الفصل السابع
أقول أبي ، وما أدراكم ما أبي بن كعب رضوان الله تعالى عليه ؟.
جمع القرآن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " خذوا القرآن من أربعة . منهم أبي بن كعب " (1).
ذكره مع آخرين لم يكن منهم زيد رضي الله عنه ، وتقدمهم بالذكر أبي بن كعب رضي الله عنه ، بدأ به في رواية ابن مسعود عند البزار .
وعنه صلى الله عليه وسلم قال فيه : ( أبي أقرأ أمتي ) (2). روي هذا الحديث والذي قبله عن ابن مسعود ، وابن مسعود معلوم مكانه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن وله شرف عظيم أن يحفظ هذا ابن مسعود في أبي بن كعب .
وورد مثل هذا عن عمر رضي الله عنه .
أبي ، وما أدراكم ما أبي ؟ ، فهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيُ آية في القرءان أعظم ؟ ) . فقال أبي : ﴿ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .. ﴾ فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : ( والله ليهنك العلم أبا المنذر ) ! (3).
وقال ابن عباس : قال أبي لعمر : إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل عليه السلام وهو رطب (4).
وروي أيضا أن عثمان رضوان الله عليه كان يعرض عليه الرقاع لتصحيح ما يكتب من القرآن لضمه لمصحفهم ، يقوم ما يكتب القراء في تلك الرقاع وأكتاف الشياه ما كتبوا من كلام الله عز وجل ، فكان يستلم كتف الشاة مرسلة من عثمان فيها آيات من القرءان وعنده زيد لا تمد له إنما تمد لأبي ، فيراجعها وبعد ما ينظر فيها يدفعها لزيد ، فلا يعقب على ما يثبت أبي ، وهذا من أشد التوثيق له في آيات كتاب الله تعالى لو صح لكن بعضهم شكك في ثبوت هذا ولا يضر أبي شيء بعد تزكية الله ورسوله له في هذا ، فما بالهم استنكروا حرفه هذا " ولا محدث " ؟! ، لا شك ما استنكروه إلا من كيد الشيطان بهذا الحرف ليعطله ، وسيمر معنا لتقرير ذلك وإثباته عجائب وتخاليط من الكبار نسأل الله أن يحفظنا برحمته ويوفقنا بتسديده عن أن نضل أو نشقى بكتابه وصفاته .
عن عبد الرزاق قال ثنا أبو وائل المرادي عن هانئ مولى عثمان يقول : لما كان عثمان رضي الله عنه يكتب المصاحف شكوا في ثلاث آيات ، فكتبوها في كتف شـاة وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما ، فناولتها أبي بن كعب ! فقرأها فوجد فيها : ( لا تبديل للخلق ذلك الدين القيم ) ، فمحا بيده أحد اللامين وكتبها ﴿ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ ، ووجد : ( أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسن ) ، فمحا النون وكتبها : ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ ، وقرأ فيها : ( فأمهل الكافرين ) ، فمحا الألف وكتبها : ﴿ فَمَهِّل ﴾ .
قال : ثم انطلقت بها إلى عثمان فأثبتوها في المصاحف (5).
وروى محمد بن سعد عن ابن سيرين : أنَّ عثمانَ جمع أثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فيهم أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت في جمع القرآن .
قال الذهبي : إسناده قوي لكنه مرسل وما أحسب أن عثمان نَدَبَ للمُصحف أبيا ، ولو كان كذلك لاشتهر ، ولكان الذكر لأبي لا لزيد ، والظاهر وفاة أبي في زمن عمر ، حتى أن الهيثم بن عدي وغيره ذكرا موته سنةَ تسعَ عشرة .
وقال محمد بن عبد الله بن نمير وأبو عبيد وأبو عمر الضرير : مات سنة اثنتين وعشرين ، فالنفس إلى هذا أميل . وأما خليفةُ بن خياط وأبو حفص الفلاس ، فقالا : مات في خلافة عثمان (6).
وذكر ابن خيثمة عن يحي بن معين : انه مـات سنة عشرين أو تسعة عشرة .
وقال الواقدي : رأيت آل أبي وأصحابنا يقولون : مات سنة اثنتين وعشرين . فقال عمر : اليوم مات سيد المسلمين . وقال : سمعت من يقول : مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين ، وهو أثبتُ الأقاويل
قال ابن حجر : وقال ابن عبد البر : الأكثر على أنه في خلافة عمر (7). وممن رجح هذا ابن حبان وجماعة .
وعلى الرغم من مكانته الكبيرة هذه عملوا فيما كان يتلو من كتاب الله ما عملوا ، ومن ضمنه هذا الحرف ﴿ وَلا مُحَدَّث ﴾ ، وكان من أبرز النافرين عن قراءته وأكثرهم تشكيكا بها للأسف عمر رضي الله عنه مع شهادته له بالفضل على غيره ! ، حتى بدت منه مضحكة مبكية بحق أبي رضي الله عنه ، حين اعترض خَرَشَـة بن الحـرّ فرأى معه لوحا مكتوباً فيه ﴿ إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ، فقال : من أقرأك ، أو من أملّ عليك هـذا ؟ فقال : أبي بن كعب . فقال : إن أُبيا أقرأنا للمنسوخ . إقـرأ ( فامضوا إلى ذكر الله ) (8).
وهنا الطامة الكبرى ، إذ أبي كان يقرأ بما أثبت لاحقا في مصحف عثمان وبان لهم انه ليس من المنسوخ ! ، وعمر رضي الله عنه خالفه في ذلك عنادا مع التطاول عليه مرارا بدعـوى النسخ وكان قال له وهو غاضب : يا أبي لن تنتهي ولن ادعك ! .
وكان في ذلك فرية كبرى أخذت بمثل هذا السقط ونهجت به تأصيلا على أن قراءة أبي منسوخة ، وهذا عمر مثل ما يرى القارئ يهفو بمثل هذا على قراءة أبي ثم يأتي بعده من يؤصل على القراءة التي عند أبي في مصحفه أنها منسوخة فيطرح كل ما خالفهم فيه ، وكان يشكو من ذلك بمرارة وله مع عمر هنات وهنات لا يتسع المقام هنا لسردها كلها خشية التطويل وحذرا من التشتيت .
روي عـن عمرو بن دينار عن بجالـة : أن عمر مـر برجل يقرأ في المصحف ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبُوهُمْ ﴾ فقال عمر : لا تفارقني حتى نأتي أبي بن كعب ، فأتيا أبي ، فقال : يا أبي ألا تسمع كيف يقرأ هذا هذه الآية ؟ فقال أُبي : كانت فيما أسقط ـ يريد من الجمع أيام أبي بكر رضي الله عنه ـ ، فقال عمر : فأين كنت عنها ؟ ، فقال له أبي : شغلني عنها ما لم يشغلك (9).
روى هذا الأثر عن ابن لهيعة عن عمرو بن دينار ، أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن والنص فيه نوع إبهـام وهو مفسر عند إبن شبة في تأريخ المدينة ، رواه عن سفيان عن عمرو ولفظه :
مر عمر رضي الله عنه بغلام معه مصحف وهو يقرأ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ( وهو أب لهم ) فقال عمر رضي الله عنه : يا غلام حكها ، فقال : هذا مصحف أبي بن كعب ، فذهب إلى أبي فقال : ما هذا ؟ فنادى أبي بأعلى صوتـه ، أن كان يشغلني القرآن ، وكان يشغلك الصفق بالأسواق ، فمضى عمر رضي الله عنه .
وذكر القرطبي : أن ابن عباس قرأ بهذا الحرف (10).
والأنكى أن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم نجد فيما أنزل علينا ﴿ أَنْ جَاهِدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ فإنا لا نجدها ، قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن !! (11).
وهذا مما لم يعيه أكثر من خاض في هذا الباب وهو لا يدري بحقيقة ما جرى ، إذ القول بالإسقاط هنا فيما جمع بزمان أبي بكر الصديق ، وقد زيد الإسقاط إسقاطا بزمان عثمان فهل من مدكر ، أو معتبر بأن دعوى النسخ على هذه الحروف مجردة من الصدق ، ولو قال بها عمر رضي الله عنه وهو رأس من زعم على الأحرف المفقودة والمسقوطة أنها منسوخة ، ومنها حرف أبي رضي الله عنه ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ .
أساس مذهبهم في قراءة أبي وتأصيلهم تجاهلها
عن أبي إدريس الخولاني ، أن أبا الدرداء وأصحابا له خرجوا بمصحفهم حـتى قدموا المدينة يثبتون حروفه على عمر وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب يقرأ عليهم آي : ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَوْ حَمَيْتُمْ كَمَا حَمُوا لَفَسَدَ المَسْجِد الحَرَام ﴾ قال : فأخبروا بذلك عمر وزيد بن ثابت فقال عمر رضي الله عنه : علي بأبي ، فخرج إليه رسول عمر ورجل من أصحاب أبي الدرداء ، فوافقوه يهنأ بعيرا له بيده ، فسلما عليه ثم قال له المديني : أجب أمير المؤمنين فقال : وما ذاك ؟ فاحتواه الأمـر ، فالتفت إلى الشامي فقال : مـا كنتم تنتهون معشر الرُكيب حتى يشدفني منكم شر فقال : تقول هذا لهم وفيهم أبو الدرداء .
