الفصل الخامس
وقال حفظه الله تعالى بالنسبة لحجتهم الثالثة ، وهي : في قوله تعالى : ﴿ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ . قال :
فإذا احتجوا بها فقل : أن الله لم يقل وخاتم المرسلين , فإن قالوا : كل رسول نبي ، وهي تدل لزوماً على ختم الرسل .
فقل لهم : نحن لا نسلَّم بهذه القاعدة " أن كل رسول نبي " وعندنا فيها تفصيل ، ثم إنهـا قاعدة مختلف فيها بين أهل العلم كما هو في كتب التفسير والفاصل في ذلك قراءة ابن عباس الثابتة التي رواها سفيان بن عيينة في جامعه والحميدي في مسنده بإسناد من أصح الأسانيد على وجه الأرض عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، وصحح إسنادها الحافظ ابن حجر في الفتح وعلقها البخاري بصيغة الجزم في كتاب الأنبياء في صحيحه وهي قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ .
وهي وإن كانت ليست من القراءات السبع إلا َّ أنها حجة في مثل هذه الأمور بالاتفاق لصحة إسنادها وقيام الدلائل على نفي الكذب والخطأ عنها .
واعلموا أنهم ليس عندهم دليل لا من القرآن ولا من السنة التي توجب اليقين على هذه القاعدة فيرجع احتجاجهم بالظنيات وهي غير مقبولة في هذا الأصل العظيم إلا وهو الإرسال نفياً وإثباتاً .
وقولوا أيضا : أن من تأييد الله للمهدي أنه لم يجعل لكم في القرآن ما يكون لكم عليه حجة ، وهذا أراد الله فيه إضعافكم أمام المهدي فلذلك قال سبحانه : ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ . ولم يقل المرسلين , لأن الله يعلم أنه سوف يرسل المهدي وأنه يكون بعد النبي عليه الصلاة والسلام رسـول فلذلك قال بعد قوله : ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ ﴿ وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ ليبين لهؤلاء أنه ذكر النبيين ولم يذكر المرسلين لأنه يعلم أنه سـوف يُرسل بعد النبي عليه الصلاة والسلام , فلو كان يعلم أنه لا يرسل بعد النبي أحد لذكر لفظ المرسلين حتى لا يكون فيه تأييد لمن يدعي أنه رسـول الله بعد النبي فكان عـدم ذكر المرسلين تأييد واضح فاضح لمن خالف المهدي حيث جعل جانب المهدي قوي مؤيد وجانبهم ضعيف مخـذول من الحجـة , فوالله ليس معهم إلا التقليد الأعمى والجهل المركب اهـ .
أقول : قوله تعالى : ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ . نص على وصفه بالإرسال ثم أخبر بأنه خاتم النبيين ، وما كان الله تعالى بهذا إلا متجنبا الإخبار بأنه خاتم المرسلين ، لعلمه عز وجل أن هناك من سيرسله من بعده ، وقد نص على ذلك في كتابه العزيز في سورة الدخان والبينة وغير ذلك .
وموافقة للمعنى الذي ورد في هذه الآية العظيمة تراه صلى الله عليه وسلم حين أخبر بمثاله والأنبياء ، نص هو كذلك على أنه خاتم النبيين ولم يذكر المرسلين مواطأة لكتاب الله تعالى على ما ورد في هذه الآية ، ولفظ خبره في المتفق كما أوردت قبل قال : ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بنيانا ، فأحسنه وأجمله ، خلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ، ويتعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال ، فأنا تلك اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ) . رواه أحمد والشيخان وغيرهم كثير ، كلهم يروون في نص هذا الخبر أنه قال : ( وأنا خاتم النبيين ) . مثل ما ورد بالقرآن ، ولم يقل وأنا خاتم المرسلين .
وروي بهذا اللفظ عن جابر رضي الله عنه رواه أحمد ومسلم : ( فأنا موضع اللبنة . جئت فختمتُ الأنبياء ) .
وعن العرباض بن سارية بلفظ : ( إني عند الله في أول الكتاب لخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) (1).
ولفظه عن أبي سعيد كما روى أحمد رحمه الله : ( مثلي ومثل النبيين من قبلي كمثل رجـل بنى دارا فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة ) . فقال مثلي ومثل الأنبياء ولم يقل الرسل .
وعن أبي بلفظ : ( فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة ) . رواه أحمد في المسند .
وعن ثوبان : ( وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ) . ولو أن عائشة رضي الله عنها كانت تعارض هذا فتقول : قولوا : خاتم النبيين ، ولا تقولوا : لا نبي بعده (2).
