المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد ، وعلى الأتقياء الأوفياء من آله وصحبه ، من الأولين والآخرين ، أما بعد :
قال الشيخ ( إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى ) : فقد بلغنا وسمعنا من فريق ممن يدعي العلم والدين وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب : أن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه اهـ .
رحم الله هذا الشيخ كان من الغيورين على توحيد الله تعالى حتى افرد رسالته هذه في رد أباطيل من أدرك ممن عشعشت في رؤوسهم واستوطنت قلوبهم شبه داوود بن جرجيس العراقي على الرغم من رد أباطيله على أيدي مشائخ من نجد أفذاذ قاموا بوجهه وردوا زيوفه ومن أبرزهم الشيخ ( عبد الله أبا بطين ) وقد أثنى على مقامه في ذلك الشيخ ( عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ) .
كذلك رد عليه ( الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ) وغيره بما فند شبه وأكاذيب هذا السادن الزائغ .
ومما يؤسف له في وقتنا أن ما راج في الناس خصوصا أدعياء الدعوات والإصلاح هو شبه هذا الكذاب الضال لا مقالات أولئك السادة الأخيار ، وهذا من رين الجهل وتفشي الضلال ورؤوسه في الناس على ما أخبر بذلك سيد الأولين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم .
وبالفعل استحكمت الظلمة في أذهان الكثير منهم وران على قلوبهم شبه داوود بن جرجيس وأكثر من شبه بن جرجيس ممن هب ودب في وقتنا بلبوس العلم والنصح وهو من أشرهم جهلا وأبعدهم عن الهدى والنور وأكثرهم دجلا وغشا ، بدعوى أنهم بلغوا بما قالوا منتهى العرفان بالتوحيد وحقه ، وأنهم هم الأجدر بتجديد الدين ورد التلبيس عنه ، لكن الحق أنهم حققوا مبتغى إبليس وجودوا مذاهب جرجيس في الكثير من الناس بما أكثروا من ترديد شبهه في القراطيس يروجونها بين الخلق على أن إلى هذا منتهى الحق ، وأن ما قاله علماء التوحيد وأنصار التجديد الحقيقي ما هو إلا الغلو والتكفير مثل ما قال الجرجيسي العراقي وأزيد في حق أهل الحق .
نعم ابتلي أهل التوحيد وما زالوا بمثل هذه الشبه والأضاليل وأهلها ، وكل ٌوما فتح الله تعالى عليه من بيان الحق ، إلا أن في وقتنا هذا استحكمت البلوى بهم لكثرتهم وقلة أو انعدام من ينهض بوجه باطلهم مثل ما حل بسيدهم الجرجيسي من قبل على أيدي من ذكرنا من العلماء الأخيار ، الذابين بالليل والنهار عن حياض التوحيد وأركان الشريعة والملة .
وها هي لما عادت الكرة واستحكمت بأهل الباطل أكاذيبهم وأخذتهم الغرة ، قيض الله تعالى هذه المنتديات المباركة (1) لصفعهم ثانية وأخرى وستكثر المرة بحول الله تعالى تتلوها المرة حتى يعرف الناس أن الحق لا محالة ظاهر ، وأن الباطل وشبه أهله مدحورة ، ويقينا كذبهم كائن للزوال حائر .
ومما قاله هذا الشيخ رحمه الله تعالى برسالته ( حكم تكفير المعين ) منكرا على من يروج لمثل هذه الأقاويل في زمانه :
ثم دبت بدعتهم وشبهتهم حتى راجت على من هو من خواص الإخـوان . . وكانوا قد لفقوا لهم شبهات على دعواهم يأتي بعضها في أثناء الرسالة . . وقد استوحشوا واستوحش منهم بما أظهروه من الشبه وبما ظهر عليهم من الكآبة بمخالطة الفسقة والمشركين ، وعند التحقيق لا يكفرون المشرك إلا بالعموم ، وفيما بينهم يتورعون عن ذلك . . ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحير جدا ولا حـول ولا قوة إلا بالله وذلك أن بعض من أشرنا إليه بحثته عن هذه المسألة ، فقال : نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك . فانظر ترى واحمد ربك واسأله العافية ، فإن هذا الجواب من بعض أجوبة العراقي التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف . وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهـم ، فقال : نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه اهـ .
