الفصل الخامس
﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
لقد علمتم من قبل في تقرير الحق في أصول دعوتنا المباركة بأن الله تعالى لا يحد وأنه محجوب عن الحواس البشرية على ما بين النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام وقرر موافقة ذلك في انجيل المسيح الصحيح ، وأنه تعالى أكبر من كل شيء ولا يمكن يحد بصفة ذات فيمكن تنظرها عين بشر ، اللهم إلا على سبيل التمثيل ، فكان المراد بوجهه في تلك الآية وفي قوله تبارك وتعالى أيضا : ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ .
التمثيل عن التابوت وتلك المقدسات ، جعل ذلك مضافا إليه تعالى وإلى أشرف ما يمكن التمثيل به وهو وجهه الباقي الذي إليه المرجع ومن خلاله سيكون الحكم مجددا فيهم .
فكانت تلك المقدسات في بني اسرائيل تابوت الشهادة ومتعلقاته والتمثيل بها عن وجهه تعالى ، اضافة تشريف أضافها لنفسه على أنها بمنزلة وجهه تبارك وتعالى ، لأن بذلك كان الكشف والإتصال والتواصل الوحيد المباشر فيما بينه وبينهم في ذلك الوقت ، فعاينوا ذلك الغمام الذي كان يغشى تلك المقدسات ، وعاينوا تلك المقدسات وبهاء الله تعالى عليها ، وكانوا يعدون أنفسهم يعاينون الله تعالى وجلاله ، وعليه أتت النصوص في كتبهم وتأريخ أنبيائهم ، أن الله تعالى جالس هناك وأن تلك المقدسات بمثابة كرسيه الذي يجلس عليه الرب عز وجل ، وورد في الزبور قوله : ﴿ يا جالسا على الكروبيم أشرق ﴾ . وغير ذلك من نصوص سيأتي إيرادها كلها إن شاء الله تعالى لاحقا .
وكان النبي اشعيا يتوعدهم بزوال ذلك منهم وأنه آت بعد ذلك لغيرهم ، فقال : ﴿ قَدِّسُوا رَبَّ الْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ ، وَيَكُونُ مَقْدِسًا وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ لِبَيْتَيْ إِسْرَائِيلَ ، وَفَخًّا وَشَرَكًا ﴾ .
يريد حين يعيد الرب عز وجل مجددا تلك المقدسات لكن لن تكون في بيت بني إسرائيل بل في بني إسماعيل ، وقال : ﴿ لذلك يكون لكم هذا الإثم كصدع منقض ناتئ في جدار مرتفع ، يأتي هذا بغتة في لحظة ﴾ .
أو قول حجي عليه الصلاة والسلام : ﴿ والآن فاجعلوا قلبكم من هذا اليوم فراجعا ، قبل وضع حجر على حجر في هيكل الرب ﴾ . يريد بهيكل الرب في غيرهم لما يعود الباري عز وجل للكشف عن وجهه ثانية لكن في أمة غير أمتهم ، ويظهر مجد الله تعالى وذلك التابوت مرة ثانية مع كل تلك المقدسات ، التي أمر بإخفائها عنهم ثم يعيدها مجددا آخر الزمان كما وعد .
وفي التوراة نبأهم بالمصير المحتوم هذا وأعلمهم مسبقا بالقضائين بحقهم بعد إفسادين يكون منهم ، وما يهمنا ذكره هنا افسادهم الثاني والقضاء الثاني بعده ، وهو بالتمكين للمهدي عليه الصلاة والسلام ، فقال هناك : ﴿ أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ ، وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ ، إِنَّهُمْ جِيلٌ مُتَقَلِّبٌ ، أَوْلاَدٌ لاَ أَمَانَةَ فِيهِمْ ، هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهًا ، أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ ، فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْبًا ، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ ﴾ " التثنية "
﴿ وأنا أحجب وجهي في ذلك اليوم لاجل جميع الشر الذي عمله ، اذ التفت الى آلهة اخرى ﴾" التثنية "
﴿ لذلك هانذا انساكم نسيانا ، وارفضكم من أمام وجهي ، أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم اياها ﴾ " ارميا عليه الصلاة والسلام "
وتم بالفعل حجب وجهه عنهم بحجب تلك المقدسات وتلك العقوبة النازلة في القضاء الأول بعد الإفساد الأول ، ثم يكون بالقضاء الثاني بعد الإفساد الثاني رجوع وجهه من خلال الكشف عن تلك المقدسات مجددا ليغيظهم بتلك الأمة التي ليست شعبا بحق فهم كما ترون اليوم لا تجمعهم رابطة واحدة إلا رابطة انتسابهم لهذا الدين لكن لا فكرة لهم بتاتا بكل ما سيجري وبكل تلك التفاصيل فلا علم لهم بها بتاتا لهذا هي أمة غبية وأناس مشتتون كثير بحقهم الوصف أنهم شعب ، بل هم شيع متفرقون شذر مذر ، لا رأس يربطهم ولا أرض تجمعهم ، ولم يبق لهم إلا قولهم أن هناك دينا واحدا يجمعهم ، وكذبوا ورب الكعبة ، بل هم في شيعهم مللا متفرقة ومذاهب متناحرة ، وفرق كلها في النار إلا واحدة فرقة المهدي ومن سيكون معه في الجنة .
