الفصل الرابع

 

وقال حفظه الله تعالى بالنسبة لحجتهم الثانية وهي :

 

 مـا رواه الترمذي عن أنس : عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي لكن المبشرات ) .

 

وهذا الحديث إن سلمنا بصحته فهو حجة لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من المنقطع فلا شك أن المستثنى باقٍ لم ينقطع , والمستثنى بعضٌ من المستثنى منه ولا يلزم أن يكون البعض المستثنى مساو للمستثنى منه ومماثل لـه مطابقة فيكون حينئذٍ في الكـلام الذي يوجب الاستثناء تقدير يوجبه الاستثناء ، فإذا ثبت أن في الكلام تقديراً وكان الأمر المستثنى منه أمر عظيم جداً لا يتهاون فيه ولا يُتساهل وليس في الحديث ما يُحدد هذا التقدير ويعينه فلا شك قطعاً أن في خبر النبي صلى الله عليه وسلم إحالة إلى ما يحدد ويُعين هذا التقدير ويجب أن يكون المحدد والمُعين لهذا التقدير يوجب اليقين والعلم لا الظن ويقطع العذر ويكون المرجع في ذلك إلى القرآن والأحاديث المتواترة حتى تقوم الحجة قياماً عاماً لا خاصاً ويكون هذا المُعين والمُحدد من البراهين التي يشترك في التمكين من معرفتها العامة والخاصة ولا تكون مقصورة على بعض الناس أو للخاصة من أهل العلم والاجتهاد دون من ليس كذلك .

 

فإذا تقرر هذا فإن الاستثناء هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكن المبشرات ) . ونحن قد أقمنا البرهان من الكتاب العزيز على تحديد التقدير وتعيينه ويكون المستثنى من رسل الله التي انقطع بعثها بعد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هو الرسول المحدّث الذي ليس بنبي , وحينئذٍ يكون التقدير هكذا :

 

إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي لكن المبشرات ، يبعث الله بها رسولا ً مُعلّماً مُحدّثاً ليس بنبي يجدد لهذه الأمة دينها . فانظروا عباد الله كيف كانت حججهم براهين لهذه الدعوة المهدية مصدقة لها ومؤيدة لأتباعها وافطنوا لإفلاس المعارضين من البرهان وخلوّ أيديهم من الآيات والدلائل التي تصدق دعواهم ، وهكذا كل حجة أتوا بها فاعلموا أنها لنا لا لهم وعليهم لا علينا فإن الله مولانا ولا مولى لهم .

 

وأوضح من ذاك الذي تقدم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكن المبشرات ) يفتقد إلى خبر إذ أن قوله : ( المبشرات ) مبتدأ والخبر مُقدّم وكون الخبر مُقدّراً في هذا الأسلوب من المسلمات البديهية في علم القواعد والمعاني ويبقى طلب تحـديد المقدّر قائماً ومعلوم أن ( لكن ) هنا استدراكية على انقطاع بعث الرسول والنبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر من الأهمية بمكان وحيث لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الخبر المُقدّر للمبتدأ الذي هو ( المبشرات ) فلا شك أنه أحال على شيء يفصل محل النزاع بيننا وبين مخالفينا ولم يجعل في نفس الحديث ما يفصل النزاع إذ تقدير الخبر لا شك انه كان مقصوداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه إرادة منه في ألا َّ يجعل في هذا الحديث ما يفصل النزاع وإرادة منه أيضاً أن يكون الفاصل لمحل النزاع خارج هذا الحديث فيجب أن يكون فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والحكمة ما يكون فاصلا لمحل النزاع ، ونحن قد أقمنا البرهان في تحديد تقدير الخبر الذي لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً وهدانا الله إلى الدليل والبرهان الفاصل لمحل النزاع ، وأنتم لم تهتدوا إلى ما يكون فاصلا ً لمحل النزاع ، والدليل أنهم يذكرون من الحجج التي لا تمت لمحل النزاع بصلة مثل احتجاجهم بقوله تعالى : ولكن رسول الله وخاتم النبيين ... الآية ، ونحن لم ننازع في أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نقول أن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُبعث نبي أو رسول نبي حتى تكون هذه الآية حجة علينا فإن هذه الآية حجة على من يقول أن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُبعث نبي أو رسول نبي ، ولكنّا نقول أن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُبعث رسول مُحدّث ليس بنبي لمّا قام البرهان على بعثه وليس فيما جاء به نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ما ينفيه حتى يجب نفيه بل هذا هو عين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من ربه كما في سورة الدخان وغيرها .

