سلمان يكذب على أمر المهدي عليه السلام
قال في رده على الدعوة المهدية : لم يرد نص أنّا متعبدون بانتظاره أو ترقبه , ولا يقبل ادعاء المهدية بمجرد الإشتباه , فالمدعين كثر , والمسلم مطالب بالتثبت والتحري والأناة , وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي اهـ ( 1 ) .
فللجواب عليه أقول : مَن المشتبه به هنا هل هو محمد بن عبد الله الجابر !! القيصومي , مهدي مخابيل بريدة ومن حولها !! , أم تعـني بذلك الذي زلزلت الأرض لمخرجه ومبعثه ؟! , وقد كنتَ من الأوائل الذين أحيطوا علما بخروجه حتى قبل اشتداد الزلازل وتواترها على ما بينته في كتابي ( البيان الثاني لرد فرية الجاني ) وكتاب ( المهدية في إخساء الخالدية ) وكانت حكمة الله تعالى بالتمكين لدعوة المهدي وخروجه بالبرهان ، أن نصت الرؤيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ مجموعة مشيخة من الجزيرة نبأ هذا البعث وفي جملتهم سلمان ، ثم أعقب ذلك جل وعلا بشدة الزلازل وتواترها في جميع المعمورة من أجل أن يعي هؤلاء المشايخ وغيرهم تحقق خبر بعث المهدي المنصوص على أن بعثه إنما يكون على زلازل واختلاف من الناس ، فهل انتفع سلمان ومن معه بتلك الدلائل ، على العكس بل جحدوا ذلك والعياذ بالله وأنكروا دلالتها على بعث المهدي وما ذاك إلا من عمى البصائر واستحكام الجهل .
وهذا الجاهل الملبس لم يفصح في كلامه أي المهديين يعني بقوله المذكور , مهدي مخابيل الشيشان العرب وسقاط الجزيرة وسفهائها , أم يقصد مهدي الله تعالى حبيب المصطفى .
وكما أنه لا يقبل ادعاء المهدية بالإشتباه , كذلك من الباطل تكذيب المهدي حين يبعثه الله تعالى ويظهره بآيات الصدق القاطعة في أنها من الله تعالى , وأن مكذب ذلك ما هو إلا ضال دعي اشتبه عليه صدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرا بدعاوى الكاذبين , فالتبس عليه دينه فبات من الغاوين المفتين بالضلالة .
والمؤمن الحق إنما يتريث بالمشتبهات والملتبسات , لا في البينات الظاهرات , وفي تصديق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرا من نبوءات .
وقول هذا المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذي مازال هو وأمثاله من الجهلة الذين ديدنهم تعقب كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريفه بآرائهم الفاسـدة الناقصة : لم يرد نص , أنّا متعبدون بانتظاره أو ترقبه .
كذب بارد وجرأة قبيحة على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقب بها سلمان أمر بعث المهدي وتحقق براهين صدق خروجه وانتشار نبأه في جزيرة العرب , وإن دل هذا فإنما يدل على رقة دين هذا الدعي وقلة تقواه من المولى عز وجل ، وسبق له أن أنكر على المهدي قوله : أن كثرة الأمطار من علامات تحقق بعث المهدي عند أهل الكتاب على ما دون في كتبهم عن جمع من أنبياء بني إسرائيل . فأنكر ذلك سلمان تصريحا لأصحاب المهدي حين دعوه لدعوته وسلموه بعض مصنفات للمهدي ، وكان ذلك يوم الخميس ، وما مضى اليوم التالي يوم الجمعة إلا وبالقصيم منطقة سكنى سلمان تكاد تغرق من شدة الأمطار ، وذكرت الأنباء أن في ذلك اليوم مطرت الجزيرة كلها مطرا شديدا ، وأنه بلغ بـلاد البحرين وذكروا هناك أنها أمطارا قياسية ( 2 ) .
فهل اتعظ سلمان من كل ذلك ـ الزلازل والأمطار ـ واعتبر الدلالة بهما ، أبدا لم يكن ، ذهبت الفطنة والمفهومية ذهاب الريح !! .
ولما كان قوله في نفي الانتظار يعد قاعدة في التلبيس السلماني الشيطاني ، فسيكون الرد لإبطال قوله من وجهين ، الأول : أنه باطل شرعا وهو خلاف مفهوم بعض النصوص الشرعية . الثاني : أن الانتظار والترقب آخر الزمان عند حلول الفتن إنما هو انتظارا وترقبا لفرج الله وخلاصه ، ويجب أن يكون كذلك ، لما يلحق المؤمنين من تضييق وتشريد على ما جاءت بخبره الكثير من الآثار والأخبار ، ومن لم يكن مقتضى حاله طالبا فرج الله وبإلحاح ، مستغيثا لائذا بربه ، فمثل هؤلاء مشكوك في دينهم وإيمانهم . وسلمان حين زج بأمر المهدي في هذا إنما طلب بذلك التلبيس على الجهال ممن اغتر بفكره ومنهجه الباطل الفاسد الذي بني على غير هدى من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل على هدى سلمان وأمثاله الذين نصبوا أنفسهم وأفكارهم أملا ورجاءً من دون الله تعالى ، ألا تراهم كيف يشنشنون حول حديث تجديد الدين ، وهو في حقيقة الأمر عليهم لا لهم كما سيأتي بيانه لاحقا .
الوجه الأول في إبطال قول سلمان : ما ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى مخاطبا رسوله المهدي : ﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون . أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين.ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون ﴾ ( 3 ) .
ثم قوله في ختم السورة : ﴿ فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون . فارتقب إنهم مرتقبون ﴾ ومعنى الأمر بالارتقاب هنا الانتظار ، وهو خطاب بصيغة الأمر فيكون واجبا على المهدي ومن معه ، والمهدي آخر الزمان قبل التمكين لا يجب عليه إقامة واجبات الإسلام وهو مستضعف ، كما يزعم سلمان وجوب ذلك على نفسه وأمثاله ، فواجبات المهدي خلاف واجبات سلمان ، وكيف يقيم تلك الواجبات وهو عاجز عن ذلك ، مرفوضة دعوته وقد كذبه أكثر الناس وفي جملتهم وعلى رأسهم قراء النفاق وسلمان منهم . وواجبات الإسلام عند المهدي إقامتها على نهج المصطفى لا على منهج سلمان ومن على شاكلته من جهال هذا العصر ، فهؤلاء لهم واجبات أخرى ونهج آخر ، والمهدي إنما يلزمه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا أمر سلمان وقراء النفاق آخر الزمان حثالة الحنبلية ، ومن أجل ذلك تعين عليه الإعتزال لعجزه في زمان الفتن وبات منتظرا مترقبا فرج الله تعالى وفصله ، لأمر الله تعالى له بذلك ، وسلمان ينكر كل ذلك تقولا على الله تعالى عمى وبلادة فصار بذلك مكذبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، راضيا ومصدقا للسفهاء أنه علامة الحثالة .
