الفصل الرابع

نزول الرب عز وجل من فوق السماوات السبع لا السماء القديمة

 

ومن بركة تقرير هذا الأصل العظيم العلم بيقين خطأ ما تقرر في بعض أصول اعتقاد أئمة السلف فيما وصف الله عز وجل نفسه ووصفه به رسوله مما كان عليه وما سيكون ، من غير علم منهم بذلك ولا فهم لحقيقة ما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه رسوله ، وكان إيمانهم في بعض ذلك على الامتناع من تفسير معناه ولا ادراك لحقيقة تأويله ، وهكذا اتفقوا على ذلك يمررون الأخبار تلك من غير علم ولا دراية ويحسبون بذلك التقرير منتهى الوصول للحق وما أراد بيانه الله عز وجل عن نفسه ورسوله ، وقد أخطأوا في ذلك خطأ مبينا حتى هان أو انكسر شيئا من اعتقادهم أمام أهل الكلام واللغو ، لما اعترى بعض تقريراتهم بعقيدتهم في صفات الله عز وجل من تناقض والتباس ، ويكفي للتدليل على بطلان ما كانوا عليه تمريرهم ذلك من غير تفسير رغم ما له من تفسير يوافق العقل والواقع ولا يتنافر معهما ومقتضى الإيمان الحق بتلك الأخبار يفيد ذلك لا سواه ولازم اليقين بمعنى كل ذلك يدل عليه ، لكن أئمة السلف لما جهلوا في ذلك لجأوا لزعمهم تمريرها من غير فهم ولا دراية وأن هذا مقتضى الحق فيما بلغوه من تصديق وإيمان وعلم ، لكن الحق خلاف ما ذهبوا إليه في ذلك .

 

ومما يدل على ما يقرر هنا تناقضهم في إثبات وجود الله عز وجل عند خلق السماوات والأرض واستوائه على العرش ، وكما قلت من قبل بالمطابقة ما بين حال وجود الرب عز وجل عند خلقه للسماوات والأرض واستوائه على العرش ، بحال وجوده عندما يأتي لحساب عباده يوم القيامة ، فحقيقة وجوده هناك وهنا سواء إلا أن السلف جهلوا تلك الحقيقة على الوجهين وضلوا عن ذلك ضلالا مبينا ، لهذا خلطوا خلطا شديدا ببعض ردودهم على من خالفهم بتصورهم أن ما هم عليه هو اعتقاد الحق في إثبات حقيقة وجود الرحمان عز وجل وأن ليس وراء ذلك إلا الضلال ، وكل ما أكثر منهم أحد في الخوض بالكلام كلما أكثر من الجهل والقول باللغو .

     

أقول : ومن بركة تقرير هذا الأصل الحق أن يترتب عليه ما حار به أولئك الأئمة ومن خالفهم باعتقاد حقيقة نزوله تعالى من عرشه في الثلث الأخير من كل ليلة ، فخلطهم في ذلك كان أكثر واقرارهم في جهلهم بحقيقته أشهر حتى قال منهم شعرا في ذلك :

 

وقل ينزل الجبار في كل ليلة ****  بلا كيف جل الواحد المتمدح

إلى طبق الدنيا يمن بفضلــــه  ****  فتفرج أبواب السماء وتفتح

 

 قال ابن أبي داود : هذا قولي وقول أبي وقول شيوخنا وقول من لقيناهم من أهل العلم وقول العلماء ممن لم نرهم كما بلغنا عنهم فمن قال غير ذلك فقد كذب اهـ . ( ذكره ابن عبدالهادي في الاستواء على العرش والذهبي في العلو والعرش )

 

 أقول : بل أنت كذبت وأبوك وكل شيوخك ، من لقيتهم ومن لم تلقهم ، وهو قولكم المشهور في الأمة والمعتمد بينهم تقليدا وجهلا ، وإلا الحق بين وله تفسير أراد الإيمان والعلم بالله تعالى جواز تقريره ونشره وتفسيره والحث على اعتقاده وتصديقه ، ومن خالف في ذلك فلا شك بجهله وضلاله ، وإن زعم نفي التشبيه ودفع معرة ذلك عن نفسه ، فهو أبعد عن الإثبات الحق واعتقاد الصدق ، لهذا وجدنا التناقض على أصولكم والاضطراب فيما بينها ، ما بين الإثبات والنفي تدورون وما بين التشبيه والتكذيب من غير شعور منكم .

 

قال الوليد بن مسلم : سألت سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي في الرؤية وأمثالها فقالوا : نؤمن بها وتمضى على ما جاءت ولا نفسرها .

 

وعن سفيان بن عيينة : كل شيء وصف الله به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره وليس لأحد أن يفسره .

 

وعنه وسئل عن هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية فقال : نرويها كما سمعناها .

 

وقال : هذه الأحاديث في الصفات والنزول والرؤية حق نؤمن بها ولا نفسرها إلا ما فسر لنا من فوق اهـ .

 

زعمكم لم تفسر بحد ذاته كذب على الله تعالى ورسوله .

