذلك جاء في الحديث الذي جاء في ذكر النوم قال الصحابي : " ورسولك الذي أرسلت " قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ونبيك الذي أرسلت ) .
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نقله إلى المقام الأشرف والأعلى درجة وأن اللفظة التي ذكرها الصحابي لا تدل على النبوة فلذلك ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم عن مقالته وذكر اللفظ الصحيح اهـ(5).
قلت : الحديث متفق عليه ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل اللهم إني أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت ، فإن مُت من ليلتك ، فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به ) .
قال ـ البراء ـ : فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغت : اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت . قلت : ورسولك الذي أرسلت . قال : ( لا . ونبيك الذي أرسلت ) .
قال النووي : اختلف العلماء في سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم ورده هذا اللفظ ، فقيل :
إنما رده لأن قوله : ( آمنت برسولك ) . يحتمل غير النبي من حيث اللفظ .
واختار المازري وغيره : أن سبب الإنكار أن هذا ذكر ودعاء فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه ، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف ، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها .
وقيل : لأن قوله : ( ونبيك الذي أرسلت ) . فيه جزالة من حيث صنعة الكلام ، وفيه جمع النبوة والرسالة ، فإذا قال : رسولك الذي أرسلت . فإن هذان الأمران مع ما فيه من تكرير لفظ رسول وأرسلت وأهل البلاغة يعيبونه .
وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ، ولا عكسه ! اهـ(6).
واختار القرطبي في شرح هذا الحرف تقرير قاعدتهم الباطلة أن كل رسول نبي ، وعد قوله : ( ورسولك الذي أرسلت ) : حشو من الكلام لا فائدة فيه ، ولذا منعه صلى الله عليه وسلم .
وتعقبه الحافظ ابن حجر بالقول : هذا متعقب لثبوته في أفصح الكلام كقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ . وقوله : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ﴾ . ومن غير هذا قوله : ﴿ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ﴾ ، إلى غير ذلك .
وقال الحافظ : والذي ذكره أيضا في الفرق بين الرسول والنبي مقيد بالرسول البشري ، وإلا فإطلاق الرسول كما في اللفظ هنا يتناول الملك ، كجبريل مثلا ، فيظهر لذلك فائدة أخرى وهي تعيين البشري دون الملك فيخلص الكلام من اللبس اهـ(7).
وكذلك إطلاقه يتناول المحدث المعلم وقد نص القرآن الكريم على جواز إرسال " المحدَّث " كما أخبر بإرسال " المُعلَّم " في هذه الأمة على ما يتلى منه في سورة الدخان ، وكذلك في قراءة بعض الصحابة لآية سورة الحج ، وبهذا يتضح السر من وراء منع المصطفى صلى الله عليه وسلم للبراء من هذا اللبس بالتداخل لهذه الحكمة ، ولأهمية تقريرها ورد ببعض ألفاظ هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكارا على البراء ( طعن بأُصبعه في صدره ) ! وقال له ( ونبيك الذي أرسلت ) .
وهذا لتأكيد المعنى الشرعي في اختلاف الوصفين ما بين النبي ومجرد كونه رسول ، فالنبي قد لا يكلف بإبلاغ رسالة ما ، ومن يحمل رسالة ما من الله تعالى لبني البشر قد لا يكون نبيا بكل حال قد يكون من جنس المرسلين المحدثين المكلمين ، ولذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد على هذا المعنى وبشدة كما جرى مع البراء رضي الله عنه :
قال الطحاوي : قول البراء ( ورسولك الذي أرسلت ) ليس فيه إلا الرسالةُ خاصة ، والذي ردَّ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمرهُ أن يقولَ مكانَ ذلك وهو : ( ونبيك الذي أرسلْتَ ) يجمعُ الرسالةَ والنبوةَ جميعا ، فكان أولىَ مما يكونُ على الرسالةِ دونَ النبوةِ اهـ(8).
وهذا أوفق لأصول الدعوة المهدية وهو خلاف ما تقرر في أصول المخالفين لـه على مـا هو بـين وظاهر من سائر تقريراته في هذه الدعوة ، وتقريرات كبار تلاميذه رضي الله عنهم .
وقد اتفق القرآن والسنة وإنجيل المسيح عليه السلام على تأكيد هذا الأصل ، بل على الإخبار به :
فأما القرآن فعلى ما علم من قراءة ابن عباس وأبي ابن كعب في صحة إرسال المحدث وقد مر معنا هذا في أكثر من موضع بكتب الإمام المهدي عليه السلام وأعيد تقريره في أكثر من مقال في منتدياته المباركة ، كذلك تعد سورة الدخان نص قاطع على تحققه في هذه الأمة .
وأما السنة فلعموم ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه في الإخبار بـ ( بعث ) المهدي عليه السلام ، والبعث هو عين الإرسال على ما مر تقريره كذلك سابقا في تأصيلات المهدي وتلاميذه .