وهذا الانتظار للفرج والفتح والفرقان بين الحق والباطل ، سنة في رسل الله مع أقوامهم والمهدي لا شك سيكون أمره على سنتهم والقرآن في ذلك صريح بيِّن على ما أخبر المولى عز وجل في سورة الدخان وغيرها .
منهم نبي الله ورسوله شعيب في قومه الذين دعاهم للحق فأبوا عليه فجاء قوله على ما ذكر تعالى عن خبره : ﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ﴾ ( 4 ) . وذكر تعالى في دعائه ومـن معه قوله : ﴿ وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ ( 5 ) . وعرف من هذه الآيات أن شعيبا عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بانتظار وترقب الفتح ، والمهدي كذلك أمر بانتظار وترقب الفتح على خـلاف معتقد سلمان وأمثاله ، لا فتح ولا ترقب . قال تعالى : ﴿ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتـح لا ينفـع الـذين كفـروا إيمانهم ولا هـم ينظـــرون . فأعـرض عنهـم وانتظـر إنـهـم منتظـرون ﴾ ( 6 ) . هو الفتح الذي يكون آخر الزمان وليس قبله الذي لا يقبل بعده الإيمان . والرسول هنا صلى الله عليه وسلم أمر بانتظاره لتحقق القطع والفصل مع النصارى واليهود ، وقريب منه قوله تعالى : ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنّـا منتظرون ﴾ ( 7 ) . وفي هذه الآية تأكيدا لموعد الفتح أنه كائن آخر الزمان وجاء في تأكيده آيات أخر سيأتي ذكرها في الفصل الثاني في رد قول سلمان أن الأمر بالانتظار إنما حقيقته في الجزاء يوم القيامة وليس كما قال بل هو فتح وفصل مرتقب أمر جمع من الأنبياء بانتظار تحقق تأويله آخر الزمان فضحا وإهلاكا لأهل الباطل من أشرار الملل المكذبين لدين الله تعالى ورسله ، وهؤلاء الأنبياء هم محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وإدريس وإلياس صلوات الله وسلامه عليهم ، ولهذه الغاية أتى الأمر بالانتظار بصيغة الجمع في أكثر من آية .
ومن الموافقات بين حال شعيب عليه السلام والمهدي غير الأمر بالارتقاب ، الفصل في أمرهما بالصيحة والزلزلة قال تعالى في ذلك : ﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ ( 8 ) . وقوله : ﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرين . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ ( 9 ) . وهكذا المهدي جاء ما يفيد تعلق الصيحة والزلازل والخسف بأمره .
ومن الموافقات كذلك بين أمرهما في قوله تعالى : ﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنَّا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ ( 10 ) .
وكذلك المهدي مستضعفا لا يَفْقَهُ الكثيرُ من الناس ما يقول .
ومن الموافقات بينهما أيضا توافقهما بالنسب ، فكلاهما ينسب إلى قبيلة عنـزة ، وسبق لي في كتاب ( وجـــوب الإعتزال ) وكتاب ( عمد النار والدخان ) ( 11 ) أن ذكرت أن سبب الحكمة في اختلاط نسب المهدي بعنـزة تكرمة لنبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام أن يجتمع في المهدي نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنـزة هم رهط شعيب يدل على ذلك ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه سلمة بن سعد العنـزي هو وجماعة من أهل بيته وولده ، فاستأذنوا عليه ، فدخلوا فقال : " من هؤلاء ؟ " فقيل له هـذا وفد عنـزة ، فقال : " بَخْ بَخْ بَخْ بَخْ ، نعم الحي عنـزة ، مبغى عليهم منصورون ، مرحبا بقوم شعيب ، وأختان موسى " . ثم أذن لهم بالانصراف ، فما عدا أن قام لينصرف ، فقال : " اللهم ارزق عنـزة كفافا لا فوت ولا إسرافا " . وفي لفظ ، قـال : " اللهم ارزق عنـزة قوتا لا سرف فيه " (12) .
ولهذا المعنى المذكور هنا وهو اجتماع نسب عنـزة وأهل البيت النبوي بالمهدي كان يرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعائه أن يكون رزق عنـزة وأهل البيت قوتا لا سرف فيه ، وقد طلب ذلك لأهل بيته أيضا كما في الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " ( 13 ) .
فاتصال نسب نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم في نسب مهدي الله تعالى ، صار سببا لحكمة توافق حالهما ومن ذلك الترقب والانتظار .
وما ورد في سنة المصطفى وفيه إبطال قول سلمان بنفي انتظار المهدي وترقب بعثه عند حلول الفتن : ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون إمارة على أقذاء وهدنة على دخن , ثم ينشأ دعاة الضلالة , فإن كان لله في الأرض خليفة فالزمه وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة " قلت : ثم مـاذا ؟ قال : " ثم يخرج الدجال " . وفي لفظ : " فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه ، فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو أن تموت وأنت عاض بجذع شجرة " (14) .
فقال : " أهرب " ولم يقل أقم وأصلح واسعْ في ذلك وابنْ كما هي حال سلمان وأمثاله ، يصلحون ويبنون بالباطل ، فهؤلاء يزعمون أنهم أعلم وأفهم من النبي صلى الله عليه وسلم في حال أمته وما يصلح لها ومتى يرجى فيها أم لا .
والخليفة هنا لا شك المراد به المهدي فهو من يكون أمره قبل الدجال كما أنه لا يصح في وصف غيره أنه : ( خليفة الله ) . وهذا الحديث مفهومه يفيد انتظار أمر المهدي في وقته لكل من تاقت نفسه لنصرة الدين وطلبت ظهور الحق واستعلائه ، كيف لا يكون والحق لا يظهر آخر الزمان إلا بأمره الذي قدره الله تعالى وأخبرت به رسله وأنه كائن آخر الزمان ، فيه يرفع الظلم والجور ، وينشر فيه العدل والقسط ، والرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث أرشد للإعتزال بصيغة الأمر إذا لم يكن هذا الخليفة ، والأمـر هنا يفيد الوجوب كما هو معلوم ، فيصبح الفرار والإعتزال وترك اتباع أياً كان دون هذا الخليفة واجب ، ولو لم يكن إلا هذا النص لكفى لرد باطل سلمان وآرائه وأقيسته العقلية ، وسلمان في حقيقة أمره جحد كل ذلك جرأة على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقديما بين يدي الله ورسوله ، هدى عند سلمان أهدى من هداهم ، فأخزى الله سلمان وكل من نحل نحلته الباطلة .
وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعد الإمارة التي على أقذاء والهدنة التي على الدخن , ينشأ دعاة الضلالة وسلمان منهم , وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم السبيل في وقتهم أن يلزم المؤمن خليفة الله في زمنهم إذا ما رآه بيقين العلم أو بيقين الواقع , وإن لم يكن أُمر المؤمن بالإعتزال حينها ( 15 ) وأن لا يتبع أحدا من هؤلاء الدعاة الذين وصفهم في هذا الحديث بألفاظه الأخرى بأنهم : ( دعاة على أبواب جهنم ) فهل بعد هذا التعيين والمُعَيِّن علم يدعى , فالإمارات والقذى كما ترى , والهدنة ودخنها مما مضى , لا ينكر ذلك إلا مكذبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وها هم الدعاة ما أكثرهم ـ لا كثرهم الله تعالى ـ في مشارقها ومغاربها ، وكان ظهورهم بعد هذه الفتنة والهدنة أبين ما يكون , ويأتي سلمان اليوم الجاحد ليتشدق منكرا الإعتزال ما قبل المهدي , كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح أن ليس في ذلك نصا , والحق أن النصوص في ذلك غير ما ذكرتُ أكثر من أن تحصى ، وهو مما تأصل عند السلف وحدثوا في أنه مما يكون آخر الزمان ، حتى أن بعضهم أنزل ذلك في زمانهم واعتزل وترك الإصلاح في أمر الخلاف بين علي ومعاوية ، فكيف اليوم والافتراق والخلاف بين من هم من أشر الخلق كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في أخبارهم ، هؤلاء الذين اجتمع فيهم أكثر الشر في عمر الدنيا كلها كما أفاده حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا " فقال رجل : وفي مشرقنا يا رسـول الله ؟ . فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : " من هنالك يطلع قرن الشيطان ، وبها تسعةُ أعشارِ الشرِّ " . وفي لفظ : " تسعة أعشار الكفر ، وبه الداء العضال " ( 16 ) .
وجاء في خبر الهدنة المذكورة في حديث حذيفة عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع ما بين تلك الهدنة وفتنتها ودخنها , ذكر ذلك في جملة الأشراط التي تسبق قيام الساعة , فقال : "..وفتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته , وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر.." ( 17 ) . وسلمان وأمثاله أمنوا أمر هذه الفتنة وهانت عليهم في حين كان عمر يخشاها ويهاب أن تدركه , وكان يسأل عنها حذيفة ويقول : أسألك عن الفتنة التي قبل الساعة تمـوج موج البحر ؟ . ويرفع يديه ويقول : اللهم لا تدركني ( 18 ) .
وهنا أفيد إخوتي في الإيمان وأبين لهم كيف يأتي من هذا وأمثاله إنكار الأمر وهو بين ظاهر , فأقول : أنهم لم يخالفوا ذلك لخفائه , بل خالفوه لأنهم من تأويله , فجاءت حالهم مصدقة لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، وأنهم هم الدعاة الذين يدعون على أبواب جهنم ويفتون بالرأي والظن , الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالهم , فلذا تجدون منهم نفرة شديدة من الإعتزال والنهي عنه , وما ذلك إلا لأنه فيهم . ومن ألفاظ حديث حذيفة في التحذير والأمر بإعتزال هؤلاء مـا روي من طريق عبد الرحمن بن قرط قوله : " فتنة واختلاف , ثم فتن على أبوابهـا دعاة النار , فلإن تمـوت وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحدا منهم " ( 19 ) .
وقد اتفق على القول بتحقق تأويل خبر حذيفة الكثير , منهم حذيفة وقتادة والقاضي والنووي وابن تيمية والمقبلي صاحب كتاب ( العلم الشامخ ) , ومنهم ابن باز والألباني , وكل هؤلاء أخطأوا في إدراك معنى الحديث , والصحيح أن تأويله تحقق في فتنة صدام العراق حين غزا الكويت وأوقد تلك النيران وأثار ذاك الدخان , وكل ذلك من أشراط الساعة , وما تبع هو المراد من حديث حذيفة رضي الله عنه .
وما يهمني الكلام عليه هنا هو أمر هؤلاء الدعاة الذين نص خبر حذيفة على ذكرهم والتحذير منهم والنهي عن اتباعهم ، وبين أنهم يكونون بعد الفتنة والهدنة والدخان ، وأنهم على أبواب جهنم دعاة من أطاعهم قذفوه فيها ، وجاء في ذكرهم والتحذير منهم أحـاديث كثيرة ، منها حديث أبي هريرة عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم مـن الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم " ( 20 ) . وفي لفظ : " يأتونكم ببدع من الحديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم لا يفتنونكم " ( 21 ) . ورواه أبو يعلى قال : " سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم " ( 22 ) .
فقوله : ( من أمتي ) . دال على أن أمرهم سيكون ملتبسا على الكثير فيعدونهم من جملتها وليسوا كذلك في حقيقة الأمر إذ أنهم دعاة لجهنم لا للإيمان .
وروي عن ابن عمر رضي الله عنه من وجه آخر بالقطع في عددهم مرفوعا بلفظ : " في أمتي لنيفا وسبعين داعيا كلهم داعٍ إلى النار ، لو أشاء لأنبأتكم بآبائهم وقبائلهم " ( 23 ) . وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يكون قبل خروج الدجال نيف على سبعين دجالا " ( 24 ) .
ومن عجائب أمر المهدي أن أورد له في المنام أسماء بعض هؤلاء من خلال مثال النبي صلى الله عليه وسلم في المنام منهم الألباني والقرضاوي والقطان والطنطاوي المصري وعبدالرحمن عبدالخالق وعبدالعزيز الهده وأبو بكر الجزائري وربيع المدخلي ومقبل الوادعي ومحمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي .. ، وما تزال القائمة مفتوحة .
وهؤلاء هم رؤوس الفرق الاثنتين والسبعين التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها هالكة ، وبين أنها تعاصر الفرقة الناجية التي لن تكون إلا على ما كان عليه محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهي قطعا الفرقة التي على رأسها المهدي وأصحابه آخر الزمان ، فهم الذين يصح القول فيهم أنهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ودعاة الفرقة والفتنة هؤلاء آكد ما جاء في التحذير منهم والنهي عن اتباعهم حديث حذيفة رضي الله عنه الذي عمي عن إدراك دلالته الكثير من الناس وفي عدادهم هذا القصيمي التائه سلمان العودة . وفيه قوله : " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قال حذيفة يا رسول الله : صفهم لنا ؟ قال : " هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا " ثم قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها .." ( 25 ) . فدل هذا على أنهم أصحاب فرق وأرشد لإعتزالهم حين لا توجد جماعة المسلمين وإمامهم ، وبين أن خبرهم مما يكون آخر الزمان معاصرا للمهدي وجماعته ، ولذا أرشد للتمسك به إن ظهر أمره ، ولو لم يكن ذاك وقته لم يوصِ بذلك . ونص أيضا صلى الله عليه وسلم أنهم يعاصرون الأئمة الذين وصفهم بقوله : " يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي " ( 26 ) .
وكل هذا حاصل اليوم ودال عليه حديث حذيفة بكل جلاء ، ألا ترونهم كيف ينفرون من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعتزال ، وكيف يعتزلون !! ، فهل يعتزل المرء نفسه !! ، ألا ترونهم يذبون عن ولاة الشر آخر الزمان ، الذين لا يستنون بسنة المصطفى ولا بهديه ، فكيف يَبْرؤون منهم ويجانبونهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أضافهم لهؤلاء الولاة بقوله : " يكـون أئمة يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهـم قلوب الشياطين في جثمان إنس " .