وقال تعالى ملمحا إلى رجعة تلك المقدسات مرة أخرى في البشرية كما في سورة البقرة : ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ . فمصيرهم لقاء وجهه وبتحقق التأويل في اخراج التابوت وتلك العصا للحساب والفرقان ، فكان حجب عنهم كما ذكر في التوراة وحسب تلك النصوص المذكورة في ذلك بكتابهم ، ثم أخبر تعالى أنه سيعيده ليكشف لهم عن وجهه ثانية ومسكن قدسه ، ليحاسبهم ويكشف كل أكاذيبهم ويخزيهم ويعذبهم ويكون ذلك بمثابة حجر عثرة لهم جميعا ، فينصر من يشاء بذلك حين تمتد يد العدو في أولئك المفديين فيخلصهم بذلك السبيل ، وهذا أيضا تقرر في التوراة وصدق الله عز وجل حين قال بأن ذلك وغيره من مصيرهم مكتوب بذلك الكتاب وتفصيلا لكل شيء : ﴿ لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ حِينَ يَرَى أَنَّ الْيَدَ قَدْ مَضَتْ ، وَلَمْ يَبْقَ مَحْجُوزٌ وَلاَ مُطْلَقٌ ، اُنْظُرُوا الآنَ أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي ، أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي ، سَحَقْتُ ، وَإِنِّي أَشْفِي ، وَلَيْسَ مِنْ يَدِي مُخَلِّصٌ ، إِنِّي أَرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ يَدِي وَأَقُولُ : حَيٌّ أَنَا إِلَى الأَبَدِ ، إِذَا سَنَنْتُ سَيْفِي الْبَارِقَ ، وَأَمْسَكَتْ بِالْقَضَاءِ يَدِي ، أَرُدُّ نَقْمَةً عَلَى أَضْدَادِي ، وَأُجَازِي مُبْغِضِيَّ ﴾ .
فعد الله تعالى مقدسه ذاك مثالا لوجهه وكان هذا مفهوما لدى بني إسرائيل لكنه لم يفهم هكذا عند المسلمين قاطبة لما أورد الله تعالى ذكره في القرآن وعده مثالا عن وجهه كما قال بذلك في التوراة والأنبياء ، وحار المسلمون وهو يشار له في القرآن عن ذلك واختلفوا على عادتهم في تفسير معناه ، ما بين تأويل معناه أو حمله على ظاهر الحرف ، فتعددت تفاسيرهم ، فمنهم من حمل بعض ما ورد في ذلك على أن المراد به الكعبة ، ومنهم من قال المراد بالوجه الجاه أو المكان ، وممن حكى أقاويلهم واختلافاتهم تلك القرطبي رحمه الله تعالى بتفسره وذكره هناك : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل الْوَجْه الْمُضَاف إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة , فَقَالَ الْحُذَّاق : ذَلِكَ رَاجِع إِلَى الْوُجُود , وَالْعِبَارَة عَنْهُ بِالْوَجْهِ مِنْ مَجَاز الْكَلام , إِذْ كَانَ الْوَجْه أَظْهَر الأَعْضَاء فِي الشَّاهِد وَأَجَلّهَا قَدْرًا .
وَقَالَ اِبْن فَوْرك : قَدْ تُذْكَر صِفَة الشَّيْء وَالْمُرَاد بِهَا الْمَوْصُوف تَوَسُّعًا , كَمَا يَقُول الْقَائِل : رَأَيْت عِلْم فُلان الْيَوْم , وَنَظَرْت إِلَى عِلْمه , وَإِنَّمَا يُرِيد بِذَلِكَ رَأَيْت الْعَالِم وَنَظَرْت إِلَى الْعَالِم , كَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَ الْوَجْه هُنَا , وَالْمُرَاد مَنْ لَهُ الْوَجْه , أَيْ الْوُجُود ...