 

وأيضاً يجب أن يُعلم أن الرسول المنفي بعثُه بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، هو الرسول النبي لقيام علة النفي فيه وهي كونه نبيّاً ، فإذا اتضح أن النفي معلق بعلة فإذا وجدت هذه العلة وجب النفي وإذا انتفت امتنع النفي .

 

ألا ترى أن النبي الذي ليس برسول لا يُبعث كذلك بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وما هذا إلا لوجود علة النفي وعلة النفي هي كونه نبيّاً بغض النظر عن كونه لم يوصف بأنه رسول وإذا كان وصف النبي بأنه رسول أو ليس برسول لا يُؤثر في ثبوت علة النفي كان هذا الوصف أعني الرسول إذا جُرد وانتفى أن يكون ذلك الشخص نبياً عديم التأثير ولا يوجب قدحاً في ختم نبوة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وكان القادح الذي يُوجب النفي هو بعث نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم سواء كان رسولا ً أو لم يكن رسولا ً .

 

وإذا كان الأمر سيان في وصفه بأنه رسول أو عدمه كان هذا برهان صادق على أن الرسول المجرد من أن يكون نبياً لا يعارض بعثه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ختم النبيين إذ أنه ليس بنبي ، وأما الرسول الذي ليس بمجردٍ من النبوة الموصوف بأنه رسول نبي فلا ريب أن بعثه بعد نبينا صلى الله عليه وسلم يعارض ختم النبيين بنبينا صلى الله عليه وسلم لأن بعثه بعد الختم ضد الختم ونقيض له ولأن الرسول النبي المبعوث بعد ختم النبيين نبيٌ وحينئذٍ يبطل الختم للنبيين بخلا ف لو كان رسولا ً ليس نبي فإن هذا لا يبطل الختم للنبيين لان هذا الرسول ليس بنبي ، وإذا تقرر هذا فلا حجة لهم حينئذٍ إلا دعوى عدم إرسال رسول ليس بنبي وهذه الدعوى أبطلناها بآيات الدخان الناصة على بعث رسول مُعلَّم ليس بنبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم .

 

وحقيقة قولهم أن من وصف بأنه رسول وجب وصفه بأنه نبي ، باطل وليس بين الوصفين تلازم لانفكاكها ووجود أحدهما دون الآخر كما وجد نبي ليس برسول وهذا يدل أنه ليس بينهما تلازم إذ أنه يمتنع في بداءة العقول والفطر في الأشياء المتلازمة وجود اللازم دون الملزوم ، أو وجود الملزوم دون اللازم ، وكذلك ثبت في القرآن والسنة الثابتة وصف الملائكة بأنها رسل وهم ليسوا بأنبياء وهذا كله يدل على عدم التلازم بين هذين الوصفين وأيضاً قراءة ابن عباس التي تثبت إرسال المحدّث حجة في هذا المقام .

 

ومع ذلك فإن الحديث رواه الترمذي وفيه رجل اسمه المختار بن فُلفُل وقد انفرد فيه عن انس رضي الله عنه والرجل فيه مقال وبعض أهل الحديث تكلم فيه وعلى هذا وان صح فهو لا يفيد اليقين لأنه خبر فرد وراويه ليس من الحفاظ المتقنين , بل إن خبر الواحد الحافظ المتقن لا يفيد اليقين إذا لم تحفه القرائن هذا بالاتفاق ممن يرون حجية خبر الواحد وهو مقيد بالحافظ .