وأما الإنجيل فالأمر على ما تقرر من قول المسيح عليه السلام بإنجيله الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام في جوابه لسؤال أحد الكهنة حين قال للمسيح عليه الصلاة والسلام :
أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله ؟ فأجاب يسوع : لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله اهـ(9).
والملاحظ هنا : سؤال الكاهن عن هل يأتي رسل آخرين ، والجواب أتى من المسيح عليه الصلاة والسلام بالنفي بالأنبياء مما يثبت صحة اعتقاد المهدي عليه السلام ، بأن المنفي إتيان نبي بعده لا رسول وهو الباطل ، لا أن الباطل يأتي بعده رسول ولو كان لأثبت هنا بالجواب نفي ما سأل عنه هذا الكاهن ولزيد عليه نفي أن يكون بعده رسول كذلك ، فتأخير البيان لا يجوز وقت الحاجة إليه ، والحاجة ماسة هنا لنفي كل باطل يكون بهذا السبيل ، وحين عدل عن ذكر الختم بالرسل للختم بالأنبياء تعرفنا بذلك أن الاعتقاد الحق ما تقرر في هذه الدعوة المباركة ، وقد سار على هذا المصطفى صلى الله عليه وسلم مثل ما قاله المسيح جوابا لهذا الكاهن في أكثر من خبر ، منها ما نص عليه الشيخ " سالم بن حمود " وغيره ، وسيأتي مزيد ذكر لمثل هذا لاحقا بحول الله تعالى .
وما قرره المسيح عليه السلام في إنجيله عين ما تقرر في كتاب الله تعالى موافقة من القرآن الكريم لما ورد بإنجيله عليه السلام ، حين أكد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ولم يقل خاتم المرسلين .
وعليه كان يقيننا بأن المهدي من رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، ويؤيد ذلك وينص عليه ما ورد بكتاب الله عز وجل قوله : ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ . فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ . يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ . أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ . ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾ .
كذلك ما ورد في إنجيل المسيح عليه السلام وفيه مواطئة لما تقرر قبل في جوابه للكاهن اليهودي ، ولما ورد في هذه الآيات من القرآن الكريم ، أعني قول داود عليه السلام حكاية عما سيقوله الله تعالى لنبيه بعد قبضه حسب ما ورد في نبوءة الزبور مقرا لها ، ومثبتا صحتها وسلامتها من تحريف اليهود ، فقال نقلا عن الزبور : " قال الله لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك ، يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك " اهـ(10).
وهذه نصوص صريحة في كتب الله تعالى ، تفيد أن بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم سيبعث رسول من الله عز وجل ، ولا رسول بعد المصطفى إلا المهدي حفيده عليه الصلاة والسلام .
عودة لنقل بعض الأخبار التي تقيد في الفرق ما بين الأنبياء والرسل ، ولتقرير الشيخ " سالم بن حمود الخالدي " حفظه الله تعالى في أن قاعدتهم ( أن كل رسول نبي ) لا يسلم لهم إطلاقها في كل رسل الله تعالى ، فقال :
ونحن لا نسلَّم بهذه القاعدة أن كل رسول نبي , وعندنا فيها تفصيل .
ثم إنهـا قاعدة مختلف فيها بين أهل العلم كما هو في كتب التفسير ، واعلموا أنهم ليس عندهم دليل لا من القرآن ولا من السنة التي توجب اليقين على هذه القاعدة فيرجع احتجاجهم بالظنيات وهي غير مقبولة في هذا الأصل العظيم ألا وهو الإرسال نفياً وإثباتاً .
وهي قاعدة لم يجمع عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل ولم يؤثر ذلك عن أحدٍ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من التابعين لهـم بإحسان فيما نعلم ، فإن هذه الأصـول الثلاثة الكتاب والسنة الثابتة وإجماع الصحابة والتابعين لهـم بإحسان هي التي تعرض عليها أقوال الناس وأفعالهم وما ينتحلون من الدين فإن وافقه وإلا كان باطلا .
والقاعدة التي يحتجون بها ليس عليها دليل مما ذكرنا وإنما ذكرها بعض أهل العلم ولم يذكروا عليها دليلا وهذا هو التقليد بعينه والتقليد يفيد الظن ولا يوجب اليقين والظن لا يغني من الحق شيئا اهـ .
هذا قوله باختصار في رد قاعدتهم قرره في مقالته النافعة جزاه الله خيرا " السالمية في نصح أتباع المهدية . . " ، وسيأتي لاحقا النقل عنه بأتم من هذا في أحد الفصول الأخيرة إن شاء الله تعالى ، ولي معه وقفه هنا مع قوله : ( أنها قاعدة مختلف فيها بين أهل العلم ، كما هو في كتب التفسير ) .
فإن كان ما يعنيه بذلك وجود من يوافق مـا تأصل في الدعوة المهدية ـ تصريحـا ـ وفقا لما ثبت عن ابن عباس وأبي ابن كعب في تلاوة مـا يدل على إرسال " المعلَّم " من العزيز الحكيم ، وكذلك ما صرحت به آيات سورة الدخان في هذا الخصوص ، فأنا أستبعد وجود مثل هذا عن أحدهم بالنطق الصريح ، سواء كان ذلك في كتاب التفسير ـ على ما أشار الشيخ ـ أو كتاب من المبسوط في المعتقد .