 

وعن أبي زرعة : لا نفسر ، نقول كما جاء وكما هو في الحديث اهـ .

 

وهكذا ساق تلك الآثار عن أولئك الأئمة وغيرهم ممن تركت نقله ، ابن مندة رحمه الله تعالى ، ثم قال : وكذلك نقول فيما تقدم من هذه الأخبار في الصفات في كتابنا هذا نرويها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا قياس ولا تأويل على ما نقلها السلف الصادق عن الصحابة الطاهرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ونجهل من تكلم فيها إلا ببيان عن الرسول أو خبر صحابي حضر التنزيل والبيان ونتبرأ إلى الله عز وجل مما يخالف القرآن وكلام الرسول ، والله عز وجل الموفق للصواب برحمته إن شاء الله تعالى اهـ . ( كتاب التوحيد )

 

قلت : للأسف لم توفقوا في تقرير الصفات إلا قليلا وفيما كنتم فيه تبقون خير ممن خالفكم من أهل الكلام والمتفلسفة . والحق فيما أخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما لم يخاطبا أهل الإسلام بغير الحق وبالمستحيل على التصديق واليقين والفهم ، لم يخاطبا الناس بما لا حقيقة له تدرك بأذهانهم ، وبما يجب على المكلف سماعه والإيمان به لكن من غير فهم ولا ادراك ولا حقيقة يتصورونها بعقولهم ومن خلالها يمكنهم معرفة تأويل ذاك الخبر وغيره .

 

وعلى سبيل المثال : في مسألة نزول الباري عز وجل كل ليلة كما ورد في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له " . فهذا مما اختلفوا عليه كثيرا وحاروا في تفسيره وتهكم عليهم اثباتهم لذلك ، المبتدعة أهل الجحد ورأي العقل المعزول عن التسليم والتصديق بما أخبر الله عز وجل ورسوله ، مع أن له معنى يجب اليقين به والتصديق به ومواجهة أهل الرأي بذلك من غير خشية من جلبهم وجهلهم ، لكن صدق من قال : (فاقد الشيء لا يعطيه) . وهم فقدوا تمام العلم واليقين في ذلك لهذا فروا لمقولتهم المشهورة : ( بلا تفسير بلا تأويل ، أمروها تلاوة كما أتت تذهب ) .

 

قال ابن القزويني : الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، قاله النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقال : كيف ؟ اهـ . ( الحجة في بيان المحجة لقوام السنة 1/265)

 

وقال ابن خزيمة : نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية اهـ .

 

وقال صاحب رياض الجنة بتخريج أصول السنة محمد الأندلسي ابن أبي زمنين : ومن قول أهل السنة : أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا ، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا اهـ .

 

وفي رده على الجهمية قال الدارمي رحمه الله تعالى : فهذه الأحاديث جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن ، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها .. ولم نكلف معرفة كيفية نزوله في ديننا ولا تعقله قلوبنا وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلا أو صفة بفعالهم وصفتهم اهـ .

 

لكن الكيفية وصفت بالإنجيل  * ، وبالقرآن وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم وصفا بين المعنى فيه حرفيا لكن اعترضه جهلكم وأعاق فهمه من عامة الناس تعطيلكم له لا أن الله تعالى ورسوله لم يصفا ذلك ، بل وصف ذلك ليدرك ويتصوره عقل كل مسلم ، وهذه المرويات الكثيرة تفيد ذلك ، فجهلتموها ثم حكمتم عليها بنوع من التحريف والتعطيل بأن يعتقد بالأخبار تلك من غير ادراك لحقيقة ما دلت عليه ، وهذا هو صريح اعتقادكم ومعلن ألسنتكم عما تكنه قلوبكم وتدركه أفهامكم ، لكنا نقول نحن في ذلك :

 

وكما استوى تعالى بعد خلقه السماوات والأرض على العرش ، وكان نازلا قبل ذلك على وجه الأرض ليخلق آدم بيديه سبحانه وتعالى عما يجهلون ويشركون ، ثم صعد للسماوات واستوى على عرشه .

 

وكما أنه سيأتي يوم القيامة ليختلي مع كل عبد مكلف من عباده ليس بينه وبينه ترجمان ، ويراه الخلق ويدركون هناك أنه ربهم محاسبهم ومعاقبهم وله السلطة بالعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء ، الرب ذاته الذي سيفعل كل هذا وفعل كل هذا ، هو ذاته من ينزل للسماء الدنيا كل ليلة ويقول ما يقوله .

 

    ينزل كل ليلة والله أعلم محاذيا لأي مكان من أرضه ، هل لمكة المقدسة ؟

 

أو لوادي كما أخبر المسيح ( يهو شافاط ) المكان الذي سينزل إليه الباري تعالى يوم القيامة لحساب عباده .