وجاء في بعض المرويات ما يوهم الاختلاف على عدد هؤلاء الدعاة ، من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة بلفظ : " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا كذابا كلهم يكذب على الله وعلى رسوله " ( 27 ) .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بين يدي الساعة الدجال ، وبين يدي الدجال كذابون ثلاثون أو أكثر " قلنا : ما آيتهم ؟ قال : " أن يأتونكم بسُنَّةٍ لم تكونوا عليها يغيروا بها سنتكم ودينكم ، فإذا رأيتموهم فاجتنبوهم وعادوهم " ( 28 ) .
وذكرت قريبا عن ابن عمر وأنس القطع بأن عددهم أكثر من السبعين .
وعن جابر بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بين يدي الساعة كذابين " قال جابر : وبعض أصحابي يقول : " قريب من ثلاثين كذابا " ( 29 ) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين يدي الساعة قريب من ثلاثين دجالـين كذابين كلهم يقول : أنا نَبيٌّ ، أنا نَبيٌّ " ( 30 ) . وعنه بلفظ : " كلهم يزعم أنه رسول الله " ( 31 ) .
قال الحافظ ابن حجر : يحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابا فقط ، لكن يدعو إلى الضلالة كغلاة الرافضة والباطنية وأهل الوحدة والحلولية وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد ، فقال علي لعبدالله بن الكواء : وإنك لمنهم . وابن الكواء لم يدعِ النبوة وإنما كان يغلو في الرفض اهـ ( 32 ) . قلت : هو ابن سبأ ، والحديث لم يروه أحمد بل أبو يعلى عن أبي الجلاس قال سمعت عليا يقول لعبدالله السبائي : ويلك والله ما أفضى إلي بشيء كتمه أحدٌ من الناس ، ولقد سمعته يقول : " إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا " وإنك لأحدهم ( 33 ) .
وقول الحافظ واستدلاله في معنى حديث الثلاثين الدجاجلة من أحسن ما قيل في هذا الباب وأزيد في بيان المراد فأقول : أن المرويات في خبر الدجالين لم تتفق على عددهم ولا ادعاءاتهم كذلك ، والراجح أن الجمع بين كل ما ورد في ذكرهم هو أن الثلاثين الذين يدعون النبوة أو الإرسال عددهم هذا مقصور على من يزعم ذلك وأيضا من يزعم المهدية بالباطل والكذب ، وذلك لأن ادعاء المهدية إنما هو ادعاءً للإرسال أيضا ، فالمهدي الحق لا يكون مهديا إلا إذا كان مهديا للحق من الله تعالى ، مبعوثا بعلمه وإرادته المختارة سبحانه ، والقرآن والسنة صريحة في ذلك ، فعلى هذا كل من ادعى المهدية بالباطل إنما هو في حقيقة الأمر يدعي أنه مرسلٌ ومبعوثٌ من الله تعالى ، ويدخل في خبر الثلاثين .
أما دعاة جهنم السبعين وزيادة ، فهؤلاء دعاة الضلالة الذين يكون أمرهم أكثر ما يكون ظهورا بعد الفتنة والهدنة ، وهم الذين نهي المؤمن عن اتباعهم في دعاواهم وأكاذيبهم . وإن أُخِذ حديث علي بن أبي طالب وإنزاله الخبر على ابن سبأ وهو لم يزعم النبوة ولا الإرسال ، على فهم علي رضي الله عنه فقد يدخل بعض رؤوس دعاة النار هؤلاء في حديث الثلاثين كذلك ، إن كان المراد بدعواهم النبوة أو الإرسال على مقتضى لسان الحال لا المقال ، إذ أن الغاية من بعث الأنبياء وإرسال الرسل هداية الخلق ، وهؤلاء لما نصبوا أنفسهم دعاة لهداية البشر زعموا ، شابهوا بادعائهم ذلك وظيفة الأنبياء والرسل ، وهم كذبة في ادعائهم ، لذا وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصف .
وكل ما جاء في أحاديث الفتن آخر الزمان والأمر بالإعتزال وترك الأمر والنهي ، واجتناب أمر العامة وعامة أمورهم جار على هذا الأصل انتظار الفرج ، وهو انتظار لازم لمقتضى الحال ، فإن كل منكوب طريد شريد بداهةً سينتظر الفرج ، وفرج آخر الزمان لن يكون إلا كما أخبر المصطفى من الله تعالى وبأمره ، فهو الذي قدر هذا وأخبر به وبما يكون من حال قبله وبعده ، وسلمان أبى إلا إحداث أمرٍ غير أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتبشير بغير بشرى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أحدثوا حتى تركوا أمر المهدي زيادة فضل وتحصيل حاصل ، وبدلا من المهدي سيكون ألف مهدي ومهدي !! ، وعلى هذا جاء قول كبيرهم : فمن استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي ، وهذه خرافة وضلالة !! ، ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة .. والمهدي لن يكون أعظم سعياً من نبينا ظل ثلاثة وعشرين عاما وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام وإقامة دولته ، فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعا وأحزابا ، وعلماؤهم إلا القليل منهم أتخذهم الناس رؤوسا لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمع صفهم ، وهذا يحتاج إلى زمن مديد فالشرع والعقل معاً يقضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين ، حتى إذا خرج المهدي ، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر !! وإن لم يخرج فقد قامـوا بواجبهم اهـ . وقال أيضا : ما أحسب المهدي يقدر ـ خلال سبع سنين ـ على أن يحدث من التغيير في العالم أكثر ممـا أحدث رسول الله خلال ثلاث وعشرين سنة .. وأنه سيظهر وقد تهيأ للعالم الإسلامي وضع صلح فيه أمر الأمة ، وتمت فيه مرحلتا ( التصفية والتربية ) ولم يبقَ إلا ظهوره اهـ (34) .
يريد أن يكون ابتداء ومنتهى أمر المهدي تتويجا لنجاحهم هم وختما لسعيهم ، أي تحصيل حاصل وزيادة ( ديكور ) ، أما الامتحان والابتلاء وتمييز الطالح من الصالح وفحص الإيمان ليعرف الصادق من الكاذب ففيهم يكون هذا الأمر ، أرأيتم كيف صار بدلا من المهدي مهديٌ غيره .