ومضى أبي ولم يغسل يده وفيها القطران حتى سلم على عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : يا أبي ، اقرأ . فقرأ كما أخبروه فقال : يا زيد ، اقرأ . فقرأ قراءة العامة ! فقال عمر : اللهم لا علم إلا كما قرأت ، فقال أبي :
أما والله يا عمر إنك لتعلم أني كنت أحضر ويغيبون ، وإن شئت لا أقرأت أحدا آية من كتاب الله ! ، ولا حدثت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم غفرا ، قد جعل الله عندك علماً ! ، فأقرئ الناس وحدثهم ! .
قال : فكتبوها على قراءة عمر وزيد (12).
وبهذا نعرف تأصيلهم في قراءة أبي ومصحفه بطرح حرفه ، وأنهم كانوا يقدمون عليه من يقرأ بغير زيادته وقد تكون تلك القراءة بحرف آخـر توهما منهم عليه رضي الله عنه ، ولا حجة لهم بهذا عليه بتاتا ، بل هم مخالفون لما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يقرأ المرء كما علم ، والمخالفة المنكرة هنا أن يقصى مصحفه ويعتمد غيره بهـذا التوهـم منهم غافلين عن مسألة حروف القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استودعها بعض أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، وأن في جملة تلك الحروف زيادات هامة جدا من كلام الله تعالى تحمل معنى نبوئي لا يجوز تكذيبه ولا طرحه بأي حال وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيداع ذلك بين أصحابه وهو المعنى الأهم في جملة الحروف السبعة ، لكن العمل وما حصل على خلافه ، فسبحان من يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد .
كما أقصي مصحف ابن مسعود وغيره أيضا مثل ما حصل منهم مع أبي رضي الله عنه ، ومثله حصل مع مصاحف زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يُعتمد ما يرجحه عمر وزيد ! ، أو يكون في رقاع مثبت أنها بزمان المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أو تكون آيـة أو آيتان يجدونهـن بصدور الرجال من هنا أو هناك ، أمـا ما جمع قراءُ هذه الأمة مثل أبي وابن مسعود فالأصل فيه وهذا العجب الوقف ، إلا ما شهد له زيد أو عمر ، أو لسان قريش عموما وغير ذلك يرد ، ولا أدري إن كان حرف منزلٌ وما عرفه لسان قريش وقد استودع عند غيرهم ، وما علمه لا زيد ولا عمر ولا غيرهما فمن أين يأتي من حفظه من هؤلاء على مثل هذا بالشهادة ؟! على ما أصل عمر هنا رضي الله عنه ، فسقط بذلك هذا الحرف منهم على أبي ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ ، وتحقق بذلك تحريف الكلم من بعد مواضعه ، عين ما حصل في بني إسرائيل ، والأمر لله في الأول والآخر .
وهذا منكر ولو فعله عمر أو عثمان ، بل باطل خلاف سنة الله ورسوله ، والباطل لا يأت بخير بل مصيره للزوال ، ولذا نحي في النهاية ما كتبه عمر وزيد ومُزِعَ على يد عثمان وزيد لاحقا ، وما أثبته زيد بالمصحف بين يدي أبي بكر وعمر نزع لاحقا وحرق ، أو مزع بدلا من أن يعتمد ويصبح هو الأصل مثل ما كان في زمن أبي بكر حين أجمعوا على أنه قرآنا وأنه أصل عن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ واتفقوا على ذلك ، لكن الذي حصل أن صار التالي مقدم على السابق ومثبت بدلا منه ، وجرى عليه مثل ما جـرى على غيره ، وفي هذا دليل على بطلان دعواهم المتأخر ينسخ المتقدم وهذا كله مما اعتُقِدَ منهم بالرأي لا غير ، ويبقى هذا جمع بشري لا يصح بتاتا أن يقال هذا حرف من حروف القرآن ، بل حروف القرآن ما استودع عند أبي وابن مسعود وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يسلم حـتى مصحف جمع البشر على مـا ثبت ، فأخذ التالي ينسخ السابق فيمزع !! .
وقول عمر السابق : ( اللهم غفرا ، قد جعل الله عندك علماً ! ، فأقرئ الناس وحدثهم ) . يبقى أهون مما جرى في زمان عثمان ، فعمر رضي الله عنه هنا يُقر أبي بن كعب على قراءته ويأذن له بالتحديث وتعليم ذلك ، لا يقهره ويمنعه ولو حقق عليه وتثبت فيه .
ويؤخذ من هذا مذهب في حرف أبي أن قراءته جائزة مأذونا بها من خليفة راشد وهذا سنة ، وهذا خلاف ما عليه الجمهور ، وخلاف ما تقرر في زمان عثمان لاحقا حين وظف الأمر توظيفا سياسيا بامتحان الناس في الطاعة الأموية في ذلك من بعد ما عطلت قراءة الحروف سوى ما أثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه ، خلاف سنة عمر هذه ، فكان يبتلى المرء فإن أذعن لهم في ذلك عرفوا أنه لما سواه أذعن ، وإن عصى كان لما وراء ذلك أعصى ! ويراد بذلك محبته وعدم كراهة ولايته ، فانقلب الأمر بذلك في بني أمية ابتلاء وامتحان سياسي أكثر منه ديني شرعي ، حتى بلغ ببعضهم الإنكار على ابن مسعود لا حرفه بالقرآن فقط ، بل خطبته كل خميس وذكره خطبة الحاجة وإخباره ببعض أشراط الساعة نسأل الله تعالى المعافاة والسلامة .
وفي البخـاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر رضي الله عنه : " أقرأُنا أبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ، وذاك أن أبيا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله تعالى : ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ " .
أقول : أما النسخ فعلمنا أنها دعوى كاذبة على الكثير من تلك الحروف ، خصوصا حرف أبي محل تقريري هنا ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ .
أما النسيان فكما مر معنا ترحم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقارئ الذي ذكّـَرَهُ بعض آي كان نسيها من القرآن الكريم كلام الله تعالى ، ولعل هذا القارئ أبي أو ابن مسعود ؟، فكانت تلاوته وحفظه منقبة له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكره بما حفظ ما نسي هو صلوات ربي وسلامه عليه ، وعليه يكون مـا نسي ووجد من ذكر به أن هذا يعد من المناقب ، وعمر قلب القضية فرغب أن يبقى المنسي منسيا مطموسا مقصيا والتذكير به مذمة منقصة ، لا يريد أحد يذكرها ، بل يعمل على رده إذا ظهر والعياذ بالله تعالى والهادي الله عز وجل ، وما أسعفه الله تعالى بالتحديث في هذا ولله الأمر يقضي بما يشاء سبحانه ويقدرُ له .
وعليه أقول : الحروف لا ينسخ بعضها بعضا وليس صحيحا زعم عمر رضي الله عنه هنا ، بل يبدو الأمر كان ملتبسا عليه كما مر معنا وسيمر ، وأظهر دليل على هذا زيادة على مـا سبق وذكر من تقرير أن الأخبار لا تنسخ بحال ، كذلك عمر نفسه رضي الله عنه فيما روى عنه سعيد بن المسيب ، أنه قال : " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم رسـول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ، فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : ﴿ الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ ﴾ ، فإنا قد قرأناها " (13).
وقال أبي بن كعب : " كأين تقرءون سورة الأحزاب ؟ " قال : قلت : إمـا ثلاثا وسبعين ، وإما أربعا وسبعين . قال : " أقط ؟ إن كانت لتقارب سورة البقرة ، أو لهي أطول منها ، وإن كانت فيها آية الرجم " . قال : قلت : أبا المنذر وما آية الرجم ؟ قال : ﴿ إِذَا زَنَيَا الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ نَكَالا مِنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيم ﴾ .
قال الثوري : وبلغنا أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن (14).
وعن مجاهد : كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ، ولم يذهب منه حلال ولا حرام (15).
وهذا والذي قبله عن عمر دليل على زوال شيء من الحروف من غير نسخ ، بل إما نسيان أو ذهول ، أو شك وريب وتكذيب بثبوته مثل ما حصل مع حرف أبي ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ والذي دار على إلغائه كل هذا المبحث ، فإن مسألتنا هذه وتقريري فيها مرده لإلغاء هذا الحرف النبوئي العظيم ، وهو أهم ما ألغي لما تعلق به من عقيدة إيمان أو كفر ، تصديق وإقرار أو تكذيب ونكران ، ومن بابه أتت ضرورة إثبات تفاصيل هذا المبحث ولو على هذا الوجه الكلي الإجمالي ، ولعل الله ييسر تقريره لاحقا بكتاب يُثبت فيه هذا الأمر عقيدة للمهدي عليه السلام يتحمل تبعتها ومسؤوليتها أمـام الله تعالى يوم القيامة .
