حسبي الله عليكم يا أهل الحديث *

 

 

 

 

 

كم من خبر عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم أفسدوا معناه ...

 

يعتذرون لذلك بخشيتهم من الأمراء في وقتهم والله أحق أن يخشوه لو كانوا يعلمون ! .

 

وكل ما وجدته أخي القارىء من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيه : .. كذا ، وكذا . فاعلم أن في ذلك نقيصة في الأمراء ، فاجتهد في البحث بدواوين الإسلام لعلك تجد محدثا شجاعا لم يخشى أمراء زمانه بل خشي الله تعالى فلم يكتم العلم بل حمله ووعاه ثم بلغه كما سمعه ! .

 

ومن الأمثلة على صنيعهم المنكر هذا ما رواه أبو نعيم في الحلية رحمه الله تعالى بإسناده عن الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيأتي على الناس زمان تحل فيه العزلة ، ولا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق ، ومن جحر إلى جحر ، كالطير بفراخه وكالثعلب بأشباله ) . ثم قال : ( ما أتقاه في ذلك الزمان راعي الغنم أقام الصلاة بعلم ، ويؤتي الزكاة ويعتزل الناس إلا من خير . ولشاة عفراء أرعاها بسلع أحب إلى من ملك بني النضير ، وذلك إذا كان كذا وكذا ) .

 

قال أبو نعيم : غريب من حديث الربيع ومن حديث الثوري لم يروه عنه إلا مسعدة ولا كتبناه إلا من حديث عبد الرحيم بن واقد عاليا (1).

 

قلت : يتكاتمونه من خشية الأمراء ، ومن صرح به بتره !! .

 

 وهذه العلة عينها كانت المانع لأبي هريرة رضي الله عنه أن يقول ما علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون له عذر رضي الله عنه في ذلك ، فهو من الرؤوس والحمق في بني أمية لم يكن بالقليل ، فقد كان بهم داء سوء الظن بأنفسهم حتى معاوية لما روى عبد الله بن عمرو خبر القحطاني تنفخت أوداجه وظن أنه المستهدف ! ، وهكذا كان الأمر ، وهكذا طمست بعض الأخبار .

 

 عودة لموقف أبي هريرة رضي الله عنه .

 

قال كما في الحديث الصحيح : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين ، فأما أحدهما فبثثته فيكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم .

 

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في معنى هذا : ليس في هذا من الباطن الذي يخـالف الظاهـر شيء ، بل ولا فيه من حقائق الدين ، وإنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون من الملاحم والفتن !! ، ولهذا قال عبد الله بن عمر : لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم ، وتفعلون كذا وكذا لقلتم : كذب أبو هريرة .

 

وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك وأعوانهم ، لما فيه من الإخبار بتغير دولهم اهـ(2).

 

أقول : نعم سبب ذلك ما قد يظنه الأمراء فيهم ، بل إن أبا هريرة رضي الله عنه قد يكون سبقهم لهذا لما كان يستعجل من القدر ! .

 

وهنا أذكر تنبيهات لطيفة على هذا الأمر غير مسبوقة ، أكشف فيها عن شـيء من آثار تصرفهم على علم الروايـة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك كما فعلوا في حديث أبي هريرة نفسه المرفوع وفيه : ( كيف أنت إذا أدركت ثلاثا ؟ أعيذك بالله أن تدركهن ، طول البنيان وشدة الزمان ، وكذا ) .

 

وكم كـان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يحـذر أصحابه عصرنا ويخبرهم أن علامته طول البنيان وإمرة الصبيان كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكبي ، فقال : ( يا أبا هريرة كيف أنت إن أدركت ثلاثا ، وأعيذك بالله أن تدركهن ) قلت : ما هي بأبي أنت وأمي ؟ قال : ( طول البنيان ، وإمـارة الصبيان ، وشدة الزمـان ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب قصر الأمل تاما (3)، وذكـره إبراهيم بن أحمد بن شاقلا البغدادي في نقولاته من كتاب الضعفاء للساجي ، وقد طبع مع تعليقات الدار قطـني على المجروحين لإبن حبان (4) محذوفا منه ذكر : ( إمرة الصبيان ) ، وهـذا من تصرفـات بعض المحدثـين السيئة في أخبار المصطفى اهـ(5).