 

فالله أعلم أين سيكون مكان نزوله تبارك وتعالى ، وحين ينزل فوق ذلك المكان الذي يعلمه عز وجل ، ثم يرتفع عن ذلك لعرشه تبارك وتعالى كما فعل من قبل بعد خلق الأرض والسماوات السبع ، فيكون قد أتى بنزوله جل وعلا كل ليلة فوق المكان المعين والذي لا يعلمه إلا هو ويكون طلبه عام لكل البشر ولو كان بليلة معينة فوق مكان معين من بعد ابتداء ثلث الليل الأخير من ذلك المكان ، ومن استغفره حينها ووجبت له الاستجابة غفر له ، فيصدق بذلك تحقق تأويل الخبر أنه عز وجل ينزل في تلك الساعة كل ليلة ، وكلما عادت تلك المنطقة لتلك الساعة من الليلة التي تليها يفعل ذلك عز وجل مرة ثانية وكل ليلة هكذا ، والله فعال لما يشاء.

 

وعليه ندرك حقيقة ضعف اعتقاد السلف في ذلك على سبيل المثال ، وأن بالعلم بحقيقة تفسير ذلك من أعظم بركات الله تعالى على أتباع الحق في هذه الدعوة المباركة ، بأن من عليهم بالعلم في ذلك ولو جهل الجميع ذلك ، ولو جهله من هم بتلك المنزلة من العلم والإخلاص لله تعالى ، يمن الله بفضله على من يشاء من عباده ويؤتيهم الحكمة التي لم تؤتى لغيرهم .

 

وأقول أيضا وبالمثال الثاني : الدال على جهلهم فيما يقررون ويجزمون عليه بالقطع من اعتقاداتهم وهو من أبطل الباطل وأكذب ما قيل على غيب الله عز وجل ما قرره من يلقبونه بقوام السنة أبي القاسم اسماعيل بن الفضل التيمي الأصفهاني في كتابه المسمى بـ " الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة " ، قال هناك : قال قوم من أهل العلم : ذات الله حقيقته ، وقال بعضهم انقطع العلم دونها .

 

وقيل : ذات الله موصوفه بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا ، وهو موجود بحقائق الإيمان على الإيقان بلا إحاطة إدراك ، بل هو أعلم بذاته ، وهو موصوف غير مجهول وموجود غير مدرك ، ومرئي غير محاط به لقربه كأنك تراه ، يسمع ويرى ، وهو العلي الأعلى ، وعلى العرش استوى تبارك وتعالى ، ظاهر في ملكه وقدرته ، قد حجب عن الخلق كنه ذاته ، ودلهم عليه بآياته ، فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه اهـ .

 

 قلت هذا من أبين الكذب وأصرح في تعطيل حقيقة عن الله تعالى وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام ، وألجأهم لذلك ما أشرت له من اضطراب وتناقض في معتقداتهم وما درجوا عليه من جهل في فهم مراد الله تعالى ورسوله مما أخبرا في ذلك .

 

 وبخصوص ذكر هذا المثال الثاني وما قطعوا باعتقادهم على وفقه بعدم جواز رؤية الله تعالى بالدنيا ، وأنه من المحال تحقق ذلك لأحد من خلقه بأن يراه في الدنيا على الإطلاق ، يكذبهم في ذلك رؤية أبينا آدم لله تعالى بالدنيا من بعد ما نفخت فيه الروح ، وقد اتفق المصطفى صلى الله عليه وسلم ونبي الله تعالى المسيح عليهما الصلاة والسلام في ثبوت تحقق ذلك ، وفي القرآن أيضا ما يشير لتحقق ذلك لقوله عز وجل : ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فالوحي هنا متصل بسياق متعدد أمر بالإبلاغ ثم تعقيب ، ثم أمر ثم تعقيب ، ما يدل على أنه وحي مباشر من خلال الرؤية لله عز وجل أثناء ذلك ، والتعدد بالموحى لهم في كل ذلك يدل على ما تقرر هنا ، وقد سبق إحالتي للموضوع الذي ذكر فيه تحقق تكليم الله تعالى لنبيه آدم مقابلة ، عن الإنجيل الصحيح للمسيح وحديث النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه نعلم أن رؤية الله تعالى جائزة لمن شاء من عباده بالدنيا والآخرة ، ولم يصدق من منع ذلك باعتقاده على الإطلاق .

وحتى موسى صلوات ربي وسلامه عليه قد عاين الله تعالى على الجبل حين أخذ من يدي الله عز وجل لوحي العهد ، وليس بصحيح أن معنى الخبر بكتابة لوحي العهد لبني إسرائيل بيدي الله تعالى أن تم الإيمان بذلك بمجرد الخبر ، بل تم تسليمهما من يد الله تبارك وتعالى ليد موسى عليه الصلاة والسلام الكليم ولم يذكر وسيط بينهما لا بالقرآن ولا في أخباره في بني إسرائيل ، وقد نص بأخبار موسى عندهم على أن الله تعالى كتبها بأصبعه عز وجل ، وأنهم ذكروا مشاهدة مثال الباري عز وجل في ذلك التجلي ، والله تعالى في كتابه قال : ﴿ وقربناه نجيا ، فإن كان مناج ورجع لقومه يحمل لوحي العهد التي كتبت بيد الله تعالى ، فما وجه الاختصاص بكتابة ما آتاه بيده إن كان ذلك كله مع موسى بحكم الغيب أو من خلال وسيط ملاك ، لا بد لوجه الاختصاص ذاك من مزيد فرق عما أوتي غيره عليه الصلاة والسلام ، حتى يصح أن قربه ليناجيه ويعطيه كتابا بخط يده سبحانه ، وهذا لا يتصور يكون من غير تمثل لله عز وجل ينكشف أمام نبيه ، ومن أسمعه صوته وقربه نجيا وأعطاه كتابا بخط يده ، ليس من الممنوع شرعا وعقيدة بمنهاج الأنبياء أن يشاهد مثال الله تعالى الذي هو بمنزلة الحجاب بينه وبين سائر خلقه ، أما المنفي بنص القرآن للرؤية التي طلبها موسى فذلك أمر آخر مغاير لما نحن بتفصيله بالمرة هنا ، وهو كما قرر تعالى بكتابه وعلى ألسنة بعض رسله أن ذلك غير ممكن لمخلوقاته على التأبيد ، ويدل عليه قوله تعالى : ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ، ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ .

 

وقال نبي الله تعالى سليمان في ذلك : ﴿ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُهُ ﴾ .

وقال المسيح عليه الصلاة والسلام : ﴿ سماء السماوات لا تسعه لأن إلهنا غير محدود ﴾ . ذكر ذلك عما كتبه الله تعالى بيده في لوحي العهد لموسى عليه الصلاة والسلام ، وسيمر معنا نقل شيء من كلام الله عز وجل زيادة على ما ذكر هنا آخر هذا الفصل .

 

ويقول نبي الله تعالى أيوب عليه الصلاة والسلام في ذات المعنى : ﴿ أَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ أَعْمَاقَ اللهِ ، أَمْ تَبْلُغُ أَقْصَى قُوَّةِ الْقَدِيرِ ؟ هُوَ أَسْمَى مِنَ السَّمَاوَاتِ ، فَمَاذَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَفْعَلَ ؟ وَهُوَ أَبْعَدُ غَوْراً مِنَ الْهَاوِيَةِ ، فَمَاذَا تَعْلَمُ ؟ ، هُوَ أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ ﴾ .

 

وبماذا قال صلوات ربي وسلامه عليه المصطفى لما دعاه ؟ ، قال : " أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين واغنني من الفقر " . ( رواه مسلم )

 

      وأئمة السلف جهلوا الفرق هنا ولم يعلموا أين يصلح حمل الإثبات للصفات ، وأين لا يمكن أي إثبات لوصفه بحال وصفا يمكن يدركه بصر مخلوق أو بصيرته ويحيط به ، فهو أعظم وجودا بحقيقة ذاته من أن تحده أي صفة مدركة ومحسوسة لبني البشر أو تدرك بباله المخلوق ، وغير بني البشر ، لكن الله تعالى مما اتخذ حجبا له اتخذ حجابا يمكن لمخلوقاته أن تدركه من خلاله أو من ورائه ، وهكذا هي مشيئته وحقيقة وجوده عز وجل أن لا يطيق رؤيته مخلوق ، وكما علمتم لما تجلى للجبل ماذا حصل لذاك المخلوق العظيم فكيف بمخلوقاته الضعيفة التي لا يمكن لها ادراكه بأي حاسة من حواسهم إلا ما تقرر بالمثال حالهم في ذلك كحالهم بالمنام رحمة منه ، ولهذا صاح بها أحد الأنبياء وهو اشعيا صلوات ربي وسلامه عليه ، فقال : ﴿ حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ ﴾ .

 

محجوب عن ماذا ؟

 

يجيب على ذلك المسيح صلوات ربي وسلامه عليه وتلاميذه الأبرار رضي الله تعالى عنهم بما دار بمجلسهم التالي : إن الله وحده يقدر أن يعرف نفسه وإنه حقا لكما قال اشعيا النبي : هو محتجب عن الحواس البشرية  اهـ .

 

كأنهم ذكروا ذلك بالمعنى لأني لم أجد النص عن النبي اشعيا مضافا للحواس البشرية ، بل من غير ذلك ، فهل حرف نص كلامه فانقص منه ؟ ، أو أنه مثبت كما هو عليه الآن لكن التلاميذ أشاروا له بالمعنى ؟

 