 

وأما غير الحافظ إذا انفرد فإنه لا يفيد اليقين بل حتى وان عضده مثله أو أقوى منه إذا كان في مرتبته فإذا كان خبر الحافظ إذا انفرد فيه لا يفيد اليقين إلا بالقرائن ، والقرائن لا يعلمها عامة الناس بل إن بعض الخاصة قد تخفى عليه كما ذكر ابن تيمية في منهاج السنة فقال :

 

" وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس فلا يحصل لهم العلم إلا بالقرآن والسنن المتواترة " (1).

 

فكيف يفيد خبر المختار بن فلفل العلم وهو قد انفرد فيه وليس هو من الحفاظ المتقنين فهذه الحجة لا يجوز الاحتجاج بها فيما كان المطلوب فيه العلم واليقين لا الظن , ومن الأصول المتقررة أن الظنيات لا تُعارض بها اليقينيات اهـ(2).

 

أقول : حديث أنس رضي الله عنه رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم ولفظه تاما كما يلي : ( إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ) قال : فشق ذلك على الناس ، فقال : ( ولكن المبشرات ) ، قالوا : يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال : ( رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة ) (3).

 

وفي بعض طرقه أنه قال هذا في جملة كلام معه بلغه لأصحابه في مرضه الذي قبض فيه ، بل أفادت الرواية انه قال ذلك وهم في حال أداء صلاة الجماعة ، كشف غطاء باب بيته وإذا هم يصلون فأبلغهم بذلك ، ما يؤكد على أهمية هذا البلاغ ، لكن للأسف لم يعِ الناس هذا المعنى ويدركوا حقيقته ، ولو كانوا يعون ذلك لما حملوا هذا وغيره على ما يرى سائر الناس من مرائي صادقة ، سواء المسلم والمؤمن منهم ، أو الكافر والمنافق .

 

وآكد ما يؤكد على خصوصية هذا الأمر وأنه مما سيكون في إرسال المحدث المعلم مهدي الله وخليفته في هذه الأمة بعده ، أن أوقع الاستثناء كما هو في هذا الخبر على النبوة والرسالة ، ولا معنى لإيقاع هذا الاستثناء على الإرسال كما على النبوة إلا على ما تقرر في دعوة الحق بعث المهدي عليه السلام ، ولا يمكن لأي أحد الجواب على هذا بغير هذا السبيل .

 

وقد روي عن جمع من الصحابة في الاستثناء على النبوة دون الإرسال منهم عائشة رضي عنها ، وأم كرز ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وعامر بن واثلة ، ولفظ حديث عامر : ( لا نبوة بعدي إلا المبشرات ) . وحذيفة بن أسيد بلفظ : ( ذهبت النبوة فلا نبوة بعدي إلا المبشرات ) .

 

فكل هؤلاء يروى عنهم بالاستثناء في النبوة ما عدى أنس روي عنه في الاستثناء على النبوة والإرسال ، فإما تصرف الرواة كلهم بما روى سائر الصحابة وفلت ما أخبر أنس منهم لم يتصرفوا به ، والزيادة فيما أخبر أنس رضي الله عنه هي الأتم وعليها المعتمد ، إذ أنه أخبر أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض بعده ، يعني من آخر ما تكلم به صلوات وربي وسلامه عليه وبلغ ، فلا يضر بعد ذلك معرفة حقيقة ما كان ، سواءٌ قلنا أن الرواة تعمدوا اسقاط ذلك من رواية غيره ، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبر بذلك إلا آخر وقته فأخبر بما حدث أنس رضي الله عنه وهو مستبعد والمتهم تصرف الرواة بالمعنى والحـذف ! ، والعمدة في أخذ الحديث بتمام خبره ولفظه لا يجوز التحديث به مع إنقاص شيء منه وهذا ينافي أمانة التبليغ مثل ما يسمع الخبر منه .

