الرد على بعض الإخوان في تخطئتهم الشيخ ابن عبد الوهاب بسبب المقولة المشهورة عنه

 

قال أحدهم : ذكرت في بعض رسائل الشيخ هذه المقولة ، ولا شك كان هذا خطأ منه ودليل ذلك هذه المقالة التي حكاها عنه حفيده إسحاق نفسه ، قال إسحاق : وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أنه ذات يوم يقرر على أصول الدين ويبين ما فيه ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث ، حتى وردت بعض الكلمات التي فيها ما فيها ، فقال الرجل : ما هذه كيف ذلك
 

فقال الشيخ : قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل فلما جاءت هذه السقطة عرفتها ( أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر ) أو كما قال اهـ (1) .
 

انظر : سماها سقطة والرجوع للحق فضيلة ، فما بال المتشدقون به لا يأخذون إلا بتلك الزلة ـ أعني مقولته : ( ولا نكفر من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه ) ـ ويتركون هذا الحق ؟! ، وهم يدعون محبته والإقتداء به وإنهم لكاذبون ولو عاصرهم هذا الشيخ الجليل رحمه الله لتبرأ منهم اهـ (2) كلام المعترض على الشيخ . وللرد على قوله هذا أقول : 
 

لا أدري هذا القائل من أين أتى بالقطع على أن هذه المقولة مثل ما قال بالنص هي من كلام الشيخ رحمه الله تعالى ؟ ، فهو بالتأكيد لم يتحرى ثبوت ذلك عنه ولم يدريه ليقيني بعدم ثبوتها عنه وهذا ما سأثبته لاحقا . 
 

ثم لا أدري من أين له أيضا عدم ثبوت معناها وأن ليس له مرجع شرعي ولا أساس ؟ ، وهذا أيضا ستأتي الإشارة له لاحقا .
 

كما لا أدري أيضا على أي دليل اعتمد في اعتبار أن القصة هذه التي أوردها إسحاق الحفيد ورد الشيخ فيها على المعترض إنما كان في خصوص هذه الحكايـة عنه ـ امتناعه مـن تكفير عباد الكواز وعبد القادر ـ ؟ ، ليستدل في أنها بالفعل زلة منه ، إذ في هذا أن الشيخ أنكرها بالفعل وليس ذلك فقط ، بل وكان مقرا على نفسه بالخطأ ، وهو لم يذكر دليلا يلتفت له ويعتمد عليه فيما ظنه ، وفي هذا ما فيه من التقليل من قدر الشيخ إذ اعتبر مقرا بما رأى الناقد أنه خطأ في الاعتقاد ، فجره هذا الظن إلى أبعد من إقراره هو على الشيخ أنه أخطأ ، أن جعله مقرا هو كذلك على نفسه ! ، وهذا غريب جدا ولا يلتفت له بتاتا .
 

وسياق ذكر هذا عنه من حفيده لا يفيد ولا يثبت ما زعمه المعترض ، وأرى أن الشيخ إسحاق ما ساق هذا إلا للتمثيل هو كذلك وعيبا على من يترك المفصل الثابت للمجمل المشتبه ، والدليل لمن قد يزل بالقيل ، لا أنه يعني بذلك ما عنى الناقد .
 

وحتى لو سلمنا أن الشيخ إسحاق عد هذه سقطة من جده على ما زعم الناقد ، فالأمر يحتاج لتحرير وتوجيه ولا شك ، فهو على هذا لم يجود رد الشبهة ويحسن الجمع والتوفيق فيما ثبت عن جده رحمه الله تعالى في ذلك .
 

وها أنا ولا أزعم بل سيرى الناقد ويرى غيره ، أن الجمع ممكن والتوفيق متين ، وأن الشيخ رحمه الله تعالى لم ينفرد فيما قال على افتراض ثبوت هذا عنه ـ والحق أنه لم يثبت ـ بل سبقه لذلك أئمة أخيار منهم ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وهو مؤتم به سائر على سبيله بالإتباع لا الابتداع ، كلهم آخذ في ذلك بعموم قوله تعالى : ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾
 

فإن كان ولا بد في تخطئة الشيخ فمن الإنصاف قول ذلك بإبن تيمية لا هو ، فهو إن لم يكن عندكم متبعه في ذلك فقد قلده ، والمقلَد أولى بالنقد ، وهذا ما لم يحط به بإيماءته على الشيخ رحمه الله تعالى هذا الناقد .
 