أقول : ومـا أوردت عن عمر رضي الله عنه قبل يَرُدُ على اختياره دعوى النسخ ، إذ هنا يعلم يقينا بأن هذه الآية على الرغم من أن فيها حد شرعي عظيم معمول به ومع هذا مـا جرأ خشية الناس أن يثبته بالمصحف الذي جمعوا ، ولو كان يقينا أنه مما نسخ تلاوة لا حكما عنده لما قال ما قال ، لكنه وعلى الرغـم من علمه أنه قرآن وبه حـد واجب ومع هذا لم يثبته ، فكيف بحرف أبي هذا أيصح بعده إسقاطه بدعوى النسخ أو التكذيب المجرد ؟! ، لقد باتت العملية مثل مـا يرى القارئ تساهل وشبه عبثية بكلام الله المتيقن أنه كلامه سبحانه ، والغير مقطوع به أنه مما نسخ وبه حد شرعي عليه العمل عندهم ، ومع هذا لا يثبت فما لهم حجة في دعوى النسخ على ما سواه على هذا .
وعن عمرو بن عامـر الأنصاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فرفع الأنصار ، ولم يلحق الواو في الذين ، فقال له زيد بن ثابت : ﴿ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقال عمر : ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم . فقال عمر : " ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك فقال أبي : والذين اتبعوهم بإحسان فقال عمر : " فنعم إذا " . فتابع أبيا (16).
وبهذا يتضح مذهب عمر في جمع المصحف ، إذا وافق أبي زيدا اعتمد ذلك ، وإن اختلف زيد وأبي رجح بما يراه هو ، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه فيما اختلفوا فيه من الحروف ، لا عبرة عنده بحرف عن حرف ولا يدري ذلك يبدو ! .
وكان أبي بن كعب رضي الله عنه كما مر معنا قبل لا يثبت حرفا فيما زعموه مصحفا مجموع ، ولا ينفيه وهو مذهبه في عدم سنية الجمع التلفيقي هذا عنده ، وعلى هذا صريح السنة كما سيمر معنا لاحقا .
مذهب بعض الصحابـة والتابعين
عـدم مشروعية جمع القرآن في مصحف واحد
عن محمد بن سيرين ، أن عمر رضي الله عنه سمـع كثير بن الصلت ، يقرأ ﴿ لَوْ أَنَّ لابْنِ آَدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِياً ثَالِثاً وَلا يَمْلأُ جَوْفُ ابْنُ آَدَمَ إِلا التُّرَابْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَنْ تَاب ﴾ فقال عمر رضي الله عنه : ما هذا ؟ قال : هذا في التنزيل فقال عمر رضي الله عنه : من يعلم ذاك ؟ والله لتأتين بمن يعلم ذاك أو لأفعلن كذا وكذا قال : أبي بن كعب .
فانطلق إلى أبي فقال : ما يقول هذا ؟ قال : ما يقول ؟ قال : فقرأ عليه فقال : صدق ، قد كان هذا فيما يقرأ قال : أكتبها في المصحف ؟ قال : لا أنهاك ، قال : أتركها ؟ قال : لا آمرك " (17).
أقول : قد يقرأ الكثير هذا ولا يعون معناه ويدركونه ، وسببه أنهم لم يفقهوا حقيقة الحكمة التي لأجلها أنزلت الحـروف السبعة ، وأن جمع تلك الحروف في مصحف واحد محال مناف لتلك الحكمة التي اقتضت إنزال تلك الحـروف على ذاك النحـو ، ولو كان هذا مشروعا لأمـرَ به الله سبحانه رسوله ، ولأمر رسوله بذلك كُتَّاب الوحي من حوله ، هذا على الرغم مما يقع له من نسيان في بعض آي من كلام الله تعالى على ما رواه البخاري في صحيحه رحمـه الله تعالى قال عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمع النبي صلى الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد ، فقال : ( يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا ) .
ورواه ابن حبان وإسحاق ابن راهوية ولفظه عنده : ( ليرحم الله فلانا ، كأين من قراءته أذكرنيها وقد كنت نسيتها ) . ولو كان مشروعا جمع القرآن بكتاب واحد لبادر من مثل هذا لجمعه ، لكنه لم يفعل .
وهذا ما جهله عامة الأصحاب وتقلدت الأمة بعدهم هذا فصُوبَ جمع القرآن ، ولأجل ذلك التزموا تصويب إطراحهم بعد ذلك ما استنكروا من قراءات بعض الصحابة بحجة خوف ذهاب القرآن أولا ، ثم بحجة الاختلاف لاحقا ، فصار ذلك من أصوب الصواب عندهم ، بل من المجمع عليه والعياذ بالله تعالى ، ولا يخالفهم في ذلك عندهم إلا ضال مخالف للجماعة وما جرى منهم على ابن مسعود ومصحفه مشهور ، مـع أن أصـل هذا العمل غير مشروع بل محدث ، عملٌ ليس عليه أمر الله ولا رسوله بل هو خلاف ذلك ، وهذا أعظمُ لبـسٍ وقعت به الأمـة وضلت به حـتى جحدت بمكر إبليس قرءانا يهدي الله به إلى حقيقة أمر المهدي عليه السلام ، وأنه رسول لله تعالى وخليفة بأمره ، فطرحوا بتلك الضلالة حرف أبي بن كعب المذكور فأخطأوا المثناة في أمر المهدي عليه السلام مكرا من الشيطان وطمسا لنبوءات القرآن في هذا الأمر العظيم الجلل ، وانقلب الإيمان عندهم كفرا ، والتصديق بحرف من كتاب الله تعالى تكذيبا ، وسرى فيهم هذا ليومنا هذا يتوارثونه قرنا بعد قرن ، كلهم يعتقد هذا الأمر الحق المبين باطلا وكفرا والعياذ بالله تعالى ، والله يهدي من يشاء لصراطه المستقيم .
والذي أراده أبي رضي الله عنه فيما قال لعمر هو عندي دال على مكانة هذا الصحابي الجليل وسعة علمه بكتاب الله تعالى ، مثل ما قال عمر وزكاه الله تعالى ورسوله في ذلك ، أنه أقرأ الأمة وأعلمها بحقيقة ذلك من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان من علمه رضي الله عنه أن ابن عباس يأخذ القراءة عنه ، ونراه هنا امتنع وتوقف إن صح التعبير بالقول في كتابة شيء من القرآن على مثل ما يريده عمر ، فهو قد استُودِع ما أيقن أنه قرآن عنده ، وأثبت ما قرئ عليه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يرى لنفسه جواز الأمر أو النهي عن الكتابة في سواه ! .
ومن هذا ، ومن كذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأمة أن تجمع سائر القرآن في مصحف واحد اعتقدت أن ما فعل غير مشروع ، فبه تتضارب حروف القرآن ويختلط بعضه ببعض ، وهذا عين ما حصل لما فعلوا هذا المنكر المحدث وكل محدثة ضلالة ، فتضادت الحروف على حسب رأيهم فجوزوا بعد ذلك لأنفسهم إلغاء ما ألغوا من كلام الباري عز وجل ، وهل عاقل لو تصور هذا تصورا معقولا إلا أنكره أشد الإنكار .
قال زيد : كنا نقرأ : ﴿ الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ ﴾ فقال مروان : ألا تجعله في المصحف . قال : ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان ؟ ذكرنا ذلك وفينا عمر فقال : أنا أشفيكم قلنا : وكيف ذلك ؟ قال : أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن شاء الله فأذكر كذا وكذا فإذا ذكر آية الرجم فأقول : يا رسول الله ، أكتبني آية الرجم قال : فأتاه فذكر ذلك له فذكر آية الرجم فقال : يا رسول الله ، أكتبني آية الرجم قال : " لا أستطيع " . رواه النسائي في الكبرى وفيه انقطاع وقد وصله أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من طريق قتادة عن يونس بن جبير ، عن كثير بن الصلت قال :
كان سعيد بن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف ، فمروا على هذه الآيـة ، فقال زيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ﴿ الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ ﴾ ، فقال عمر : لما أنزلت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أكتبنيها ، قال شعبة : ، فكأنه كره ذلك ، فقال عمر :
ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد ، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.