 

وعلى هـذا يكـون الاستثناء واقع على الرسالة والنبوة ولا وجه للاستثناء في الإرسال إلا على أصل الحق في دعوة الحق وهو إرسال المهدي عليه الصلاة والسلام ، وهذا الأوفق للقول بأن تأويل آيات سورة الدخان آخر الزمان لا تعارض بين ذلك ، على خلاف ما تقرر في اعتقاد الجمهور .

 

فإن قالوا بقول ابن مسعود بذلك كذبوا القرآن لنصه على وصف المرسل بالمعلم وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن المعلم كائن في أمته بعده ! ، وأين ما يصرفون الأدلة يجدونها متضادة في أصولهم ، على خلاف اعتقاد الحق في دعـوة المهدي عليه السلام فأينما تصرف دلالة النصوص لا توجد إلا متوافقة متوالمة ، أما من خالفه فالاضطراب لهم ملازم ، أو أن ينقصوا شيئا من لفظ النصوص ، أو يحرفوا في دلالتها أو يلبسوا في معناها مثل ما حصل ومر معنا في خطأ رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة فأثبتوا خلاف ما هو صحيح ليمرروا باطلهم ويصدوا عن الحق المبين تحريف الشياطين وديدن أولياءه اليهود حين كانوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ، فقد جرى في الإسلام مثل ما جرى في اليهودية .

 

ومن الأدلة التي يصح فيها استخراج هذا المعنى على وفق مـا تقرر في كتابي ، على خلاف أصلهم الفاسد والذي لا يمكن يتم لهم ذلك مثل ما يتم معنا هنا ، فسبحان الله الأمـر كما قلت أين ما تصرف دلالة النصوص لا نجدها إلا على الاتفاق مع الحق المبين في دعوة المهدي عليه السلام والوئام الكامل مع أصولها .

 

ومن ذلك الحديث المشهور في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين ، وهو من أحاديث المتفق رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا . فقال علي : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟! ، فقال له رسول الله : ( ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ، إلا أنه ليس نبيٌّ بَعْـدِي ) .

 

وهنا أثبت لعلي رضي الله عنه المكانة العلية منزلة هارون من موسى ، وكلنا يعلم بأن هارون عليه الصلاة والسلام كان نبيا رسولا ، فأثبت له منزلته منه مع التأكيد على نفي مقام النبوة عنه ! ، مع أن هارون كان رسولا أيضا فلم يتطرق لنفي ذلك بعده مع أن الحاجة تقتضي البيان هنا لإيضاح نفي الإرسال كذلك لرفع اللبس مثل ما اقتضى منه الإيضاح في نفي النبوة بعده ، لكنه لم يفعل تجنبا عن وقوع اللبس بدلا من رفعه ، أو التزام التفصيل وهذا مما لم تقتضه الحاجة بحسب توقفه عند هذا الحد ، مثل ما اقتضت بنفي النبوة عن علي بعده على ما حصل لهارون وموسى ، لكن في الإرسال تم السكوت عن ذلك ، وذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام أنه كائن بعده إرسال من المولى عز وجل على وفق ما تقرر في تفصيلي سابقا ، فلم تكن الحاجة إلا لنفي النبوة بعده .

 

ومن تفكر بظاهر نص الحـديث وحقيقة مـا كان عليه هارون عليه السلام ومقارنة النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مقام هارون من موسى ، ومقام علي منه ، ورأى ما نفى صلى الله عليه وسلم وما سكت عنه في حال هارون أدرك ما أعني هنا وأيقن بالفعل أنه صلى الله عليه وسلم وقاف عند هذا الحد الذي حده الله تعالى في كتابه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بالفعل خاتم الأنبياء لا المرسلين .

