تفاصيل أخرى في تفسير سورة ( يس ) تكشف عن المزيد في واقع حياة المهدي
﴿ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ ، وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
إذا سألتم من يكون هذا الرجل وما علاقته بياسين وقوم ياسين ، اقتصر لكم بالجواب أنه صاحبكم نفسه ولو سيق ذكره وأولئك معه على سبيل المثال فذكره حق وحقيقي وعلاقته بقوم ياسين وثيقة وسرد تلك التفاصيل لتطابق تفاصيل من دعوته وسيرته مع قومه حتى يعلم قبل غيره دلالة كل ذلك وحجيته على أنه المعني بكل تلك التفاصيل فيؤمن بأن الله وحده عالم الغيب والشهادة يحق الحق ينبىء عن الغيب وحده بكل تلك التفاصيل ثم إذا جاء حينها يستنسخها بأعمال عباده مطابقة لما كان أخبر وموازنة لا يفوت من ذلك شيء ، فكانت تلك التفاصيل المتلوة وكان ذلك الواقع لها من حياة المهدي وقومه لا يغادرون من ذلك صغيرة ولا كبيرة وكل ذلك مما أحصاه تعالى في كتاب منير يتلى لا تدريه الناس ثم اذا ما جاء تأويله وأنطق الله به عبده بتفاصيل حياته وببيان لسانه ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون ) ، قالو : هذا شيء عجاب !!
والحق أنها سيرتهم ورسولهم لعلهم يذكرون بتلك التفاصيل وتطابقها مع واقعهم وأن يعتبروا بذلك ويتفكروا به إن كانوا يعقلون فيؤمنوا أن بينهم رسول لله وأنه هو الآتي لهم من أقصى المدينة لا غيره وأن هذا ذكرهم ورسولهم لعدة قرائن غير ورود ذكره ومن معه في ذلك السياق .
القرينة الأولى : أن قومه من بعده أتتهم الصيحة وهذا لا يمكن يكون مجرد مثال بل حق وخبر لا بد له حقيقة وحقيقته أنه رسول أولئك القوم الذين ستأتيهم الصيحة :
﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾
﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ )
وكل من سبقهم من القرون وأتتهم الصيحة علم أمرهم في قصص الله تعالى عن السابقين فمن هؤلاء غير قوم ياسين ؟!
القرينة الثانية : وصفه تعالى خلق هذا الرجل بالإنفطار كما خلق السماوات والأرض تعظيما لشأنه وهذا لا يقال في وصف معين لمجرد المثال بل لا بد أن المعني ذو تعيين وشخصية حقيقية يدل عليه أن هذا الوصف في القرآن لم يطلقه تعالى إلا لثلاثة ابراهيم الخليل وهود وياسين عليهم الصلاة والسلام ، تعظيما لنشأتهم وتربيتهم الربانية فشبههم بخلق السماوات والأرض الإنفطار .
القرينة الثالثة : ياسين قيل له ادخل الجنة وهو دخول حقيقي لا يقال لمجرد مثال : ﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ .
دخول حقيقي لجنة المأوى التي كان يبشر بها من قبل : ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾
فالإكرام هنا بإدخال الجنة فنال ما كان بشر به من قبل من يتبعه ويصدق أمره ، فكانوا جميعا من المكرمين بدخول تلك الجنة .