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْوَجْه عِبَارَة عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ , كَمَا قَالَ : " وَيَبْقَى وَجْه رَبّك ذُو الْجَلال وَالإِكْرَام " .
وَقَالَ بَعْض الأَئِمَّة : تِلْكَ صِفَة ثَابِتَة بِالسَّمْعِ زَائِدَة عَلَى مَا تُوجِبهُ الْعُقُول مِنْ صِفَات الْقَدِيم تَعَالَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَضَعَّفَ أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْقَوْل , وَهُوَ كَذَلِكَ ضَعِيف , وَإِنَّمَا الْمُرَاد وُجُوده .
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْوَجْهِ هُنَا الْجِهَة الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا أَيْ الْقِبْلَة . وَقِيلَ : الْوَجْه الْقَصْد .
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَثَمَّ رِضَا اللَّه وَثَوَابه .
وَقِيلَ : الْمُرَاد فَثَمَّ اللَّه , وَالْوَجْه صِلَة , وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " وَهُوَ مَعَكُمْ " . قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالْقُتَبِيّ , وَنَحْوه قَوْل الْمُعْتَزِلَة اهـ .
فهذه جملة من أقوال المسلمين في ادراك معنى ذلك واختلافهم ظاهر في تفسيره ، وأما في بني إسرائيل فالأمر جدا كان مفهوم المعنى بينهم وحمله على تلك المقدسات ظاهر ، لأن الحجب في ظاهر الحرف لا يمكن يحمل إلا على المعنى المراد فلا شبه لله تعالى عندهم ، ولم يحجب عنهم لتحقيق ذلك الوعيد إلا تلك المقدسات فعلموا يقينا أنها المقصودة بالحجب وأنها مثالا عن وجهه الكريم سبحانه حينما زالت عنهم بالكلية فعلموا يقينا حينها أنها المرادة بحجب وجهه عنهم .
قال تعالى في القرآن : ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ، وقال : ﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ . ربطه بالحكم والرجعة له ، لأن مراده حكمهم لما يرجع تلك المقدسات وأن مرجعهم جميعا إليه حين ذاك ليحكم ويفصل بينهم .
ولمح تعالى له في قوله عمن سيصلى النار ومن سينجى منها اشارة لنبيه الذي وعده يرجع لذلك المعاد الذي يرجع في تلك المقدسات ليري نبيه مجده كما رأوه في بني إسرائيل وكما سيراه حفيده الذي سيسبقه لمعاينة ذلك ، فقال تعالى : ﴿ لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ، إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ .
وعده بأن يرضيه لما يرجعه لتلك الموعدة في الآخرة وعليه احملوا قوله تعالى في سورة الضحى : ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ .
وهكذا عرفنا بأن المقصود بكلا الآيتين هنا نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولما كان تقديره عز وجل أن يعيد تلك المقدسات للناس آخر الزمان ، أخبر نبيه أن برجعته للدنيا في الآخرة ليلتقي وجهه ذاك وأنه سيعطيه حتى يرضى بذلك الوقت ، وأكرم الكرامات لنبيه أن يقيمه ذلك المقام العظيم للشهادة ويلتقي إخوانه من الأنبياء الأشهاد ، ويكون في حضرة قدس الله عز وجل مع من سيكرمون بالتواجد بجنب الله عز وجل في ذلك اليوم الآخر ، ومن أصدق من الله تعالى وعدا : ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ﴾ ، ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ .
وعلى وفق ذلك قال في ذلك ما نقل قبل من التوراة والزبور والأنبياء : ﴿ أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ ، وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ ﴾ " التثنية "
﴿ وأنا أحجب وجهي في ذلك اليوم لأجل جميع الشر الذي عمله ، اذ التفت الى آلهة اخرى ﴾ " التثنية "
يريد بآخرتهم هنا تلك الآخرة التي وعد الله نبيه أن يرجعه لها ليعاين تلك المقدسات حين تكشف لكل أهل الأرض ، وقد ورد التصريح في التوراة نفسها أن ذلك كناية عن وجوده بينهم حينها ، ولم يكن وجوده بينهم سابقا إلا بواسطة وجود تلك المقدسات ، ولم يكونوا يحملوا ذلك إلا على هذا النحو لذا أخبر في التوراة عن تصريحهم بذلك فقال هناك : ﴿ واحجب وجهي عنه ، فيكون مأكلة وتصيبه شرور كثيرة وشدائد حتى يقول في ذلك اليوم : أما لأن إلهي ليس في وسطي أصابتني هذه الشرور ﴾ . وهذا صريح في المعنى .