 

ولا يقل الجاهل هذا من التنطع أو التعمق أو هو من جنس التشدق ، أبدا الأمـر ظاهر هنا بالحق وهو أجلى شيء لمن هدى الله قلبه والتزم دلالة جميع النصوص ولم يحرف شيء منها أو ينقص من لفظها بحجة الرواية بالمعنى أو الحاجة للاختصار ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما مـر معنا قبل بحديث أنس رضي الله عنه أنه صلوات ربي وسلامـه عليه استثنى في النبوة والرسالات ، فما المانع أن ينفي هنا في منقبة علي ومقارنته بمقام هارون في الإرسال مثل ما نفى في النبوة ، وهناك نراه استثنى في النبوة والإرسال من بعد مـا قرر انقطاعهما بعده ، ولم يكن أي إشكال ، مع أنه في بيانه مكانة علي رضي الله عنه وعلمه أن هناك سيبعث رسولا من بعده معلَّم محدَّث ووصفه بـ " المهدي " كما وصف علي بهذا مع الخلفاء ، وأفرده بالدعاء له بخاصة بـ " اللهم اهدي قلبه " وغيره كثير ، ومع هذا لم ينف عنه صفة الإرسال ولم يحاذر من حصول اللبس بهـذا ليقينه أن هذا المقام محفوظ من الأدعياء على الأقل بعده عن قرب ، عكس مقام النبوة فما زال يُدَّعى مـن الذين كفروا وسيكون آخرهم الدجال الأعور .

 

وبهذا ندرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاف عند قول الله تعالى :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً . لا يتجاوزه ويقول أنه خاتم المرسلين كذلك ولو كان في مقام البيان لرفع اللبس عن ادعاء النبوة بعده مثل ما حصل في حديث منقبة علي رضي الله عنه .

 

هذا وإن التزموا بأن آيات سورة الدخان تأويلها آخر الزمان لزمهم اعتقاد أن المهدي من رسل الله تعالى ، وعليه سيجدون اتفاق دلالات النصوص عندهم كلها على ذلك ، وسيخرجون بهذا أنفسهم مما أوقعوها فيه خصوصا بزماننا حسب ما نرى من هؤلاء الجهلة المقلدة من تناقض مع القرآن وأخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما ننصح آخر مقلدتهم بالنزوع عنه ليهتدوا وإلا بسبيل من هلك والله المستعان .

 

ولا جدال بعد ذلك بأن مراده عليه السلام بأن الإرسال والإنباء منقطع بعده إلا بالمبشرات ما تقرر في دعوة المهدي عليه السلام ونبه عليه ، ولهذا لما شق على الصحابة إخباره بهذا الانقطاع للوحي والإرسال ، ذكر الاستثناء لتطيب خواطرهم ويفرحهم بهذه البشرى العظيمة ويبين لهم أن هذه الأمة لن تعدم من الخير بعده عليه الصلاة والسلام .

 

وقريب من المعنى هنا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله ) . قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى تعليقا على هذا : يعني الرؤيا ـ والله أعلم ـ التي هي جزء منها ، كما قال عليه السلام : ( ليس بعدي يبقى من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ) (4).

 

والاستثناء هنا ، وفي الخبر السابق سواء في المعنى ، والذين أنكروا تحقق الإرسال يريدون عده والنبوة سواء وهم في كلا الأمرين لم يدركوا حقيقة ومعنى الاستثناء ، وقد جهلوا في هذا الباب جهلا عظيما وخلطوا في ذلك خلطا بعيدا ، ويعد هذا مما هم فيه اليوم سببا رئيسيا في صدهم عن سبيل الحق في بعث المهدي واعتقاد أنه رسول من الله تعالى نص على إرساله القرآن العظيم ، وكل ذلك بسبب خلطهم وجهلهم في عدم فهم هذا الأمر على حقيقته الشرعية التي فرض الله تعالى وقدر .

 

ولو وعوا قليلا لأدركوا أن الاستثناء هذا لا يقع على الإرسال إلا بحقيقة شرعية ، وإلا ما كان لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم أي معنى ، بل لعد ذلك ضربا من الخلط والهذيان ، وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يخوض في هذا بغير معنى يريده شرعا ، وحقيقة مطلبه الأسمى إيضاح المعنى الذي عليه دعوة المهدي الآن للناس ، ولكن أكثر الناس لم يدركوا ذلك فهم عنها عمي لا يهتدون نسأل الله تعالى السلامة في ديننا كله .