ولعلها تريد بهذا ما أراده المغيرة بن شعبة حين قال أمامه رجلٌ : محمد خاتم الأنبياء ، لا نبي بعده ، فقال المغيرة : حسبك إذا قلت : خاتم الأنبياء ، فإنا كنا نحدث أن عيسى خارج ، فإن هو خرج فقد كان قبله وبعده (3).
وعليه تجد كل من تكلم من أهل العلم رحمهم الله تعالى في مسألة الختم بالمصطفى صلى الله عليه وسلم لا يوردون القول بأنه خاتم المرسلين إلا على المفهوم الذي عندهم ، وقد تقصد هذا بعد مبعث المهدي عليه السلام بعض الضالين المنافقين اعتراضا على الحق الذي بعث به وهم لا يشعرون أنهم في ضلال مبين وجهل وخيم ، لا يدركون غير هذا المعنى المتبادر لأذهانهم من الختم به ( الأنبياء ) ولا شعور لهم بالفرق ما بين الأمرين ، ثم هم بعد ذلك تجدهم حـين يتكلمون على هذا الأمـر يوردون من النقل دليلا على ذلك على أنه هو المفهوم من ختمه الأنبياء والأولى ، ولو وجدوا دليلا نقليا صريحا صحيحا لصاحوا به هذا في المتقدمين .
أما المتأخرين فهم أضل من الحمير ، فقد استحدثوا استدلالا على ذلك قلدوا به ما وقع به شارح الطحاوية على مـا بينته سابقا ، وساروا عليه في تقريرهم هذا الباطل لمعارضة الحق في دعوة المهدي عليه السلام ويكفي ما أورد هنا في رد كذبهم وبيان مدى جهلهم (4).
ومن أبرز هؤلاء من المتقدمين ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره قال تعليقا على الآية السابقة وقـد نقلته قبل : هي نص في أنه لا نـبي بعده ، وإذا كـان لا نـبي بعده فلا رسـول بعده بالطريق الأولى والأحرى ، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة ، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس اهـ .
ويرد عليه بأن : هل كان هذا مما يعزب عن علمه سبحانه ، أو يخفى عليه جل وعلا ضرورة إعلان هذا بكتابه وبيانه ، لكن الأمر ليس كما فهم هؤلاء ، والقول بأنه يختم الرسل لم يرد بالقرآن على الإطلاق ، مع أنه نص كما في الآية على أنه خاتم الأنبياء ، فما أحوج الأمر لبيان كذلك أنه يختم المرسلين لو كان الأمر كذلك ، ولا يكتفى ببيان مثل هذا الحكم إلا بالتصريح ، ولا تصريح إلا فيما روي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقد بين ما فيه ، وآخر عن أنس وهو حجة لنا لا لهم والحمد لله على توفيقه وتمكينه بالحجة والبيان .
ولا يكفى في هذا الأمر على مقولة ابن كثير : بأن ذلك كائن من باب الأولى والأحرى . بل لابد من الدليل القطعي في مثل هذا ولا شك .
كما أن ابن كثير وكثير ممن اعتقد اعتقاده هذا قوله : أن كل رسـول نبي ولا ينعكس اهـ . جانبوا الصواب وخالفوا الدليل القرآني ثابت النقل عن ابن عباس وأبي بن كعب رضي الله عنهما ، إذ لهم قراءة في إرسال المولى عز وجل للمحدث في السابقين وهـم لم يجيبوا عن ذلك بل تجاهلوه وكأنه لم يكن .
والمحدث كما هو معلوم ليس نبي مع أن الإرسـال متحقق عليه بنص الآية عند ابن عباس وأبي بن كعب ، ما يدل على بطلان معتقد ابن كثير وكل من وافق اعتقاده هذا في السابقين واللاحقين في أن كل رسول نبي ، وبناءً على هذا الخلط قال مقلدتهم الجهال اليوم ببطلان عقيدة المهدي عليه السلام أنه من رسل الله تعالى وكذبوا القرآن والسنة .
ومن المفارقة العجيبة أن ابن كثير رحمه الله تعالى وهو من القائلين بهذا الاعتقاد الفاسد ، قد رفض قول ابن مسعود رضي الله عنه في تأويل آيات سورة الدخان أنه مما مضى وليس خبرا مستقبلا ، واشتهر عنه الانتصار للقول بأن آيات سورة الدخان لم تتحقق بعد بل تحققها آخر الزمان ، واستدل لذلك بما هو مبسوط في تفسيره ، ولا أدري كيف ألمت به الغفلة في كل ذلك ، يثبت لازم تحقق الإرسال بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات سورة الدخان ، ثم يعود لقول هذا : أن كل رسول نبي . مع عقيدته ختم الأنبياء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ، جاهلا كذلك جواز إرسال المحدث وهو ليس نبي ، فتمعنوا واحذروا زلة العالم فإن منها تم الإنذار .