وقال إرميا عليه الصلاة والسلام : ﴿ لذلك ها أنذا أنساكم نسيانا ، وارفضكم من أمام وجهي ، أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها ﴾ ، ﴿ لأن هذه المدينة قد صارت لي لغضبي ولغيظي من اليوم الذي فيه بنوها الى هذا اليوم ، لأنزعها من امام وجهي ﴾ .
لكن انظروا على لسان النبي زكريا عليه الصلاة والسلام ماذا يقول في المقابل بما سبق ذكره لكن عن أخبار آخر الزمان لما يرجع الله تعالى مقدساته تلك ثانية ويتجلى بوجهه من خلالها ويكشف عن كرسيه : ﴿ هكذا قال رب الجنود سيأتي شعوب أيضا وسكان مدن كثيرة ، ويسير سكان الواحدة إلى الأخرى قائلين لنسر سيرا لإستعطاف وجه الرب والتماس رب الجنود ﴾ .
إن الأمر سيكون معلوما حينها ومفهوما كذلك على التمام ، ولهذا يأتي ذلك النبي ليصرح عن وجه الله تعالى مجددا ، وأن الناس ستلتمس الله تعالى في ذلك الوقت بالتماس وجهه الذي سبق وبنص التوراة وغيرها قد تم حجبه عنهم ولن يعود لهم أبدا ثانية بل يعيده الله تعالى لأمة أخرى وبمكان آخر ، والأمر جدا بين لا خفاء فيه .
بل يصرح أكثر فيقول : ﴿ فيأتي شعوب كثيرون وأممٌ أقوياء لالتماس رب الجنود في المدينة واستعطاف وجه الرب . هكذا قال رب الجنود إنه في تلك الأيام ستمسك عشرة أناس من جميع ألسنة الأمم بذيل إنسان قائلين إنا نسير معكم فقد سمعنا أن الله معكم ﴾ !!
وعند حزقيال عليه الصلاة والسلام الإخبار أن الله تعالى لن يحجب وجهه عن أولئك مثل ما فعل مع بني إسرئيل ، بل سيكون معهم للأبد ولن يسخط عليهم بعد ذلك : ﴿ ولا أحجب وجهي عنهم بعد ، لأني سكبت روحي عليهم ، يقول السيد الرب ﴾ .
ويصرح داود عليه الصلاة والسلام في الزبور عن رجعته للشهادة ليكون مع أولئك وحينها سينظر لوجه الله تعالى وأن ما سيراه بمنزلة المثال عن الله تعالى فيقول : ﴿ أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ ، أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ ﴾ .
ويجعله في موضع من الزبور قرين الخلاص فيقول : (ارتجي الله ، لأني بعد أحمده ، لأجل خلاص وجهه) .
حقا أن بذلك مجد الله تعالى وبره العظيم ، وبني إسرائيل يعلمون تلك الحقيقة جيدا ، فهذه امرأة أحد أبناء الأنبياء القضاة في الزمان الذي أخذ التابوت من بني إسرائيل فماذا قالت ؟! : ( قَدْ زَالَ الْمَجْدُ مِنْ إِسْرَائِيلَ لأَنَّ تَابُوتَ اللهِ قَدْ أُخِذَ ) " صموئيل الأول "
وفي الزبور : ﴿ الرَّبُّ الإِلَهُ الْقَدِيرُ تَكَلَّمَ ، وَدَعَا الأَرْضَ لِلْمُحَاكَمَةِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ، أَشْرَقَ مَجْدُ اللهِ ، يَأْتِي إِلَهُنَا وَلاَ يَصْمُتُ ، تُحِيطُ بِهِ النَّارُ الآكِلَةُ وَالْعَوَاصِفُ الثَّائِرَةُ ، يُنَادِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْعُلَى ، وَالأَرْضَ أَيْضاً مِنْ تَحْتُ لِكَيْ يَدِينَ ، فَتُذِيعُ السَّمَاوَاتُ عَدْلَهُ لأَنَّ اللهَ هُوَ الدَّيَّانُ ﴾ .