 

وفي حديث جابر رضي الله عنه ونص الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة : ( أعاذك الله من إمارة السفهاء ) قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : ( أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يردون علي حوضي ، ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون علي حوضي ) .

 

 رواه عبد الـرزاق في المصنف (11/346) ، وابن حبان (1/440) ، والطبـراني في الصغير(1/274) ، والحـاكم (4/422) ، وغيرهم . والملاحظ هو أن ابن حبان والطبراني قاموا بحذف لفظة سفهاء من الحديث ، وأما عبد الرزاق والحاكم فأثبتوها ، وهذا الصنيع بألفاظ الحديث داخل فيما قررته من قبل بتلاعب بعض المحدثين بألفاظ حديث رسول الله بحجة الرواية بالمعنى وجواز الاختصار والحذف ، وفي هذا كما هو ظاهرٌ إفساد لحديث رسول الله ، فإن إمارة السفهاء من أشراط الساعة ، وحذفها من خبر كعب بن عجرة يفسد المعنى ، وهو على خلاف وصية الرسول في تبليغ الحديث كما سُمِعَ اهـ(6).

 

قلت : وفعل قريب من هذا في حديث لحذيفة رضي الله عنه في أخبار الفتن وهذا مؤسف حقا ، وهو مما يعد من الأمثلة السيئة على تقصير بعض أهل الحديث وتلاعبهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة الرواية بالمعنى ، فعل ذلك أبو داود حيث أثبت في سننه لفظ عبد الرزاق عن معمر بعد تحريف قوله في الحديث بعد السيف ( نعم ، تكون إمارة على أقذاء وهدنة على دخن ) . قلت : ثم ماذا ؟ . قال : ( ينشأ دعاة الضلالة ، فإن كان في الأرض يومئذ خليفة ) . الحديث ومع تحريف إمارة إلى بقية ، حذف كذلك تمام الحديث وفي آخره ذِكرُ الدجال ، وهذا كفيل بإفساد الرواية ، وفيه مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداء الكلام كما سُمِع ، فرب مبلغ أوعى من سامع .

 

والذي ألجأ بعضهم إلى هذا الصنيع هو لاعتقادهم عدم جواز الطعن بالأمراء والتعرض لسيرتهم ، وقد يكون سبب التحريف هذا ، التقية وخوف بطش الولاة إلا أنه لا يجوز تحريف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لهذا ولا لذاك ، وأصل الرواية عند عبد الرزاق في مصنفه ، وفيها قوله : ( إمارة على أقذاء ) ولم يقل بقية ولا جماعة ، ولعله من أجل هذا يقال لعبد الرزاق شيعي ، أما من يطعن في الصديق وعمر وعثمان وعلي ، ويقال لهؤلاء شيعة فلان وفلان ، فلا والله هؤلاء شيعة الشيطان الذين فرقوا الأمة .

 

 الحاصل : أن من حمل هذه الأحاديث على غير إمارة وإمارات تكون في آخر الزمان خاصة ، فقد التبس عليه الأمر ولم يفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

 وهناك مـا هـو أفظـع من فعل أبي داود في السنن ـ أو شيخه وهو احتمال بعيد ـ وهو ما أقدم عليه أحمد رحمه الله حين كذب حديث أبي هريرة عن رسول الله قوله : ( يهلك الناس هذا الحي من قريش ) . قالوا : فما تأمرنا ؟ . قال : ( لو أن الناس اعتزلوهم ) متفق عليه .

 

قال أحمد لابنه في مرض موته الذي مات فيه : اضرب على هذا الحديث ، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي ، يعني قوله : ( اسمعوا وأطيعوا واصبروا ) وفي كتاب الورع (7) ذكر لأحمد هذا الحديث فقال : هو حديث رديء أراه ، هؤلاء المعتزلة يحتجون به ، يعني في ترك حضور الجمعة .

