الفصل الثالث
السماء الأعظم في الخلق أقدم بالإيجاد من السماوات السبع
هذا الأصل في التفريق ما بين حقيقة وجود السماوات السبع ووجود سماء فرد أعظم من تلك السماوات السبع وأنها تحويهم جميعا ، هو أصل متفق عليه في كلام الأنبياء وما روي في أخبارهم ، وللأسف هذا مما يجهل أمره أهل الإسلام وما أكثر ما يجهلون ويخفاهم من حقائق الآخرة والمعاد وحتى بدء الخلق بل أكثر من ذلك أيضا يجهلون في حقيقة وجود الله تعالى وحقيقة ذاته العلية وصفاته المقدسة العظيمة ، يجهلون في ذلك ولهم خلط عليه واضطراب شديد كما سيمر معنا بيان شيء من ذلك إن شاء الله تعالى ، مثل ما مر معنا بيان بعضا من ذلك قبل .
وفي الزبور على لسان نبيه داود عليه الصلاة والسلام قال تعالى : ﴿ سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ، سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ ، لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ ، وَثَبَّتَهَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ ، وَضَعَ لَهَا حَدًّا فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ ﴾ . أثبت وجود المياه فوق السماوات السبع وأثبت سماء فوق كل ذلك ، بل في موضع آخر من الزبور يصف تلك السماء الجامعة للسماوات السبع بالقديمة فيقول هناك : ﴿ يَا مَمَالِكَ الأَرْضِ غَنُّوا لِلهِ رَنِّمُوا لِلسَّيِّدِ لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةِ . هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ ﴾ .
لم سمى تلك السماء الجامعة للسماوات السبع ، بالقديمة ؟ يريد بالخلق ، فهي أقدم بالخلق من السماوات السبع والأرض وهذه حقيقة كبرى جهل المسلمين فيها مطبق مركب ترتب عليه خلط شديد على ما كان قاله صلى الله عليه وسلم عن بدء الخلق ، واضطربوا بسببه في إدراك حقيقة ذلك اضطرابا شديدا ، ومما اعتقدوا على وفق خطأهم وضلالهم في ذلك أن ابتداء الخلق إنما كان بخلق السماوات السبع والأرض وأن الله عز وجل لما عمد يخلق الأرض والسماوات السبع لم يكن شيء معه وقتها ، والحق خلاف ما اعتقدوا بل كانت السماء القديمة سماء السماوات قد خلقت من قبل وكان يوم خلق الأرض والسماوات موجودةٌ تلك السماء وما حوت من مجرات .
بل حتى خلق الملائكة كان قد سبق ذلك ولما خلق خلقه الذي قص علينا بالقرآن من تفاصيله ، حين فتق ما بين اليابسة والماء وكان بخار الماء - الدخان - ثم خلق السماوات السبع من ذاك الدخان حول الأرض من بعد ما قدر فيها ما قدر في أربعة أيام ، وكانت تلك الطينة قبل ما تنفخ فيها الروح ، والملائكة قد سبق كل ذلك خلقهم وخلق السماء القديمة .
ولما علم الشيطان بأمر تلك الطينة وما يريد تعالى من وراء ايجادها وايجاد كل ذاك الخلق الجديد وصار ذلك النزاع ، وكان الشيطان في جملة الملائكة في السماء القديمة قبل ما يخلق الله تعالى الأرض والسماوات السبع من حولها ، لهذا لما تدرج الله عز وجل بالخلق وكان له اطلاع حول تلك الإرادة حصل بعد ذلك ما حصل ، وكل ذلك مما سبق خلق آدم وتبع خلق الأرض والسماوات ، ثم هم أتو بجهل بعد كل تلك التفاصيل ولم يفرقوا ما بين وجود السماء القديمة وما لها من سبق على خلق الأرض والسماوات السبع من حولها ، وأجملوا باعتقاد الأمر ولأنهم لم يفرقوا ويدركوا ويعلموا بهذا التفصيل اختلط عليهم الأمر فلم يفرقوا معنى الخبر حول ذلك الخلق الطارئ وأنه مختص بخلق الأرض والسماوات من حولها دون السماء القديمة وما سبق فيها من خلق ومن ضمن ذلك وجود الملائكة ، فحين نبأهم أنه سيجعل في الأرض خليفة وخلق ما خلق من أمر يمهد لذلك ثم خلق بعد ذلك تلك الطينة من بعد ما خلق قبلها كل ما على وجه الأرض من دواب ونبات ، في ذاك الوقت كان الله تعالى وكان معه خلائقه من الملائكة وغيرهم من أفلاك سماء السماوات القديمة ، وكانت السماء قائمة بأفلاكها ومجراتها قبل خلق الأرض مستقرا لبني البشر .
ثم أنشأ خلق الأرض والسماوات لما أراد وأعلن عن عزمه على إيجاد جنس البشر فاختص بالخلق كوننا هذا لما قصد لذاك الإيجاد من خلق جديد ، أما قبل ذلك فكانت السماء القديمة وكان الملائكة يسبحون بحمده دوما ، لهذا كان يجب عليهم اعتقاد واعتماد جواب النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال بعضهم عن بدء الخلق بقوله : " كان الله ولم يكن شيء قبله " . لأن جوابه كان بحسب سؤالهم وهم قد سألوه عن مبدأ خلق ما يشاهدون من عالمهم الذي يرونه أمامهم ، فأجابهم عليه الصلاة والسلام بحسب ذلك ، لهذا كان اضطرابهم باختلاف تلك الروايات مع أنها مختلفة المعنى لكن حسب من لا علم له بالفرق أنها بمعنى واحد وهذا باطل غير صحيح ويترتب عليه عدم اعتبار خلق الملائكة السابق على ذلك ولا خلق السماء القديمة السابق هو أيضا على خلق الأرض والسماوات السبع المحيطة بها وما بث في الأرض مما قدر عليه التسخير لبني البشر ، فهذا العالم المشاهد خلق لإيجاد بني البشر لهذا جعله كله مسخرا لهم حتى السماوات سخرت لهم مستقبلا ليرقوها طبقا عن طبق .
وحتى الشمس والقمر وتلك السيارات سخرت لمنافع بني آدم رغم أنها في الخلق من خارج السماوات السبع ، فكل هذا العالم المشاهد مسخر لهم ولأجلهم خلق .
أما السماء القديمة والملائكة فهم خارج ذكر ذلك الخلق الجديد ، وذكر خلقهم لم يرد بتلك التفاصيل كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنهم بجوابه ألبته وعليه لا يصح اعتقاد أن الله تعالى وقت ما خلق الأرض والسماوات لم يكن شيء معه على ما توهموا في ذلك على وفق اختيارهم اللفظ الآخر المتوهم عليه صلى الله عليه وسلم وهو : " كان الله ولم يكن شيء غيره " .
فهذا باطل مخالف لقصص القرآن في خلق الأرض والسماوات ، فهو لم يذكر بذلك التفصيل إلا خلق الأرض والسماوات من بعد ما كانتا رتقا ففتقهما وأوجد منهما ما ذكر ولا يجوز اعتقاد معنى جوابه عليه الصلاة والسلام إلا وفق ذلك التفصيل من كلام الله عز وجل سواء في القرآن أو ما أوثر عند أهل الكتاب ، وكانت السماء القديمة وما حوت سابقة بالخلق عليهما ، فكيف يصح الاعتقاد وقتها بأن الله عز وجل كان ولم يكن شيء معه ؟!
بل كانت السماء العظيمة التي حوت كل ذلك الخلق معه ، وكانت الملائكة تسبح بحمده تعالى ومن ضمنهم اللعين الشيطان ، والخلق المجاب عنه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي كان مختصا بالبشر لم يختص بهم سواه ولم يقتصر الإله الحق بالخلق عليهم ولا على عالمهم ، وهذا ما لم يدركه أحد ويستوعب حقيقته الكثير .
ومما ترتب على اعتقادهم الباطل هذا أن الله عز وجل لم يكن يخلق وكان معطلا ولا زال كذلك إلى أن شاء يخلق آدم وذريته فصار بذلك خالقا بعد أن لم يكن كذلك ، أما قبل ذلك فكان معطلا عن الخلق لا يصنع شيئا وذلك لازم فهمهم الكاذب على الله تعالى ورسوله ، وماذا يكون عمر الجنس البشري مع أزلية الله تعالى وسرمديته السابقة مثل بقائه تعالى خالقا آمرا إلى ما لا نهاية ؟
ماذا يكون حقا عمر الجنس البشري مع دوام الله تعالى من غير ابتداء ، حتى يعتقد بجهل تعطيل كونه خالقا موجدا لمخلوقات من مخلوقاته من العدم لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى ، فتوقف عظمته وجلاله على ذاك الجنس مع دوام وجوده وعدم بداية له سبحانه وتعالى عما يجهلون .