وكل ذلك من اعتقادهم الفاسد أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ختم به الأنبياء والرسل كذلك ، والحق أن المهدي رسول لله تعالى يكون بعده ، وتحقق إرساله حصل بالجزء المستثنى من النبوة ، وعليه صحت عقيدة أن الاستثناء مانع من انقطاع النبوة من كل جزء ، وأن الإرسال كائن بالمهدي عليه السلام بهذا الجزء وهذا مقتضى جميع النصوص وجمعها على الحق المبين الذي مكن به المهدي عليه الصلاة والسلام لإثبات عقيدته ، وهو الغالب بالحجة لكل من خالفه في كل ذلك .
وحتى في قوله تعالى : ﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ . المعنى بات عند البعض غير قطعي في ذات النص مثل ما ذهب إليه الجمهور الذين يقرأون هذا الحرف بكسر التاء ( وخاتِم ) بمعنى أنه ختمهم ، جاء آخرهم ، إذ خالفهم عاصم في قراءته فجعلها بالفتح ، بمعنى أنهم به ختموا ، فهو كالخاتم والطابع لهم ، وهذا هو المراد بهـذا الحـرف وهو الحـق فقد أثبته على هذا المعنى إنجيل المسيح الصحيح عليه السلام ، ويكفي في هذا شاهدا وموثقا لمن هدى الله تعالى قلبه للحق .
(1) رواه أحمد وابن حبان والحاكم .
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/259) .
(3) رواه ابن أبي شيبة تحت باب : من كره أن يقول : لا نبي بعد النبي (6/259) .
(4) وحين يتتبع المرء تلبيساتهم بعزو لفظة " وختم بي الرسل " يعجب من مكر الشيطان بهم في هذا المنكر العظيم مثال ذلك : ما ذكره سفر تعليقا على شرح الطحاوية لإبن أبي العز حين علق على قوله بذلك أن الحديث مروي في صحيح البخاري ومسلم ونص على ذلك بأرقام الحديث في مطبوعتيهما . وهذا منشور في موقعه على شبكة النت .
أما موقع سلمان الأحول الدجال فيطرح عنده في موقعه هذا السؤال : هل خُتم الرسل بمحمد كما خُتم به الأنبياء؟! . فأجاب ( د. محمد بن عبد الله القناص ـ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم ـ ) بالتحريف إذ عد الختم للأنبياء الاولى به ختم المرسلين ! ، ثم ختم ليؤكد ذلك بالعزو لتأريخ ابن عساكر عن طريق السيوطي ، تقليدا لما قاله الألباني ، بل الألباني في هذا أشرف منه فقد ألمح لوهم ابن أبي العز على الطحاوية ، وأن لفظة ( ختم بي الرسل ) ليست في الصحيحين كما ذكر الشارح ، وهذا قناص الشيطان لم يلتفت لذلك واعتمد العزو لإبن عساكر عن طريق السيوطي ، آخذا ذلك عقيدة مسلمة ! .
وآخر يدعى " عثمان خميس " علق في موقع إلكتروني له على شرح الطحاوية زعمه الجاهل الضال أن لفظة (ختم بي الرسل ) حديثها متفق عليه !! .
وآخر يدعي (د. علي بن عمر بن أحمد بادحدح ) علق بموقعه على شبكة النت بأن حديث هذه اللفظة مروي في البخاري عن أبي هريرة من حديث أبي سلمة .
ومن هؤلاء الضلال المدعو ( صالح بن محمد المنجد ) في موقع اسمه ( إمام المسجد ) وهو بإشرافه وفيه يقول هذا المجرم وهو يستدل بحقوق النبي ويتطرق للختم به النبوة والرسالة ! ويستدل بحديث جابر رضي الله عنه لكن من لفظ آخر أعمل هذا المجرم به التحريف وهو قوله : ( أنا خاتم المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ) . ويعزوه للدارمي ولفظه عند الدارمي : ( أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ) . وقد سبق وذكرت لفظه بالمقدمة وغيرها عن الطبراني وهو موافق للفظ الدارمي خلاف ما زعم هذا المجرم المنافق ، الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد علم الوعيد الشديد على من يكذب على رسول الله .