هو اعتقاد سائد في أدعياء السلفية الكذبة اليوم وهم امتداد لهذه الطغمة الضالة الزائغة عن الحق ، والتي أدركها هذا الشيخ رحمه الله تعالى وسطر في فضحهم رسالته هذه (2) , بل هم أضل إذ سلفهم كان يشترط لكفر هؤلاء التعريف ، أما هؤلاء فلا يشترطون ذلك بل يبقون على مجرد النفي والتزام مطلق العذر لعدم النية بالعمل بالتوحيد ، فجزى الله هذا الشيخ خيرا وأجزل له الثواب لرده على هؤلاء ، ونسأله سبحانه أن يقيض لخلفهم من يبطل كيدهم ويزيل مكرهم عن ملة التوحيد .
منهم القائل في مصنفه للتأسيس لهذه الضلالات : فإن ما يعيشه المسلمون في هذه الأيام من فراغ فكري لا يجد فيه المسلمون ما يشغلون به أوقاتهم ، يتيح الفرصة لأهل الأهواء والبدع لترويج بدعهم ونشر ضلالاتهم ، وساعدهم على ذلك غياب شمس الشريعة ، واختلاف المناهج الإسلامية في الدعوة إلى الله عز وجل ، وعاطفة الشباب التي لا تضبطها مقاييس إسلامية صحيحة مستندة إلى الكتاب والسنة الصحيحة ، كانت هذه الظروف كالعوامل المساعدة لخلف الخوارج القائلين ببدعة تكفير المسلمين بغير بينة واضحة أن يروجوا بعض آرائهم وأهوائهم ، وكان عدم العذر بالجهل بمثابة الخطوة الأولى لتكفير المسلمين ! ، وذلك لشيوع المخالفات في أمور التوحيد ! وغيره ، نتيجة لجهل الناس بأمور دينهم ، وعدم وجود من ينبههم إلى خطورة ما وقعوا فيه من أمور الشرك العملية ! اهـ (3) .
وهذا هو الأصل الذي بنى عليه هذا الزائغ فرارا من مذاهب السلف وأقوال علماء الحق علماء التحقيق ، مخالفا ً للمذاهب المتردية ذات الشبه المغوية والتي كان يروج لها جرجيس العراقي وأنصاره زمان انتشار صيت الدعوة النجدية لنصرة توحيد رب البرية ، ومن ثم تلقفها من تلقفها ممن شكاهم هذا الشيخ النجدي وغيره ، إلى أن انتهت لهذا الجاهل وأضرابه في زماننا ممن يدعي السلفية ، وهم أهل مذهب تلفي خالفوا لأهل البدع من مثل هذا العراقي ومن ناصره ولا ينفعهم غياب العلم وآلية المعرفة في الكثير من الناس اليوم من الذين لا يدركون حقيقة ما اختلف فيه في هذا الباب ليدعوا أنهم هم على مذهب الحق وأن من خالفهم فيما قالوا هم أهل الباطل ، لما ثبت من رد دعواهم العذر بالجهل مطلقا ممن هم أعلم منهم ومن مؤسس مذهبهم الجرجيسي .
وهم ولو ادعوا مثل ما قال الشيخ النجدي حفيد ابن عبد الوهاب ، أنهم يشترطون لتكفير من وقع بالشرك التعريف وبلوغ الحجة ، فهم كذبة بهذا الإدعاء وما قالوه إلا تمسحا بمذهب الحق لينطلي على السذج حقيقة مذهبهم وأنهم من أنصار العراقي ابن جرجيس الذي طالما لبس على دعوة الشيخ وافترى .