ولا يقاس هذا الاعتقاد الباطل المتوهم على الله تعالى ورسله بما عليه أتباع الحق المهديين من الاعتقاد المنزه لله عز وجل والمعظم لدوام وجوده وقدرته على الخلق ودوام الأمر ، أبدا لا يقاس هذا على ذاك من تصورات العقول البشرية الناقصة وتحكمات أذهانهم العبثية على النقل كما سيمر معنا وقفات معه مع الرواية عن أبي رزين عنه وكيع بن عدس .
لا يحكم عليه وفق نقص مداركهم وضعف احاطة علمهم ، بل يطلق ذلك بما يليق لله تعالى ويحكم عليه وفق علم الله عز وجل لا علم البشر وتخرصاتهم ، فلا يصلح بتاتا اعتبار نقطة الفصل في ذلك نقطة وجود تلك الطينة وما خلق لها من حولها ، بل ترهن حقيقة ابتداء الخلق والاعتقاد فيها بدوام وجود الله عز وجل تبارك وتعالى فلا يجوز تحديد ذلك بما يسع أي مخلوق العلم به كابتداء خلق آدم وما يحيط به من عالم الدنيا ، وتلك مسألة حار بها العقلاء من قبل وخاضوا في تقريرها جهلا بقيل وقال ، وهي من أشد ما استمسك به المبطلون على ابن تيمية رحمه الله تعالى وكان فيما كان فيه خير ممن خالفه وشنع عليه وأسموها عليه اعتقاد ( دوام تسلسل الحوادث ) ، يريدون تنقصه بذلك وهو المنزه لله عز وجل بما اعتقد ، يأخذون عليه بعض اطلاق كلام ليس من الإنصاف يتهم بلازمه وهو لم يلتزمه بسائر ما قاله في كتبه من مثل قوله في ( بيان تلبيس الجهمية ) : كما لم يتقدم ابتداء خلق السماوات والأرض العدم المطلق اهـ .
لأنه قال قبل ذلك بحال التسليم بوجود شيء من خلقه حين خلق السماوات والأرض معه : لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ، ولا بأن مادة السماوات والأرض ليستا مبتدعتين ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده اهـ .
وهذا تصريح محكم من كلامه ليس من الإنصاف الزامه بخلافه أطلق فيه ما لا يعني خلاف قوله هذا ، ويأتي جواب المهدية هذا بتجريد هذا الأصل للرد على الجميع وفيه تأييدا لما قرر ابن تيمية في ذلك من الحق ولو لم يقصد تقرير عين ما قُرر هنا والذهاب لاعتقاده ، لأنه لم يكن بمقدوره ذلك لكنه أصاب المعنى ولو لم يسلك ذات الطريق إلا بما يخص ذكر العرش فقد صرح وقصد بكلامه استثناء خلقه مما خلق تعالى في الأيام الستة ، وهذا حق ومثله الغمام والماء الذي كان عليه العرش وغير ذلك مثل وجود سماء السماوات بل وجود الأرض ذاتها وحولها الماء لأن الله عز وجل خلق السماوات والأرض من بعد ما كان وجودهما بالأصل ملتصقان وحين قصد لخلقهما فتق ما بينهما ولم يفد اخباره عن خلقهما في ستة أيام أنه بدأهما من عدم بل أفاد اخباره أنه فتق ما بينهما فكونهما على الطريقة التي أخبر عز وجل ، وكل ذلك مما يدل على بطلان اعتقاد من اعتقد أن الله تعالى لما خلق السماوات السبع والأرض لم يكن شيء غيره أو معه ، على ما اختار البعض على حديث عمران رضي الله تعالى عنه في الصحيح وغيره ، وعلى ما اختار ابن تيمية نفسه وهما على حديث أبي رزين كما سيمر معنا مناقشة ذلك باستفاضة بخصوص ذاك الحديث ، فقد ثبت من قوله رحمه الله تعالى ترجيحه على رواية وكيع بن عدس أن الله عز وجل قبل ما يخلق السماوات والأرض لم يكن معه شيء وهذا يعيدنا لتقرير أن ليس من الإنصاف الزامه باعتقاد ثبت منه القول بخلافه مثل هذا الاختيار منه على معنى حديث وكيع بن عدس ، قرر ذلك في كتابه ( بيان تلبيس الجهمية ) ، وهو خلاف ما رجحه على الرواية الصحيحة كما ذكر ذلك عنه شارح البخاري ابن حجر على ما سيمر معنا قريبا ، فاختياره على حديث وكيع بن عدس أن ليس معه شيء يضاد ما نسب له من اعتقاد التسلسل في الحوادث كما هو ظاهر ويمنع صحة نسبة ما قاله ابن حجر إليه رحمه الله تعالى ، وأكثر من تصريحه بنفي وجود الزمان أزلي وأنه مقارن لوجود الله تعالى ، وهذا مما ينفي عنه تلك التهمة نفيا قاطعا إلا من كابر عليه وجحد ذلك المعنى مما قاله هذا الشيخ .
ويظهر من اعتقاده لي أن الرواية التي نص فيها على خلق العرش اختار عليها أن ليس مع الله تعالى شيء وقتها وهذا بين البطلان وسأقرر نقضه إن شاء الله تعالى كما سأبين تهافت ما رجح به رحمه الله تعالى ما اختار بخصوص تلك الرواية . وحين أورد في شرح الخبر الصحيح حديث عمران وليس فيه خلق العرش بل السماوات والأرض رجح أنه كان معه غيره ويريد بذلك وجود العرش والماء .
فاختياره على حديث وكيع بن عدس لا يسلم له وهو اختيار باطل كما هو مبين على أصل اعتقادنا هنا ، فالعرش حين خلقه الله تعالى لم يخلقه وليس معه غيره وقتها ، بل سماء السماوات وما حوت كان كل ذلك مما خلق قبل خلقه تعالى للعرش وغير العرش مما تلاه بالخلق على ما فصل لنا .
والحق أن الأرض والسماوات والقلم والعرش كذلك ، فكل ذلك مما اختص بوجود جنس البشر فذكر ابتداء خلق كل ذلك لا يدل على عدم خلق غيره قبله ، وهم يعلمون بكون العرش محمول وذو ابضاع حتى ذكر أن له قوائم ، وبما أنه مخلوق فهو محدود ، وسيقف موسى عليه الصلاة والسلام بجانبه وهو آخذ بقائمة من قوائمه ، وسيقف على يمينه وشماله الأنبياء الأطهار والصديقون الأخيار ، وذلك مما يدل على أنه محدود محمول يقف من حوله الملائكة والأنبياء والأولياء محدقون : ﴿ وترى الملائكة حآفين من حول العرش ﴾ ، ﴿ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ﴾ .
وابن تيمية نفسه ممن يعتقد في العرش اجلاس النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع الله عز وجل يوم العرض - على تناقض منه في ذلك ففي رده على الرافضي حاول التملص من هذا الاعتقاد المثبت عند علماء من السلف - ، وكل ذلك مما يدل على اختصاصه ببني البشر وما خلق لهم بهذا الكون ويتعلق بهم خاصة ، حتى أنه في يوم العرض تأتي به الملائكة تحمله ويعرض عليه الخلق والرحمان عز وجل مستويا عليه ، كما استوى عليه من قبل بعد أن أنهى خلق السماوات والأرض وما فيهن .
قال ابن حجر شارح صحيح البخاري : قوله ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) تقدم في بدء الخلق بلفظ : ( ولم يكن شيء غيره ) . وفي رواية أبي معاوية كان الله قبل كل شيء وهو بمعنى كان الله ولا شيء معه وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب ، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية ، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها ، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس ، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق اهـ .
قلت : بطلان معنى رواية ( كان الله ولا شيء معه ) ، على اعتبار ذلك حين خلق السماوات والأرض كما هو اعتقادهم وفق حديث عمران وكذلك حديث أبي رزين لأن حديث أبي رزين عبث بعض الرواة بألفاظه وتوه بعضهم مدلولاته من أن تكون صريحة ليعتريها الغموض وحتى يقرروا على وفق ذلك اعتقاداتهم التي اقتنعوا بها ، وقد جاء من طرق التصريح بالسؤال أنه عن خلق السماوات والأرض ، مثل ما هو الحال بحديث عمران .