ومهما يكن أبلغ من ذلك ما ورد من كلام الله تعالى بحسب ما ذكر المسيح عن لوحي العهد أنه تعالى : ﴿ لا يُرى وأنه محجوب عن عقل الإنسان ﴾ . وهذا أبلغ مما ذكره التلاميذ عن كلام اشعيا النبي فمن يستحيل ادراكه بالعقل محل التصور والتخيل من باب آكد استحالة ادراك حقيقة وجوده من خلال حاسة البصر ، فالعقل اشمل وهو مركز كل الحواس ، فكان نفي ادراك حقيقته عز وجل بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام أبلغ مما نقل معناه عن النبي اشعيا فاحتجابه هناك عن العقل مركز الإدراك ، ومن حجب عن العقل استحال مشاهدته مع أي تبدل ، على عكس المشاهدة بحاسة العين مركز الإبصار فتلك متى ما زال عنها المانع تعود ويمكنها المشاهدة ، أما نفي الإدراك بالعقل فهذا نفي مطلق ، لأن تعلقه بالإدراك عامة لا بحاسة البصر ولهذا كان النص القرآن بالنفي عن الإدراك له عز وجل في قوله تبارك وتعالى : ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، أقرب أن يكون المراد في ذلك نفي إدراكه بالعقل لا بالعين وهو أبلغ بتحقق حجب الذات المقدسة عن مجموع حواس البشر حجبا مطلقا لا أنه محجوب عن حاسة بعينها ، والآية في حمل مفهومها على هذا المعنى أبلغ وأقرب للصواب والحق لمطابقة ذلك المعنى المنصوص عليه بلوحي العهد على موسى عليه الصلاة والسلام وهو الأوفق لجميع النصوص الواردة في هذا الخصوص والجمع الأمثل لها ، وعليه حمل المعنى من الآية بعضهم في المسلمين فقالوا : الْمَعْنَى لا تُدْرِكهُ أَبْصَار الْقُلُوب , أَيْ لا تُدْرِكهُ الْعُقُول فَتَتَوَهَّمهُ ; إِذْ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " اهـ . حكاه القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى ، وهو الأقرب والأوفق ويعضده ما نقله المسيح عليه الصلاة والسلام عما كتبه الله تعالى بيده لموسى الكليم  صلوات ربي وسلامه عليهما .

 

وظاهر القرآن يدل عليه فقوله تعالى : ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ، فمعنى النفي هنا للإدراك لا يشترط له الإحاطة بالنظر على ما توهموا جميعهم ، فإن الإحاطة بالنظر لا يتم بحال ومن الغباء بصراحة حمل التفسير على هذا المعنى ولا شك ، لأنك وبتطبيقك  لنظرك على أي مخلوق فما بالك بمن له المثل الأعلى ، لن يمكنك الإحاطة به فإن نظرت له من زاوية خفت عن عينيك زوايا كثيرة منه وكل ما كبر حجم ذلك المرئي كثر عليك من حيزه ما يخفى عن نظر عينك ، وعليه يتضح بطلان هذا التمثيل بما أنه يوافق المخلوقات والله تعالى منزه عن مثل هذا الخطاب الضعيف والتشبيه الغير صحيح ولا منطقي ليؤكد على مثل تلك الحقيقة الربانية الباهرة ، وهو القائل عز وجل في تنزيه ذاته : ﴿ ليس كمثله شيء ﴾.

 

لكن الحق بالتقرير هنا أن المراد بالنفي خلاف ما ذهب إليه الكثير منهم ، فإن الإدراك أمر زائد على مجرد تحقق الرؤية فكيف يقاس عليه بأي حال ، مع أن الحقيقة في حمله على ذلك كما بينت لا تعين عليه .

 

 قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، فهنا خشوا من الإدراك بعد تحقق الرؤية بين الجمعان ، ما يدل على أن الإدراك أمر زائد على مجرد تحقق النظر .

 

وقد شنشن حول هذا المعنى الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره للآية وأورد هناك قوله عز وجل كذلك في فرعون : ﴿ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَق قَالَ آمَنَتْ . ثم قال : قَالُوا : فَوَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره الْغَرَق بِأَنَّهُ أَدْرَكَ فِرْعَوْن , وَلا شَكَّ أَنَّ الْغَرَق غَيْر مَوْصُوف بِأَنَّهُ رَآهُ , وَلا هُوَ مِمَّا يَجُوز وَصْفه بِأَنَّهُ يَرَى شَيْئًا . قَالُوا : فَمَعْنَى قَوْله : { لا تُدْرِكهُ الأَبْصَار } بِمَعْنَى : لا تَرَاهُ بَعِيدًا , لأَنَّ الشَّيْء قَدْ يُدْرِك الشَّيْء وَلا يَرَاهُ اهـ .

 

      قلت : هنا قصر ، وحقه يقول في تفسيره : معنى الإدراك التمكن ، والله تعالى بنفيه أن يدرك نصب دليلا على ذلك نفيه أن يدرك بأي حاسة من حواس البشر ، على من قال العقل عموما والمعنى أن يدرك بالفكر ، أو على من قال بمجرد النظر بالعين بأن يحاط بتلك الحاسة ، فكان النفي مطلقا وتعبيره عن ذلك بالإدراك ، ولا معنى وحقيقة للتمكن منه عز وجل لينفى ذلك إلا أن يكون النفي هنا المراد منه على الإطلاق أن يدرك بأي حاسة حتى مجرد النظر إليه ، وذلك كما هو ظاهر من القرآن أن الإدراك أمر زائد على مجرد تحقق النظر ولن يكون معنى الإدراك على الباري عز وجل لينفى مطلقا إلا على النحو المقرر هنا ، لا مجرد وقوع النظر عليه ، وفي هذا المعنى الحق هنا أعظم بيان وتقرير يصادم معتقد أئمة السلف في اعتقادهم جواز رؤية ذات الباري عز وجل المحجوب ادراك حقيقتها على عقول كافة البشر .