وربما مراده حفظه الله وفك أسره ، منع بعضهم إطلاق مفهوم هذه القاعدة إلا في جنس البشر ، وأخرجوا من إطلاقها " الرسول الملكي " مثل جبريل عليه السلام على ما مر معنا الإشارة له .
وقد قال بهذا التقييد شارحي الصحيحين ، الإمام النووي وابن حجر العسقلاني رحمهما الله تعالى .
قال النووي على الرغم من تعميمه القول في ذلك في كتاب الذكر والدعاء حين قال هناك : وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا الكتاب ـ يريد صحيح مسلم ـ أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ، ولا عكسه اهـ .
وحين الرجوع لقوله في المقدمة عرفنا ما يعني ، وذلك بتعقيبه على قول مسلم رحمه الله في خطبة كتابه : وصلى اللهُ على محمدٍ خاتم النبيين ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين اهـ(11).
قال النووي معقبا على هذا القول : وقد ينكر على الإمام مسلم قوله : ( وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ) ، فيقال إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه لدخولهم في الأنبياء فإن الرسول نبي وزيادة .
ولكن هذا ضعيف ويجاب عنه بجوابين :
أحدهما : أن هذا سائـغ وهو أن يذكـر العام ثم الخاص تنويها بشأنه وتعظيما لأمره وتفخيما لحالـه وقد جـاء في القرآن العزيز آيات كريمات كثيرات من هـذا مثل قوله تعالى : ﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ وغير ذلك من الآيات الكريمات .
وقد جاء أيضاً عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص قال الله تعالى حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم : ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ فإن ادعى متكلف أنه عنى بالمؤمنين غير من تقدم ذكره فلا يلتفت إليه .
الجواب الثاني : أن قوله والمرسلين أعم من جهة أخرى وهو أنه يتناول جميع رسـل الله سبحانه وتعالى من الآدميين والملائكـة قال الله تعالى : ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾ ولا يسمى الملك نبيا فحصل بقوله والمرسلين فائدة لم تكن حاصلة بقوله النبيين والله أعلم اهـ .
وعلى وفقه فهم أن المراد من قوله الأول بالمنع من الإطلاق ، إدخال الرسول من الملائكة مع الرسل من البشر فلذا بحسب رأيه لا يدخل التعقيب على كلام مسلم رحمه الله تعالى .
ومثله ما قرره شارح صحيح البخاري ابن حجر ، إلا أنه زاد على ذلك اعتبار الإرسال القدري ! للشياطين والرياح وما شابه ، فقال في قصة ابن صياد ومنع المصطفى صلى الله عليه وسلم من قتله : أنه لم يصرح بدعوى النبوة ، وإنما أوهم أنه يدعي الرسالة ، ولا يلزم من دعوى الرسالة دعوى النبوة ، قال تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ اهـ .
وفي كتاب الوضوء قال : لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول لأنه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل ، بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفا ، وعلى هذا فقول من قال : ( كل رسول نبي ) . . , لا يصح إطلاقه اهـ .
يريد بذلك الاحتراز من إدخال من أرسل من الملائكة بهذا الاشتراك ، أو من أرسل بالقدر مثل الشياطين والرياح ، أو بعث عسكر نبوخذ نصر .
ولا اعتقد غير هؤلاء ، ولو كانوا من المفسرين سيخرجون بأكثر مما قال شراح الصحيحين حتى يوافقوا أصل الدعوة المهدية في مخالفة تلك القاعدة المضللة في أن كل : ( رسول نبي ) ، ويجيزوا لما ثبت مما قدمنا ذكره إرسال غير النبي من البشر لا الملائكة ، ومن علم ذلك عن أحدهم على ما ألمح لذلك الشيخ " أسد الناجية " فليدلنا على ذلك مشكورا .
إلا أن يريد الشيخ حفظه الله بإشارته لعدم الاتفاق منهم على هذه القاعدة بما أوردته عن النووي وابن حجر ومن قال بقولهم ، فنعم حينئذ يصح دعوى عدم الاتفاق منهم على الإطلاق في هذه القاعدة المضللة ، والله أعلم
(1) فتح الباري (6 / 209) .
(2) ( السالمية في نصح أتباع المهدية " قواعد أصولية مع المخالفين " ) للشيخ : سالم بن حمود الخالدي .
(3) محاججة اللئام آخر الفصل الثاني .
(4) السالمية في نصح أتباع المهدية " قواعد أصولية مع المخالفين " .
(5) مقالة : ( من أدلة إرسال المهدي في آيات القرآن الكريم ) .
(6) صحيح مسلم (17/52) شرح النووي .
(7) الفتح (12/393) .
(8) مشكل الآثار للطحاوي (3/163) .
(9) الإنجيل ( ص 121 ) .
(10) الإنجيل ( ص 60 ) .
(11) راجع شرح النووي لصحيح مسلم .
Powered by Backdrop CMS