وقفات إيمانية مع قوله تعالى : ( وأنذر الناس ... ) *


   


 

قال عز وجل : ﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال . وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ﴾ .


 

سنقف هنا وقفات إيمانية في شرح كلمات هذه الآيات العظيمة والتي غفل عن ادارك معانيها الكبيرة الكثير من خلق الله تعالى ، ممن أدركوا تأويلها وهم يحسبون أنها لا تخصهم بل هي في عموم الناس يوم القيامة بعد ما يبعث الله الخلائق ليوم الحساب العظيم .

 
 

وقد أخطأ من حسب ذلك خطأ بعيدا ، وضل عن فقه كتاب الله تعالى ضلالا مبينا ، ذ يفقه الطفل لو تدبر معاني كلمات تلك الآيات بأدنى تفكر ، أن ليس كل الناس سكنوا في مساكن الذين ظلموا ، ولا بين للجميع ما فعل بأولئك الظالمين ، لكن هكذا هم أكثر الناس جهلة بكتاب الله تعالى ، لا يردعون بأخباره ولا يفقهون درر أحكامه ، لا يبصرون به ولا يسمعون ، صم بكم عمي فهم لا يهتدون .

 

وقد يوهم الكثير ذكر ما سبق تلك الآيات في قوله تعالى : ﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رُءُوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ﴾ .

 
 

فهذا هو كذلك ليس حتما أن المراد به يوم الحساب الأكبر بعد القيامة ، لقرينة تعقيب الله تعالى هذه الآيات ، بتلك الآيات التي استفتحت بها مقالتي ، والتأخير هنا للظالمين مخصوص في نوع معين من الظالمين وهم الذين قالوا : ﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾ ! .

 
 

فأي رسل سيتبعون والله أنبأ أن لكل أمة رسول ، فما بال هؤلاء يتكلمون بالعموم ؟!! .

 

وعلى مذهب من قال بأن زمن تحقق تأويل هذا الخطاب ما بعد يوم القيامة ، زيادة على انه مطلب محال إذ علمت الناس كل الناس بالفطرة أن لا مرد لهم في ذلك ، فقد رسخ في عقول وقلوب جميع الخلق أنهم إليها لا يرجعون ، فما بالهم يطلبون ما يوقنون مسبقا بحكمه ؟! ، والله تعالى قد أخبر عن كل بني البشر أنهم بعد البعث سيكونون على دراية خارقة بالأمور ، فمن المستحيل بعد ذلك يكون لهم هذا المطلب الساذج ! ، قال سبحانه : ﴿ فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ﴾ .

 
 

لكنه سيكون وبإقرارهم بالتبصير ، وإقرارهم باليقين ، خطاب المقرين اليائسين ، فيقولون يومها : ﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾ . فيجبهم عز وجل بقوله : ﴿ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ﴾ .

 

فهنا لما كان الخطاب يوم القيامة بعد ما يبعثون من الموت قالوا : ﴿ فارجعنا ﴾ . أما هناك لما كان الخطاب بعد ما زال زمنه في الدنيا قالوا : ﴿ ربنا أخرنا ﴾ لأنهم موقنين أن أوان عمر الدنيا لم ينقض ِ بعد ولذا طلبوا التأخير ، لكن هيهات والله عز وجل قال الحق سبحانه ووعد بالصدق : ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ . وها هي الآية الفاصلة قد أتت فلن ينفعهم شيء يرجعون إليه ، ولا فوت .

 
 

إذا : التأخير ، واليوم ، والظالمين ، والمساكن ، والعذاب ، والشخوص ، وحتى الرسل ! ، كل ذلك على وجه الخصوص لا العموم ، مثل ما كان يفهم ذلك الكثير والكثير من المتلقين لعلوم القرآن .