 

ويستحسن هنا التنبيه على غرابة استدلال ابن عباس في هذا الخصوص وانقلابه عليه حين زعم لنفي الإحاطة قياس رؤية الباري عز وجل برؤية السماء فقال للمستنكر : ألست ترى السماء ؟ ، قال : بلى . قال : أكلها ترى ؟ ، قال : لا .

 

وهذا مقلوب عليه كما ذكرت قبل ويؤكد على أن معنى النفي ليس لما ذهبوا إليه وإلا لم يكن لمعنى التنزيه هنا له جل وعلا أي معنى ما دام ذلك يطابق حال مخلوقاته كذلك ، فكلها لا يُحاطُ بها بمجرد وقوع النظر لا من قريب ولا بعيد ، والحق أن النفي خرج لمعنى آكد من ذلك وهو عدم الاستطاعة المطلقة من البشر على إدراكه بالعقل من أي وجه فهو محجوب حجبا تاما عن أي حاسة بشرية وما دام حجبه لنفسه عن العقل مطلقا فمن باب أولى مجرد النظر ، ولو تمت لهم رؤية ذاته المقدسة لما كان هناك أي معنى لذلك النفي على الإطلاق ، وهذا عين ما عناه عز وجل بالنفي المطلق في تلك الآية ، فإن لم تكن يا ابن آدم قادرٌ على ادراك حقيقة وجوده بفكرك العقلي ، فكيف لك أن تراه بعينك ؟!

لن يجعلك تدركه بعقلك وإن نظرته بعينك مجرد نظرة لذاته المقدسة المحجوبة فقد أدركته وهذا الذي وقع عليه النفي ، وذلك ممنوع عليهم جميعا لعدم استطاعتهم ذلك بالخلقة .

 

لقد خلقت يا ابن آدم لتعجز عن إدراكه وستبقى كذلك لا تستطيع أن ترى النور العظيم بعينك الضعيفة ، مثل أن الجبل لم يستطع الثبات أمام شيء من تجلي ذاته المقدسة ، عظيم بوجوده كبير واسع من وراء حجبه لا يمكن للعين تعيينه مطلقا لأنه أكبر من كل شيء وأوسع من أن تحد له حدا العين التي خلقها لا لتراه بل لتؤمن بوجوده من وراء الحجب ، فذلك أقدس له وأشوق لها .

 

نعم ، خلقت وأنت لا تستطيع رؤية ذاته العظيمة وذلك منصوص عليه في القرآن : ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ، برهان على استحالة ذلك بالبصيرة وبالبصر آكد وأولى ، وتلك هي الحقيقة الشرعية العظيمة التي جهلها أئمة السلف وعجزوا عن استيعابها بأن الله تعالى بذاته محجوب عن مخلوقاته ، وإنما جوزي من صلح منهم برؤية مثاله النور بالصورة كما يرى بالمنام ، أما ذاته المقدسة المحيطة بكل شيء والقريبة من كل مكلف فتلك التي تقرر بوحي الله عز وجل على رسله أنها محجوبة لا يمكن أن ترى من قبل أي مخلوق ، وهذا الرد عليهم بما تضمنه هذا التفصيل أتى لبيان الحقيقة الشرعية العظيمة أن الله تعالى بذاته محجوب عن مخلوقاته وأن السلف خلطوا في اعتقادهم خلاف ذلك خلطا عظيما ملتبسا على الكثير من الخلق ولم يسبق نقضه عليهم من أي أحد نقضا شرعيا مستمدا براهينة مما أوحى الله تبارك وتعالى للأنبياء والرسل .

 

وكذب كل من زعم أن الله تعالى سيخلق قدرة يوم القيامة تمكن ابن آدم من رؤيته ، إنما سيرونه بما آتاهم الله تعالى من مقدرة على ذلك على النحو الذي رآه به آدم عليه الصلاة والسلام ، وكما سيراه الخلق جميعهم يوم العرض ومن ثم في الجنة بتجلي خاص يستطيعون مشاهدته من خلاله.

 

ومن أنكر ما مر علي في مباحث العلماء المسلمين في هذا الخصوص ما قاله ابن تيمية : كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح ، لأن النفي المحض لا يكون مدحا .. ، والمعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح ، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه اهـ . ( من بيان تلبيس الجهمية )

 

وهذا من الانقلاب بالعقول حتى يعد مدح الله تعالى لذاته ذما بحقه سبحانه ، ما يؤكد على صحة ما تقرر هنا أن المنفي حقا ادراكهم حقيقة وجوده بعقولهم مهما بلغت ، ولا أدل على ذلك مما نقرأه عن مثل هذا المسلم الذي آتاه الله تعالى من نعمة العقل الكثير ، لكنه يكبو هنا ويقع على منخري رأسه لما استدار به الأمر فانقلب عليه ما مدح الله به ذاته المقدسة ونوره الأعظم ، ليكون بتصورات عقله نقصا ومذمة فسبحان الذي احتجب عن سائر عقول بني البشر أن تقدر تدرك كنهه ، أو أن تقع على نوره الأعظم أنظارهم .