ولنقض شبهة الجهلة والمكذبين أن تلك الجنة ليست جنة في الدنيا بل هي جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلا بعد الموت وليست هي جنة المأوى والتي لم يدرك الكثير ويميزوا فرقها عن جنة الحور العين والخمر والذهب والإستبرق ، ومن الفروق ببن الجنتين أن تلك الجنة التي قيل لسين المهدي ادخلها هي جنة في الدنيا دخلها من مكانه وقومه بعد الفصل لا أنه مات ليدخل من فوره جنة الخلد ، بل لا زال في الدنيا ولما فصل بينه وبينهم قيل ادخل الجنة جنة المأوى التي توعدون على ألسنة الأنبياء وفي القرآن ، فتلك الجنة التي لا يمكن يعلم شأنها من هلك قبل لا يظهر تعالى شأنها مع الساعة ، الجنة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها . لأنها ستنبت من فورها فالأرض أشرقت بنور ربها وحلت عليها بركاته ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ) وقامت تلك الجنان والأنهار وأخرجت ما لم تعمله أيدي البشر ، فتلك الجنة التي يصح للمهدي التحسر على قومه أنهم لم يعلموا شأنها لما حل بهم بعد الفصل مع دعوته ( فلا صريخ لهم ) ، عكس جنة الخلد تلك الأخيرة فالكل سيعلم شأنها حتى يتنادى أهل النار وأهل الجنة تلك ويسألون من ماءها ويتمنون دخولها ، أما جنة المأوى في الدنيا فهي التي يصح ممن هلك دونها أنه لن يعلم شأنها لأنها فاتته لم يدركها اهلك قبلها ، وهذا من الفروق التي يدرك به العاقل أي الجنتين تلك التي قيل للمهدي ادخلها بعد أن فصل الأمر بينه وبين قومه .
هذا وإن أخذكم الفضول من يكون الإثنين والثالث مع المهدي ، فهم ممن ادخلهم الله تعالى بأمره بعلاقة من الوحي فسماهم الله تعالى بالمرسلين لذلك الإدخال .
وقوله تعالى : ﴿ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾ ، تعيين لمكانه بالنسبة لسكن قومه جميعا ، فقد كان في منطقة تعد من ضواحي البلد للغرب منها وهي أقصى مجمع تلك القرى ، وتحديد مكانه بذاك الوصف من بلد قومه تعيين لمكانه منهم فيكون بتلك المطابقة من واقعهم اشارة ودليل يضاف لمجموع تلك الاشارات والدلائل المتوافقة وعلى سبيل التواتر في واقعهم لعلهم بذلك يعلمون ويدركون أن هذا كله من تفصيل في ذكرهم عسى أن يتذكروا وأنى لهم الذكرى وقد تولوا وهم يقولون ( ما أنزل الله من شيء ) .
وأقول : كم هي عجيبة حقا تلك السورة سورة ( سين ) ، وليس من المستغرب بعد ما تبين سر الله عز وجل في إيداعه بمقدمتها اسم المهدي كاملة حروفه ما عدى الحرف الأول من اسمه أخفاه نبوءة يستره حتى ما يعلم ذلك السر كل أحد ، خبأه عن علم الناس عامة كما الساعة لا يعلم متى تقوم ولا يجليها لوقتها إلا هو سبحانه فهو من أمر الساعة وشأنه من شأنها مكنون عن اذهانهم وعيونهم ، وهيهات أن يكتشف خبيئة الله تعالى وتكتشف أسراره من غير أن يشاء المولى تبارك وتعالى .
﴿ احفظني مثل حدقة العين بظل جناحيك استرني ﴾ " الزبور "
﴿ لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر يسترني بستر خيمته ﴾
﴿ وَجَعَلَ فَمِي كَسَيْفٍ حَادٍّ فِي ظِلِّ يَدِهِ خَبَّأَنِي وَجَعَلَنِي سَهْمًا مَبْرِيًّا فِي كِنَانَتِهِ أَخْفَانِي
وَقَالَ لِي : أَنْتَ عَبْدِي الَّذِي بِهِ أَتَمَجَّدُ ﴾ " اشعيا عليه الصلاة والسلام "
﴿ فِي الْجُوعِ يَفْدِيكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَفِي الْحَرْبِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ مِنْ سَوْطِ اللِّسَانِ تُخْتَبَأُ ، فَلاَ تَخَافُ مِنَ الْخَرَابِ إِذَا جَاءَ ﴾" أيوب عليه الصلاة والسلام "
ولمن يعتقد أنه حقا خبيئة الله تعالى عليه أن يعلم أنه خبيئة لله تعالى في ذاته ، وخبيئة له في ذكره ، لهذا ترونهم يمنعون من العلم بذكره في القرآن ، ويمنعنون من الإهتداء لمحل اسمه بكتاب الله عز وجل .