فبطلان ما ذهبوا إليه على الحديثين مما أُثبتت أدلته في هذا التعقيب ، فعدم علمهم بحقيقة أزلية الله تعالى وعدم علمهم ببداية لخلقه ليس بحجة على ابن تيمية فيما نسب إليه من باب اللازم ، لكن الحجة كل الحجة بعد هذا البيان على من خالفه أنهم في اعتقاد نسبة التعطيل لله عز وجل عن الخلق إلى أن أوجد هذا العالم البشري وما حف به من المسخرات لوجوده ، وأن نسبة التعطيل لله تعالى لخلقه وأمره لازمة بحق لما اعتقدوا من كذب وباطل وحتى ابن تيمية الذي شنعوا عليه هو معهم في ذلك وفق اختياره على حديث أبي رزين ، ويكفي في شناعة ذلك أن حد له حدا ابتدأ منه الخلق والأمر وهو ما قص ذكره وتوهموا عليه أنه البداية المجردة لأن يخلق الله عز وجل من بعد ما لم يكن يخلق قبل ذلك على وفق فهمهم للجمع بين دلالة الخبرين ، فكان لا زال في عماء ليس فوقه شيء ولا تحته شيء أي ليس معه بالوجود شيء بحسب تصورهم ولأجل ذلك تم تحريف تلك الرواية من بعضهم وعبثوا بالزيادة فيها ، فصار المعنى باعتقادهم ليوجد آدم وبني جنسه ويخلق لوجودهم السماوات والأرض فصار من بعد ما لم يكن يخلق ويأمر خالقا آمرا ، وهل أكثر من هذا الاعتقاد اعتقادا ينسب فيه لله سبحانه وتعالى التعطيل ؟!
أبدا ليس لذلك نظير ، وهي فضيحة كبرى لعقولهم وأفهامهم أن يجعلوه تعالى غير خالق ولا آمر ثم يحدون له بوجود تلك الطينة الخلق والأمر وابتداء القدرة على ذلك ، إنها شنيعة نعلن براءتنا منها .
والحق البين لنا والظاهرة أدلته لعقولنا هو اعتقاد أن الله عز وجل كان لا زال خالقا وهو أوسع وأكبر من السماء القديمة سماء السماوات وما حوت ولا يعلم تفاصيل خلقه في ذلك إلا هو تعالى ولا كيف ابتداء ذلك ، واي شيء عمر آدم وذريته بالنسبة لسرمدية وجوده تبارك وتعالى حتى يرهن خلقه تعالى ويوقفه على وجود الجنس البشري ؟!
بل رهنوا خلق الملائكة بل كل شيء بخلق السماوات السبع والأرض لما أراد خلق آدم من تلك الطينة ، وهذا الاعتقاد من أبطل الباطل وأكذب الكذبات على الله تعالى ورسله ، ويترتب عليه ما قرر هنا من تعطيل لله تعالى عن الخلق حتى قصد لإيجاد آدم وخلق ما يتعلق به وبذريته من سماوات وأرض وعليه رووا عنه صلى الله عليه وسلم ما يحسبونه جار على اعتقادهم الكاذب ذاك وهو قوله : " وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض " . ( البخاري )
وفي صحيح مسلم عن ابن عمرو قوله : " أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " .
وعلق ابن حجر شارح صحيح البخاري على لفظ الخبر قوله : " كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال : اكتب ما هو كائن ، ثم خلق السموات والأرض وما فيهن " . صرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش اهـ .
قلت : بعد عدم ذكره لخلق الماء والعرش مع ذكره لخلق السماوات والأرض والقلم كما أحب يوهم شارح البخاري بما قاله هنا من بعد ما علق على مختلف الألفاظ التالية :
كان ولم يكن شيء غيره .
وكان ولم يكن شيء قبله .
ولم يكن شيء معه .
ثم قال : والقصة متحدة فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى اهـ .
هكذا قال وهو خطأ فالاختلاف بينها اختلاف تضاد لا يتفق معناها مع بعض حسب ما بينت ونقضت على اعتقادهم الباطل الكاذب على غيب الله عز وجل فقد كان معه ، وأما لم يكن شيء قبله فحق لأنه الأول سبحانه ، لكن وقت خلقه للأرض والسماوات كان هناك سماء السماوات وخلق الملائكة سابق على ذلك أيضا والماء والعرش ، بل حتى الأرض والماء كان يغطيها ، خلقها سابق على ذلك التفصيل المذكور بالخلق الجديد ، وعليه لا يتفق هذا مع معنى لفظة (غيره ) ولا ( معه ) ، على ما أثبت أكثرهم هذا عقيدة لابتداء الخلق المذكور أنه ابتداء كونه تعالى صار خالقا مبدعا بعد أن لم يكن كذلك .
كذلك كان وجود العرش فوق ذاك الماء سابق هو أيضا بحسب الرواية ذاتها ، ما يدل على بطلان النقل عنه بتلك اللفظتين ( غيره ) و ( معه ) ، وحتما هو قال بأحد تلك الكلمات دون غيرها لأن المجلس كان واحدا ولم يثبت تعدد القصة ما اقتضى القول بالكلمة التي وافق معناها الحق ولم يناقض معنى الخبر نفسه .
ومما يدل على أن الكلام عن بدء الخلق مقصور على خلق السماوات السبع والأرض وأن التفصيل لذاك الخلق مختصا به دون غيره وأن ما كتب من مقادير إنما اختصاصه بمصائر بني آدم لا مصير ما خلق الله تعالى من الابتداء للانتهاء بل يختص ذلك ببني آدم لا غير ، وأن ذلك مما اتفق عليه بالذكر في القرآن وبما أثر عند أهل الكتاب ، وأن الخبر عن ابتداء خلق الله تعالى بالعموم شيء ، وعن ابتداء خلق عالمنا المشاهد هذا شيئا آخر لهذا اقتصر التفصيل على ذكر خلق الأرض أولا ثم السماوات السبع ، واتفق على ذكر ذلك وتفصيل أمره القرآن وما بين يدي أهل الكتاب من ذكر ، وأن المراد بذلك الذكر والتفصيل إعلام البشر عما يشاهدون من عالمهم كيف كان ابتداء خلقه وليس المراد إعلامهم بما وراء ذلك لأنه ليس مما يعنيهم العلم به بتاتا ولا بمقدورهم العلم به والإحاطة بتفاصيله ، ولم يشأ الرب عز وجل تفصيل ذلك لهم بل هو من العلم الذي آثر به نفسه دون البشر ، وعليه يرد في القرآن قوله تعالى عن هذا الخلق ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ ، وقوله : ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ ، وكل ذلك لأنه مما يقع تحت إمكانهم العلم به ، عكس ما لا يمكنهم العلم به بحال مما يغيب عن حواسهم مشاهدته من خلق فلم يقص عليهم ذكره لا جملة ولا تفصيلا ، إنما تم ابلاغهم عما يشاهدون ويمكنهم العلم بأحواله وتفاصيل خلقه .
وأقول أيضا ولا أصرح في ذلك من قوله عز وجل : ﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ﴾ . سيعلمون لأنه مشاهد لهم هذا الخلق وبمقدورهم الاطلاع على حقيقته وتفاصيله وأي شيء أكثر من أنهم سيرقون طباق السماوات من فوقهم ؟!
وقد بلغوا وهم الآن يجوبون الفضاء يسبحون في تلك الظلمات وما هم بخارجين منها ، بل نقبوا في باطن الأرض حتى بلغوا الهاوية من تحتهم وهم يبحثون عن النفط ، على ما صرح به عن أحد الأنبياء *.
خلاف ما لا يمكنهم مشاهدته والعلم بحقيقة أمره بأي حال ، ولأجل ذلك قص عليهم بداية خلقه وتم اعلامهم بتفاصيله حتى يعلموا عن الله تعالى قدرته وإحاطته بما خلق عز وجل في السماء والأرض .
قال أبو المعالي في هذه الآية : هذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد ، واللام في ﴿ لتعلموا ﴾ ليست لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية ، أي : ليعلموا اهـ .
هكذا قال في وجهها ، ورجح ابن تيمية رحمه الله تعالى أنها : لام العلة ، وهي عاقبة قادرٌ على وجودها وعالم بها ومريد لها اهـ .