ينادي الأرض من تحت أي يأمرها تخرج تلك المقدسات المخفية بباطنها للعلن فيغشاها الغمام وسيرون كلهم مجد الرب وعظيم سلطانه تبارك وتعالى حينها ، وبماذا سمى ذلك في الزبور ؟! ، بالإشراق نظير ما سيفعله في القيامة الكبرى حين يجمع الجميع ، فكان ذاك الإشراق من جنس هذا الأكبر : ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ ، ﴿ فَأُعَظِّمُ نَفْسِي وَأَقَدِّسُهَا ، وَأُعْلِنُ ذَاتِي عَلَى مَرْأَى مِنْ كُلِّ الأُمَمِ ، فَيُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ﴾ " حزقيال "
﴿ وَأَتَجَلَّى بِقَدَاسَتِي بَيْنَكُمْ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الأُمَمِ ﴾ " حزقيال "
﴿ وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلها ويكونون لي شعبا ، فتعلم الأمم أني أنا الرب ﴾ " حزقيال "
﴿ لَقَدْ دَعَوْتُ أَنَا بِذَاتِي عبدي وَعَهِدْتُ إِلَيْهِ بِمَا أُرِيدُ ، وَسَأُكَلِّلُ أَعْمَالَهُ بِالْنَّجَاحِ ، اقْتَرِبُوا مِنِّي وَاسْمَعُوا : مُنْذُ الْبَدْءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ خُفْيَةً ، وَلَدَى حُدُوثِهَا كُنْتُ حَاضِراً هُنَاكَ ﴾ " اشعيا "
﴿ اسْمَعُوا يَاجَمِيعَ الشُّعُوبِ ، وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ وَكُلُّ مَنْ فِيهَا ، وَلْيَكُنِ السَّيِّدُ الرَّبُّ مِنْ هَيْكَلِهِ الْمُقَدَّسِ شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ " ميخا "
وفي الزبور يجمع في ذكره لذلك ما بين أنه وجه الله تعالى وأنه كرسيه فيقول : ﴿ يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ ، لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ ، جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلاً ، انْتَهَرْتَ الأُمَمَ أَهْلَكْتَ الشِّرِّيرَ..أَمَّا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ ﴾ ، ﴿ اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ تَرْتَعِدُ الشُّعُوبُ هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكَرُوبِيمِ تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ الرَّبُّ عَظِيمٌ فِي المدينة ، وَعَال هُوَ عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ . يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ ، قُدُّوسٌ هُوَ ، عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا ، وَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ ﴾ .
فما هي الكروبيم التي ورد ذكرها عند بعض الأنبياء والقضاة والتوراة ؟
وأول ما ورد ذكرها في كتابهم في سفر التكوين أيام آدم والجنة حين طردهم من الجنة قال : ( فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا ، فَطَرَدَ الإِنْسَانَ ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ ) .
وفي الخروج أمر موسى عليه الصلاة والسلام : ( وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ
وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ.
وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ ، مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ ، بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .
وفي صموئيل الثاني ورد ما يلي : ( وَقَامَ دَاوُدُ وَذَهَبَ هُوَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ مِنْ بَعَلَةِ يَهُوذَا ، لِيُصْعِدُوا مِنْ هُنَاكَ تَابُوتَ اللهِ ، الَّذِي يُدْعَى عَلَيْهِ بِالاسْمِ ، اسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ ، الْجَالِسِ عَلَى الْكَرُوبِيمِ ) .
وعلى لسان ملك اليهود حزقيا حين هُدِدَ من أشور قالوا أنه صلى أمام الرب وقال ما يلي يستغيث : ( ايها الرب اله اسرائيل الجالس فوق الكروبيم ، انت هو الاله وحدك لكل ممالك الارض. انت صنعت السماء والارض ) .
وفي أخبار الأيام الأول في وصفها قالوا : ( ولمذبح البخور ذهبا مصفى بالوزن ، وذهبا لمثال مركبة الكروبيم الباسطة اجنحتها المظللة تابوت عهد الرب ) .
وفي الزبور : ﴿ يا جالسا على الكروبيم أشرق ﴾ .
وفيه : ﴿ طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ ، وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ ، رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ ، جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ حَوْلَهُ ، مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ ﴾ .