 

وهم في ذلك حتى لم يدركوا معـنى الاستثناء الواقع على النبوة ، ولم يدركوا حتى الآن أن الجزء المستثنى المعني في الحديث أن عمله من علم الغيب عليهم ، وهم في كل خوضهم ونفيهم يعدون متخرصين على علم الله تعالى ، متحكمين في مقتضى أخباره وحكمته سبحانـه ، يقولون الرؤيا مجرد بشرى عامة لن يكون لها متعلق بوحي خاص لمهدي الله تعالى المجتبى أبدا ، وليس بعد هذا التحكم والتخرص تخرص على وحي الله تعالى وعلم الغيب عنده .

 

وأتحدى الأمة كلها أن تأتيني بمعنى الاستثناء بالإرسال على أي وجه سيكون نفيه عن المهدي ، قولا شرعيا مدعما بالدليل ، لا مجرد الأقاويل والتخرصات ، ولن يقدروا على شيء ، وكيف يقدرون والبله ما زالوا حتى الآن لم يدركوا معنى الاستثناء على النبوة كيف وجهه ؟! .

 

ولا يفوتني هنا التذكير بأن في سابق عهد الناس الخوض في مثل هذا ، وأنهم كانوا يختلفون في إدراك حقيقته وقد تنازعوا أشد نزاع في ذلك للحد الذي رمى بسببه القرطبي الغزالي بالإلحاد ، لكن كلهم يجهلون حقيقة الأمر على التمام ويخلطون في ذلك بأنواع من الأوهام ، كدعوى الغزالي على شيء من الحق أنه هذيان ! وهو لا يعي أن ذلك من الحق ، وما أمكن الجمع بين ذلك كله والربط المحكم لفروعه على أصوله إلا في هذه الدعوة المباركة ، دعوة المهدي عليه السلام .

 

قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لآيات سورة الأحزاب : قال ابن عطية : هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصَّا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم .

 

قال القرطبي : وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية : من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف .

 

قال : ومـا ذكره الغزالي في هذه الآية ، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد ، إلحاد عندي ! ، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة ، فالحذر الحذر منه ! والله الهادي برحمته .

 

قلت ـ القول للقرطبي ـ : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا نبوة بعدي إلا أن يشاء الله ) . قال أبو عمر : يعني الرؤيا ـ والله أعلم ـ ، التي هي جزء منه اهـ(5).

 

قلت : أما هذا الخبر ( لا نبوة بعدي إلا أن يشاء الله ) ، فقد رواه الجوزجاني في الأباطيل وحكم عليه بالوضع والبطلان تشنجا أراه ، وإلا في معناه روي حديث غير موضوع ولا هو بالباطل عندهم ، ومثله تقرر الاستثناء في النبوة بعده صلى الله عليه وسلم ، إلا أن هذا الأمر يبقى مستنكرا عند هؤلاء تقليدا وجهلا ، وقلة هداية وتوفيق لا أكثر ، ومن أدرك الجمع بين هذا وأمر المهدي عليه السلام ، وأيقن حقيقة الرؤيا وأثرها بالوحي الرباني وتكليم الرب عباده سبحانه ، لعرف وجه الاستثناء هنا ولتآلفت عنده دلالة النصوص كلها واتحدت على وجه الحق ، لم تختلف وتتضاد أبدا .

 

ولننظر الآن لما قرره الغزالي في هذا المبحث وعليه قال القرطبي ما قال ، قال الغزالي بعد تشكيكه في ثبوت الإجماع في الباب في مباحثه بالتكفير :

 

الرتبة السادسة: أن لا يصرح بالتكذيب ولا يكذب أيضاً أمراً معلوماً على القطع بالتواتر من أصول الدين ولكن منكر ما علم صحته إلا الإجماع ، فأما التواتر فلا يشهد له ، كالنظام مثلاً ، إذ أنكر كون الإجماع حجة قاطعة في أصله .