قلت : وما لم يكن مشاهد لهم لم يكن بمقدورهم العلم بحقيقته ، عكس عالمهم الذي يشاهدون فبمقدورهم العلم بحقيقته وأكثر ما هو محققٌ ذلك لهم اليوم ، بفضل ما آتاهم المولى عز وجل من سلطان العلم ، لهذا تحققت تلك العلة للخلق فتم علمهم وصدق فيهم ما أخبر عز وجـــل وعليه أتت كل
تلك الكلمات منه تبارك وتعالى التي سبق وأشرت لها ﴿ أولم ير ﴾ و ﴿ ألم تروا ﴾ و ﴿ أفلم ينظروا ﴾ * ، فتحقق علمهم من كل ذلك .
هذا وما سيأتي نقله بإيجاز ذكر تفاصيل ابتداء خلق عالمنا عند أهل الكتاب ، وحتى لو توهم أهل الكتاب كما أهل الإسلام والقرآن على أن ما لديهم من ذكر حول ذلك إنما هو في مبدأ خلق كل ما أوجد الله تعالى وأنه ليس مختصا بهذه الأرض والسماوات من حولها وحدها دون ما فوقها إلى سماء السماوات ، فهم على ذلك بالحال سواء من الجهل والضلال في اعتقاد ذلك ، وقيل هناك : ﴿ فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً ، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ . وَقَالَ اللهُ : « لِيَكُنْ نُورٌ » ، فَكَانَ نُورٌ ، وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ ، وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا ، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا .
وَقَالَ اللهُ : « لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ . وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ ». فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ .
وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً . وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا . وَقَالَ اللهُ : « لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ ». وَدَعَا اللهُ الْيَابِسَةَ أَرْضًا ، وَمُجْتَمَعَ الْمِيَاهِ دَعَاهُ بِحَارًا .
وَقَالَ اللهُ : « لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا ، وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ ، بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ ». فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا كَجِنْسِهِ ، وَشَجَرًا يَعْمَلُ ثَمَرًا بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ.
وَقَالَ اللهُ : « لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ . وَتَكُونَ أَنْوَارًا فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ». فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ : النُّورَ الأَكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ ، وَالنُّورَ الأَصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ ، وَالنُّجُومَ وَجَعَلَهَا اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ وَلِتَحْكُمَ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلِ ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ.
وَقَالَ اللهُ : « لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ ». فَخَلَقَ اللهُ كُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِى فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا ، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلاً: « أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ ».
وَقَالَ اللهُ : « لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ ، وَدَبَّابَاتٍ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا ». فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا ، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا ، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا.
وَقَالَ اللهُ : « نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ ». وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ : « أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ ».
وَقَالَ اللهُ: « إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْل يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا.
وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا ».
فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا فَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ ﴾ .
وهذا متفق مع ما ورد بالقرآن تماما حتى بعدد الأيام ففي القرآن يقول عز وجل : ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ . وعندهم أنه فرغ باليوم السابع والمعنى سواء ، بعد السادس أنهى خلقه سبحانه ثم استوى على العرش ، عرشه الذي كان على الماء قبل ما يخلق ذاك الخلق : ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ﴾ ، ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ ، ﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾،﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ﴾ ، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ . وهكذا كان اتفاق الذكر على ذلك التفصيل سواء في القرآن أو العهد القديم عند أهل الكتاب .
والماء صريح في عرف الأنبياء كما أفاده النص المذكور قبل من سفر التكوين : ﴿ لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ . وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ .. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً ﴾ . ومن الزبور : ﴿ وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ ﴾ .
وبحسب ما علمنا فوق السماوات السبع حول الأرض فضاء وظلمة لكن بحسب تلك النصوص يطلق على ذلك ماء أيضا والإنجيل الصحيح الحق هو الآخر مصرح بهذا المعنى لقوله هناك : ﴿ قولوا لي لماذا لا يمكن الحجر أن يستقر على سطح الماء مع أن الأرض برمتها مستقرة على سطح الماء ؟ ﴾ اهـ ([1]) . ونحن نعلم بيقين أن الأرض إنما هي مستقرة بأمر ربها في الهواء ، لكن عرف الأنبياء أطلق على ذلك ماء كما مر معنا بتلك النصوص ، وإن كان مراد محمد عليه الصلاة والسلام كما القرآن بكون عرش الرحمان عز وجل كان على الماء ماء الأرض المحيط بها قبل ما يخلق السماوات السبع لما كانت لا زالت دخان ، أو أن مقصودة ما عناه المسيح وتلك النصوص ذلك الفضاء ، فبكل حال المراد اختصاص العرش بخلق أرضنا وسماواتها السبع وذاك العرش مما ستأتي به الملائكة تحمله يوم العرض والحساب فوجوده هناك لا يعني إحاطة حسية بل معنوية وسعته للسماوات والأرض والكرسي بسعة علم الله تعالى لكل خلقه وقدرته على كل ما سواه ، وكم ضل السلف ومن خالفهم في تقرير حقيقة وجوده ووجود المستوي عليه تعالى هناك وقتها ، حتى تناقضوا واضطربوا بشدة هم ومن خالفهم في تقرير حقيقة وجوده كذلك ووجود من سيستوي عليـــــه
أيضا مثل ما استوى عليه سابقا ، وذلك يوم العرض العظيم حين يأتي كما قال المسيح صلوات ربي وسلامه عليه : ( ليدين العالم ) . وقد ثبت بنص الانجيل الصحيح ذكر المسيح للعرش باسم الكرسي ، ويسميه كرسي يوم الدينونة ، هكذا .
وحقيقة وجود الله عز وجل وعرشه هناك بالأول وبالأخير سواء ، فلم كل هذا الاضطراب والتناقض والجدال لم ؟!
وصدق نبي الله تعالى سليمان فيما قال : ﴿ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ ﴾ .
ومن ثم قوله في الزبور : ﴿ سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَات ﴾ . فكل هذا دال على أن ما تم من تعيين السماوات الطباق في هذا المقال وغيره من أصول الدعوة المباركة أنه حق ، فهذه الطباق حول الأرض يعلوها الفضاء وتلك الظلمة التي هي بعرف الأنبياء ماء ، وما وراء ذلك إلا سماء السماوات التي هي السقف المحفوظ وما دونها الماء الذي يعلو تلك السماوات السبع حسب ما تقرر في زبور داود عليه الصلاة والسلام . أما على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الرواية عنه ما هو أشد في تعيين ما فوق السماوات السبع أنه الماء ، إذ جمع ما بين الهواء وقيل الغمام هناك وأشد من ذلك على اعتقادهم ، بأن جُعل ذلك فوق الله عز وجل بذاته في عقيدتهم وهم يرفضونه أشد الرفض لكن روي ، والحديث أصله مروي عند جماعة من أئمة الحديث وصححه الكثير منهم وذكروه مبسوطا في الكثير من كتب العقيدة بينهم ، وجاء في ذلك الخصوص عن وكيع بن عدس عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ ، قال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء . هذا لفظ ابن ماجة كما في مقدمة كتابه ، باب - خلق عرشه على الماء . عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين .
وفيه وكيع بن عدس هكذا رجح الترمذي اسمه وحسن حديثه هذا وحكى مع روايته في سننه عن يزيد بن هارون مفسرا معنى العماء : أي ليس معه شيء . هكذا قال وتقرير الكلام في بطلان هذا الاعتقاد مر معنا .
وقد تكلم بعضهم في ابن عدس هذا لكن اتفق جماعة على رواية هذا الخبر عنه وعد من أحاديث الاعتقاد لديهم منهم ابن ماجة كما مر وابن حنبل والترمذي .
وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قبل أن يخلق خلقه . مراده هذا الكون المشاهد بالنسبة لهم نظير ما عناه وفد أهل اليمن حين سألوه عن مثله في قولهم : جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟
أي أول مبدأ هذه الخليقة التي نرى من حولنا ، وكان جوابه على ذلك كما في البخاري وغيره : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ) اهـ .
فقوله عليه الصلاة والسلام : " لم يكن شيء قبله " . أصلٌ ، فكل ما خلق الله من خلق كان وجوده تعالى سابق على خلقه ذاك أيا كان ومتى كان ، لكن الكلام في تعيين أي الخلق هو المعني بتلك الأخبار التفصيلية ؟
ومعنى كتابته للمقادير في الذكر أي ذكر ذلك الخلق الجديد وتفاصيل أمره من الابتداء للنهاية إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ولم يرد كتابة كل شيء سوى الله عز وجل مما خلق أبدا ، بل هم يحملونه على ذلك لأصلهم الباطل الذي فصل الكلام هنا حوله ، وإنما كتابة المقادير للوجود المتعلق بجنس البشر الجديد والذي سيخلقه في منظومة الكون السابقة عليه ، وما سيختص به من أرض وسماوات حول الأرض .