وعظم الله تبارك وتعالى ذكره حتى أن القرآن خلت الكثير من سوره من ذكر الصيحة ، وتذكر هنا وهناك بسور محدودة جدا وإن تعدد ذكر الصيحة بسورة أو سورتين وعن أقوام متفرقة كسورة هود في قوم شعيب وقوم صالح ، لكن في سورة ( سين ) سورة الحسين تقرر ذكر الصيحة هناك أربع مرات لتنفرد تلك السورة في ذكره وذكر الناس في زمانه فتنفرد عن غيرها من سور كتاب الله عز وجل بتكرار ذكر الصيحة بذلك العدد لخصوصية خبر أولئك قوم المهدي ، فصيحة بالعذاب ثم صيحة بتعيين شخصه للناس عموما ثم صيحة عامة للفناء العام ثم صيحة للبعث العام ولهذا خصت تلك السورة دون غيرها بذلك التعدد لذكر الصيحة الخاصة بقومه فهم من سيدرك بعث المهدي وقيام الساعة وهم من اختص في آخر القرون بصيحة الحق دون كل تلك الصيحات ، لأجل ذلك انفردت تلك السورة بهذا عن القرآن كله ، لأن زمانه زمان تحقق النهاية وبلوغهم تأويل الذكر فكان لتلك السورة هذا الاختصاص بذكر تلك الصيحات ، مثل ما كان لها الإختصاص بذكر اسمه عليه الصلاة والسلام ، كذلك كان لها تلك الخاصية بقسم الرحمان عز وجل على أنه من المرسلين ولم يقسم لغيره بمثل ذلك في كل الكتاب ، واعلموا بهذا أن كل ذلك الإختصاص لتلك السورة من القرآن ما هو إلا تعظيما لذلك الذكر وذلك الرسول وما سيكون في زمانه وجيله .
﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ، وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾
وهذه الأولى للإهلاك وتتبعها الأخرى للتعيين ، والإحضار للجميع من كل الأمم في وقت تحقق تأويل الذكر وليس من القرون لكافة البشر كما قد يتوهم البعض من ذلك السياق ، بل هو جمع مخصوص حين يقع التأويل وتتحقق تلك الصيحات فيكون حشر العتاة والجبابرة من كل أمة وحزب فوجا يساقون لله تعالى للمدينة المنورة لتقوم عليهم الشهادات ، ولذلك وردت الإشارة في صدر سورة الحسين في ابتداء ذكر التفاصيل عن قومه حين يحشر منهم من يحشر مع سائر الأمم والشعوب وكل تلك الأحزاب للشهادة والحساب فقال تعالى هناك فيهم : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ * . وهذا حين يتحقق حشر العتاة من كل أمة لله تعالى كما في قوله في سورة النمل ، وذلك حين تخرج لهم الدابة وبالإتفاق خروج الدابة كائن وهم بالدنيا لم تنقض بعد :
﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ، وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾
ولأجل أن ذلك الحشر الخاص هو المقصود بالإحضار المذكور قبل ، عاد تعالى ليؤكد عليه مرة ثانية وفي ذات السورة وبعد ذكر الصيحة أيضا كما في المرة الأولى فقال لاحقا تبارك وتعالى كما سيمر معنا ذكر هذا :
﴿ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾
أكد على الجمع أيضا هنا للمرة الثانية وبعد ذكر الصيحة للمرة الثانية للتأكيد على أنه جمع مخصوص لعتاة الأشرار في جيله من كل أمة فوجا منهم ، ولم يختم تلك السورة إلا أيضا على التأكيد برجوعهم لديه تعالى والمراد ذلك الحشر الخاص فقال عز وجل :
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
وسيأتي مزيد بيان لمعنى الأغلال والإقحام متى هو كائن تحديدا لاحقا إن شاء الله تعالى .