قلت : هذا مشكل كبير جدا ، بغير كونه دليل على كراهة كتابة أحرف القرآن عند غير من تُخَصّصّ له ، فقد فهمت من هذا وما يلي أن هذا الحد عطل على الرغم من نزول قرءان به من الله تعالى وهو بحق مشكل كبير ، وكأنهم فهموا هذا من تضـارب المنقول عن عمر رضي الله عنه ، فحسبوا عليه أنه يرمي لنسخ هذا الحكم وهذا باطل وظاهر كلامه وموقفه لا يدل على هذا ، فقد روى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه سمع سعيد بن المسيب ، يقول : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
" إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ! ، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ، فوالذي نفسي بيده لـولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : ﴿ الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ ﴾، فإنا قد قرأناها " (18).
وهذا يفهم منه أن ذلك حد واجب العمل به ولذا أحب كتابة الآية بالمصحف تثبيتا لحكمها لو ما خشية الناس من مقولتهم أن عمر كتب هذا ! .
وقول زيد وما حكى بعضهم عن عمر على ما نقل قبل عن رواية أحمد في مسنده يوهم أنهم كانوا يرونه مما نسخ والعمل على خلافه ، فإن كان هكذا الأمر عندهم فهو باطل ولا يصح دعوى النسخ على هذا ، وقوله تعالى هنا مطلق في الشيخ يدخل فيه من أحصن ومن لم يحصن ، يبين هذا الوجه أن لو أراد المحصن لنص عليه ، لكنه لما لم يبين ذلك وعمم فيهما دل هذا على أن ذلك مما لا يشترط له الإحصان ، فكل شيخ سواء محصن أو غير محصن يرجم ، ومن باب أولى على هذا أن يرجم المحصن شيخا كان أو شابا ، لا وجه عندي لهذا غير هذا الذي قلت ، ومن ادعى منهم أو كان هذا مراده بما قال بالتفريق ما بين الشيخ الغير محصن ، وبين الشاب المحصن ، فقد أخطأ وضل وبذلك أرى أن قد عُطِلَ حدٌ من حدود الله تعالى بدعوى كاذبة في النسخ ، ولو كان هناك شيء صريح لدعواهم في هذا لما احتاجوا لهذا التبرير ( ألا ترى ، ألا ترى ) .
وكانت هذه الآية في جملة آيات سورة الأحزاب إلا أنها لم تحفظ ذهب أكثرها ومنها هذه الآية وآية الرضاع والتي هي الأخرى ادعوا عليها النسخ ! .
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب : " كأين تقرءون سورة الأحزاب ؟ " قال : قلت : إما ثلاثا وسبعين ، وإما أربعا وسبعين . قال : " أقط ؟ إن كانت لتقارب سورة البقرة ، أو لهي أطول منها ، وإن كانت فيها آية الرجم " !!.
قال : قلت : أبا المنذر وما آية الرجم ؟ قال : ﴿ إِذَا زَنَيَا الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ نَكَالا مِنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيم ﴾ .
قال الثوري : وبلغنا أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن (19).
وعند أحمد في مسنده بلفظ : " كأين تقرأ سورة الأحزاب ؟ أو كأين تعدها ؟ " قال : قلت له : ثلاثا وسبعين آية ، فقال : " قط ، لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ! ، ولقد قرأنا فيها : ﴿ الشَيْخُ وَالشَيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ نَكَالا مِنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيم ﴾ .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً ، فلقد كان في صحيفة تحت سريري ! ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا بموته ، فدخل داجن فأكلَهَا (20).
قلت : سبحان الله إن كان هذا مع نومها تعلوها فبطن الداجن خير من ذلك مكانا إذاً ، وقد حرموا بركته لذلك ، أما إن كان لذلك تأويلا وليس بمستبعد ، كـأن استودعتها ذلك المكـان مبالغة بالحفاظ عليها لحين تحتاج إخراجها في نهارها ذلك فتخرجها ، أو أن يكون هذا السرير مما لا يستخدم ويحفظ تحته حاجياتهم العزيزة بات كالخزانة ، والله أعلم بوجه ذلك ، لكن الأهم هنا تقرير كذب ادعاء من ادعى على هذا النسخ لمجرد أنه فقد وقد رأينا كيف عمر كاد يثبتها بالمصحف وأفاد مجمل كلامه أن العمل على هذا الحكم ، ولا يخلو الأمر من التباس في هذا الموضع حسب نظري ، ويحتاج لتحرير ، فلربما عطل هنا حد من حدود الله تعالى ، وأن مراد الله تعالى بحكمه هذا أن الشيخ الغير محصن والشيخة يرجما كحال الشاب المحصن ، بخلاف حال الشاب الغير محصن ، فإن كان هذا وجه الأمر وليس ببعيد عندي ، فهو سبب اضطرابهم في ذلك وتخبطهم بدعوى نسخ التلاوة وبقاء الحكم حتى غم عليهم في هذا الموضع ، وهم بالحقيقة أضاعوا الحكم والتلاوة على هذا لم يصيبوا من ذلك شيء ، والأمر يبقى يحتاج لزيادة تحرير ونظر .
أما بخصوص مـا نقل قبل من امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم إملاء هذه الآية لعمر فهو يثبت مـا تقرر من كلامي أن الحروف والقرآن لا يستودعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأشخاص هو يعينهم ، وهذا من الحجة القاطعة في ذلك ، حتى بقت تلك الآية في جملة آيات أخر بالرقاع الذي قالت عائشة رضي الله عنها أن الداجن أتت عليه ، والله أعلم من يكون هذا الصحابي الذي أودعت عنده كامل تلك الآيات وذُهب به أيضا في اليمامة أو غيرها ، أما من اعتقد وهو ما عليه رأي العامـة أن فقدان تلك الآيات هو الدليل على أنها مما نسخت فهذا منكر عظيم وهو للأسف ما عليه جمهورهم ، ولم ينسخ الله تعالى ذلك ، بل الداجن نسخ ذلك ! .
روى ِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ في كتابه فضائل القرآن عن محمد بن سيرين ، عن عكرمة ، فيما أحسب قال : لما كان بعد بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، قعد علي بن أبي طالب في بيته . فقيل لأبي بكر : قد كره بيعتك . فأرسل إليه فقال : أكرهت بيعتي ؟ فقال : لا والله قال : ما أقعدك عني ؟ قال : رأيت كتاب الله يزاد فيه ، فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه .
فقال أبو بكر : فإنك نِعّمَ ما رأيت .
قال محمد : فقلت له : ألفوه كما أنزل ، الأول فالأول ؟ قال : لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا . قال محمد : أراه صادقا اهـ .
بل هو يقينا صادق ، ومحال جمع الحروف السبعة ولو كان ممكنا هذا لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يأمر بذلك لاستحالته ، بل يعد جمـع مصحف واحـد مناقضا لأساس الحكمة مـن إنزال القرآن على الحروف السبعة .
أعود فأقول بعد الذي فات : أنه لا يصح بحال دعوى من ادعى أن هذا الحرف من قراءة أبي بن كعب ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ أنه مما نسخ ، كيف وأبي لا زال يقرأُ به ، وعنه أخذ ذلك ابن عباس وثبت عنه أنه قرأ به ، وأيضا عنه أخذ أبو هريرة رضي الله عنه وكان يقرأ عليه القرآن ولم ينقل عنه إنكار ذلك ، ولو لم يكن ذلك عنده من كتاب الله تعالى لما قرأ به ولا أخذه عنه غيره ، إنما هي دعوى على كتاب الله تعالى (21).
وعن علقمة أن أبا الدرداء قال له : كيف تحفظ كان عبد الله يقرأ : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ قال علقمة فقلت : ﴿ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى ﴾ قال أبو الدرداء : والله الذي لا إله إلا هو لهكذا أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى فيّ ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردوني عنها ! .
وفي لفظ : فما زال بي هؤلاء حتى شككوني ! (22).
قال ابن تيمية رحمـه الله تعالى : الذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة : أن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ! . والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول اهـ (23).
هذا كذب محض وافتراء زائف ، بل مصحف عثمان ما هو إلا تأليف من الأكتاف والرقاع وجمع من الشتات ، فمنه ما وقع به خلل وقد بُين منه الكثير بل شهد عليه دخول اللحن وخطأ النساخ وهو عين ما كان يخشاه عمر أول أمره لما عرض عليه جمع الناس على مصحف فكان يخشى يجمع فيدخله الخلل ، وكان ذلك مانعا من جمع الناس على مصحف واحد عنده مثل ما عمل ذلك بعده في زمن عثمان .