والذي يهم الكلام والوقوف عنده هنا مما ورد بذلك الخبر قوله : ( ما تحته هواء وما فوقه هواء ) اهـ .
وهذا متضمن تقريرهم ما يهدم تأصيلهم السابق الدعوى على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عن الله عز وجل أن ( لم يكن شيء غيره ) ولا ( معه ) حين قصد لخلق السماوات والأرض ، والتصريح هنا أنه كان معه هواء وذلك بالاتفاق من خلق الله بل هو من عناصر المكان والأصل عندهم أن الله عز وجل منزه من أن يحد ذاته مكان على ما تقرر من كلام المسيح صلوات ربي وسلامه عليه المنقول قبل : ﴿ سماء السماوات لا تسعه لأن إلهنا غير محدود ﴾ .
وقال سليمان عليه الصلاة والسلام : ﴿ لأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُهُ ﴾ .
لكن هؤلاء يروون بخلاف ذلك ما يروون ، من غير تفسير لذلك عليه يتفقون وحول معناه يجتمعون ، فيبقون بالتناقض رواية الشيء واقرار نقيضه بمكان آخر كما سيتضح ذلك من الوقوف مع رواية وكيع بن عدس وما اختلفوا عليه من ألفاظ وتفسيرات .
أقول : وزيد في الإثبات هنا كما في رواية وكيع بن عدس ، أن ذلك فوق الله عز وجل مثل ما أنه تحته ، وعليه لم يكتف بنص الرواية عن أبي رزين عنه صلى الله عليه وسلم في ذكر ابتداء الخلق أن جعلوا معه غيره مع أنهم يعتقدون خلاف ذلك ، بل زيد أن جعل من خلقه ما هو فوقه سبحانه ، وهذا من اضطرابهم وتناقضهم وجهلهم على الله تعالى إذ يمررون ما لا يفقهون وعلى اضطراب منهم من ينقص بالرواية ومنهم من يزيد ولهذا يمرونها لأنهم لم يفقهوها بل جهلوا ما دلت عليه ، ويحجر بعضهم على نفسه بأن لا يفسرها أو يحاول معرفة معنى الرواية وما قد يتناقض معه .
ولما يثبت عجزهم عن الإدراك يمرونها على تناقض واضطراب ليستريحوا ويريحوا برأيهم وحقيقة الأمر معكوسة فتقيد عليهم آخرا منكوسة يتكشف من خلالها عليهم فساد بعض تلك الأصول من اعتقاداتهم التي كانوا ولا زالوا يحسبوها على منتهى الهدى والحق في الإثبات ، والحق أن الحق والصدق والعدل وراء ما اتفقوا عليه وإن اتفق على ذلك من اتفق منهم ، وقد حان الوقت ليستدرك عليهم ويكشف عن شدة اضطرابهم وعظيم تناقضهم في ذلك مثل ما هو من عقيدتهم في ابتداء الخلق ، لعقيدتهم في إثبات وجود العلي العظيم بصفاته المقدسة ، فيدعون تنزيهه ثم هم يجعلون فوقه الهواء أو الغمام ليتناقض ذلك مع دعواهم الإثبات مع التنزيه ، ويصبح الأنبياء لما ينقل عنهم أنه لا تسعه تعالى سماء السماوات كما مر معنا قبل وأن هذا القول والاعتقاد ليس هو متضمنا تنزيها للجليل الكريم العظيم المتعال ، بل المنزه من يعتقد أن فوق ذاته العلية هواء أو غمام ثم هم لا يهتدون لتفسيره الحق الصحيح ويخلطون عليه أشد الخلط سواء لمن أثبت أو نفى ، وهذا جره عليهم التخليط في الأفهام والالتباس في النقل من بعد العبث فيه ثم ترك الترجيح لعقول قصر فهمها قصورا شديدا عن إدراك ما يقوله تعالى عن ذاته ويقوله أنبياء الله عز وجل ، فيجمع بعضهم باعتقادهم ما بين المتناقضات ولا شعور لهم ، ثم يجدون من يقلدهم ويسلك مسلكهم رغم ما فيه ، بل يجدون من يزهو خلفهم ليبارك ذلك ويحسب أن كل من خالفهم في ما هم عليه أنه ضل عن سواء السبيل يقينا .
ونجد شارح ابن ماجة السندي وهو من المتأخرين ذكر أن : كثيرا من العلماء عد هذا من حديث الصفات فنؤمن به ونكل علمه إلى عالمه . وما فيما تحته هواء نافية لا موصولة وكذا قوله وما فوقه اهـ .
قلت : لا يفيد هذا التحريف لأكثر من وجه :
الوجه الأول : لما تقرر في زبور داود التأكيد على وجود الماء فوق السماوات ما دون سماء السماوات ، فنفي الهواء هكذا من فوق السماوات أو الماء مع اتفاق تلك النصوص النبوية على وجود سماء تحوي السماوات وكل ما خلق أسفل منها ، يمنع ذلك التحريف بدعوى النافية لا الموصولة ، لأنك وإن ادعيت نفي الماء أو الهواء من فوق السماوات تبقى الحاجة لنفي وجود سماء السماوات بالدليل النقلي الشرعي حتى يصح اعتقادهم المبني على تصورهم أن لا شيء من الخلق كان موجودا مع الله عز وجل حين خلق الأرض والسماوات السبع وقبل ذلك العرش ، وهذا مما لا يمكنهم إيجاد دليله بحال من حيث النقل ، وقد تم على تقرير ثبوت خلافه النقل المتواتر عن الأنبياء قديما ، على ما هو مثبت فيه النقل بنص مقالي هذا كما مر معنا وسيمر قريبا بعضا من ذلك .
بل ماذا أقول : فما أحوجهم للدليل الشرعي على عدم سبق خلق الله تعالى للشمس والقمر وسائر الكواكب تلك زينة السماء الدنيا ، قبل خلقه للعرش والماء وتلك السماوات وما أحاطت به مما نرى من كوكب الأرض وكل ما خلق على وجهها .
وعدم ذكر خلق كل ذلك كاف للدلالة على أنه مما سبق في الخلق كل ما فصل ذكره المولى عز وجل ، وخلاف ذلك بالإثبات لا يمكنهم بحال فتبطل على هذا التقرير دعوى من اعتقد أن الله تعالى حين خلق العرش على الماء لم يكن شيء معه من مخلوقاته ، بل كانت سماء السماوات وما حوت من نجوم وكواكب كالشمس والقمر سابقة بالخلق ، إلا ما بين تعالى تفصيل خلقه لنا مما يتعلق بعالمنا المشهود .
الوجه الثاني : لما ثبت في الصحيح عند سؤال وفد اليمن قولهم : ( لنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟ ) ، فقال : " كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض " اهـ . ( البخاري )
فهذه الرواية الصحيحة أثبت فيها وجود الماء أدنى منه وعليه العرش ونص على بدء الخلق بالسماوات والأرض ، في حين أن في رواية وكيع بن عدس ذكر البداءة بخلق العرش إلا أنه صار على الماء المنفي بزعمهم وجود الهواء وضمنا الماء معه بالتأكيد ، والرواية لم تنص على خلق الماء قبل خلق العرش ، بل قدم ذكر خلق العرش لكن صار بعد ذلك العرش على الماء فاتضح ترك ذكر خلق الماء قبل خلق العرش لأنه كان موجود قبل كما هو ظاهر من تمام نص الرواية تلك لعدم ذكر خلقه للماء وقت خلق العرش ومن ثم خلق السماوات والأرض ، وفي هذا أبين برهان على خطأ اقحام (ما) ، على الرواية لتكون نافية بتصورهم ، إلا أن تكون ثابتة بأصل الرواية لكنها ليس على ما ادعى البعض أنها نافية .
وبكل حال ثبت على وفق مفهوم الروايتين أن تحت العرش ماء وهو من خلق الله تعالى ما يدل على أن النفي لوجود خلق أسفل منه باطل ومن باب أولى معه ، وعليه يلزم أن النفي عما فوقه وفق رواية وكيع بن عدس باطل هو أيضا بما أن الحديث ورد فيه ذكر الفوقية والتحتية فثبوت بطلان النفي عن التحتية يلزم منه بطلانه عن الفوقية فالمساق واحد بالمعنى فانتفائه من وجه يلزم انتفائه كذلك من الوجه الآخر .