 

ومثله فعله مع حديث ابن مسعود أنكره ، وهو مرفوع إلى رسول الله بسبب قدح هذه الأحاديث في أمراء يكونون بعده . قال أحمد في الحديث : هذا غير محفوظ وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود وابن مسعود يقول : اصبروا حتى تلقوني . وليت أحمد فعل ما فعله ابن عمر حين أنكر رواية ابن مسعود هذه فكان موقفه على ما روى مسلم في الصحيح عن أبي رافع قال : فحدثته ابن عمر فأنكره علي فقدم ابن مسعود فنزل بقناة فاستبقني إليه عبد الله بن عمر يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر . ورواه ابن حبان فزاد : فلما سمعه من ابن مسعود خرج وهو يقلب كفه وهو يقول : ما كان ابن أم عبد يكذب على رسول الله . وأنكر رد أحمد لحديث ابن مسعود ابن الصلاح والنووي .

 

ومما لا شك فيه أن الأمر كان ملتبسا على أحمد ، ولا زال أثر هذا في مقلدة الحنابلة ، وأدعياء الحديث في زماننا ، وما زالوا وفيهم عقدة ولاة الأمر ، ولو علم أحمد وجه الروايتين لعدل عن قوله في الحديثين ما قال .

 

أما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار بالصبر عند الأثرة فزمان ذاك أول الإسلام وقيام الدين ، وحديث ابن مسعود وأبي هريرة وقته آخر الزمان عند ذهاب الدين ، ولا تناقض بين كلام رسول الله أبدا ، وإنما التناقض والتضاد ما زال في أدمغة الحنابلة ومدعي الانتساب لأهل الحديث ، وقد حان الوقت لتعديل ذاك الاعوجاج في تلك الأدمغة الجافة عديمة الفطنة ، ورحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة ، فقد إلتبس عليه هذا الباب إلتباسا شديدا ، ولم يكن يحمل أحاديث الباب إلا على معتقده في وجوب طاعة ولاة الأمر والتمسك بالجماعة وكان ينفر من مذهب الحسن بن حيي ويعجبه مذهب سفيان ، في حين أن مذهب سفيان في الحقيقة من أعجب وأشد المذاهب في زمان الفتن والاختلاف وهو القائل : لا أقاتل إلا مع نبي . ومن أقواله : وإن مر بك المهدي فاقعد في بيتك حتى يجتمع الناس !! .

 

ومن المعلوم أن الناس لم يجتمعوا في زمـن بني العباس ، وهم في زماننا أشد اختلافا !! ، ولما لم يسلم لأحمد مذهب سفيان فهو في المتأخرين أبعد من قرص الشمس ، وحقيقة مذهب سفيان على الضد من مذهب هؤلاء الحدثاء وأشياخهم رؤوس الجهل والضلال ، والتفصيل في هذا الباب يحتاج لمزيد بيان ليس هذا مكانه .

 

ومن أعجب ما وقفت عليه لأحمد في هذا الأمر ما ذكره الخلال في السنة (8) أن أحمد علق على حديث معاذ : ( إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة ، ولن تروا من الأئمة إلا غلظة ، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضره بعده مـا هو أشد منه ، أكثر أمير وشر تأمير ) قال أحمد : اللهم رضينا . وهذه شنيعة كبيرة أسأل الله تعالى أن يغفرها له ، والكلام في الحديث إنما خرج مخرج الخبر عن أمر يكون ، وهو أمر مكروه عند الله ولا يرضاه فكيف يرضى به أحمد لو كان يعي في هذا والله تعالى يقول : ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ﴾ .

 

وقوله : ( أكثر أمير وشر تأمير ) دال على أن الكلام خرج على سبيل الإخبار عما يكون آخر الزمان من أشراط الساعة ، ذلك لأن كثرة الأمراء من علامات الساعة ، كما فصلت في كتابي هذا وقد روي هذا المعنى عن جماعة من أصحاب رسول الله ، منهم عبد الرحمن الأنصاري رفعه : ( من اقتراب الساعة كثرة الأمراء وقلة الأمناء ) وعن ابن مسعود : كيف بكم إذا لبستكم فتنة ، يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، وتتخذ سنة ، فإن غيرت يوما قيل : هذا منكر . قالوا : ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم . وعن المنتصر قال حدثنا عبد الله بن عمرو عن غزو الترك للعرب فقلت له : هل بين يدي ذلك علامة ؟ قال : نعم ، أمارة . قلت : ومـا الأمارة ؟ قال : الأمارة العلامة ، هي إمارة الصبيان ، فإذا رأيت إمارة الصبيان قد طبقت الأرض إعلم أن الذي أحدثك قد جاء .