ومنه ما فاتهم جمعه وذهب به ، إما بموت الرجال ، أو بما أكله الدجاج ، وزادوا على ذلك ما تعمدوا طرحه افتراءً على كلام الله تعالى وقرآنه العظيم ، ومن قال بهذا الذي قاله ابن تيمية قديما وحديثا وهم ، وهو أخف كذبهم على القرآن ، وأشده تلبيسا من زعم أن ما جمع في زمان عثمان قد نسخ كل ما عداه ، وهو اعتقاد من لُبِسَ عليه دينه ولبَّسَ على من ورائه من الأمة بإعادته وتقريره ، ولا يجوز لأحد قوله واعتقاده وهو يجهل إلى هذا الحد حقيقة الحروف السبعة وحقيقة ما حصل لها ، والذي حصل بتلك الفعلة يعد خطأ فادحا وخطبا جللا لا يرضي الله ورسوله ، يحتاج المرء لبيان مدى سوئه مصنفا كاملا ، لكني أقتصر على ما أوردت في هذا الفصل وقد أطلت مكرها ورغبتي أن أختصر ، لأوضح ما يمكن بالإشارة وإلا الأمر لا شك يحتاج لمده في الإطالة وبسط نشره عبارة بعد عبارة تفصيلا من أجل إيضاح وجه الأمر الملتبس هنا ، ولعل الله ييسر لنا في قـادم أيامنا ذلك لإحكـام تحقيقه بإذنه وفتحه وتيسيره .
ومما قال رحمه الله تعالى أن مقابل المذهب السابق مذهب : طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام الذين ذهبوا إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحـرف السبعة ، قرر هذا طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وغيره . بناء على أنه لا يجوز على الأمـة أن تهمل نقل شيء من الأحـرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف العثماني وترك ما سواه ! .
قال هؤلاء : ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة .
وقال : ومن نصـر قول الأولين ـ أي أن المصحف حـرف لا كل الحروف ، وهو المرجح عنده بائن هذا من سياق كلامه ـ يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره . من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجباً على الأمـة ، وإنما كان جائزا مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ! اهـ .
وهذا كله تخليط وتزييـف باطل على كتاب الله تعالى المنزل على الأحـرف السبعة التي طمست لا كما زعم هؤلاء أنها حفظت ، بل طمست على الصحيح ومنها حرف أبي رضي الله عنه ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ .
بل أقول : قد اختلط كلام الله تبارك وتعالى بعضه ببعض وما عاد يمكن التمييز بين كل ذلك بعد ما طرح منه ما طرح ، وفقد منه ما فقد سواء بالنسيان أو التمزيع وحرق النيران ، ثم أتى هؤلاء الأدعياء ليقولوا بعد ذلك الكذب يثبتون المنكر على أنه حق ، وأنهم بما جمع السلف أتوا على الأحرف السبعة كلها ولم يسقط منها شيء وهذا قول باطل وتخرص ممجوج ، وأهونهم قولا كما قلت من قال : إنما هو حـرف من الحروف السبعة . يتخرصون مختلفين في حقيقة ما جرى ، ومـا أكذب القول هنا بأن : الأحرف ليست واجبة القراءة ! .
وهذا عين التلبيس ، لأنه كلام صحيح في قراءة الصلاة ليس لأحد إيجاب حرف دون حرف بل القراءة تكون منه بما تيسر ، لكن قوله يعد رأس الباطل في طرح الحـرف من السبعة ومنعه على ما فعل الكافة واتفقوا عليه سواء داخل الصلاة أو خارجها ، حتى اجتهدوا وحرصوا يحرقون ويمزعون كل ما عدى الذي جمع ، وأبطلوا الصلاة بالقراءة بأي حرف منها غير مذكور بما جمع وبات ذلك عندهم منكرٌ عظيم وهو من كلام الله تعالى ، فأبطل المخلوق كـلام الخالق ! ، بادعاء النسخ كذبا وزورا وهذا مما قاله وأصله بعضهم : أن هذا تم ( أي النسخ ) بما جمعوا وانتقوا مما وجدوا من كلام الله تعالى فكان ذلك ناسخا لما سواه من كلام الله تعالى ، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم ، نبرأ منه إلى أن نلقاك .
وهذا كله تخليط ومراء بالقرآن وتكذيب لبعضه ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ومع هذا وقعوا بكل ذلك والعياذ بالله تعالى بما فعلوا من انتقاء وجمع غير مشروع عطلوا به سائر الحروف وطمسوا وجه معرفة ذلك وتمييزه ، فاختلط كلام الله تعالى بعضه ببعض لا يمكن تعيين تلك الأحرف من بعد إبعاد ما أبعدوا وفقد ما فقدوا وتمزيع وحرق ما حرقوا ، هذه حقيقة نقررها هنا لا نخشى فيها إلا الله تعالى ، نقولها على رؤوس الأشهاد ومن سخط فليسخط فالكذب طريق الهلكة ، وآكد ذلك الكذب على الله تعالى وكتابه ورسوله .
وقال ابن تيمية أيضـا : كما أن ترتيب السـور لم يكن واجبا عليهم منصوصاً بل مفوضا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد وكذلك مصحف غيره .
ثم قال في قراءة الحرف الخارج عن رسم مصحف عثمان مثل أحرف لإبن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم قال : هذه إن ثبتت عن بعض الصحابـة فهل يجـوز أن يقرأ بهـا في الصـلاة كذلك ؟ على قولين للعلماء وهما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك .
أحدهما : يجـوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة .
والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء ، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة !! اهـ (24).
وهذا من جنس ما سبق تخليط وكذب وتحكم على كتاب الله تعالى وما أنزل من الهدى ، فترتيب الصور ليس من جنس إلغاء أحرف أنزلها الله تعالى على عبده ورسوله وكان الصحابة إذا اختلفوا عليها بحياته ورجعوا له في ذلك يزجرهم وينهاهم عن الاختلاف عليها أشد النهي ، ويأمرهم بأن يقرأُها كما عُلِموا ، كلٌ يقرأ مثل ما علم ويردهم عن هذا الاختلاف وكان يعده ضربا للكتاب بعضه ببعض ، وقد تكرر من بعضهم هذا ، ومع هذا عادوا لما نهوا من بعده وضربوا الكتاب بعضه ببعض وهو يصدق بعضه البعض ، ثم يقولون هذا ومثله زيادة في التلبيس وطمس حقيقة أن ما حصل إنما هو منكر عظيم ، بل هو دليل أكيد على أن هذه الأمة غير صحيح قولهم أنها لا تجتمع على ضلالة بل اجتمعت على ضلالة وهو هذا المنكر الذي عملوه بكتاب الله تعالى والسنة على رده ، لكنهم أصروا ومـا زالوا لا يعرفون نكارته ، إنه العناد وتوارث الجهل ، صدوا وبعُدَ بهم عن إدراك حقيقة ما حصل .
ولو كان ذلك هو الحق لأمر به الله تعالى ورسوله ، بل كان مثل ما قلت : أن بعضهم حين كان يرى البعض يقرأ بخـلاف قراءته أنهم كانوا يتحاكمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فكان يزجرهم وينهاهم عن الاختلاف في ذلك ويقر كلٌ على ما قرأ ، وتلك هي الأحرف لا ما ادعى من جاء بعدُ وهو لا يدرك وجه الأمر .
ثم عاد رحمه الله تعالى فقال بعد ذلك : هذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل وهو أن القراءات السبع : هل هي حروف من الحروف السبعة أو لا ؟ .
ثم قرر : أن مصحف عثمان والقراءات السبع كلها تعد حرفا من الحروف السبعة ، التي ذكرت بالحديث لا أنها كلها الحروف السبعة ما عداها ليست من الحروف السبع اهـ (25).
وبهذا كفانا مؤنة الرد عليه ونقاشه على التفصيل ، إذا نقض ما منع منه قبل وعـاد لتقرير أن المصحـف العثماني هـو حـرف من الحروف السبع والقراءات كذلك ، وما خرج عنه يكون من تلك الحروف ، إلا أنهم قرروا ما قرروا وقرارهم هذا لا يعد نسخا لحديث فرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فما بالكم بما أُنزل من كلام الله تعالى ، ومن ذلك القراءة الثابتة عن أبي وابن عباس بـ ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ .
إلا أن هذا لا يمنعني من الرد عليه بالقول :
بأن ادعاء أن المصحف الذي جمعه عثمان هو حرف من الحروف السبعة كذب وافتراء هو كذلك ، كما أن القراءات ليست هي من الحروف السبعة في جملتها ، ومن قال هذا لم يدرك معنى الحروف السبعة ولا يدري هذا الباب ما وجهه ، إن كان يعني بالقراءات هنا المتعارف عليها عندهم حتى زادت فوصلت لعشرة أو أكثر ، مثل قراءة عاصم والأعمش وما شابه ، فهذا من حسب أنها من الحروف السبعة فهو جاهل حتما في معرفة ما تعنيه الحروف السبعة التي أنزل الله تعالى عليها القرآن .