والحق أن التصفية والتربية الشرعية الحقيقية إنما تكون بأمر المهدي وبعثه لا بمحدثات الألباني وسائر سفهاء هذا القرن ، محدثاتهم التي لم تزد الناس إلا فرقة وتشتت وعداوة ، ولم نرَ من تصفيتهم وتربيتهم المزعومة إلا زيادة في المبتدعات والضلالات التي انتهت بهم إلى إنكار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعتزال وترك العامة كما أمر ، وتجنب البدع وشرور الناس آخر الزمان ، فأنكروا كل ذلك وكذبوا أخبار نبي الله تعالى ، فتعست تلك التربية وخابت في خلوف الألباني ومنهجه التصفية ، بل خرج من أتباعه البارزين من يدعو لمذهب الجهمية والمرجئة في الأحكام والأسماء ، ألا خابت تصفية الألباني وتربيته ، بل التصفية والتربية الحقة بما قدر وشرع المولى عز وجل وهدى في مبعث المهدي وإرشاده ، فبأمره دون جميع دعاة الضلالة وجهنم تكون التصفية والتربية وببعثه الحق ستمتحن الناس وتبتلى بالإيمان والكفر ، بالتصديق والتكذيب ، فمنهم من هدى الله ومنهم مكذبين ضالين محدثين مرتابين .
ومن نظر لكتاب سلمان في الإعتزال نظر الفطين العارف أيقن مدى سفاهة عقله وكثرة جهله ، وسيجد أن مبنى فهمه وآرائه على أصول ردية واستحسانات تصورية ساذجة ، مثل زعمه أن القول بأن عصرنا هذا وانطباق الأحاديث عليه ، التي فيها الأمر بالإعتزال واجتناب العامة وعامة أمورهم ، الزمان الذي يظهر فيه الشح واتباع الهوى والعجب بالآراء أن تقدير انطباق هذا على زماننا وصحة تعيينه عائد لجهابذة العلماء الجامعين بين معرفة الشرع والشهادة على الواقع وإدراكه إدراكا صحيحا متوازيا اهـ ( 35 ) . يريد حنابلة السفه في هذا العصر وهم من أجهل وأضل الخلق بواقع الخليقة ، عميان بصر وبصيرة ، لا تجدهم إلا قابعين في قصور الأمراء متشبهين بزيهم محجور عليهم مغادرة الجزيرة ليستطلعوا أحوال الناس عن قرب ، أحاط بهم حدثاء سفلة سفهاء ، وجواسيس وشرط البلاء ، فأين لمثل هؤلاء صحة الشهادة والإدراك الصحيح المتوازي . ومع هذا هم لا يمثلون إلا السعودة ، فمن أين لسلمان السفه والرأي حين نصب هذه الرويبضات حكاما على نصوص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلينصبهم على واقع مملكته لا رعاه الله ولا يزج بالأمة والإسلام بتفاهاتهم وجماعتهم المشؤومة وليكن صريحا كما كان منه حين رفع وحزبه ورقة حواراتهم مع الغرب المسماة ( على أي أساس نتعايش ) ( 36 ) فانتسب بالموقعين معه لأرض الحرمـين ومهد الإسلام وقال : ( المملكة العربية السعودية ) !! هكذا بين هلالين لا أهل الله عليهم بخيرٍ ، دعاة الوطنية هؤلاء لا حماة الإبراهيمية ، أخزاهم ربي أين ما توجهوا .
فليكن هكذا دائما مملكي ولا يقحم نفسه وسفهاءه في أحكام الإسلام العامة التي تهم وتعني المسلمين جميعا ، وليبقي أحكامه وجهابذته على مملكته ، فهو وهم يمثلونها لا الإسلام . ولينتهوا عن الربط ما بين الحرمين والمملكة تعريفا للجزيرة والتذكير بأنها كانت مهد الإسلام ومهبط الوحي ، تغطية وتلبيسا على الحقائق ، فاليوم ما عادت لائقة بكل ذلك بعد أن صارت منبعا للشرور وانبثاق البلايا وتحريف الدين واعتناق الخبث السياسي والمكر الدولي من طرفها ومن عرض بحرها يحيكون الدسائس والدجل السياسي مع روزفلت وتشرشل وكارتر وبوش وتاتشر وغيرهم من ساسة العالم الهالك مؤثرين الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية .
هذا ما ورد في السنة وفيه إبطال زعم سلمان أن ليس هناك نص يدعو للانتظار والترقب ، وهو يقول قوله هذا وأمارات تحقق بعث المهدي ظهرت وثبتت ومع هذا سلمان يدعي ما يدعي تلبيسا وردا لأخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وصدا عن تصديقها الواجب ، عليه من ربي ما يستحق .
الوجه الثاني في إبطال قول سلمان : أن الانتظار إنما هو انتظار لفرج الله تعالى وخلاصه ، فكل من عد زماننا زمان فتن واختلاف وانحلال عن قيود الشريعة والدين ، زمانٌ الباطل فيه يظهر ويثأر ، والحق يقصى ويدحر ، علم يقينا وجوب اعتزاله في هذا العصر طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي أمر حين ندرك ما أدركنا بالإعتزال وترك العامة وعامة أمورهم وما ذلك إلا لامتناع نفع الإصلاح في هؤلاء ، وأنهم بلغوا من الشر ما لا ينفع معه إلا الاستئصال ، لا المهادنة والمداهنة كما يفعل الآن سلمان وزمرته .
ولما كان هذا الاستئصال هو علاجهم الأوحد والأنجع وهو غير مقدور لأحد أوصى عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالإعتزال خيرا لهم وسلامة ، وعد فاعل ذلك من خير الناس كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وسيأتي لاحقا ذكره والتعليق عليه .
أما سلمان فعد هؤلاء من أضر الناس لأنفسهم والناس ، وأنهم من الخير للناس وأنفسهم حين اعتزلوا ، وما ذلك إلا لسوء طباعهم وفساد مداركهم على ما فهمه من ظاهر لفظ حديث أبي سعيد تقليدا أعمى منه لما قرره شرحا للحديث مثل الحافظ ابن حجر والسندي الهندي وقبلهم الصوفي القشيري ، والخطابي في عزلته التي صنفها في ترك فضول الصحبة وقد خلط في كتابه خلطا عجيبا وأنزل على ترك خلطته ما ليس فيها من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وقلده في الكثير مما قرره سلمان في كتابه ( العزلة والخلطة ) وحذى على منواله في عامة ما قرره وزاد عليه بما هو أجهل وأضل ، وأغرب بعيدا بمعنى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإعتزال عند الفتن ما أحال مقتضى تلك الأحاديث إلى التعطيل بحجة التفسير ورمى بزمان تحقق تأويلها إلى ما بعد المهدي والمسيح ، ونفى أن تعم الفتنة والفرقة الناس ما قبل المهدي حتى لا يرجى معهم إصلاح ولا فلاح ، ما يوجب على المؤمن ترك مخالطتهم وطلب مباينتهم حتى يأتي الله بأمره ، وهذا ما دلت عليه أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومع أن واقع الناس مصدق للزوم الحكم بالعزلة وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بينة فيه ، لا تجد سلمان وزمرته ومن على شاكلته إلا مخالفين لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدين لواقع حال الناس اليوم فقبح فكر سلمان وفهمه حين انتكس عليه الأمر والتبس فذم من مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه نتيجة الآراء السفيهة ومغباتها الرديئة وهي الانتهاء بالمرء إلى معارضة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبغض ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " قالوا : ثم من ؟ قال : " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره " متفق عليه .