 

وعن الصديق رضي الله عنه قال : هذه الإمارة التي ترى اليوم يسيرة ، قد أوشكت أن تفشو وتفسد حتى ينالها من ليس لها بأهل . وكل ما سبق ذكره في هذا المعنى موافق لما روى ابن مسعود وأبو هريرة ، وإن ذلك إنما هو في إمارات تكون آخر الزمان على رؤوسها يكون هلاك الناس .

 

والواقف على أحاديث أبي سعيد وكعب بن عجرة وعابس الغفاري يدرك ذلك ولا شك ، وعلى هذا لا وجه لإنكار أحمد لحديث أبي هريرة وابن مسعود ، وما أشبه إنكار أحمد لحديث ابن مسعود بإنكار الحجاج لذلك حتى إن بعضهم سمعه وهو يخطب ويقول : ابن مسعود رأس المنافقين لو أدركته لسقيت الأرض من دمه . ولأجل ذلك كانت بين بني أمية وبينه نفرة اهـ(9).

 

ومن بلاويهم وما أكثرها على أخبار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إيهامهم بما قال أبو بكر الصديق حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها (10).

 

وعند ابن سعد : لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها .

 

وعند ابن هشام في السيرة : بأبي وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا .

 

 قال ابن حجر : أشد ما فيه إشكالا قوله : لا يجمع الله عليك موتتين . وعنه أجوبة :

 

 قيل على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال ، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ، فأخبر أنه أكرم على الله تعالى أن يجمع عليه موتتين كما جمعها على غيره .. اهـ(11).

 

وقد موه هؤلاء جميعا ولبسوا في هذا الموضع ، سواء بعض الرواة ، أو الشراح على ذلك ، فصار الحق البين الذي يجب الإيمان به ضلالا وشكا وتخرصا ، والعكس هو الصحيح على ما سأكشف عنه في هذا الموضع ، ولا أقول إلا حسبنا الله على من كان السبب في هذا التلبيس على هذا المعتقد العظيم والأصل الأصيل في عقيدة المهدي عليه السلام وإيمانه .

 

وهكذا حرفوا مراد الصديق رضي الله عنه وتلاعبوا به ، وألجأُوا ما كان صريحا في الأمر لأن يكون غامضا ومن ثم تسنى لهم التلاعب بذلك لتصوراتهم ومعتقداتهم الباطلة ، بطانة الشك والارتياب .

 

انظروا معي فحقيقة الأمر والمعتقد الحق هنا أن الصديق لا يخالف رضي الله عنه الأصل الذي كان عليه عمر وجمهرة الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما حكاه عنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن قال :

 

تقحم الناس على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ينظرون إليه فقالوا : كيف يموت وهو شهيدٌ علينا ونحن شهداء على الناس فيموت ولم يظهر على النّاس ؟ ، لا والله مـا مـات ولكنّـه رُفـع كما رفع عيسى وليرجعن ! ، وتوعدوا من قال إنه مـات ونادوا في حُجـرة عائشة وعلى الباب : لا تدفنوه فإن رسول الله لم يمت . رواه ابن سعد

 

 وأتاهم العباس يسألهم عندكم عهد منه في ذلك فقالوا : لا . وكانت هذه حجة العباس وأقسم على انه : مات .

 

ثم ماذا ؟

 

أتاهم الصديق ولم يخالفهم إلا في ثبوت موته عليه الصلاة والسلام ، لم يخالفهم في أصل ما قرروه أنه سيعود ويفعل ويفعل ، لكن بعض الرواة لبسوا على مراده بإثبات قوله : لن يجمع عليك موتتين . على هذه الصيغة التي قد يداخلها الغموض وتجنبوا ما كان صريح ، فحرفوا كما أشار الشارح ابن حجر : بأن الوجه الصحيح في كلمته هذه أنه لن يرجع للدنيا مثل ما قالوا ، لأنه يلزم منه أن يموت موتة ثانية ورجح هذا التعليل وأنه مراد الصديق فيما قرر في شرحه وهذا كذب وتلبيس ، إنما يفهم من كلام الصديق نفي الموتة الثانية بثبوت الموتة الأولى عليه هذا كل ما في مذهب الصديق ، وهو من باب التورية لا أكثر ، إذ الخلاف مع الآخرين هل مات أو لا ، فكان جهد العباس أن يثبت لهم أن رسول الله قد مات بالفعل وقد أقسم على ذلك وقال : ادفنوه ، وإن كان ما تقولون حقا فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب ويخرجه إذا شاء .