 

وله أختها أو قريبا منها قوله رحمه الله تعالى وغفر له في معنى قول الله عز وجل : ﴿ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ﴾ : من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق ، وإن كنا قلنا أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك ..

 

ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله : أنه في السماء . أنه في العلو ، وأنه فوق كل شيء وكذلك الجارية لما قال لها : " أين الله ؟ قالت في السماء " ، إنما أرادت العلو ، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها .

 

وإذا قيل : " العلو " فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها ، فما فوقها كلها هو في السماء ، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به ، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله . كما لو قيل العرش في السماء : فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق .

 

وإن قدر أن " السماء " المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها .

 

إلى أن قال : ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره ، وضال ان اعتقده في ربه اهـ . ( بيان تلبيس الجهمية )

 

        بل أنت من ضل وكذب إذ قررت خلاف الحق هنا ، وافتريت بأن أعلى العلو هو ما فوق العرش ، وقد مر معنا تقرير الكلام حول هذا في مسألة اثباتهم الحد لله عز وجل آخر الفصل الثالث في الوجه الثالث من ابطال دعواهم عدم وجود شيء من مخلوقاته عز وجل معه حين خلق العرش والسماوات والأرض .

 

وهذا يرجعنا للتأكيد على مدى ضلالهم في هذه المباحث التي تقولوا فيها على الله تعالى وحقيقة وجوده بالكثير من الباطل وقول الكذب والرجم عليه بالغيب سبحانه .

وهو منه مبني على فهمهم لتأويل حديث عمران وخصوصا حديث أبي رزين العقيلي ، وما اعتقدوا من حقيقة معنى الاستواء على العرش واعتقادهم أنه تعالى كان وليس معه شيء ، ولا فوقه ولا تحته ، ومعنى النزول في الثلث الأخير من الليل ، وكل تخاليطهم في ادراك تأويل كل ذلك .

 

وهذا كله منهم إنما تأسس على جهلهم في اثبات ونفي الصفات على الله عز وجل .

 

ومثله قوله هنا في تعيين مكان العرش ومعنى " من في السماء " ، والعقول التي تقبل في عقيدتها المجيء بالعرش محمولا ومجيء الرب عز وجل مع الملائكة كما قال تبارك وتعالى يوم القيامة : ﴿ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ، ثم هم يعتقدون رغم ذلك أن العرش أكبر وأوسع من السماوات والأرض ، حكاه بكتابه " بيان تلبيس الجهمية " عن الدارمي في نقضه على المريسي وأقره عليه ، قوله : ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة ! فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ، ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ، ولكنه فوق السماء السابعة اهـ .

 

وباعتقادهم أيضا أن الرب عز وجل سيأتي مع الملائكة صفا صفا فسيأتي وهو أكبر من العرش الذي هو أكبر من السماوات والأرض ، ثم هم يؤمنون أيضا رغم كل تلك التناقضات على وفق ما يعتقدونه دينا وإيمانا ، أن العرش يوم القيامة سيكون محمولا وله أطيط كأطيط الرحل ، والملائكة من حوله حافين والأنبياء والأولياء .

 

ثم الرؤوس التي تجمع هذا كله ترجع بعقيدتها لمثل هذا التضليل والتكذيب لمن اعتقد أن مجيء الله تعالى سيكون يوم القيامة مثل ما كان مع آدم حين خلقه ولا زال قبل ما ينفخ فيه الروح وهو كومة من الطين ، وهناك من حولها كان التجلي الرباني للملائكة والابتلاء العظيم الذي وقع عليهم حين أمرهم بالسجود لتلك الطينة ، ثم حصل ما قص عليكم ذكره .

 

ولما أراد أن ينفخ في تلك الطينة الروح عاد وحصل مثل ذلك ثم جرت كل تلك الأمور المذكورة .

 

ونظير هذا لما خلق العرش على الماء ومن ثم خلق السماوات السبع والأرض وقدر ما فيهم ، ثم استوى على عرشه تبارك وتعالى وكل ذلك سواء وبابه واحد ، لم يحصل إلا وهو تعالى في سماء السماوات ، ثم نزل حين شاء من هناك لوجه الأرض لما جمع طينة آدم بيديه سبحانه وخاطب الملائكة في بيان عزمه على فعل ما سيكون من وراء تلك الطينة .

 

ونظير ذلك لما يأتي ليحاسب العباد فتجمع بين يديه عز وجل يوم القيامة الخلائق ، فهل يمكن يعتقد عقل أن ذلك كله سيكون وهو غير داخل في المكان والحيز والزمان ؟!

 

أما تلك العقول فلا يمكنها تجمع بين اعتقادها بما قلت أن عرشه أكبر وأوسع من السماوات والأرض والله أكبر وأوسع عندهم ، وبين ما أخبر تعالى ورسوله إلا وصب على رؤوسهم التناقض كله والاضطراب ، لكنهم بالنهاية ورغم ذلك تم لهم أن يجمعوا بين ذلك كله ويوفقوا ما بينه بكلمتين ( أمروها كما رويت والكيف غير معلوم ) ، وتلك قاعدة الحمقى بامتياز ولن اقول الكذبة .