وهناك بدعواهم النافية يقطعون بها على عدم وجود الهواء من فوقه ومن أسفل منه وهم يرون العرش أول ما خلق حسب رواية عدس قد سبقه وجود الماء إلا أن رواية عدس أهملت ذكره وما ذلك إلا لأنه كان مخلوقا من قبل فخلق عليه العرش .
وكذلك في الرواية الصحيحة حديث عمران التي خلط عليها من خلط ممن أثبت خلاف قوله ( ولم يكن قبله ) إذ نفي وجود شيء معه حين خلق السماوات والأرض مناقض لما ثبت في نص الرواية الصحيحة نفسها من ذكر وجود العرش على الماء حين خلق السماوات والأرض ، واثبات قوله على الحديث بالنفي أن يكون معه وقتها مخلوق مناقض لصريح ما ورد فيها ، فكان بحسب تلك الرواية صحيحة الإسناد الجواب بالبداءة بخلق السماوات والأرض وذكر العرش والماء من غير النص على خلقهم بالجواب ، إنما نص على خلق السماوات والأرض وعليه كان القول الحق الصحيح أن سؤالهم فهم من قبله على ابتداء ما يشاهدون من هذا الكون لهذا لم ينص على خلق العرش والماء بل نص على خلق السماوات والأرض جوابا لما سألوا عنه ، وهو عين ما تقرر بالقرآن في قوله عز وجل : ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ﴾ . كما في سورة الأعراف ويونس والرعد والفرقان والسجدة قوله تبارك وتعالى : ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ .
وفي كل ذلك ينص على خلقه للسماوات والأرض مع مجرد الخبر أن عرشه على الماء ، كما في نص الحديث الصحيح الذي فيه جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن أول الخلق المنظور للعين البشرية ، أو أن يخبر تعالى مع خلق السماوات والأرض عن استواءه بعد ذلك الخلق على العرش ، ولم يرد بنص تلك الآيات ولا بغيرها ذكر خلق الماء أو الغمام مع خلق السماوات والأرض إلا في حديث وكيع ذكر خلق العرش صحيح لكن لم يذكر خلق الماء ولا الغمام ولم تصرح الرواية تلك بنفي أن يكون معه من خلقه شيء بل ثبت من نصها وجود الماء لأن العرش لما خلق إنما خلق على الماء والرواية لم تنفي وجود الماء وقتها بل اثبتت وجوده ضمنا باغفال ذكر خلقه وهذا يفيد وجوده لأن الله تعالى صرح أن عرشه كان على الماء ، ومن زعم خلاف هذا على نص حديث وكيع بن عدس فهو كاذب ولو كان من كان ، وكل من تقلد تفسيره على الرواية الذي أفاد ذاك النفي ، فهو كاذب مثله على الله تعالى وغيبه أيا كان .
ومن أخذ اعتقاده عن مبدأ الخلق بحديث ابن عدس وفي لفظه ما فيه من عدم الموافقة لاعتقادهم بكل صراحة ووضوح بل فيه ما ينافي عقيدتهم ويصادمها وسأبين وجه ذلك أكثر مما بينت ، ثم يترك ما قرره الله عز وجل بكتابه ونص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في جوابه ، فلا شك أنه مبطل مجانب للحق والصواب في اعتقاده . وأزيد على ذلك أن ما ادعوه كذلك خلاف نص القرآن في قوله عز وجل : ﴿ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ ، انشقت يريد بالغمام لا زوالها بالكلية فهو نص على تبديلها لا زوالها ، ونزول الملائكة عموما ومعهم خصوصا حملة العرش يفيد علو السحاب العرش والملائكة حملته ، ومن سيكون فوق العرش سبحانه وتعالى عما يجهلون ويشركون ، وعليه قوله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً ، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ . وما جاز عليه علو الغمام في الآخرة والاستتار به ما الذي سيمنع منه ذلك في الأولى ، وقد صرح بإنجيل المسيح عليه الصلاة والسلام باستعلاء الغمام للعرش ، وهو مثبت فيه من غير أدنى شك فقال : ﴿ عندئذ يبوق الملاك مرة أخرى فيقوم الجميع لصوت بوقه قائلا : تعالوا للدينونة أيتها الخلائق لأن خالقك يريد أن يدينك .
فينظر حينئذ في وسط السماء فوق وادي يهو شافاط عرش متألق تظلله غمامة بيضاء ، فحينئذ تصرخ الملائكة : تبارك إلهنا أنت الذي خلقتنا وأنقذتنا من سقوط الشيطان ﴾ .
بل ماذا أقول وأنقل أكثر من الرواية عن نبي الله تعالى سليمان لما أراد يبدأ بنقل التابوت المقدس ليدخله لبيت الله تعالى الذي بناه له فخيم الغمام على البيت حينها ، فقال : ﴿ الرَّبُّ ، إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ ﴾ .
وما الذي ورد في نص حديث وكيع بن عدس عن عمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا موافقا للمعنى هنا ، وأن الله تعالى يسكن في الضباب كما يشاء عز وجل ، سواء كان ذلك عند ابتداء خلقه للسماوات والأرض أو عند ادخال التابوت المقدس على يدي سليمان عليه الصلاة والسلام لبيت المقدس ، أو عند مجيئه تعالى لحساب عباده يوم القيامة ، مثل ما كان يأتيهم لما يريد يكلم موسى عليه الصلاة والسلام بالوحي منه مباشرة سبحانه ، فكان الغمام يغشى خيمة العهد لما يدخلها موسى ليتلقى من ربه كلامه ، أمره ونهيه : ﴿ فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ : « لاَ تَخَافُوا. لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَاءَ لِكَيْ يَمْتَحِنَكُمْ ، وَلِكَيْ تَكُونَ مَخَافَتُهُ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ حَتَّى لاَ تُخْطِئُوا » . فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ ، وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ ﴾ .
وفي قصة تسليم الله تعالى لوحي العهد لموسى على مسمع ومرأى من الشعب قال : ﴿ هذِهِ الْكَلِمَاتُ كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ كُلَّ جَمَاعَتِكُمْ فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَالسَّحَابِ وَالضَّبَابِ ، وَكَتَبَهَا عَلَى لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ وَأَعْطَانِي إِيَّاهَا ﴾ .
وفي الزبور يقول : ﴿ لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةِ . هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ ، أَعْطُوا عِزًّا للهِ . عَلَيهم جَلاَلُهُ وَقُوَّتُهُ فِي الْغَمَامِ . مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اَللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ ﴾ .
وقال فيه أيضا : ﴿ طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ ، وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ ، رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ ، جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ حَوْلَهُ ، مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ ﴾ .
وفيه : ﴿ السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ ، الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ ﴾. وهكذا علامة وجود وتقديس له عز وجل يكون الضباب أين ما يكون ومتى ما يكون في ذاك المكان المعين حين تكون له مشيئة بحضوره المقدس فيكون هناك حوله الضباب .
ولم يخرج المعنى في رواية ابن عدس عما يقرر هنا قيد أنملة ، وإنما خاضوا في ذلك عن جهل وعدم علم وهداية ولهذا أتوا بتخاليط عجيبة وزيادات كاذبة جراء عدم علمهم بتلك الحقيقة الشرعية ، وكم كان يسعهم السكوت والتزام مقولة ( الله أعلم ) ، لكن أكثرهم لم يفعل ذلك وتقلد بعضهم أقوال بعض فضلوا وأضلوا ، وإن التواتر بكلام الأنبياء قد ثبت على أنه كان هناك أكبر من خلق السماوات والأرض بكثير حتى أنه نص على ذلك على لسان موسى صلوات ربي وسلامه عليه بالتوراة ، فقال هناك على لسان موسى لكن الكلام للرب ذاته عز وجل : ﴿ هُوَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا ﴾ ، ولم يرد لا بالقرآن ولا الحديث أبدا القصص في خلق سماء السماوات هذه ، إنما الذي ورد ذكر خلق الأرض والسماوات الطباق التي تحيط بها ، فذاك الذي قص علينا خبر خلقه وإيجاده من بعد أن لم يكن له وجود على ذلك التفصيل إلا ما كان من أصلهما قبل ما يفتقهما فيخلق منهما ما ذكر عز وجل ، ومنتهى علمنا بالتفصيل من حيث قصد لهما الله تعالى ليخلق ما أخبر بالقرآن ، أعني يابسة الأرض وما كان يحيط بها من كل جانب من الماء الذي كان عليه عرش الرحمان عز وجل ، وحين أراد خلق الجنس البشري وإيجاده على تلك الأرض وأن يخلق عليها وما حولها ما يخلق ليسخر كل ذلك لبني آدم ذكر لنا من تفصيل ذلك ما ذكر عز وجل ، أما أصل ذلك لما كانت اليابسة مغطاة بالماء وقبل أن يفتق ما بينهما لم يقص لنا عن ذلك بداية ولا عن سماء السماوات السابقة لذلك الخلق ولا عن الماء الذي خلق عليه العرش وهو الماء الذي كان يغطي يابسة الأرض قبل أن يفتق ما بينهما ويخلق السماوات السبع .