قال النووي في شرح صحيح مسلم : فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط ، وفي ذلك خلاف مشهور ، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل ، بشرط رجاء السلامة من الفتن ، ومذهب طوائف أن الإعتزال أفضل . وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الإعتزال في زمن الفتن والحروب ، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ، ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص اهـ ( 37 ) .
قلت : دعوى المفاضلة هنا بين الإعتزال والخلطة وحمل تلك المفاضلة على دلالة حديث أبي سعيد قول باطل غير صحيح ، وإن كان مرادهم بالإعتزال ترك فضول الصحبة ، فبطلان قولهم آكد لوجوب الإعتزال عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ترك فضول الصحبة ، فترك الناس والابتعاد في الشعاب عن جماعتهم لا يكون هذا تركا لفضول الصحبة بل لما يجب لقيام الجماعة والاعتصام بها ، ومثل هذا الإعتزال لا يكون مشروعا إلا في انتفاء وجود الجماعة بتحقق الفرقة والفتن .
وأضعف شيء فيما نسبه النووي للجمهور جوابا على حديث أبي سعيد في الإعتزال ، حمله الحديث على من لا يُسلَم منه إلا بالإعتزال ، لعدم صبره على الناس ، ويعد هذا خلط وقول باطل على دلالة الحديث ولا يشرع الإعتزال لما قالوا بأي حال ، فإذا وجب حكما فعِلَّتهُ لن تكون لقولهم هذا وإلا أثم المعتزل ، ولا يصحح القول بذلك إلا من يجهل دلالة حديث أبي سعيد الذي فيه الأمر بالإعتزال لتحقق الفتن والاختلاف لا لعدم قدرة المعتزل إلتزامه حدود الله تعالى .
وأما الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في كتاب الرقاق ، اضطرب في باب : العزلة راحة من خلاط السوء . على أحاديث أبي سعيد في الإعتزال وفارق بين الحديثين بالزمن ، فجعل الأول ما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم والثاني زعم أنه صريح في كونه مما يقع آخر الزمان ، وأنه حين ذاك تكون الخيرية بالعزلة . وهذا التفصيل مع كونه على خلاف معميات وعمومات سلمان إذ أنه لم يفرق هذا التفريق ، ففيه نظر ، والصحيح أن المراد في كل هذا الأخبار خيرية العزلة آخر الزمان عند حلول الفتن والاختلاف لا كما زعم الحافظ أن منه ما يكون بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الخيرية بالعزلة متجهة لمن لا يقدر على الجهاد ، وهذا باطل فمن لم يقدر على الجهاد بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعين عليه الإعتزال ولا يصح له حتى يمدح .
وسلمان العودة في جملة ما قرره من أباطيل في كتابه في الإعتزال ذكر هذا القول الضعيف الباطل على التعميم وأطال في تقريره تقليدا لما ذكره النووي وغيره في حديث أبي سعيد ، كرر وأطال في تقرير قولهـم هذا جهلا منه وبلادة ولو أعمل فكـره قليلا فيما قالوا لبان له وجه بطلانه ، ولا حجة لهـم في قوله بالحديث : ( ويدع الناس من شره .. ) .
أولا : لأن ما يكون منه من شر لا يوجب عليه الإعتزال وترك ما يجب عليه القيام به في حال وجوب وجوده بالجماعة ، بل الواجب عليه كف شره مع إلتزامه الجماعة وما توجب عليه أحكام الجماعة ، ولا يجيز له الإعتزال لما قالوا إلا جاهل .
ثانيا : إذا وجب عليه الإعتزال لتحقق الفتن والاختلاف وانتفاء وجود الجماعة على ما نص عليه حديث أبي سعيد وحذيفة ولم يعتزل بل خالط وترأس في الفتن كان شره محققا حين ذاك غير مكفوف ، لخلطته ومخالفته لأمر المصطفى بالإعتزال عند الفتن والاختلاف ، وهذا عين ما يفعله سلمان وأمثاله في هذه الفتن المعاصرة ، وشرهم محقق اليوم بترؤسهم وخطاباتهم في الناس وسعيهم الذي أضلوا فيه من الخلق ما لا يحصيهم إلا المولى عز وجل ولو اعتزلوا حين وجب عليهم الإعتزال لكفوا شرهم عن الناس ، إلا أنهم لم يعتزلوا وعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم فوقع منهم الشر من هذا الوجه ، وبهذا يعرف بطلان قولهم ومدى خلطهم على معنى حديث أبي سعيد في الإعتزال عند تحقق الفتن والافتراق .
وها هم من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوال الناس في الفتن حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما ينذران عما عليه سلمان ورفقته ، قال ابن مسعود لأحد تلاميذه : ألا أخبركم بخير الناس في ذلك الزمان ، كل غني خفي ، قلت : ما أنا بالغني ولا الخفي ، قال : كن كابن لبون بلا ضرع فتحلب ، ولا ظهر فتركب . قال : ألا أخبركم بشر الناس في ذلك الزمان ، كل خطيب مصقع أو راكب موضع . وفي لفظ عنه قال لأحدهم : تكف لسانك وتكون حلسا من أحلاس بيتك ، خير الناس في ذلك الزمان الغني المستخفي ، وشر الناس الراكب الموضع والخطيب المصقع ( 38 ) .
وعنه قال : إلزم بيتك ، قيل : فإن دخل علي بيتي ، قال : فكن مثل الجمل الأورق الثفال الذي لا ينبعث إلا كرها ولا يمشى إلا كرها ( 39 ) . قال الأصمعي : الثفال هو الثقيل البطيء ، والأورق عند العرب من الإبل غير محمود عندهم في عمله وسيره . قال أبو عبيد : خص الأورق من الإبل لضعفه عن العمل ثم اشترط الثفال أيضا فزاده إبطاءً وثقلا فقال : كن في الفتنة مثل ذلك ، وهذا إذا دخل عليك ، وإنمـا أراد عبد الله بهذا التثبيط عن الفتنة والحركة فيها ( 40 ) .
وكان رضي الله عنه يكثر من قوله هذا في خطبته كل يوم خميس ويبين مؤكدا أن زمان ذلك حين يقل الفقهاء ويكثر الخطباء والقراء أمثال سلمان هذا ورفقائه ، في وقت يشيدون البنيان ويستخفون بالأمانة ويقبلون الرشا ، وحين يكثر الأمراء ويقل الأمناء ويتفقه لغير الدين وتبتغى الدنيا بعمل الآخـرة .