وأصل الإشكال في هذا على ما ظهر لي من كلام الناقد وغيره ممن خاض في أمر هذه الشبهة ، هو أنهم لم يفرقوا ما بين إمكان ثبوت الشرك على من فعله ، مع نفي التكفير الموجب للقتال واستحلال ما أحل الله تعالى منه بحقه في ذات الوقت ، والأخير هو ما كان ينفيه الشيخ رحمه الله تعالى عن نفسه في ابتداء أمر دعوته ، وهي من أشنع التهم عند خصومه عليه حسب دعواهم ، وأكثرها إيذاءا لسمعته رحمه الله تعالى وأثرا ، لذا تكرر منه نفيها وتكذيب زاعمها .
 

عـدد ابن تيمية رحمه الله تعالى الكثير من أفعال البدع عند القبور ، فقال : وهذا موجود في كثير من أعيان العباد والزهاد وممن له قصد وعلم ، وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر ، ومنهم من يسجد له ، ومن يسجد من باب المكان المبني على القبر ، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس ، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق ، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير ، وليس كذلك ، كما يوجد مثل هذا في مصر ، والشام ، والعراق ، وغير ذلك ، ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله ، فيقول : اغفر لي ، وارزقني ، وانصرني . ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى ، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين ، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين ، وأن أصحابها إن كانوا معذورين بالجهل ! ، وأن الحجة لم تقم عليهم ، كما يعذر من لم يبعث إليه رسـول ، كما قال تعالى : ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين اهـ (3)  .
 

فانظر كيف أثبت الشرك من أفعالهم هذه ، واشترط للعقوبة رفع الجهل بقيام الحجة فقال : وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين . سماهم مشركين بتلك الأفعال .
 

وانظر أيضـا واعتبر لعدم قطعه بيقين أن الحجـة لم تقم عليهم ـ تقرر عند أهل العلم هذا بأنه التوقف في الأعيان ـ ، على خلاف ما يقطع به هؤلاء الضلال على مشركي زماننا ، فلا تجدهم دائما إلا منظرين في أنهم معذورون بالجهل ولم تقم عليهم الحجة ! .
 

وفي أشهر قواعـده رحمه الله تعالى في تقرير أحكام التكفير ـ وهي المسماة بالكيلانية ـ صاح بقوله : وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة اهـ .
 

وأنا أقول لهؤلاء الضلال ممن يعذر المشركين في شركهم ، أثبتوا إسلامهم أولا ثم نقروا بالجهالات والتلبيسات مثل ما تريدون ( أثبتوا العرش ثم انقشوا ) ، ودون ذلك خرط القتاد ، وأنى لهم ذلك وهم يشركون في غالب عباداتهم وأحوالهم ، طوافين على أضرحتهم ومقدساتهم ليل نهار ، بل أين لمن لم ينو ِ ويحدث نفسه بإقامة الحجة على هؤلاء أن يقوى على البرهان في إثبات ذلك ؟! .
 

ومما يكشف زيف هؤلاء وأنهم ليسوا إلا ملبسة غرباء على بيان الحق ومعرفته ، وأنهم يتشدقون عن أهل العلم بما لا يعون معناه ويدركون فحواه ، ومن ذلك إكثارهم عن ابن تيمية وغيره ترديد مقولة : حتى تبلغهم الحجة الرسالية .

يعطلون أحكام الدين العظيمة ، وفرقان الملة المجيدة ، تعليقا بالمحال من حالهم وقد علمناها ، فالأصل عدم قيامهم بذلك لتتم الغاية بتحقق إبطال المعاذير للمشركين .
 

وصاحب المقولة أدرى بمقولته إذ قال رحمه الله تعالى : وأما من لم تقم عليه الحجة ، مثل أن يكون حديث عهد بإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك اهـ  (4) .
 