وأقول بعد هذا : أنهـم لما طرحوا هذا الحـرف جازاهم الله تعالى بالالتباس في معنى الآية التي بتروها ، فعلى أي أوجه التأويل يحرفوها بعد ما بترت ، وأتى دور التحريف للمعنى بعد مـا أزيل الكلم من بعد مواضعه ، وهذا من أخطر ما استشرى في هذه الأمة ، فإن التحريف الذي كان في بني إسرائيل سرى فيهم ، وأخطر ذلك أنه سـرى على وجهي التحريف الذي حكاه بعض العلماء ومنهم البخـاري وابن تيمية فهم من رجح أن التحريف الذي كان في بني إسرائيل لنبوءات أنبيائهم أنه كان للمعنى دون الحرف في بعض المواضع لا كلها ، وقال غيرهم أن التحريف وقع على بعض الأحرف والمعاني ، فكان الذي حصـل في هذه الأمـة نظير ما وقع في بني إسرائيل والأنكى أنـه حصل فيها على الوجهين ، تحريف للحرف بطرحه ، وتحريف للمعنى الذي تبقى على ما تقرر في هذه الآية العظيمة والتي انبنى على بترها وتحريف معناها استشكالهم ما أراد الله تعالى فيها ! .
قال القرطبي (قال العلماء ) : إن هذه الآية مشكلة من جهتين :
إحداهما : أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين . وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا ! . والدليل على صحة هذا قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ﴾ فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة . وأن معنى " نبي " أنبأ عن الله عز وجل ، ومعنا أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه .
وقال الفراء : الرسـول الذي أرسـل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا ، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا .
قال المهدوِيّ : وهذا هو الصحيح ، أن كل رسول نبيٌّ وليس كل نبي رسولا .
وكذا ذكـر القاضي عياض في كتاب الشفا قال : والصحيح والذي عليه الجمّ الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ، واحتج بحديث أبي ذر ، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم اهـ(26).
ومن هنا بدأ الخـوض في ذلك وتتابع أهل التفسير بعد أن استشكلوا هذا الموضع من الآية وما المراد منها بعد ما بترها من بترها ، ثم عقبهم هؤلاء ليعرفوا ما المراد فأغلق عليهم جزاءً بما صنعوا ، وقد كان يوصي عليه الصلاة والسلام في حديثه أن يبلغ المرء ما سَمِعَ منه مثل ما سمِعْ ، فربَّ مبلغٍ أوعى من سامع ، فـلا هم التزموا جميعا بمـا أوصاهم به على حديثه عليه الصلاة والسلام فقد تلاعب به الكثير بما لا يحصى وأفسدوا من ذلك الكثير والكثير حسب ما مر معي وعانيته بنفسي مرارا وفي مواضيع شتى .
ومثله فعلهم بهذه الآية الكريمة وغيرها ، حين لم يستسيغوا ما قرأ أبي ومعه ابن عباس لجهلهم معنى تلك الكلمة ، فطرحوها ليتخلصوا من تبعتها وما دروا أنهم بذلك أوقعوا أنفسهم بحرج وزيادة إغلاق عن معناها مثل ما هو بائن في خلفهم هؤلاء ، وزاد الطين بله ارتقاء من تعاطى الكلام منهم وما أكثرهم وأكثر كلامهم في هذا ومثله من كلام الله تعالى ورسوله ، كخوضهم في آيات وأحاديث الصفات ، يتلاعبون في كل ذلك تحريفا وتأويلا وتعطيلا حتى نفروا الناس وجعلوا الدين عسرا من بعد يسر ، وكهنوتا من بعد الفطرة السمحة ، أرادوا لها كحل العين يزينوها فأعموا عينها وتركوها .
هذا يقول وجـه الحق كذا ، وذاك يحمل على غير ما حمل الآخر ، فتتضارب الأقاويل وتتشتت المراجع وتكثر ، فحرف بسبب ذلك الكثير من الأخبار والتفاسير ، وقد مر معي الكثير وعرف الناس من ذلك الكثير ، تحشى من ذلك الكتب بالمتون وشروحها ، ومـن ثم تصير الشروح متونا وبعدها شروح ، شروح تلو شروح ، وفي النهاية اتبعت المثناة وترك القرآن وصحيح الحديث ، وأيست الناس من إصابة الحق وانصرف أكثرهم كل لوجهته بعيدا عن المحجـة البيضاء ، فصار هذا حنبلي وذاك أشعري ، وهذا معتزلي وذاك جهمي ، وآخر مرجئ وذاك خارجي ، وذاك متكلم وهذا أثري ، صاروا شيع وأحزاب ، وطرائق وأضراب ، وعاد الدين غريبا والمؤمن بين ذلك تائه لا يدري إلى أين يتجه إلا من هدى الله تعالى وفتح عليه ، ولا زلنا معهم بالعناء والله يختم لدينه بخير ويعلي أمـره ، ويزيل عـن الإسـلام هذه الحثالات وركام القرون من الجهالات ، فهو القادر على كل شيء سبحانه الواعد أهل البشرى بالنصر والتمكين ، والإسلام بالعز والظهور ، والحمد لله الذي ما يقضي للمؤمن في كل أحواله إلا بالخير .
حرمهم الله بركة تلك الآية لما صنعوا وصرفهم عن إدراك معناها فالتبست عليهم وصارت من أشد ما أشكل عليهم في القرآن ، بل تضاربت أكثر مما حسبوا أنهم لم يفهموا تأويلها فحسب ، مع ما اتفق عليه من حديث البراء ، فصارت على حسب ما قرروا في شأنها تصادم مـا ثبت عن البراء رضي الله عنه وهو الحديث المتفق عليه بين البخـاري ومسلم ورواه معهم جماعة قوله : " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة . ثم اضطجع على شقك الأيمن . ثم قل اللهم إني أسلمت وجهي إليك . وفوضت أمري إليك . وألجـأت ظهري إليك . رغبة ورهبة إليك . لا ملجـأ ولا منجى منك إلا إليك .
اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت . وبنبيك الذي أرسلت . فإن مُت من ليلتك ، فأنت على الفطرة . واجعلهن آخر ما تتكلم به " .
قال ـ البراء ـ : فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغت : اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت . قلت : ورسولك الذي أرسلت . قال : ( لا . ونبيك الذي أرسلت ) اهـ .
وهم كانوا قد استشكلوا من الآية : إرسال الرسول ، والرسول نبي ! ، فلما سبق بذكر الرسول ثم أتبعه بالنبي في الآية ، وهل الرسول إلا نبيا كما روي عنه صلى الله عليه وسلم : " لقد كنت نبيا قبل ما أكون رسولا " ؟! .
وإن كان النبي يرسل هنا ، فما يكون معنى الرسول الذي قدم عليه ، ولهذا الاستشكال التزم من التزم اعتقاد أن كل نبي رسـول !! ، وخالفهم غيرهم بأن ليس كل نبي رسول ، مثل ما أن كل رسول نبي ، فتحقق منهم الخلط هنا على الآية والحديث على السواء .
وأصلُ التقديم في الآية هنا للتشريف كما يفهم هذا من سياق الترتيب في الآية وهو يفيد هنا إتباع الرسول بالنبي ومن ثم المحدث " الملغى " بالطبع ، فمقام الرسل وهم أولي العزم من الرسل أعلى من مقام الأنبياء ، فهم مثلهم أنبياء لكن يغايرونهم بتلقي الوحي إذ زادهم الله تعالى مع التكليف بالإرسال تعدد وسائل تلقي الوحي ، مثل نزول جبريل يبلغهم شفاها ، ومنهم من كلمه الله تعالى وغيره مما علمناه ومما لم نعلمه .
أما مجرد أن يكون النبي نبيا فهذا يبقى دونهم بالمنزلة ولو أرسل ، يبين هذا ويوضحه مقام هارون من مقام موسى عليهم الصلاة والسلام ، فموسى من أولي العزم من الرسل كليم الله تعالى ، والله نبأه سبحانه بتكليف الرسالة من غير واسطة وهذا من أعلى مقامات الوحي من الله تعالى ، وهو إرسال اختيار منه سبحانه واصطفاء ، ثم موسى من بعدُ اختار لأخيه بالدعاء والمسألة أن يرسل معه هارون نبيا وزيرا عضيدا نصيرا ، فاستجاب الله له فنبأ هارون وأرسله معه ، وعليه يبقى مقام موسى نبيا رسولا ، ومقام هارون نبيا مرسلا ، فالأول أعلى شأنا من النبي المرسل كما هو بدهي هنا ، فإرسال هارون إنما تم لطلب من موسى ، أمـا إرسال موسى النبي فباختيار المولى نفسه عز وجل واصطفائه .