 

أما الصديق فذهب لأبعد من ذلك من غير أن يتنبه كثير أحد ، فواجههم بأنه مات عليه الصلاة والسلام وانه يجب دفنه ، وزاد أن لن يجمع الله عليه موتتين في أولاه وآخرته ، والدليل على ذلك فيما أهمله الرواة وحتى لم يشر له ابن حجر على سعة اطلاعـه وجهده باستيفاء ألفاظ الأخبار للشرح .

 

أعني ما رواه نفس راوي تفاصيل هذه الواقعة عن عائشة أبو سلمة بن عبد الرحمن في صحيح البخاري وغيره لكنه قال :

 

ما كان الله ليجمع عليك الميتتين ، ميتة الدنيا ، وميتة الآخرة !! . رواه عنه هشام بن عمار قال حدثنا سعيد بن يحيى قال ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة مرسلا (12).

 

وهذا مرسل قوي إسناده جيد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ثقة ثبت من كبار التابعين رويت عنه في الصحيح تفاصيل واقعة قبض المصطفى صلى الله عليه وسلم من وجهين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما .

 

فهلاَّ تمعن العاقل بقوله : وميتة الآخرة . ليدرك كيف تفسر تلك اللفظة التي أقرت بدواوينهم ثم يولجوا من خلالها التلبيس على دين المسلمين .

 

فلم الميتة الثانية التي ينفيها الصديق رضي الله عنه لا تكون إلا في الآخرة ؟! ، يكفيه أن يثبت انه مات في ساعته ويُسلموا ، لكنه ينفي بذلك عودته قريبا في خلافه معهم وما فطنوا مع تأكيده أنه مات بالفعل ، أنه ينفي موتته أيضا بعد عودته في الآخرة ! ، لموتته هذه التي أيقنها وخالفهم في نفيها بتة .

 

نفى عنه موتة الآخرة ليقينه أنه عائد لقوله تعالى بعد ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ والضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . وللآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ . فهذه الآخرة التي عنى الصديق في نفيه الموتة الثانية عنه عليه الصلاة والسلام حين يعود .

 

وعقيدتي أن الصديق رضي الله عنه إنما أعلن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجُوّز به بهذه الميتة التي أيقنها في وقته ، ثم إنه أكرم على الله تعالى من أن يجمع عليه ميتة أخرى بعد ذلك حين عودته في الآخرة ، يعني موتته هذه التي نرى وأيقناها أجزأته ، والثانية حين يعود في الآخرة أقسم أنه لن يموت فيها وهذا حسبانه تعظيما لشأن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، هذا حقيقة ما ذهب إليه الصديق عني خذوا ذلك موثقا .

 

من أيقن هذا فأنعم به من إيمان وتصديق ، ومن كذَّبَ وجحد ولبس فبفيه التراب ولن يعدو الباطل قدره وستعلمون .

 
 

* نشرت هذه المقالة في موقع المهدي بتاريخ 5/1/1425 هـ الموافق 25/2/2004 .

(1) حلية الأولياء (2/118) .

(2) مجموعة الفتاوى (7/137) .

(3) قصر الأمل ( ص 178 ) .

(4) تعليقات الدار قطني على المجروحين ( ص 293 ) .

(5) من كتاب (كشف اللثام عن جهل سلمان العودة على أمر مهدي الإسلام ص 154 ) .

(6) من كتاب ( وجوب الاعتزال في آخر الزمان إلى أن يمكن المهدي خليفة الرحمن 1/132 ) .

(7) كتاب الورع ( ص 36 ) .

(8) كتاب السنة للخلال ( ص 93 ) .

(9) من كتاب ( وجوب الاعتزال في آخر الزمان إلى أن يمكن المهدي خليفة الرحمن 2/93 ) .

(10) رواه البخاري وغيره .

(11) رفع الالتباس في بيان أن المهدي محمد بن عبد الله هو النبي صلى الله عليه وسلم سيد الناس  ( ص 59 ) .

(12) جزء من حديث هشام بن عمار عن شيخه سعيد بن يحيى ( ص 122 ) .