وحقيقة مذهبهم ومنتهاه العذر لمن أتى بالشرك على سبيل الإطلاق ، ولذا رأيناهم ممتنعين من التزحزح للقول بكفر من أشرك إلا على سبيل العموم بنوع الفعل لا عين الفاعل ، وبهذا تعطيل لسنة العمل بالتوحيد ومنازعة الموحدين للمشركين تحقيقا للبراءة الإبراهيمية الحنيفية والتي لا تتم إلا بمفاصلة الموحد للمشرك ، وبتعطيل هذا العمل منعوا من التعيين ورموا من قال به بالتكفير والابتداع ، والحقيقة أنهم هم المبتدعة المعطلة لأساس العقيدة وهو البراءة من المشركين وشركهم ، وهم وإن ادعوا قولهم بأن هذا شرك ولم ينفوا ذلك مثل سالفهم العراقي ، فحقيقة مذهبهم ومآله للضلال ورمي الموحدين بالظلم والبهتان ، وما قالوا ما قالوا إلا تمسحا بالسلف وتوسطا ما بينهم وبين شر التلف وهم هؤلاء الزائغين من الخلف .
ومن تلبيسهم أن خفف بعضهم من هذا الجهل والضلال بدعوى تجويز هذا الخلاف وأنه لا يوجب حسما ولا فصل النزاع ، وأن تبقى المسألة مما يعذر به الفرقاء فقال : وبقيت الأوساط المتشابهة وهم مسلمون خالط فعلهم أو اعتقادهم كفر فتنازعهم الطرفان ويشتبه الحكم عليهم ، وقبل الخوض في أحكامهم أود أن أؤكد أن الاختلاف في الحكم عليهم مقبول وسائغ مع التجرد عن الهوى ، فليكن حكمي في قلبي ! وليكن أخي الذي خالفني فوق رأسي ! لا أقطع معه مودة ولا أمنع له رفدا ، ما دمنا على اعتقاد ومنهج واحد اهـ (4) .
هكذا يريدونها سبهللا ، يخالط الموحد المشرك ، والمشرك الموحد ، لا هذا ينكر على هذا ، ولا ذاك يرد ذاك ، لتروج بذلك الأباطيل وتسوغ بدع الشرك حتى يذهب بالتوحيد الخالص وينشأ الناس وليس لهم بالإخلاص داع ناصح .
ومن أبرزهم وأكثرهم نشرا وتفصيلاً لهذه الضلالات وصياحاً بشبهتهم هذه التي هي عمدة ضلالاتهم المدعو ( شريف محمد فؤاد هزاع ) قال في آخر فصول كتابه ( العذر بالجهل عقيدة السلف ص 144 ) تحت عنوان ( توضيح وبيان لموقف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من تكفير المعين والرد على شبهات من ينسب إليه ذلك زورا ) : في هذا الفصل أريد توضيح أن الشيخ محمد لا يكفر المعين قبل إقامة الحجة عليه كما نقلنا عنه من رسالة ( مفيد المستفيد ) .
يقول هزاع : وهذا النقل وإن كان ليكفي المنصف أن الشيخ لا يكفر المعين ! ولكننا نسرد نصوص أخرى له صريحة في أنه لم يخرج عن جمهور أهل السنة الذين لا يكفرون مسلما حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها ، وإذا نقل هو نفسه أنه لا يعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة فكيف ظن من انتسبوا إليه ويزعمون أنه يكفر المعين ! ، أفيظنونه مخالف لعلماء المسلمين ومبتدع بدعة التكفير ! ، أم يظنونه مضطرب في أقواله لا يدري بما يتكلم ؟ اهـ .