مثل ما أن المحدث الرسول أعلى شأنا من مجرد النبي الغير مرسل ، لعلو مقام الإرسال عند الله تعالى وعليه يحمل مـا روي في هذا الخصوص عن ابن سيرين ومـا روي مرفوعا ، في أن المهدي عليه الصلاة والسلام كان يفضل على بعض الأنبياء ، هذا هو تفصيل وتفسير معنى الآية ، ولا يعارض هذا ما ثبت عن البراء لما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " ورسولك الذي أرسلت " ، لقول : " ونبيك الذي أرسلت " ، فهنا اقتضى المقام رفع اللبس بدخول مقام مطلق الإرسال بمطلق النبوة ، وبينهما فرق لا بد من رفع اللبس عنه ، لأنك باعتقاد أن الرسول رسولا لله تعالى لا يتضح مقامه هل هو نبي مرسل أو محدث مرسل ، فأبان المصطفى صلى الله عليه وسلم للبراء ما يرفع هذا اللبس بتعريفه مقام النبوة مع الإرسال هنا فالنبوة أرفع مقاما من مجرد الإرسال ، لذا قدم الوصف بها على الوصف بالإرسال ، وفي الآية لا يرد هذا هناك فالمعـنى بالسياق غير ملتبس هناك بل هو دال على مقام كل منهم ، الرسل والأنبياء والمحدثين لا مجـال هناك للتداخـل فالخطاب خطابا ربانيا فاصـلا ، والناس إنمـا داخلهم اللبس هناك وهنا نتيجة لإلغائهم قوله تعالى في الآية ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ ، فانطمس عليهم تمام وجه المغايرة بين تلك المقامات ، فالرسول النبي ، والنبي المرسل ، والمحـدث المرسل ، المنصوص على ذكرهم بالآية جعل المولى عز وجل لكل منهم درجةً وقدرا .
وقال الذين لا يعلمون هذا : إن كان النبي المرسل هنا نبي رسول ، فمن الرسول إذا ؟! .
وهنا أقول : أين ما يحملون الآية ويتأولونها بالتحريف سيبقون غير موفقين في الجمع ما بين دلالة هذه الآية ودلالة الخبر المتفق عليه عند البراء رضي الله عنه ، فما رضيه البراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو محمول على معنى الآية التي قدمت الرسول على النبي المرسل! ، وهذا فضلا على أنه لم يدر بخلد أحد منهم ، أن دلالة حديث البراء على حسب ما ظهر لهم منه تصادم دلالة تقديم التشريف في هذه الآية ، ولذا لم يحققوا جوابا له بكل شروحهم عجزوا عن ذلك وأكثرهم أغفل ذلك ، ومع هذا تجد بعضهم ببلاهة يورد حديث البراء ويستدل عليه لشرح معنى الآية مع عدم علمهم أنهم يوردون حديثا دلالته تصادم دلالة الآية وتعارضها معارضة تضاد في ظاهر كل منهما على حسب أصولهم ، ثم لا يميزون الفرق ووجه كل منها دليلا على سهوهم عن هذا أو عجزهم عن بيانه ، فيوردون حديث البراء لإثبات وجود النبي المرسل ، ويغفلون أن معنى الآية دال على وجوده فلا حاجة للتدليل على ذلك ، ثم لا يجيبون عن رد ما اختار البراء لرسول الله من منزلة علية على حسب دلالة الآية وهو كونه صلوات ربي وسلامه عليه رسول مرسل ، فرد قول البراء للقول بـ " نبي رسول " ! ، والآية قدمت كما هو ظاهرها على " النبي المرسل " " الرسول المرسل " ، وهذا مما لم يجيبوا عليه قط .
فبات شغلهم الشاغل بعد ما طرحوا " ولا محدث " ما تمييز الرسول من النبي المرسـل ؟، وإن كان النبي المرسل بالمنزلة التالية للرسول المرسل فمن يكون هذا النبي المرسل ، وهكذا التبست عليهم الآية وأغلق معناها ، وبات إلغاء كلمة " محدث " من الآية التي كانت تدل على إرسال هذا الصنف من الرسـل كذلك واعتباره من جنس المرسلين وبدلا مـن أن يثبّت هذا بنص القرآن طمس وأبُعد عن اعتقاد الخلق ، مما زاد بالإشكال وكان سبب لعجز المتأخرين هؤلاء عن إدراك حقيقة أمر المهدي عليه السلام وحقيقة تحقق بعثه وأنه إرسال من الله تعالى ، ثم لم يجدوا ما يُعِينُهم على الفهم وإدراك ما يعنيه الله تعالى من الآية ، ففروا بصنيعهم من محذور ووقعوا بما هو أشد منه ، حتى ألزموا أنفسهم أقوالا منكرة اختلفوا عليها فيما بينهم ، تجنبوا الخلاف على الآية فأوقعهم الله بأشد ما يكون الخلاف جزاءً أراه وعقوبة من جنس الفعل المنكر الذي فعلوه .
وتفصيل أقوالهم المنكرة هنا : " أن كل نبي رسول " . وهو من الباطل التزمه بعضهم ، مقابل مقولة آخرين أن : " ليس كل نبي رسول " .
واتفقوا جميعهم على : " أن كل رسول نبي " . وهو معتقد باطل يرده القرآن والسنة ، اتفق عليه أهل أثرهم والكلام التزاما منهم جميعا لتفسير معنى الآية ومحاولةً يائسة بائسة للخروج من الإشكال الذي وقعوا به .
قال بعضهم بأن : النبي أعم من الرسول ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ، فقدم الرسـول لمناسبته لقوله " ومـا أرسلنا " ، وأخر النبي لتحصيل العموم ، لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول !! اهـ .هذا حكاه ابن جزئ الكلبي الغرناطي في تفسير الآية .
فانظروا لمدى هذا التخبط والجهل على الآية : إذ جُعِلَ النبي في هذه الآية غير مرسل وهو على خلاف منطوق الآية ومفهومها حسب ظاهرها .
وصرح بهذا المعنى الذي قرره الغرناطي الرازي فقال : الآية دالة على أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسـول ، لأنه عطف على الرسول وذلك يوجب المغايرة ! وهو من باب عطف العام على الخاص .
وهذا يعني أن المغايرة عنده في النبي هنا أنه ليس رسـول وهو خلاف خبر الآية والأمر بين والتحريف غير خاف هنا ، يتخبطون بتقرير مـا يضاد مراد الله تعالى الذي أخبر به ، فالإرسال هنا يعم كل هذه الأجناس من رسل الله تعالى ، ولذا جعلهم مراتب فقدم الأعلى ثم الأدنى ثم الأدنى ، ولو لم يحذف " المحدث " من هذا التسلسل لاتضح المعنى جليا .
وعاد القرطبي في موضع آخـر على قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ ﴾. ليقرر بأن الرسول والنبي اسمان لمعنيين فإن الرسول أخص من النبي وقدم الرسول اهتماما لمعنى الرسالة وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ولذلك رد رسول الله على البراء قوله " وبرسولك الذي أرسلت " فقال " بنبيك الذي أرسلت " . وأيضا فإن قوله " وبرسولك الذي أرسلت " تكرير الرسالة وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة ! فيه بخلاف " ونبيك الذي أرسلت " فإنهما لا تكرار فيهما وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا لأن الرسـول والنبي يشتركان في أمـر عام وهو النبأ وافترقا في أمـر وهي الرسالة اهـ .
انظروا وتمعنوا ، نطق الكفر توا ونسب لقول الله تعالى هناك الحشو ، وأن لا معنى له ولا فائدة ، وكذب البعيد إنهم قوم يجهلون .
فلا تُدخِلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حوبَة ً *** يَقـُومُ بها يوماً عليكَ حَسِيبُ
فهناك قال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ﴾ وهنا أكد عين ما قال البراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاك الخبر ، وإحالة رسول الله له هناك بالحديث للنبوة ثم الرسالة إنما يوافق بالمنزلة في الآية ذكر " النبي " الذي تلى " الرسـول " فكليهما مرسلين ، وهم لم يأتوا بجواب على هذا وتخبطوا حتى الكفر مثل ما رأينا مع القرطبي ، كلهم يدور مداره لا يدرون وجه الآية ولا يستطيعون الخروج منها بالحق .
وممن خالف قوله تعالى في هذه الآية ومراده فيها ، التويجري فقال ردا على القطري ابن محمود " كل نبي فإنه رسول وانه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد " .
قال التويجري : دل القرآن على الفرق ثم ذكر الآية وقال : فقد فرق تبارك وتعالى بين الرسول والنبي وعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة اهـ .
انظروا لمدى المخالفة لله تعالى وخبره في الآية ومدى تلبيسهم وخبطهم ، يُعَطَل تشريكهم بالفعل لواو العطف ، بحجة المغايرة والتي لا يصح تكون من كل وجه ، خصوصا بالوجه المخبر عنه في الآية وهو فعل الإرسال ، يعني لما يقول المتكلم : ( ما أخرجنا من بيت التويجري من أولاده ولا بناته ولا خدمه إلا من رضي ) فهذا عند التويجري لا يقتضي إلا خروج أولاده دون بناته وخدمـه ، وهـذا من ذاك المعنى ، فالمغايرة عنده في جنسهم تعطل الفعل ، انظروا بهذا التقريب تدركوا كيف يفكـر القوم في كتاب الله تعالى ونبوءاته العظيمة ؟! .