أقول : ولما جاء بذكر الصيحة ثانية بعد ذكرها أول مرة قبل ، هنا يحتمل المراد بها ذات الصيحة قبل ، ويحتمل يريد بها هنا صيحة أعم من سابقتها التي في قومه ، فتكون الأولى خاصة بإهلاكهم ، ثم ثانية تعم أكثر من قومه لمزيد تفصيل في ذكرها :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾
وللمزيد من التفصيل قال : ( تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ . يفيد هذا بأنها أعم من الأولى فيدخل فيها من طوقهم من جنود تلك التحالفات للحماية كالأمريكان -- ذكرهم في يأجوج ومأجوج -- فيعم ذلك الجميع من عساكر الدول وجند الأحزاب حين يؤخذ كل من ناحيته لما تقع تلك الصيحة ، فتتبع هذه تلك الخاصة بإهلاك قومه ، وقد تكون ذات الصحية فيقع ذلك الأثر على قومه مثل ما يقع على غيرهم ما وعد الله تعالى بقوله هذا والله أعلم :
( أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ، جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ ، إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ، وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ )
ومن التفاصيل بذكرها الزائد بالمعنى مما لا يمكن العلم به ما لم يشرح لهم هنا قوله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .
فما وجه طلب الإنفاق وكيف انقلب ليختص بالإطعام ويختص أيضا بالذين آمنوا ، وما علاقة الصيحة يتبع ذكرها ذكر تلك المعاني والأخبار ، وهذا مما لا يمكن لأحد العلم بحقيقته دون ما يفتح الله تعالى على رسوله بالعلم به .
أقول : هناك ما يعرف ببلده بالتمويل المعيشي المتاح للكثير منهم ، والله تعالى بقوله المذكور في تلك السورة الخاصة بذكر المهدي وقومه يحثهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى مما يبذلونه للجميع إلا ما منعوه على غيرهم ومنهم المهدي ومن معه ممن آمن بأمره وقليل ما هم ، لهذا لما كان المعنى هو هذا حصر الخطاب الله تعالى ما بين هؤلاء وأولئك ، فقالوا : ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) .
فجمع هنا لتهكمهم بالإيمان بوعد الله تعالى له بدخول الجنة وأن يرزقه بما قاله تعالى من قبل ، امتناعهم اطعامهم كما يطعمون غيرهم : ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ) .
فهذا ما كانوا يعلنون التكذيب به والتهكم على المصدق به أنه كائن وعد حق وكان يجهل أولئك الضلال المعرضين عن ذكر الله تعالى أن ذلك مما فصل على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله ، وعليه كان تعالى أتبع ذلك بذكر الصيحة ، فبعد تحقق الصيحة والعذاب الماحي لهم يكون تحقق تلك الجنة وذلك الرزق الذي كانوا يكذبون به ويسخرون من مصدقه قبل وأن ذلك من آيات الله تعالى لعباده الأرض الميتة قبل يجعلها جنان وأنهار يأوي لها عباده وتبارك جنانهم تلك حتى أنها تثمر بعمل الله تعالى لا عملهم ، وكان قولهم تهكما كيف نطعم من لو شاء الله أطعمه أليس هذا ما يعتقد به وينتظره ؟!!
وعليه كان خبره تعالى عن تلك الحقيقة بالقول : ( إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ، -- قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ -- قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) .
ألم يكن يبشر قبل من يصدق أمره ويتبعه بذلك الرزق الكريم : ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) ؟
ولبيان معنى تحقق تلك الأخبار افهموا قول أولئك : ( إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) . بعد كل تلك المجادلات عن الإنفاق والإطعام ، فالضلال هنا ليس يراد به المقابل للهدى من الله تعالى ، فأولئك لا يعرفون الهدى ويعلمونه ليعرفوا ويؤمنوا بمعنى الضلال المقابل لذلك ، فالضلال عندهم وما يعنون هو تلك الموانع التي تحول بين المؤمنين واطعامهم ، فهناك بقوانينهم موانع تحول من اطعام غيرهم والإنفاق عليهم ، وما دام غيرهم واقع تحت طائلة تلك الموانع فهو في ضلال بعيد عن ذلك حتى تزول عنه تلك الموانع ليتمكن كغيره من ذلك الإنفاق وذلك الإطعام ، ومرادهم مانع القيد الأمني لعقيدته وبدعته الإيمانية بزعمهم بأمر الله عز وجل التي طلع بها عليهم فجأة فحرم من اعتباره منهم وأن يستحق تلك المنح بزعمهم وما دروا جهلا منهم وضلالا عن صراطه المستقيم إنما اوجدوا بشحهم ذاك وعنصريتهم السخيفة ما أوجده الفرعون الأول حين فرض على موسى عليه الصلاة والسلام أنه ليس مصريا فرعونيا بل يهوديا بدون فتشابهت السنن (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجائهم رسول كريم ).