ثم انتهى لتقرير شبهة أسلافه ممن ذكر لنا خبرهم الشيخ إسحاق رحمه الله تعالى ، فقال بعد نقله لكلام يعزى للشيخ محمد بن عبد الوهاب نقلا عن الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في رده على وسوسة دحلان قول ابن عبد الوهاب : وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم أنا نكفر بالعموم ، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ، ومثل هذا وأضعاف أضعافه . فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به عن دين الله ورسوله . وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل ؟ ، سبحانك هذا بهتان عظيم اهـ .
قال هزاع : هذا النص الصريح الذي بين فيه الشيخ أنه يعذر بالجهالة يجعله البعض في غير زماننا لأن زماننا بزعمه فيه من ينبه على مسائل الشرك والكفر .. اهـ .
ثم رد هزاع هذا القول بتضليل قائله ونسبته إلى الكذب والافتراء ، إلى أن قال : فالحاصل أن كلمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي عذر فيها من يعبد الصنم الذي عند قبر البدوي لعدم من ينبههم باقية إلى يوم القيامة ، فإذا وجد الجاهل فهو معذور حتى تقام عليه الحجة اهـ (5) .
وقبل الرد على هذه الجهالات والتمويهات والتحريفات والإسهاب مع هؤلاء الزائغين لتفنيد (6) شبههم وتلبيساتهم والتعريف بحقيقة زيفهم وحقيقة من اتبعها وقال بها وزاد لاحقهم على سابقهم بأشنع ، ممن عاصرنا من أدعياء السلفية الكذبة الضلال ، الذين طالما تشدقوا بالإنتساب لمنهج الشيخ وأصوله ، وأنهم مؤتمون بما قرر في توحيده سائرون على تجريده وتجديده وقد كذبوا ، فعقيدة الشيخ ودعوته وتقريرات أتباعه من أبنائه وأحفاده وغيرهم من العلماء كلها في رد هذه الدعوى العريضة لهؤلاء الأدعياء ، وأن ما يزعمون على عقيدة الشيخ ليس صحيحا أو هو تلبيسا يراد به خلاف ما يرمي إليه الشيخ رحمه الله تعالى ، وما قامت عليه أصول دعوته وامتحن به في جهاده وسيرته على طريق الحـق وبيانه لرد كيد الشيطان وشركه وإبطال سلطة أتباعه وأعوانه .
أقول : قبل ذلك أحب أنبه الإخوة القراء إلى أن هناك من توهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تلك المقولة المأثورة عنه والتي رددها هؤلاء المبطلون ، وجرأ بسببها بعض الإخوان فنسب للشيخ الخطأ والزلل منها ، ولذا تحتم الوقوف مع هؤلاء قليلا لرد وهمهم هذا ولو أن الرد العام على أولئك الملبسة سيفي بالمقصود وينفي عن الشيخ ما زعم الضلال عليه من جهل ، لكن هي وقفة لا بد منها ، وسنقرر فيها الكلام في الفصل التالي بإذن الله تعالى .
----------
(1) هي منتديات المهدي عليه السلام والتي أنشأت على شبكة الإنترنت لتبليغ دعوته وتقرير معتقدات السلف الصالح في توحيد القصد والطلب ، وتوحيد الأسماء والصفات ، في ضمن مباحث وردود علمية نافعة بإذن الله تعالى وفي عدادها هذا الكتاب الفريد المهم في بابه .
(2) واسم رسالته على التمام : ( حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة ) .
(3) أحمد فريد كتابه ( العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير ) من مقدمة الطبعة الأولى ( ص 6 ) مكتبة التوعية الإسلامية .
(4) خالد فوزي عبد الحميد في كتابه ( قواعد وضوابط التكفير والعذر بالجهل ص 5 ) .
(5) العذر بالجهل عقيدة السلف ص 145 .
(6) سيأتي بإذن الله تعالى جمع أقوال أكثر المبطلين من المعاصرين في هذا الخصـوص والرد عليها إجمالا بعد هذا التفصيل ، في الفصل السادس والسابع .