وهو يريد يقلد ابن تيمية لكن المغايرة منعت بحق هنا ، وبقى ابن تيمية هو ابن تيمية والتويجري هو التويجري ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
عطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ! الذي ذكر لهما !! اهـ .
وهذا عين ما دعاهم لإخراج " المحدث " من تلك الآية حتى لا يشترك في الحكم الذي ذكر للرسول والنبي في الآية ، ولأجل ذلك طرحوا من الآية هذا الحرف .
والقطري وافق قوله " كل نبي رسـول " ، القرطبي في تفسيره وقد ذكرتـه قبل : أن قومـا يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين . وغيرهم يذهب إلى انه لا يجوز أن يقال نبيّ حتى يكون مرسلا ! . والدليل على صحة هذا قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ﴾ فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة . وان معنى " نبي " أنبأ عن الله عز وجل ، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه اهـ .
وفي تفسيره قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ خالف قوله السابق فقال : فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ! . وهكذا تراهم مضطربين يتقلبون بين الأقوال لا يثبتون على قول .
ومثله حصل مع الفراء فالقرطبي في تفسيره ينقل عنه قوله : كل رسول نبي وليس كل نبي رسول . ويأتي الرازي في تفسير آية سورة الحج فيحكي عنه وعن الكلبي : ( أن كل نبي رسول ) ، وأنه قول المعتزلة ! ، ثم يرجح هو أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول ويحتج على ذلك بآية الحج .
ولنرتب مذاهبهم بهذا وأسمائهم على النحو التالي :
من قال منهم أن كل رسـول نبي : الثعالبي والواحدي والبغوي والقاضي عياض والمهدوي وعبد الله بن احمد النسفي وابن جزئ الكلبي الغرناطي والرازي والقرطبي والخطابي والزمخشري وابن كثير وابن أبي العز الحنفي والشربيني والسفاريني والألوسي ، ومن المتأخرين ابن عثيمين وعبد الرزاق عفيفي والتويجري ، وجمهور غفير من المتأخرين والمتقدمين لا يحصيهم إلا المولى عز وجل ، وهو قولٌ ضال باطل مخالف للكتاب والسنة على ما أسلفت .
ومن قال بأن كل نبي رسول : الكلبي والفراء ( حكاه عنهم الرازي ) وذكـره مذهبا للمعتزلة . ونسبه التويجري للقطري ابن محمود ، وهو قول الشنقيطي والمدعو بعمر الأشقر ، وفي بعض توجيه لإبن تيمية أنه يذهب لهذا ، ومال له في بعض قوله القرطبي في تفسيره في أول شرحه لتلك الآية من سورة الحج (27).
وفي الختام أقول : ووالله لوما كرامة عمر الفاروق ومكانته وما أيقنا من سلامة صدره من الحيف والغش ووجـوب إحسان الظن بمهاجرة قريش لطعنت به وبهـم ولرميتهم بالعصبية ، فقد ثبت عنه رضي الله عنه طرح الأنصار من قوله تعالى : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ . فقد كان له بهذه قراءة مقيتة يحسبها مما أنزل الله تعالى ، ثم بان له أنه كان واهما على الله تعالى قائلا عليه مـا لم يقله ، وقد راجعه زيد ولم ينته حتى إذا أصر انردع عنه زيد رضي الله عنه فهو لم يكن مثل أبي وبقوته لا يلين له ويترك ما عرفه لعمر الفاروق ، لكنه لما رأى أبي بن كعب اجتمع وزيد على خلافه حينها سلم وسلم كتاب الله تعالى من رأي عمر .
قال عمرو بن عامر الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب ، قرأ : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فرفع الأنصار ، ولم يلحق الواو في الذين ، فقال له زيد بن ثابت : ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقال عمر ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم !! .
فقال عمر : " ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك فقال أبي : والذين اتبعوهم بإحسان فقال عمر : " فنعم إذا " . فتابع أبيا (28).
ورواه الطبري عن محمد بن كعب القرظي ، أنه قال : " مـر عمر بن الخطاب برجل يقرأ : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَار .. ﴾ حتى بلغ : ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ قال : وأخـذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ قال : أبي بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جـاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم ، قال : أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا .
فقال أبي : بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ . وفي سورة الحشر : ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ . وفي الأنفال : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ ﴾ إلى آخر الآية .
فإن كان هذا يأتي ممن دفع الصديق لجمع القرآن ولا زال به حتى فعل ذلك ، فقد كان الصديق وزيد يكرهان فعل ذلك ولا زال بهما حتى وافقا ، وكان مطلبه رضي الله عنه جمع القرآن فقط لا بقصد تأليفه مصحفا واحدا ثم حمل الناس عليه مثل ما عملوا في زمان عثمان ، إلا أنهم بدأوا باشتراط إثبات التلاوة على لسان قريش ، فكان يرد ما استنكروه ضمن ذلك بهذه الذريعة وقد أكثروا على أبي وابن مسعود في الرد والتحقيق وفيهم ما فيهم مثل هذه وغيرها ، وهذا لأظهر برهان على أن ما عملوه يبقى اجتهادات بشرية وعلى أساسه كان إطراح الحرف الأهم والأعظم شأنا ﴿ وَلا مُحَدَّثْ ﴾ ما ترتب على ذلك من مفاسد عظيمة داخلت إيمـان الناس حتى يومنا هذا ، وجهلٌ بكتاب الله تعالى لا يستهان به .
وهذا من حقيقة ما حصل في زمان الشيخين وهما من المؤمنين ما علمه الصالحون ، فكيف بما جرى بعدهما وزِيدَ على عملهم ما زيد ، من جمع بعض القرآن على مصحف وفرضه على الناس والسعي الحثيث لحرق ما سواه حتى نادى ابن مسعود بأن يغل كل امرئ مصحفه فإن الرجل يأت بمـا غل يوم القيامة ، حرصا على ما جمع هو من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى ، وكان ابن عباس يعد ما عند ابن مسعود آخر ما عرض من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد ما راجع جبريل القرآن مرتين عليه صلى الله عليه وسلم ، حـتى رد ابن عباس زعم من وهم أن قراءة ابن مسعود أول وأقدم حـروف القرآن وكان بعضهم يسميه " الحرف الأول " فقرر لهم خلاف هذا وقال : " بل هو آخر ما قرأ عرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وفي هذا رد على كذب من ادعى أن مـا في مصحف عثمان آخر الحروف ، وزادوا أنه نسخ كل ما سبقه ، وهذا تخرص وباطل لا يعول عليه إلا الجهلة من الذين لا علم لهم بهذا الباب ، والله ولي التوفيق ، ومنه وحده الهداية ، ولا يرفع مـا التبس من الحق إلا هداه وتسديده ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، ولا حول ولا قوة إلا به العزيز الحكيم .
(1) متفق عليه ورواه البزار وغيره .
(2) رواه سعيد بن منصور والنسائي والترمذي وابن سعد وخلق كثير .
(3) رواه مسلم في صحيحه (1/465) .
(4) رواه أحمد وسعيد بن منصور في سننه والحاكم .
(5) رواه إسحاق بن راهوية وأبو عبيد في فضائل القرآن والطبري في تفسيره .
(6) سير أعلام النبلاء (2/417) .
(7) الإصابة (181) .
(8) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن شبة في تأريخ المدينة .
(9) فضائل القرآن (192) .
(10) تفسير القرطبي (14/123) .
(11) فضائل القرآن لأبي عبيد (193) .
(12) رواه ابن شبة في تاريخ المدينة .
(13) رواه مالك وعنه الشافعي وغيره .
(14) رواه عبد الرزاق الصنعاني .
(15) رواه أبو نعيم أشار له صاحب التمهيد .
(16) فضائل القرآن لأبي عبيد .
(17) تأريخ المدينة لإبن شبة .
(18) رواه في الموطأ وعنه الشافعي في مختلف الحديث .
(19) سبق تخريجه .
(20) رواه ابن ماجة ، والطبراني في الأوسط (8/12) وقال الطبراني رواه ابن اسحاق عن عبد الرحمن بن قاسم وعبد الله بن أبي بكر وقال لم يروه عن عبد الرحمن غير ابن اسحاق .
(21) راجع الطيالسي وسير أعلام النبلاء للذهبي .
(22) مسند أحمد (26916) ، والفوائد المنتخبة (236) ، وفضائل القرآن (188) .
(23) جواب سؤال عن الحروف السبع .
(24) جـواب سؤال عن حديث : أنزل القرآن على سبعة أحـرف ( ص 120 ) هامش كتاب الفوائـد المعللة لأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي .
(25) المرجع السابق .
(26) تفسير القرطبي (12/80) .
(27) تفسير القرطبي (12/80) .
(28) فضائل القرآن لأبي عبيد .