بل أزيد هنا ذكر ما تقرر بإنجيل المسيح الصحيح صلوات ربي وسلامه عليه في خلق روح محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أن ذلك مما سبق خلق كل شيء قبل بستين ألف سنة ، فما هي النسبة على ذلك ما بين الستة أيام التي خلق الله تعالى بها الأرض والسماوات السبع بالستين ألف سنة التي سبقت كل ذلك ؟!
لقد كان قبل كل ذلك بحسب الإنجيل الصحيح خلق الله عز وجل روح محمد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، ذكر ذلك بأكثر من موضع من إنجيله ، منها قوله : ﴿ رسولي الذي لأجله خلقت كل الأشياء ومتى جاء سيعطي نورا للعالم ، الذي كانت نفسه موضوعة في بهاء سماوي ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئا ﴾.
المعنى قبل أن أخلق الأرض والسماوات السبع لأن ذلك أيضا مما يختص بهذا العالم المشاهد عالم آدم الخصوصي وذريته ، والأمر على هذا مما سبق الخلق سواء آدم أو السماوات والأرض أو القلم أو العرش ، والماء الذي كان محيطا بالأرض لأن ما ذكره المسيح صلوات ربي وسلامه عليه صريح في أن خلق روح المصطفى مما سبق كل ذلك وعين الزمان كذلك.
وقرر معنى ذلك صلوات ربي وسلامه عليه بالقول : ﴿ كل من يعمل فإنما يعمل لغاية يجد فيها غناء ، لذلك أقول لكم أن الله لما كان بالحقيقة كاملا لم يكن له حاجة إلى غناء لأنه الغناء عنده نفسه ، وهكذا لما أراد أن يعمل خلق قبل كل شيء نفس رسوله الذي لأجله قصد إلى خلق الكل لكي تجد الخلائق فرحا وبركة بالله ، ويسر رسوله بكل خلائقه التي قدر أن تكون عبيدا ، ولماذا ؟ وهل كان هذا إلا لأن الله أراد ذلك ؟ ﴾ . وإلى هذا المعنى كانت إشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم لما سألوه متى كنت نبيا فقال : " إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " . ( رواه أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية والترمذي )
ويراجع لمزيد تفصيل في مسألة خلقه عليه الصلاة والسلام قبل آدم كتابي: " غرف السطيح لري الظمآن لأخبار إنجيل المسيح الصحيح غير كامل "
ومما يشهد أيضا بصحة ما تقرر هنا بأن الكلام عن الخلق إنما المقصد منه ما تعلق بمصير الجنس البشري لا أكثر من ذلك مما لا يعلم ولا يمكن مشاهدته ، ما قاله المسيح أيضا بخصوص سبب الخلق وأن ذلك بالطبيعة لم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل بالتبعية لأبيهم آدم مع كل ذريته فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الخصوص :﴿ انظروا العصفور الدري والطيور الأخرى التي لا تسقط منها ريشة بدون إرادة الله ، أيعتني الله بالطيور أكثر من اعتنائه بالإنسان الذي لأجله خلق كل شيء .. كلا ثم كلا ﴾. فلما يقول لأجله خلق كل شيء إنما مراده هذا العالم المشهود الذي سخر له من الأرض والسماوات السبع والنجوم والكواكب المضيئة لخدمته وحياته في سماء السماوات ، لا يريد مطلق ما خلق ، فإن من ذلك ما لم يعلمه بشر ولم يحصه مخلوق وبعده الهائل حائل ما بين الإنسان وتسخير كل ذلك له لذا هو مما لا يعنيه بحال حتى يكون خلق كل ذلك من أجله مما يجب أن ينطبق معنى كلام النبي هنا عليه ويتفق معه فقط العالم المحسوس له والمباشر معه ، وإلا كان في التعميم بذلك عبثا من قائل هذا القول وممن خلق الكون الواسع وعالم الإنسان ما هو فيه إلا كحبة رمل أو أصغر من ذلك ، والله عز وجل منزه بجلاله من العبث سبحانه ، ولا ينقل عنه الأنبياء والرسل إلا الحق ، وهو أجل من أن يرتهن بكامل صفاته وقداسة أسماءه ومطلق قدرته على الجنس البشري ووجوده سبحانه وتعالى عما يجهلون .
أقول : وكل ما توهموه على الحديثين حديث وكيع بن عدس وحديث وفد اليمن في الصحيح ، أنه خبر في مبدأ ايجاد كل ما خلق الله تعالى وأن ذلك منه تعالى ابتداء للخلق منه مع وجود الرب عز وجل من غير ابتداء ، وهذا هو الباطل والكذب على الله تعالى ورسوله إذ حد لذلك بداية معلومة بل مفصلة ، ومن فقه حقيقة ذلك وعرف وجه باطلهم عليه فقد فاز وغنم علما عظيما ، ومن أبى وأنكر وكذب بطلان ذلك الذي قالوه واعتقدوه ، فقد بقي بجهلهم لا يرجو منه خروجا ولا خلاصا من بعد ما فتح له هذا الباب فأبى إلا التقليد والركون لدين الإلف والعادة والتقليد ، ومن يهديه الله تعالى فهو المهتد ومن يضلل فلن يجد له من دون الله عز وجل هاديا ولا مرشدا .
قال عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم " . قالوا : قبلنا يا رسول الله ، جئنا لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟ فقال :
" كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء " . هنا أفاد جوابه عليه الصلاة والسلام عما سألوا أن مقصدهم بالسؤال عن ابتداء خلق هذا العالم المشاهد بالنسبة لهم ، لهذا أجابهم عن خلق السماوات والأرض وأخبرهم عن وجود العرش والماء ولم يذكر خلقهما ، عكس السماوات والأرض بما أن سؤالهم كان يعني ذلك.
ومما يدل على أنهم لما يسألوه عن عموم الخلق إنما يريدون معرفة كيف ابتداء خلق العالم الذي يشاهدونه لا سواه مما غاب عنهم الشعور به حتى يسألوا عنه إنما كانوا يسألون عما يشاهدون من أرض وسماء ، وفي صحيح مسلم بكتاب الإيمان عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله عن شيئ فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من اهل البادية فيسأله ونحن نسمع ، فأتاه رجل منهم فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال : صدق .
قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله .
قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله .
قال : فمن نصب هذه الجبال ؟ ، قال : الله .
قال : فمن جعل فيها هذه المنافع ؟ ، قال : الله .
قال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب الجبال وجعل فيها هذه المنافع ، الله أرسلك ؟ ، قال : نعم اهـ . فيفهم من هذا المعنى وتلك السؤالات التي كان يطرحها من يفد عليه من قبائل العرب وأعرابهم ، أن جل همهم معرفة مبدأ خلق العالم الذي يشاهدونه بأعينهم لا ما غاب عن حواسهم ، على ما أفاده هذا الحديث وغيره .
أما عن رواية وكيع بن عدس فقد كان ذلك صريحا من سؤال الصحابي بحسب لفظ روايته الشبه مهملة من قبل رواة الحديث الذين يبدو كانت تستهويهم كلمة ( كان في عماء ) حتى يفسرها لهم يزيد بن هارون على الباطل والكذب ، ولو حرفت الرواية لتوافق اعتقادهم الزائف دين الإلف والتقليد . فقد روى جماعة منهم ابن حبان وابن زمنين في رياض الجنة بتخريج أصول السنة ، قول أبي رزين بسؤاله : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء . رواه جماعة وهذا اللفظ نقلته من كتاب ابن حبان وقد ذكر غيره : ثم خلق العرش ثم استوى عليه. وهذا فيه اختصار وايجاز لأن القرآن مصرح فيه الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ . وقد تناكد ابن حبان بروايته منتقدا أحد أبرز نقلة تلك الرواية للأمة وهو حماد بن سلمة فقال: وهم في هذه اللفظة حماد بن سلمة من حيث " غمام " إنما هو " في عماء " .