 

ما بالهم يغفلون قاتلهم الله عن الصيحة بإسم المهدي عليه السلام والآية على تعيينه كل هذه الغفلة ، إن الله عز وجل قال في كتابه : ﴿ إن نشأ نُنَزِّل عليهم مِـن السماءِ آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ﴾ . وهو لا يختار إلا الحق ، لا يختار فعل الباطل والعياذ بالله ، ولا الممتنع لذاته ! .

 

قال الثعلبي في تفسيره عن أبي حمزة الثمالي (1) : في هذه الآية بلغنا ـ والله أعلم ـ أنها صوت يسمع من السماء تخرج له العواتق من البيوت .

 

قلت : ورد في ذكرها عدة آثار ، وفي ذكر آية السماء ، منها عن علي رضي الله عنه قال : أوما سمعتم قول الله عز وجل في القرآن ( وذكر الآية ) فقال : هي آيةٌ تُخرج الفتاة من خدرها ، وتوقظ النائم ، وتفزع اليقظان (2).

 

قال الشاعر :

 

بدجلة دارُهُمْ ولقد أراهم * * * بدجْلةَ مُهطِعِينَ إلى السَّماع

  

وحكى القرطبي في التفسير في ﴿ مقنعي رؤوسهم ﴾ أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذلّ .

 

قال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد .

 
 

قال الشاعر :


  

يباكرن العضاة بمُقْنَعَــاتٍ  * * *  نَوَاجِذُهنّ كالْحدَإِ الْوَقِيعِ


 

يعني برؤوس مرفوعات .


  وقال الجوهري ﴿ لا يرتد إليهم طرفهم ﴾ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر (3).

 

﴿ وأفئدتهم هواء ﴾ أي فارغة ، خالية لا تغني شيء من شدة الخوف .

 
وأنزل في أم موسى قوله : ﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ﴾ أي من كل شيء إلا من هم موسى (4).


 

 


 

فصــل *


 

 

 قال عز وجل : ﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ﴾ . فمن الناس هنا ، وما هو هذا العذاب المنذر عنه ؟ .

  

قلت بالأول : أن الكثير حسبوا هذا العذاب عذاب يوم القيامة ، وقطعوا بأن الناس المنذرين هنا ، هم أهل مكة ، تقليدا لإبن عباس رضي الله عنه ، حبر الأمة ، قالوا : وترجمان القرآن .


وهو من سـأل المصطفى صلى الله عليه وسلم ربه أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل .


فلنرى في وقفاتنا هذه أن ذلك ليس عاما مطلقا ، بل علم تأويل مقيد دون ما استأثر الله بعلمه ، لا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسول .

 

نعم الكثير تقلد هذا القول والذي إثبات بطلانه من أيسر ما يكون على من هدى الله قلبه وفقهه بعلم تأويل الكتاب العزيز ، وتفسير آياته البينات .


 

وأول ما يهدم الأصل الذي بنى عليه قوله ابن العباس ، هو أن الله تعالى أخبر على لسان حال هؤلاء أنهم حين يحضرهم ذاك العذاب ، أنهم يقولون : ﴿ ربنا أخرنا ﴾ ولم يقولوا : ﴿ ربنا أخرجنا ﴾ أو : ﴿ ربنا فارجعنا ﴾ وقد نص القرآن على كل ذلك .

 

وهذا يفيد في معرفة زمن الخطاب ، وأن منه قولهم ذلك بعد انقضاء الدنيا ، ومنه قولهم قبل انقضاء الدنيا ، وكل حرف وكلمة بالقرآن لا تأتي إلا للمعنى الذي يناسبها ، فسبحان الذي أحصى كل شيء ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة من حال ومقال .


 

وإذا بان هذا وعـرف ، تأكد بعد ذلك بطـلان قول ابن العباس أن النذارة بالعذاب هنا إنما هي لكفار قريش ، إذ لا يمكن بحال صحة ذلك وكفار قريش لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ومن المنكر العظيم اختزال تأويل القرآن بمن مات منهم على الكفر ، وإلا أكثرهم آمن بالنبي في النهاية ـ ، وما زالوا وهم قائمين على كفرهم وتكذيبهم وحربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يطلبوا ولا للحظة إتباعه وتصديقه حتى أظهره الله تعالى عليهم ، فقتل من قتل منهم ، وعفى عمن عفى .