وهذا على خلاف ما عليه هؤلاء الجهلة ، إذ لم يحدوا بالعذر مثل هذا بل أطلقوا ليعطلوا أحكام الملة أحكام التوحيد ، فيبقى المشرك مشركا ، والموحد غير بارىء من أفعالهم ، هكذا إلى ما لا نهاية ، تنظير الشيطان في تعطيل أحكام الرحمن الذي أوجب البراءة ومباينة المشركين وقتالهم إذا لم ينتهوا ، سنة سنها في كل المشركين ، وملة أكدها بالخليل إبراهيم عليه الصلاة السلام .
 

وانظر لهذه الواقعة لتعلم مدى كذب ورع هؤلاء وكم بلغوا في الامتناع من تكفير من استحق هذا الحكم لشركه أو نفاقه ، إذ قال رحمه الله تعالى : فكثير من المنتسبين إلى الإسـلام يستغيث بشيخه ، ويرى من جاء راكبا ، أو طائرا في الهواء ، أو غير ذلك فيظنه شيخه ، وقد يأتي في صورته إن كان يعرف صورة شيخه ، فيظن هذا شيخه ، وهذا قد وقع لخلق كثير ، ووقع لغير واحد من أصحابنا معي ، لكن لما حكوا لي أنهم رأوني بينت لهم أني لم أكن إياه ، وإنما كان شيطانا تصـور في صورتي ليضلهم ، فسألوني لم لا يكون ملكا ؟ قلت : لأن الملائكـة لا تجيب المشركين ! ، وأنت استغثت بي فأشركت اهـ . 
 

فانظروا إخواني رحمكم الله تعالى وعافاكم من بدع هؤلاء ، كيف وصفهم بأنهم مشركين لفعلهم الشرك ، بل أثبت ذلك على صاحبه ! ، واعتبر لورع هؤلاء الكذبة على الأئمة وتحريفهم لكلامهم والمقصد منه لتعرف مدى شدة ضلالهم وأنهم لم يأتموا بسيرة هؤلاء العلماء ولم يجمعوا كل أقوالهم ليفهموا مرادهم ، بل زاغوا لشبه ابن جرجيس وأضرابه من لو راجعنا أقوالهم لوجدناهم أكثر نقلا عن ابن تيمية منهم وتلبيسا عليه ، فلا يغرنكم نقل هؤلاء وتمسحهم بالعلماء فهم أجهل وأضل من أن يدركوا حقيقة مذاهبهم وجمع دررهم والسير على منوالهم . 
 

وأنبه هنا قبل أن أختم هذا الفصل على أن العبارة التي ذكرت في رسالة الحفيد إسحاق رحمه الله تعالى في عباد الكواز وغيرهم ليست دقيقة ، بل هي حكاية ذكرها المشبهة في زمنه وربما يريدون المعنى عنه دون تمام لفظه وضبطه ، ومن ثم نقلها إسحاق عنهم للرد عليها ولم يفطن لما فيها من خلل واضطراب وأنها غير دقيقة عن جده ولا ثابتة ، وإنما النص المعزو للشيخ هو التالي على ما مر معنا :

وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم أنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه وأنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل ومثل هذا وأضعاف أضعافه فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله ، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل سبحانك هذا بهتانُ عظيم اهـ .
 

فهذه العبارة المعزوة لرسالة الشيخ وهذا نصها لا ما نقله إسحاق ، وهي حكاية مشهورة عنه ذكرها جوابا لشريف مكة ، نقلها عنه عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (5) .
 

مثل ما نقلها بهذا اللفظ أيضا الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في رده على وسوسة دحلان .​​​​​​​
 

وسيأتي بحول الله تعالى لاحقا بيان الدليل على بطلان عزو هذا الكلام  للشيخ رحمه الله تعالى بهذا اللفظ ، وأنه مما حرف عليه ، وإنما الثابت عنه قوله على النقيض من هذا والله المستعان .


 

---------
 

(1) حكم تكفير المعين ص 8 .
 

(2) نشر هذا الاعتراض في موقع المهدي في الإنترنت وهو أصل هذا الكتاب وسبب خروجه .
 

(3) قاعدة في الفرق بين عبادة أهل الإسلام وأهل الشرك ص 73 .
 

(4) من كتاب الإيمان .
 

(5) في الدرر السنية وهي مثبتة في المجلد الأول ص 70 طبع دار العربية .