وقد بلغ بابن مسعود الأمر في تبليغ الأمة هذه النذارة أن رد طلب الوليد بن عقبة حين أزعج الأمراء بترديده لهذه الخطبة وتأكيده لما ورد فيها من أخبار أن يتركها أو يخرج ، فخرج ولم يستجب لأمرهم في تركها ( 41 ) .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن عمرو وسهل بن سعد عند حلول الفتن ووقوع الاختلاف أن ينشغل المرء بنفسه وخاصته عن أمر العامة وعامة الأمور وأن يلزم بيته ويجتنب الفتن وأهلها ، حين يرى المرء المؤمن أمرا لا يد له به من العجز عن التغيير ، وسلمان وأمثاله على النقيض من هذه الوصية لم يقروا بهذه الحقيقة الشرعية المخبر عنها سفهاً من أنفسهم الضالة ، وعاند سلمان واقعا مشاهدا شغفا بالشهرة واعتلاءً لموجات الإعلام الزائف ليرفع منزلة منحطة وقدرة كليلة متجاوزا حوطة الخراب وغبرة الثاوين بالجهالات يلاسن الغرب الملحد الفاجر ، كمن عجز عن البعوضة فقصد الفيل يصارعه ، فكانت نكبته الأخيرة بأبالسة الأردن يمنعونه من ذلك ويزجونه بالحجز ويمنعونه من إلقاء حواراته للغرب الكافر بإيعاز من أسياد حوطة الخراب
وروى عبدالرزاق والحاكم عن حذيفة : غير الدجال أخوف عليكم فتن كقطع الليل خير الناس فيها الغني الخفي ، وشر الناس فيها الخطيب المصقع والراكب الموضع ( 42 ) .
وهكذا كل من روى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح الإعتزال عند الفتن لا تجده إلا معتزلا عند الاختلاف ولو أدركوا زماننا هذا لعدوا الإعتزال آكد في وقتنا ولا شك ولتجدن سلمان يروغ عن التزامه معهم كروغانه اليوم .
وأزيد في بيان ضعف قولهم المذكور سابقا في دلالة حديث أبي سعيد بما يلي : روى ابن سعد وغيره عن أم بشر ابن البراء أنهـا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : " ألا أنبئُكم بخير الناس رجـلا ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . ـ فرمى بيده نحو المغرب ـ فقال : " رجل آخذ بعنان فرسه ينتظر أن يغير أو يغار عليه . ألا أنبئُكم بخير الناس رجلا بعده ؟ " قالوا : بلى . ـ فرمى بيده نحو الحجاز ـ فقال : " رجل في غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعلم حق الله عليه في ماله قد اعتزل شرور الناس " ( 43) .
وفي الباب أيضا عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهم ، ولا يخلو معنى هذا الخبر من أن يكون حال الناس إلا على أمرين لا ثالث لهما :
الأول : أن يكونوا في جماعة وحال ائتلاف ولهم إمام يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه كحال الأمة في زمان أبي بكر وعمر وشطرا من خلافة عثمان رضي الله عنهم جميعا ، وفي هذه الحال يشرع الجهاد ولا تشرع العزلة بحال ، بل المعتزل في زمن الناس وهم في جماعة متفقون على إمامة شرعية آثم مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم التفرق والاعتصام بالجماعة ، ومثل هذا لا يحمد ولا يمكن إنزال ثناء الرسول في الإعتزال عليه ، إنما يمدح حينها المجاهد الغازي في سبيل الله لا المعتزل القاصي يلعب به الشيطان كيفما يريد .
الثاني : أن يكون حال الناس في فرقة واختلاف ألمت بهم فتن وشرور ، لا جماعة لهم ولا إمامة ، ففي زمن هؤلاء شرعت العزلة ومدح العامل بها ، وعليه ينزل مدح المعتزل من كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولا يمكن بحال اجتماع الأمرين والحالين في زمن واحد فالضدان لا يجتمعان أبدا ، فلا يمكن للناس أن يكونوا معتصمين مجتمعين متفرقين في آن واحد هذا لا يمكن أبدا ، ومن ظن ووهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح الغازي والمعتزل على السواء أنهم في زمن واحد فهو من جهله خلط وأبعد عن إدراك حقيقة هذه الأخبار ، والصحيح أن مدح رسول الله متجه للغازي في حال قيام الجماعة الشرعية والإمامة المفروضة ، والإعتزال مدح رسول الله فاعله في عدم وجود الجماعة والإمامة كما دل عليه حديث حذيفة في سؤاله عن الخير والشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذان حالان لا يثبت منهما حال إلا بانتفاء نقيضه ، ومما يثبت صحة هذا التفصيل وأن مدح المعتزل إنما اتجه من رسول الله لحال المؤمن آخر الزمان عند حلول الفتن واستعلاء الباطل وأهله وتحقق كثرة الشرور التي أخبر عن ظهورها آخر الزمان مثل كثرة الفتن والقتل وذهاب العلم والعقل وغير هذا مما نص على ظهوره آخر الزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ورد في لفظ حديث من أحاديث مدح الإعتزال وهو الحديث المـروي عن كرز بن حبيش الخزاعي رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله هل للإسلام منتهى ؟ قال : " نعم ، من أراد الله به خيرا من عجم أو عرب أدخله عليه ، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضهم رقاب بعض ، فأفضل الناس مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه ، ويدع الناس من شـره " . والحديث رواه الزهري عن عروة عن كرز بلفظ : هل للإسلام من مدة أو منتهى ينتهي إليه ؟..وفيه : قال الرجل : كلا إن شاء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلى والذي نفسي بيده " ( 44 ) .
وهذا صريح في مدح المؤمن المعتزل في حال إدراكه الفتن الكائنة آخر الزمان التي عندها يكون منتهى الإسلام ، ولا يمكن لهذا اللفظ إلا أن يكون المراد به ما يكون آخر الزمان لجواب نبي الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي بانتهاء الإسـلام والقسم على ذلك بحلول تلك الفتن والقتل ، وبين أنه حين ذاك يكون المؤمن محمودا بإعتزاله وفي كفه ليده ولسانه ، وإعراضه عن الخوض مع الخائضين في زمان تلك الفتن والشرور . ومعنى انتهاء الإسلام في الحديث إسلام الجماعة لا الأفراد بدليل إثباته وجود المؤمن المحمود بإعتزاله ، فالأخير لا ينتفي وجوده إلا بقبض أرواح المؤمنين ، وأما إسلام الجماعة فينتفي قبل ذلك بحلول الفتن والهرج آخـر الزمان وهذا الحديث صريح في الأمر وهو يعد من أصرح أحاديث مدح الإعتزال عند حلول الفتن وأحسنها لفظا .
ومما يؤسف له حقا أن اعتناء أصحاب الكتب الستة رواة أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بأحاديث العزلة يروونها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتعمدون بعد ذلك إغفال ذكر هذه الرواية تحكما منهم في قبول ما يشاءون ورد ما يشاءون من غير اعتبار لثبوت الرواية في الباب ولو خالفت أفهامهم واعتقاداتهم ، ولعلهم أنكروا جمع لفظ الحديث ما بين نهاية الإسلام مع وجود المؤمن معتزلا محمودا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمـر في ذلك على ما بينته هنا وفي كتابي : ( نثر الدرر ..) ولا إشكال فيه والحمدلله .