 

وتلك العقول مرجوجة ولا شك إذ اعتمادها في الدين وبأسمى أصوله على ضرب دلالات النصوص بعضها ببعض ، ومع هذا خفاهم من العلم الكثير والكثير جدا ثم هم يتحدثون . وهل يأتي الرب تعالى مع ملائكته صفا صفا يوم القيامة إلا وهو داخل السماء بل هو على وجه الأرض يمشي على ما روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رزين العقيلي : " فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض ، وخلت عليه البلاد ".

 

فكيف يحمل عرشه على وجهها وهو باعتقادهم أكبر من السماوات والأرض ، والله أكبر منه وأوسع ؟!

 

ولا يستغرب على عقول تؤمن بهذا وتصدق به أن تعتقد بفناء السماوات والأرض ، نعم حتى يتم لهم ما اعتقدوا فيذهبوا بالزمان والمكان وإلا لاستمروا مع تنقاضاتهم ليوم القيامة ثم يكون هناك عرش يمكن له أن يحمل ، وقال بفناء السماوات والأرض ابن حنبل بالفعل فيما ينسب له ، قال : وأما السماء والأرض فقد بادتا لأن أهلها صاروا إلى الجنة والنار ، وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب لأنه سقف الجنة والله عليه فلا يهلك ولا يبيد اهـ  * .

 

والمرجح أن هذه الإبادة عنده تتم بعد ما تجري كل تلك الأحداث المروي عنها في الحساب والصراط وغيره ، لأنها كلها تحدث والأرض لا زالت ، لكن غفل ابن حنبل أن باعتقاده هذا قد صادم بما قاله ظاهر القرآن وسأحسم بإيراد ما ينقض تلك الخرافة حتى توقنوا أن لهم تناقضات صارخة في الاعتقاد بالغيب حتى على الجنة والنار وبقاء الأرض والسماء ، دون تناقضاتهم على وجود الله عز وجل وذاته العظيمة المقدسة المحجوبة عن العقول والأنظار .

 

قال عز وجل : ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ﴾ . فهنا يثبت وجودهما الله عز وجل

وأهل النار في نارهم ، وابن حنبل قضى عليهما بالفناء وسينتهي لقول جهم في فناء النار والجنة ، لأن قوله بفناء السماوات والأرض يلزم منه فناء النار والله عز وجل قيد بقائهم في النــــــــار ما دامت السماوات والأرض

 

     والحكم بفنائهما حكم على النار بالفناء ، وكل هذا من مغبة الرجم بالغيب والتقول عليه عز وجل بجهل .

 

وهؤلاء رغم هذا كله يهذون بعقولهم ويخلطون بألسنتهم ما بين قول الحق والباطل ، لينكروا أن كل ذلك إنما حصل والرب عز وجل ليس في حيز ولا مكان ولا زمان ، حقا أنكم أنتم من الكذبة والمزورون أيضا إذ أن كل هذا العبث بالعقيدة يصدر منكم ثم تقولون نحن أهدى الناس في إثبات ما يليق لله تعالى وما لا يليق ، نثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه وما أثبتته له رسله وننفي ما نفوه ، وها هي حقائق ما اعتقدتم تتجلى وإذا أكثرها مبني على الأباطيل وقول الأكاذيب ، لم يكن عرشه إلا فوق السماوات الطباق تحت أفلاك سماء السموات ، ولن يكون عرشه ذاته إلا فوق وجه الأرض تحفه الملائكة والأنبياء والصديقون والأولياء محمولا بين أيديهم وهم يحدقون فيه بل بعضهم يلتزم احدى قوائمه ، ولا زال تحت الأفلاك تحويه سماء السماوات ، وكل هذا الضلال منكم لأنكم لم تهتدوا للحق في ذلك فيتم لكم التمييز وفق ما قاله تعالى لنبيه موسى صلوات ربي وسلامه عليه وكتبه لنبيه ولقومه بيديه عز وجل لأهمية ذلك الاعتقاد ، ولهذا كتب عن حقيقته بيديه سبحانه.

 

ووفق كذلك ما قاله لمسيحه عليه الصلاة والسلام بإنجيله ، ووفق ما أوحى لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فوجوده في السماء عقيدة صريحة أثرتم حولها من الكذب والاشكالات ما لا يتطرق إليها لو تعقلون ، لكن من أين وقد أجهدتم عقولكم وأنتم تنفون ذلك ما يرشحكم للكذب عليه أكثر من غيركم ولو قالوا ما قالوا ، ولو ضلوا بما ضل به خصومكم ، فأنتم الأكثر في ذلك بالنسبة للدعوى على الله تعالى وعلى رسله .

 




* راجع ما نشر في موقعنا تحت العنوان التالي : من أعجب وأعظم موافقات المصطفى لما ورد بإنجيل المسيح . 

*  كتاب " الرد على الزنادقة والجهمية " ص 33 المطبعة السلفية ومكتبتها في القاهرة 1393