ويفهم من هذا أنها مجسمات ذات أجنحة تظلل تابوت الشهادة ، يطرح عليها الستائر ليستر التابوت المقدس ، ويرمز غشيان الغمام لتلك الأجنحة وغطائها وما تحتها ، لسيطرة الإله الحق المطلقة على كل موجود ، ولقب ذلك الإقتران بأنه وجه الله تعالى وما في المكان تحت الغطاء وتلك الأجنحة بالمقدس وكرسي الرب عز وجل .
ونقل عن النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام أنه رأى تلك الكروبيم لكن كانت أمثلة بمنامه ، فقال في وصف ما رأى : ﴿ وَخَرَجَ مَجْدُ الرَّبِّ مِنْ عَلَى عَتَبَةِ الْبَيْتِ وَوَقَفَ عَلَى الْكَرُوبِيمِ ، فَرَفَعَتِ الْكَرُوبِيمُ أَجْنِحَتَهَا وَصَعِدَتْ عَنِ الأَرْضِ قُدَّامَ عَيْنَيَّ. عِنْدَ خُرُوجِهَا كَانَتِ الْبَكَرَاتُ مَعَهَا ، وَوَقَفَتْ عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الشَّرْقِيِّ، وَمَجْدُ إِلهِ إِسْرَائِيلَ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ ، هذَا هُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي رَأَيْتُهُ تَحْتَ إِلهِ إِسْرَائِيلَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ. وَعَلِمْتُ أَنَّهَا هِيَ الْكَرُوبِيمُ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَشِبْهُ أَيْدِي إِنْسَانٍ تَحْتَ أَجْنِحَتِهَا ، وَشَكْلُ وُجُوهِهَا هُوَ شَكْلُ الْوُجُوهِ الَّتِي رَأَيْتُهَا عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ ، مَنَاظِرُهَا وَذَوَاتُهَا. كُلُّ وَاحِدٍ يَسِيرُ إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ ﴾ .
وقال : ﴿ ثم نظرت واذا على المقبب الذي على رأس الكروبيم شيء كحجر العقيق الأزرق ، كمنظر شبه عرش ﴾ .
وقال بأنه سمع برؤياه صوت تلك الكروبيم : ﴿ وسمع صوت اجنحة الكروبيم الى الدار الخارجية كصوت الله القدير اذا تكلم ﴾ .
وتلك هي القداسة التي سيجليها تعالى لنفسه فيرى الجميع مجده وبره في الآخرة كما رأى ذلك بنو إسرائيل قبل ، وهي القداسة التي إين ما تحل يكون ذلك المحل مقدسا لله تعالى قداسة طهارة وتشريف ، فحين ادخلت لمسجد سليمان عليه الصلاة والسلام كان مقدسا ذلك المسجد ، ولما يؤتى بتلك المقدسات لتوضع فوق أحد الجبل الذي سيتقدس بذلك الحلول وغشيان ذلك الغمام ، سيكون حينها جبل أحد قدسا لله تبارك وتعالى : ﴿ وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلها ويكونون لي شعبا ، فتعلم الأمم أني أنا الرب ﴾ ، ﴿ وَأَتَجَلَّى بِقَدَاسَتِي بَيْنَكُمْ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الأُمَمِ ﴾ ، ﴿ فَأُعَظِّمُ نَفْسِي وَأَقَدِّسُهَا ، وَأُعْلِنُ ذَاتِي عَلَى مَرْأَى مِنْ كُلِّ الأُمَمِ ، فَيُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ﴾ " حزقيال "
﴿ جَبَلُ الرب يُصْبِحُ مَلاَذَ النَّجَاةِ ، وَيَكُونُ قُدْساً ... ، وَيُصْبِحُ الْمُلْكُ لِلرَّبِّ ﴾ " عوبديا "
﴿ اسْمَعُوا يَاجَمِيعَ الشُّعُوبِ ، وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ وَكُلُّ مَنْ فِيهَا ، وَلْيَكُنِ السَّيِّدُ الرَّبُّ مِنْ هَيْكَلِهِ الْمُقَدَّسِ شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ " ميخا "
﴿ أَمَّا مَنْ يَلُوذُ بِي فَإِنَّهُ يَرِثُ الأَرْضَ وَيَمْلِكُ جَبَلَ قُدْسِي ﴾ " اشعيا "
﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ﴾
وبالفعل كل تلك القرون فنت من بعد ما حجب وجهه تعالى عنهم ، وبقى وجهه الكريم ذي الجلال والإكرام .
Powered by Backdrop CMS