أقول : فكل ذلك حسب قولهم من موانع تحول بينه وبين ذلك الإنفاق أو الإطعام إما تزول أو سيبقى في بعد وضلال عن نيل كل ذلك ما دام بذاك الوضع ، هذا معنى ما أخبر تعالى بتلك الكلمات منه عز وجل ، وهي متضمنه أخبار تدل على ما ذكر هنا يحكي فيها تعالى عن حاله وحال قومه ، فهل يمكن فقه معنى تلك الأخبار ما لم يقع مثل هذا البيان عن سين وقومه ؟!
كذلك يجب ادراك معنى زائد هنا في نقل الله تعالى تفسيرا لطلب الإنفاق ذاك بحصره بينهم وبين من آمن بأمره ، أنهم لم يمتنعوا عن الإنفاق بالمرة ، بل امتناعهم اختص به وبمن آمن معه وشاكلهم حسب ذلك التصنيف الفرعوني على الوجه الذي بين ، أما انفاقهم سمعه فهذا غير ممتنع عن غيرهم كما هو الحال معه ، إذ أنهم حاملوا لواء الدعوة والمبادرة للإنفاق على المحتاجين هنا وهناك عالميا ودوليا فقط للسمعة والرياء ، إلا أن الله تعالى كشف عن ذلك الشح بما ذكر وفصل مع اعراضهم وترك الإيمان فحكى عنهم ما حكى بحق المؤمنين ، ومن الكشوف أنزاله سورة خاصة في ذلك فقال تعالى :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾
فهم حاملوا لواء الإعراض عن يوم الدين ولواء الشح ومنع الإنفاق والإطعام بالعدل والإنصاف : ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً ، وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً ، إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ﴾
والآن يأتي دور الصيحة لثالث مرة في تلك السورة من بعد ما أتى ذكرها لثاني مرة وهذه الثالثة في سياق متصل ، فيقول تعالى :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾
ويفسر تعالى والسياق لا يزال متصلا تلك النفخة بأنها صيحة للمرة الرابعة في تلك السورة ، فيقول عز وجل :
﴿ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
ويكون لذلك السياق في تلك السورة دلالته البينة على أنها صيحات مختصة بذلك الجيل لأنه أوردها كلها بسياق واحد متصل ، صيحة للعذاب الخاص ، وصيحة للعذاب شبه العام يختص بقوم المهدي وبمن لحق بهم في شرهم ، وصيحة للجميع للحساب والشهادة لأعيان منهم ومن كل أمة وقوم وحزب وشعب ممن يختار تعالى جمعهم واحضارهم لديه تبارك وتعالى حين يأتي العالم لحسابه واقامة الشهادة على عتاة الأشرار في ذلك الوقت وذلك الجيل ، وهذا ما يفيده ذلك السياق وذلك الجمع لكل تلك الصيحات في تلك السورة وبسياق متصل في ذكر المهدي وقومه الذين أعرضوا عن أمر الله تعالى واقامته يوم الدين والحساب .
وقوله تعالى : ﴿ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾. يشبهه قراءة لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه في يأجوج ومأجوج ( من كل جدث ينسلون ) ذكره الحاكم في مستدركه عن محمد بن اسحاق قال : في قراءة عبدالله من كل جدث ينسلون بالجيم والثاء مثل قوله ( من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . ووافقه الذهبي اهـ . ( المستدرك كتاب التفسير 3/1118 )
وقوله : ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ . هذا لسان أهل الدنيا الذين يصح عليهم هذا القول بهذا الوصف لا عموم البشر بعد البعث الكلي العام من الموت ، فأولئك ليس الأمر بالنسبة لهم رقدة واحدة من ليل أو نهار ، بل هم هذا الجيل المعين لتحقق تلك الصيحات فوق رؤوسهم تفزعهم صيحة البعث للشهادة والحساب وتوقظهم من رقدتهم تلك فيقولون ما قالوا : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ . يريدون وعد الله تعالى بما في سورة الحسين وغيرها من وجوب رجوعهم لله تعالى ليقيم الشهادة والحساب على الأشرار ، وكان في دعوته عليه الصلاة والسلام تقرير كل هذا الحق : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ ، وبلغتهم الأنباء وخبر أولئك الرسل :
﴿ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
وكان جوابهم : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ .
﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
وفي قوله تعالى : ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ .﴾
فلم ذكر تعالى الدخان بعد الاغلال ؟ ، والترتيب واجب هنا .
والجواب الحق : هو أنه لما غاير تعالى في الوصف بالاغلال ونص على انه في اعناقهم ومحل الاغلال الأيدي كما هو معلوم وليس الأعناق ، قال ذلك لارادته بالكلام الحدث السابق للدخان ، وعليه كان الترتيب ذكر الاغلال ثم الدخان وتلك اشارات منه لما وقع عليهم وتقحموا عمق الجزيرة وهم كارهون ذلك أشد الكراهية ، فرارا من اقتحام جيش العراق لأرضهم فزال بذلك سلطانهم ، وكان بذلك تحقق حشرهم المذكور في الحديث أول اشراط الساعة يحشرون من المشرق إلى المغرب نتيجة ذلك الحدث والنار ودخانها ابرز علاماته والتي هي من ابين اشراط الساعة .
فمقمحون في ذلك الحشر ولأنه اراد هذا المعنى الخفي ذكر الاغلال في غير محلها الطبيعي المعهود لأنه أراد الاخبار عن ذلك الحدث لا غير ولهذا تروه نص على ذكر الاغلال في غير محلها لذلك الاعتبار والفرق ، وإلا فمن المعلوم أين توضع الأغلال واين تكون من المأسور وانما اراد خصوص ذلك النبأ لا عموم محل الاغلال فذكره بالأعناق لهذا الاعتبار .
وفي نص قرآني آخر بين الله تعالى محل الغل فقال: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ .
وكان في ذلك اشارة منه لتعطل ملكهم ، ومحل الزام البيعة العنق فكانت تلك الاشارات لبيان المقصود وعليه قدم ذكر ذلك واتبعه بالاشارة للدخان وغشيانهم به وهو الحدث الابرز على ذلك وقد وصفه بالمبين في سورة الدخان وفي ذات سورة يا سين قال فيه : ﴿ واذا قيل لهم اتقوا ما بين ايديكم وما خلفكم لعلكم تتقون ، وما تأتيهم من اية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين ﴾ ، يريد تعالى بالايات هنا الاشراط النار والدخان والعواصف الصفراء وحتى سفنهم التى ركبها الاباء وتلك التي ركبها الابناء فيما بعد وكل ذلك علامات وآيات على تحقق امرهم وامر رسولهم المبين .
............
* هذا على اعتبار كلام الله عز وجل هنا على ظاهره قيود حقيقية حسية ، اما بحال اعتبر ذلك معنويا خصوصا لوضع الله بالوصف الأغلال بالأيدي ومكانه كما هو معلوم بالأعناق ، فيكون ذلك كناية عن سلبهم الملك ابان تسلط جييش العراق بتلك الفتنة وفرارهم من وجهه لناحية المغرب تقحما لتلك الناحية على ما جاء بذلك الوصف ، ويقوي هذا أن اتبع الله تعالى ذلك بذكر الدخان وكلكم تعلمون قول النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لسؤال اليهود عن أول أشراط الساعة قوله : نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وذلك الحشر هو التقحم المنصوص عليه في سورة يس وأتت الاشارة بالاغلال لأيديهم نسبة لتعطل سلطانهم وغل أيديهم عنه واجبارهم على التوجه فرارا للغرب ، وسيمر بالمتن بالأعلا مزيد شرح لهذا لتقديم الله تعالى بالذكر أمر الأغلال على الدخان وذلك الترتيب مما يجب في تسلسل الوقائع وتوقيتها ما يثبت أن غل أيديهم قبل الدخان والدخان من أشراط الساعة وسابق عليها ، وهذا يعني أن تغل تلك الأيدي قبل الساعة .