 

وقال : ليس يدل على استحالـة الخطأ على أهل الإجماع دليل عقلي قطعي ولا شرعي متواتر لا يحتمل التأويل ، فكل ما تستشهد به من الأخبار والآيات له تأويل بزعمه ، وهـو في قوله خارق لإجماع التابعين ؛ فإنا نعلم إجماعهم على أن مـا أجمع عليه الصحابة حق مقطوع به لا يمكن خلافه فقد أنكر الإجماع وخرق الإجماع وهذا في محل الاجتهاد .

 

ولي فيه نظر ، إذ الإشكالات كثيرة في وجه كون الإجماع حجة فيكاد يكون ذلك الممهد للعذر ، ولكن لو فتح هذا الباب انجر إلى أمور شنيعة وهو أن قائلاً لو قال : يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيبعد التوقف في تكفيره ومستند استحالـة ذلك عند البحث تستمد من الإجماع لا محالة ! ، فإن العقل لا يحيله وما نقل فيه من قوله : ( لا نبي بعدي ) ومن قوله تعالى : ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ . فلا يعجز هذا القائل عن تأويله فيقول : خاتم النبيين أراد به أولي العزم من الرسل ، فإن قالوا النبيين عام ، فلا يبعد تخصيص العام . وقوله لا نـبي بعدي لم يرد به الرسـول ، وفرق بين النبي والرسول والنبي أعلى رتبة من الرسول إلى غير ذلك من أنواع الهذيان .

 

فهذا وأمثاله لا يمكن أن ندعي استحالته من حيث مجرد اللفظ فإنا في تأويل ظواهر التشبيه قضينا باحتمالات أبعد من هذه ولم يكن ذلك مبطلاً للنصوص .

 

ولكن الرد على هذا القائل أن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله ، أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً وعدم رسول لله أبداً ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص ، فمنكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع ، وعند هذا يتفرع مسائل متقاربة مشتبكة يفتقر كل واحد منها إلى نظر ، والمجتهد في جميع ذلك يحكم بموجب ظنه يقيناً وإثباتاً والغرض الآن تحرير معاقد الأصول التي يأتي عليها التكفير ... فالمقصود التأصيل دون التفصيل اهـ .

 

ومن هنا أتى إنكار القرطبي عليه ، إذ عد الغزالي أدلة الباب التي ذكر لا تفيد القطع الذي لا يتطرق إليه الاحتمال ، وأن منتهى مستند الجمهور في ذلك دعوى الإجماع ، وتلك الدعوى أجاز خرقها بالاجتهاد ، وعليه قال القرطبي فيه ما قال .

 

ولا يعنيني هنا التعليق على ما ذكر الغزالي إلا عده القول بأن النبي أعلى مقاما من الرسول من الهذيان !! ، والصحيح أن قوله بذلك هو الهذيان بعينه ، فقد مر معنا سابقا أن هناك قراءة ثابتة لإبن عباس وأبي بن كعب في جواز إرسال المحدث ، وقد أبانت السنة أن المحدث والمكلم دون منزلة الأنبياء من حيث العموم ومـع هذا تحقق في بعضهم الإرسال ، فكيف يصح قول الغزالي مع هذا ؟! .

 

وإنما أوردت كلام الغزالي هنا لإرادة تنبيه القراء على مدى ما بلغ بهم الاضطراب في هذا الباب ، وكيف أن هناك من سبق للتطرق بالحديث عليه ، إلا أنهم يبقون على غير يقين فيه ولا هدى ولا كتاب منير .

 

قال تعالى : ﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ .

 

 


(1) المنهاج (7/516) .

(2) السالمية في نصح أتباع المهدية ( قواعد أصولية مع المخالفين ) .

(3) صححه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي .

(4) ذكره عنه القرطبي في تفسيره .

(5) التفسير (14/196، م7 ) .