وقفة ما بين ترجمان القرآن ومفتاح القرآن ! *
هذه وقفة نقفها هنا ما بين " ترجمان القرآن " ابن عباس رضي الله عنه وقوله في تفسير القرآن الكريم ، وبين " مفتاح القرآن " المهدي عليه السلام .
نقفها ليتعرف النبيه فرق ما بين الرجلين ، وما بين الفتحين في تفسير آي القرآن الكريم .
تهيب ابن عباس على الناس في تفسير قوله تعالى : ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ . وخشي أن يقعوا بالكفر من تفسيرها ، وكفرهم بها بتكذيبهم إياها ! .
فقال رضي الله عنه : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ، وكفركم تكذيبكم بها . رواه ابن جرير الطبري عن عمرو بن علي بإسناده عن مجاهد .
ومن طريق سعيد بن جبير أنه قال لرجل : ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر .
وفي رد المهدي عليه السلام على أبي حصان القصيمي أورد هذا الموضع عن ابن عباس في مجموع الآيات التي كان يكتم تفسيرها ابن عباس فقال : وروى أحمد بن حنبل عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : ﴿ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ . . ﴾ . أنه قال : لو أخبرتكم بتفسيرها لرجمتموني بالحجارة (1).
لكن روى ابن جرير أيضا بإسناده عن عمرو بن علي ومحمد بن المثنى العنزي عن أبي الضحى عنه قوله : في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق . ذكره من طريق عمرو بن علي .
وقال ابن جرير : وقال ابن المثنى : في كل سماء إبراهيم .
ونقل ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن البيهقي رحمه الله تعالى في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس من طريق عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قوله في تفسير الآية : سبع أراضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى .
ثم قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا اعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم اهـ .
هذا منتهى تحقيقهم في هذا الأمر ، ولنأتي الآن - عن المفتاح - بتقرير الكلام في هذا الأمر الجلل العظيم المتعلق بآية أنزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم يتوجب على كل مسلم اليقين والإيمان بما دلت عليه ، وكم من آية يمر عليها الناس وهم غافلون ، ولو وقر معناها في قلوبهم لزادهم ذلك إيمانا إلى إيمانهم ، ولزاد تعظيمهم للرحمن عز وجل الذي يخلق ما يشاء ويختار و ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ سبحانه جلت قدرته وتقدست أسماءُه وعظمت صفاته .
و لا شك أن معنى الآية عظيم ويجب الإيمان والتصديق بما دلت عليه ولو لم يفقه المرء حقيقة تأويلها على وجه اليقين ، لكن نؤمن أن لها تفسيرا وحقيقة نسأله تعالى أن يهدينا لليقين به والعلم بحقيقته .
ويطرح هذا التساءل هنا: هل لإبن عباس مرفوعا من الحديث فيما قال ممكن أن يصلح شاهدا لما قال واعتقد في تفسير تلك الآية ؟
أي حديث مرفوع ؟
ولو كان عنده لصاح به ، لكنه لم يقل بل كتم ، وبعضهم نقل عنه ما نقل والله أعلم بمدى صحته عنه .
المهم هنا أن أقرر لكم ما يمكن أن يصلح للإستدلال لما ذكر عن ابن عباس في هذا الشأن العظيم مرفوعا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو الأهم في هذا الإعتقاد ، أقول : يصلح للإستشهاد له ، وليس بالقطع أن يكون دليلا له ، فقد ينازع الاستدلال به عليه .
ولا أقول لو قلت لكم عن هذا الذي قد يصلح شاهدا لما قاله ابن عباس لرجمتموني كما قال ، بل أقول لكم : يجب الإيمان بما دلت عليه تلك الآية ، والتصديق والإيمان ببذلك مهما كان ولو غفل كل الناس عن هذا وجهلوه ، لكنكم أنتم اسألوه تعالى أن لا تجهلوا مع الجاهلين على كتاب ربنا وتعرضوا وتكونوا عن آياته من الغافلين .
بل صدِّقوا وأيقنوا أن ما ورد فيها حق ولو لم تعلموا حقيقة تأويله ولو لم تصدقوا وتتيقنوا أن ذلك على ما قاله ابن عباس ، أو أن يكون له وجها غير ذلك ولم تعلموه بعد فتسألوه تعالى الهداية لإدراك حقيقته ومعرفة تفسيره ، رحمة من الله تعالى من غير رجم ولا هدم .
روى البخاري في صحيحه رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين .
وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم .
فقال تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي .
وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل منكما ملؤها .
فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط ، فهناك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا .
وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا آخر اهـ . متفق عليه عن أبي هريرة ورواه مسلم كذلك عن أبي سعيد غير تام ، وأحمد رواه بالتمام قريب من لفظ البخاري .
كذلك رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه بقريب من لفظ أبي هريرة .
فهل سيكون هذا الخلق الآخر هم من الأراضين السبع على وفق ما فسر ابن عباس لتلك الآية واعتقد ، ويكون وجه ذلك أن يحدث الله تعالى من أمره خلقا كخلقنا في كل ارض من تلك السبع أو غير تلك السبع مما قد يحدث من خلقه تعالى ، وقد يقال الله أعلم في أي ترتيب نأتي نحن في ذلك التسلسل بحسب اعتقاد ابن عباس في معنى تلك الآية ، وأن تكون الجنة مشتركة لأولئك جميعا فكل ما يستحق من تلك الأراضي السبع من يدخل الجنة أن الله عز وجل سيأتي بهم ليدخلوا الجنة وعليه يكون بهذا تفسير ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ينشئ للجنة خلقا آخر ، وأن بهذا يتحصل لنا تفسيرا لمعنى تلك الآية قد يرجع لما ثبت من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن بذلك المعنى الحق الصحيح والتفسير الموافق .
أو أن يعترض أحد بالقول : إنما مراده صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون عمن لم يكتمل وجوده من بعد ما نفخت فيه الروح على الإطلاق ، فيكون أولئك من عناهم صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة ، ولم يكلفوا لأنه لم يتم خلقهم لكن عينت لهم روح ونفخت في تلك المضغة .
أو أن يكون مراده انشاء خلق منه على الإبتداء وقتها ، والله فعال لما يريد وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وما علينا إلا التصديق والتسليم ، وعليه لما تطرق لذلك الإحتمال منع الإستدلال بذلك لما قاله ابن عباس .
وعله أقول : الله أعلم . ولا أن نقول كما قال ابن عباس رضي الله عنه ( لرجمتموني ) ، بل أقول : يجب عليكم الإيمان بها ولو جهلتم معناها الحق ، ولو لم يكن ذاك هو التفسير الصحيح لما دلت عليه تلك الآية ، وذاك الحديث المتفق على صحته هو وجهها .
وأيضا أقول : لم يقدر الله حق قدره كل من يحسب أن الله تعالى بانتهاء أمر أهل الأرض سينتهي خلقه حتى لا يعبد ويوحد سبحانه من تكرير لجنس البشر أو انشاء خلقا مختلف كما يشاء ، بل هو على كل شيء قدير وفعال لما يريد ، لا يرهن إرادته وأفعاله بجنس معين ولا بأرض معينة ، بل يوسع في الخلق مثل ما يشاء ويفعل مثل ما يشاء ، ومثل ما خلق الملائكة من قبل والجان هو خلق البشر بعد ذلك فله الخلق والأمر ، ولا يجب اعتقاد توقفه عن ذلك ومتى شاء أن يفعل يفعل فله الأمر والخلق وهو فعال لما يشاء ، محيط بما نعلم وبما لا نعلم ولا يحيط بعلمه أحد من خلقه لا ملك ولا بشر ، وهو تعالى لم يخلق هذه الأفلاك عبثا سبحانه والتي رأيناها أكثر مما رآها من سبقنا ، وبعد لم ير جيلنا أكثر مما سيرى من بعدنا لأن خلق الله تعالى واسع ولا يمكن يحيط بعلمه أحد سواه ، فكل هذا من خلق الله تعالى وقد تعهد بتوسيعه مثل ما يشاء .
أجيال وأكوان وعبادته لن تنتهي مثل ما خلقه لا ينتهي ، فكل من حسب أن لله حدا ينهي أفعاله على وفقه فهو ضال ، بل هو كافر بالعلم بقدرة الله تعالى وإرادته الحرة الفاعلة وعلمه الواسع .
ومثل ما كنا ولا زلنا نجهل في بداية خلقه وأمره كيف كان تفاصيل ذلك ، نحن سنبقى نجهل ولا نعلم عن كيف تفاصيل خلقه وأمره العام المطلق من بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
* نشرت هذه المقالة في موقع المهدي بتاريخ 15/10/1426 هـ الموافق 17/11/2005 .
(1) فتح المنان في رد أباطيل أبي حصان ( ص 121) .