 
فلم يؤمنوا به قبل ذلك ، فضلا عن تجويز معنى الآيات عليهم وأنهم طلبوا التأخير للإيمان بجميع الرسل ، وهذا زيادة على أنه مخالف لحالهم وواقعهم ، هو مناقض أيضا لصحة التفسير ، إذ قال سبحانه حكاية عنهم : ﴿ نجب دعوتك ﴾ . ﴿ ونتبع الرسل ﴾ .

 
فجعلوا الإجابة للدعوة ، لكن الإتباع للرسل ، وهم يعلمون إنما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم لهم وللناس كافة ، فهو من يجب إتباعه لا الرسل ، وهو من بعث بسلطان نسخ ما ينسخ الله من شرائع الرسل قبله ، وفي هذا أبين دليل كذلك على بطلان حمل الآيات على كفار قريش على ما قاله ابن العباس وقلده الكثير .

 
فالدعوة هنا دعوة المهدي ، دعوة الله تعالى الذي بعثه بها ، والرسل من أَمرَ اللهُ تعالى من أتباعه بالخروج لجزيرة العرب لإنذار الناس ببعثه ، وإخبارهم تحقق تأويله .

 
ولما كان هؤلاء هم المعنيون بهذا الخبر ، عقب سبحانه تلك الآيات بقوله : ﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعدهِ رُسُلَهُ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ .

 
وهم من عنى بقوله عز من قائل : ﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ .

 

ومن لم يفقه ما أعني ويغلق عليه ، فليتدبر معي قول الله عز وجل : ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ . فلمن الغلبة هنا والظهور ، وما الطائل إن لم تكن هذه الغلبة في الدنيا قبل الآخرة ؟! ، ولن تكون إلا بأمر المهدي عليه السلام .

 

فهل رأيتم المسيح عليه السلام ، غلب ؟ ، أو زكريا الذي قتل ، أو ارميا ، أو اشعياء ، أو موسى وهـارون اللذان ابتليا ببني إسرائيل العتاة العصـاة ، فألزمهم الله تيههم أربعين سنة ، ثم لم يدخلوا الأرض المباركة .

 

فضلا عن أن يجمع هؤلاء أو بعضهم بالغلبة ، والظهور والنصرة على أعداء الله تعالى .

 

إنها موعدة خاصة ، وظهور خاص ، ورسل غيَّبَ المولى عز وجل حقيقة أمرهم على الكثير والكثير من الناس ، حتى صار أمرهم غيبٌ لله تعالى لا يطلع على حقيقته إلا من ارتضى من رسول ، وهو المهدي عليه السلام ، فهل أنتم موقنون ، أم كتب عليكم مع الظالمين أنكم ستبقون غافلين لا تؤمنون .

 

قال تعالى : ﴿ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب .. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ﴾ . ﴿  كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ .

 

﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم . قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقا علينا نُنج المؤمنين ﴾ .

 

﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون . إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ﴾ .


 


 

 

 

 


 

* نشرت هذه المقالة في موقع المهدي بتاريخ 13/6/1426 هـ الموافق 20/7/2005 .

(1) روى عنه الترمذي وابن ماجة ، وروى عن انس والشعبي والباقر وجماعة ، وعنه الثوري وشريك وحفص ووكيع وجماعة . ضعفه أئمة الحديث ، وقال عنه أبو حاتم : لين يكتب حديثه . وقال ابن حبان : لا يحتج به إذا انفرد ، يغلو بالتشيع .

(2) ذكره السلمي من غير تخريج .

(3) ذكره القرطبي رحمه الله .

(4) القرطبي .

* نشرت هذه المقالة في موقع المهدي بتاريخ 13/6/1426 هـ الموافق 20/7/2005 .