هكذا قال وفسرها بما يوافق معنى ما قاله يزيد بن هارون أو هو أشد غموضا ، فقال : يريد به أن الخلق لا يعرفون خالقهم من حيث هم ، إذ كان ولا زمان ولا مكان ، ومن لم يعرف له زمان ولا مكان ولا شيء معه ، لأنه خالقها ، كان معرفةُ الخلق إياه كأنه في عماءٍ عن علم الخلق ، لا أن الله كان في عماءٍ ، إذ هذا الوصفُ شبيه بأوصاف المخلوقين اهـ .
قلت : وصريح المعنى من كلام الصحابي السائل أنه طلب معرفة وجود الله تعالى قبل خلقه السماوات والأرض ، ولم يرد بخلده وجود الماء وأين هو ولا العرش ، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم بخلق العرش مختصا بقولهم ( أين كان ) ، فبين لهم باختصاص العرش بالاستواء أين كان الله عز وجل ، فهو كان هناك سبحانه بعد خلق العرش وخلق السماوات والأرض مستويا على عرشه ، ومثل ما كان هناك سيكون يوم القيامة كذلك تحمل عرشه الملائكة تحف به والأنبياء من حوله والأولياء ، ثم ماذا ؟! ، هل يفيدهم مع هذا الكذب على الرواية حتى يقحموا عليها (ما) التي زعم بعضهم أنها نافية لا موصولة ، اتهمهم بذلك عالم قديم مشهود له بالفقه والدراية وهو ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " فقال : قوله : ( فوقه هواء ، وتحته هواء ) . قوما زادوا فيه " ما " فقالوا : ( ما فوقه هواء ، وما تحته هواء ) ، استيحاشا من أن يكون فوقه هواء وتحته هواء ، ويكون بينهما . والرواية هي الأولى ، والوحشة لا تزول بزيادة " ما " لأن فوق وتحت باقيتان اهـ .
قلت : تجريد الرواية من " ما " هذه المزيدة وردت من طريق اسحاق بن راهويه قال : ( تحته هواء وفوقه هواء ) اهـ . أشار لها الذهبي في كتابه العلو . ونقل ابن بطة في الإبانة عن ابن راهويه : أن تفسيره عند أهل العلم أنه كان في ( عمى ) يعني سحابة . وذكره عنه الذهبي أيضا ، قال : يعني السحاب . قلت : وجدت وهي مقصورة من يفسرها بهذا ؟!
وهكذا نقل عن ابن راهويه وأقرب منه وأصح ما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام : العماء الغمام . وهو اختيار مجاهد في تفسيره لقوله عز وجل : ﴿ وظللنا عليكم الغمام ﴾ . قال : ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلا لهم اهـ * .
قلت : وسيكون نظيره في آخر هذه الأمة إذا جاء نصر الله تعالى والفتح ، وهذا عين ما تقرر من كلام الأنبياء وعليه القرآن وخبر سيد الأنام محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه .
وسبق معنا انتقاد ابن حبان لراويه حماد بن سلمة قوله : ( في غمام ) . أما دعواه بما قاله في معنى الـ( عماء ) فهو تحريف صريح ، فليس للسؤال بأين كان ربنا أي متعلق لإدراك كنه ذلك لحواس البشر ، حتى يكون الجواب ما ادعى ابن حبان وغيره في معنى ( عماء ) ، إنما مقصد السؤال العلم بذلك وقد تم لهم الجواب عنه ، ويكفي العلم بذلك بالقلب عن إدراك أي حاسة ، والمصطفى صلى الله عليه سلم مستوعب تلك الحقيقــــة .
وليس مثله دراويش أهل الحديث حتى يكون بيانه على ذلك النحو المستحيل بديهة على حواس السائل عنده حتى يتكلف للجواب عليه ، إنمــا المقصد أين لنعلم ذلك إن أمكن عن علمك النبوي فكان لهم الجواب عما سألوا بتعيين ذلك بالاستواء على العرش فكان ذلك متضمنا لتعيين مكان وأيضا زمان لا كما ادعى وتشدق ابن حبان وكذب في دعواه ( ليس شيء معه ) ، وهذا مما يعد تاما من حيث البيان والعلم ولا عماية في ذلك ولا
جهل لمن هداه الله تعالى وأنار بصيرته ، أما من وسوس له الشيطان بقلبه وعقله فذلك الذي سيضطر للتحريف وحتى الزيادة على الحديث مما ينقلب عليه دينه بسبب ذلك شبها وتخرصات أبعد ما تكون وأصحابها عن الهدى والبينات القرآنية النبوية .
ومع هذا خولف في تأويله ذاك على معنى (عماء) من كبار العلماء بلسان العرب وهو الأصمعي فقال : العماء في كلام العرب السحاب الأبيض الممدود ، وأما العمى المقصور فالبصر وليس هو من معنى هذا اهـ . ( أخرجه ابن أبي شيبة في العرش )
وبقوله قال أبو عبيد القاسم بن سلام قرر ذلك في كتابه " غريب الحديث " ووافقهم أيضا الأزهري كما في " تهذيب اللغة " قال :
ولا يدرى كيف ذلك العماء بصفة تحصره ولا نعت يحده ، ويقوي هذا القول قول الله جل وعز : ﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ ، فالغمام معروف في كلام العرب إلا أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله عز وجل يوم القيامة في ظلل منه ؟ فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته ، وكذلك سائر صفات الله عز وجل اهـ .
واختار ذلك محمد الأندلسي المشهور بابن زمنين ، قال : العماء السحاب الكثيف المطبق فيما ذكره الخليل اهـ . ( اصول السنة )
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : في الحديث - يريد حديث وكيع - بيان أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض ، ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر ( العماء ) بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ، ولا بأن مادة السماوات والأرض ليستا مبتدعتين وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده كما قال : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ ، وأخبر بخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع ، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة وأخبر أيضا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ) فأخبر في هذه الآيات ان الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة ، وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة ، وانه إذا أعاده لم يعدمه ، بل يحيله إلى مادة أخرى ، وفي مدة .
وأما العرش فلم يكن داخلا فيما خلقه في الأيام الستة ولا فيما يشقه ويفطره بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش .. ولم يكن العرش داخلا فيما يقبض ويطوى ويبدل ويغير .
ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا مطلقا ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك ، بل إنما وقع التفصيل إلى قيام القيامة واستقرار الفريقين في الجنة والنار ، وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب ، وقد أجمل من ذلك ما لا نعلمه على التفصيل .. ، فكان الذي أخبرنا به مفصلا لنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلا ، وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملا ، إذ يمتنع أن نعلم كلما كان وسيكون مفصلا .
وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عموما وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء وأمر كتبهم وقصصهم وأمر الملائكة ما فصله ، والثاني أجمل كما قال : ﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ ، وأمثال هذا .
فلما وقع التفصيل في خلق السماوات والأرض وما بينهما وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض ما بينهما لم يكن العرش داخلا في ذلك بل أخبر ببقائه بعد تغيير السموات والأرض كما أخبر بكونه قبل خلق السماوات والأرض خبرا مطلقا اهـ . ( بيان تلبيس الجهمية 1/154 )
الوجه الثالث : اختلافهم الشديد على اثبات ونفي الحد لله عز وجل وكذلك اختلافهم في النفي والإثبات لمماسة الله عز وجل لشيء مما خلق ، ولهم في ذلك اضطراب واختلاف شديد ، ويقال أول من التزم اثبات الحد لله تبارك وتعالى ابن المبارك وقال به ابن حنبل حكاه عنه الخلال في " السنة " ، وانكر اثباته لله عز وجل ابن حبان والخطابي والسجزي . وخلطهم الشديد في ذلك بسبب عدم الوعي بضرورة اعتقاد فرق اثبات وجوده عز وجل ما بين المثال وحقيقة وجوده على ما آمن بذلك الأنبياء ، وهذا مما يكشف عن مدى توهانهم في خوضهم المذكور قبل في اثبات وجوده عند ابتداء الخلق .
* بين ذلك تحت فصل ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ من كتابي في التفسير .
* توسعت في شرح دلالة الرؤية هنا في فصل ( أين التسونامي في القرآن العزيز ؟! ) من كتابي في التفسير يراجع هناك .
([1]) ومما روي عنه صلى الله عليه وسلم من طريق العباس : ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء وسماء . رواه احمد وابن ماجة وأبو داود والدارمي والترمذي وحسنه .
* يراجع المقال المنشور في موقعنا تحت عنوان : هل سيكلم الله تعالى المهدي مثل ما كلم موسى عليهما الصلاة والسلام ؟