ورواة حديث كرز من رجال الصحيحين ما عدا صحابيه ، ولا حجة لعدم ذكر هذا الحديث من أصحاب الستة وقد رووا في الباب عن أبي سعيد وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم وهو بهذا الإسناد القوي ، وهذا منهم محض تحكم لا غير .
وفي اعتزال عروة بن الزبير راوي هذا الحديث عن كرز في زمنه حجة على من أنكر الإعتزال في زمننا هذا الذي هو يقينا زمن الفتن والبلاء وأبلغ رد على سفهاء الوقت من قراء السوء الذين أنكروا العمل بمقتضاه وذموا من اعتزل الفتن طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وطلبا لرضاه ، وكذلك فيه رد على سلمان العودة الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في زعمه أنا لسنا في زمن الفتن العامة التي يجب فيها الإعتزال وترك التصدر في الناس من بعد ما اختلفوا وتنازعوا واتبعوا أهواءهم وأعجبوا بآرائهم .
كما أن في الحديث إبطال زعم سلمان الذي قلد فيه ابن حجر وابن كثير والنووي وغيرهم في قولهم أن العلم لا يقبض إلا بعد قبض أرواح المؤمنين ، وهذا الحديث يبطل هذا الزعم ويدل على أن زمان قبض العلم إنما يكون قبل ذلك عند حلول الفتن آخر الزمان ، فعندها يقبض الإسلام والعمل به ويقبض العلم ويكون المؤمن المعتزل حين ذاك خير الناس .
----------
( 1 ) موقع ( الإسلام اليوم ) ، ومجلة السمو ( العدد 5 ص 9 ) .
( 2 ) راجع تفصيل خبر هذه الأمطار في ردي على سلمان المرفق ضمن ملاحق كتاب ( البيان الثاني لرد فرية الجاني ص 152) .
( 3 ) سورة الدخان (10-14) .
( 4 ) سورة هود (93) .
( 5 ) سورة الأعراف (89) .
( 6 ) سورة السجدة (28-30) .
( 7 ) سورة الأنعام (158) .
( 8 ) سورة هود (94) .
( 9 ) سورة الأعراف (90-91) .
( 10 ) سورة هود (91) .
( 11 ) الوجوب (2/182) وعمد النار ( ص 42 ) .
( 12 ) الأخير لفظ البزار ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه الطبراني والبزار وفيه من لم أعرفهم . قلت : له شاهد عند أحمد وغيره عن حنظلة بن نعيم العنـزي ، وسبق لي التعليق على هذه الأحاديث وما دلت عليه في كتاب وجوب الاعتزال ( 2/40 ) و كتاب عمد النار ( ص42 ) .
( 13 ) رواه أحمد ومسلم وجماعة .
( 14 ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وإبراهيم الحربي ، وابن ماجة (3/409) وذكره في باب العزلة .
( 15 ) وهذا هو مقتضى نص الخبر وعليه فهم الأئمة ، ولذا ترى ابن ماجة رحمه الله في سننه يروي خبر حذيفة هذا في باب العزلة . سنن ابن ماجة (3/407) .
( 16 ) رواه أحمد في المسند (9/458) ، وغيره .
( 17 ) رواه أحمد (6/25) ، والطبراني في معجمه الكبير (18/ رقـم71 ) ، ومسند الشاميين (1/456) والأوسط (1/67) واللفظ له . ورواه البخاري من غير هذا الطريق وفيه تقديم وتأخير .ورواه الحاكم وابن ماجة ونعيم وخلق غيرهم .
( 18 ) مسند الطيالسي (55) ، ورواه عبدالرزاق في مصنفه (11/365) ، راجع الفتح (13/50) .
( 19 ) رواه ابن ماجة (3/409) والحاكم (4/432) .
( 20 ) مسلم في المقدمة (1/26) .
( 21 ) رواه أحمد في المسند (14/252) .
( 22 ) مسند أبي يعلى (11/270) .
( 23 ) مسند أبي يعلى (10/65) ، قال ابن كثير في نهاية الفتن : إسناده لا بأس به (1/61) .
( 24 ) رواه أبو يعلى (7/108) وابن أبي شيبة (15/146) وفيه : (..ستا وسبعين دجالا ) وعند الطبراني عن عبدالله بن عمر : ( لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابا ) قال الحافظ في الفتح : سنده ضعيف (14/596) .
( 25 ) رواه البخاري في المناقب والفتن راجع الفتح (6/615) و (13/35) ، والنووي (6/236) .
( 26 ) رواه مسلم .
( 27 ) رواه أبو داود في الملاحم (5/54) .
( 28 ) رواه سعيد بن منصور (851) وأحمد في المسند (9/530) وأبو يعلى (10/69) والطبراني واللفظ له قاله الهيثمي (7/332) .
( 29 ) رواه مسلم في كتاب الفتن (18/63) وأحمد في المسند (34/398) والبزار (3375) .
( 30 ) رواه أحمد في المسند (15/338) .
( 31 ) رواه مسلم (18/63) .
( 32 ) الفتح (14/596) .
( 33 ) أبو يعلى في المسند (1/349) .
( 34 ) راجـع : (السلسلة الصحيحة والضعيفة كما ورد في المقدمـة (4/38) ، وكتاب المهدي حقيقة لا خرافة ( ص183 ) .
( 35 ) كتابه العزلة والخلطة (ص 74) .
( 36 ) أنظر لهؤلاء الدجاجلة سعاة التعايش مع النصارى واليهود ، اليوم جاء الذبح وإحقاق الحق وهم يطلبون التعايش مع اليهود والنصارى ، هذا خلاصهم المرجو ومنتهى بشاراتهم الكاذبة الزائفة .
( 37 ) شرح النووي (13/50) .
( 38 ) رواه نعيم بن حماد باختصار في الفتن ( ص 121) ورواه ابن بطة مطولا في الإبانة بإسنادين (2/591) ورواه الداني في الفتن (2/431) وعبدالرزاق يروي مثله عن حذيفة (11/394) والحاكم كذلك (4/529) .
( 39 ) رواه ابن بطة في الإبانة (2/592) وذكره أبو عبيد في غريب الحديث (4/81) وذكر إسناده في بعض النسخ : ثنا أبو النضر عن المسعودي عن علي بن مدرك عن أبي الرواع عن عبدالله .
( 40 ) غريب الحديث (4/81) وراجع التذكرة للقرطبي (610) .
( 41 ) عبدالرزاق في المصنف (3/80) ونعيم بن حماد في الفتن (1/160) ، وأشار إلى خطبة ابن مسعود ابن وضاح في البدع (ص24) ، وأبو عمر في فضل العلم (2/181) ، وسيف بن عمرو التميمي في الردة والفتوح (ص80) .
( 42 ) المصنف (11/395) والمستدرك (4/529) .
( 43 ) رواه ابن سعد (8/241) .
( 44 ) رواه عبد الرزاق في المصنف (11/362) وأحمد في المسند (25/262) وابن أبي شيبة (7/449) والطيالسي (1/182) ونعيم في الفتن (1/188) .