مذاهب العلماء في حرمة المعازف ، وتكفير المصر على الذنب
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في حكم المعازف تعليقا على حديث البخاري وغيره في وعيد مستحليها : المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر اهـ .
قلت : ومن المجمع عليه عند الصالحين والتعساء في هذه الأمة أن مستحل الخمر يكفر بلا مثنوية ، ومستحل المعازف مثله لكنهم في حكم مستحل المعازف بين غافل لاه ٍ ، أو جاهل قد التبس عليه الأمر ، أو صاحب هوى أشرب قلبه هذا المنكر العظيم حتى استحوذ عليه وزينه وقلب حرامه حلال ، وقليل هم أولئك الذين يأخذون الدين كله لا يفرقون بين الأحكام والأعيان ، كل على حسب حكم الله ورسوله ، لا حكم الهوى والجهل ، فالشرع ليس إلا ذاك ، ومن فرق ما بين استحلال المعازف والخمر ، وجعل مستحل الخمر يكفر دون مستحل المعازف ، فقد قدم حكم الجهل والأهواء على حكم الله ورسوله ، ويكفي في هذا ضلالة وحمق .
روى ابن ماجة في سننه بإسناده عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير ) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : إسناد هذا الحديث صحيح ، وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير ، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكـل واحـد قسط في الذم والوعيد اهـ .
قلت : عد تسمية الخمر بغير اسمها استحلالا لحرام ، وقد يشربها الكثيرون اليوم ممن يسميها بإسمها أو لا يسميها بإسمها ، فالأمر سيان عندهم ، ومع هذا عد رسول الله ذلك استحلالا أو قرينة استحلال ، وصيره وصفا لشاربيها ، مع أن أكثرهم لا يسميها إلا بإسمها ، ولم نسمع يوما أحدا ينتمي للإسلام ويقول بحلها ، ولا يفيد ذلك في نفي الاستحلال ، إذ قرينة الاستحلال لا يشترط لها التصريح ، بل يكفي في ذلك الإصرار على شربها وحبها مع امتناع القلب من كرهها ، حتى لا يجد شاربها مع ذلك تأثيم النفس وتحديثها بوجوب الامتناع والعزم على فراقها ، فبات ذلك في حكم الاستحلال عنده صلوات الله وسلامه عليه ، ولذا توعدهم بما توعد ، وسمى ذلك استحلالا .
فكيف بمستحلي المعازف ، وهم يجاهرون بحل ذلك كما مر معنا ، وقرائن الاستحلال متواترة في حالهم زيادة على توثيقه من مقالهم ، فلا ينكر كفرهم وردتهم بعد ذلك إلا من طمس الله على بصيرته ، فما عاد يفرق بين الحق الذي قال به وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة وأعيان المكلفين وما يليق بهم من أسماء الدين ، وبين ما زاده الناس من جهل ورأي وهوى تحريفا لدين الله تعالى وأحكامه وتجنبا لالتزام أوامره ونواهيه .
وممن ذهب في حال شاربي الخمر للكفر بمجرد الإصرار دون قولهم بالاستحلال أو اعتقاده ابن تيمية رحمه الله تعالى ، حكى ذلك عنه تلميذه ابن مفلح رحمه الله تعالى صاحب الفروع ، قال : أو أصر في دارنا على خمر وخنزير غير مستحل اهـ (1) .
فكيف بمن أصر على المعازف وهو يعلن استحلاله في الليل والنهار لذلك مثل ما مر معنا آنفا ، بل جاهروا فيه مكابرة بالاستحلال ، حين عدوا ذلك من نعم الله وهباته ، بل تحينوا أعياد الله تعالى المعظمة في نشر باطلهم هذا وكفرهم ، إمعانا بالسخرية وتماديا بجحد الحق ، وهل يقول عاقل بعدم ردة هؤلاء بعد ذلك ؟! .
بل حتى لو كان ذلك مجرد معصية دون الاستحلال ولم يبلغ صاحبها حد الكفر ، فحال هؤلاء لا تمنع الأحكام من تكفيرهم أو تخفى فيهم حتى يتوقف في اعتقاد ردتهم وهم بالحال التي عرفوا بها ، من منتهى الولع بالمعازف وأقصى درجات الحب بالغناء المصاحب لها ، تلك الحال التي لا يصحح عاقل لهم فيها أدنى كراهية فضلا عن البغض ، ومع هذا عد مثل ابن تيمية رحمه الله تعالى حال أصحاب المعصية في هذه المثابة كفارا أو منافقين ، وليسوا بمؤمنين أو مسلمين ، ذكر ذلك في قاعدة المحبة فقال : إذا لم يبغض العامي معصيته ولم يخف الله فيها ، ولم يرج رحمته ، فهذا لا يكون مؤمنا بحال ، بل هو كافر أو منافق اهـ (2) .
كما حكى عنه ابن مفلح في حكم الارتداد قوله : إذا ترك إنكار المنكر بالقلب ، أو جحد حكما ظاهرا مجمعا عليه اهـ .
وهؤلاء لا يعدون ما هم فيه منكرا ، بل حلالا ونعمة ، وهم في كلا حالي الارتداد على حسب كلامه موافقون لحكم الارتداد ، سواء عدوه منكرا ـ وهم ليسوا كذلك ـ إذ انتفى من حالهم كرهه وخشية الله فيه ، وإن جحدوه وهم كذلك على ما ثبت من حالهم ومقالهم ، فعلى أي وجه صرفتهم لن تجدهم إلا مرتدين جاحدين .
ومن أقوال ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا المعنى أن : من لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه ، وكلاهما كفر صريح ..
وفاعل الذنب إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أن الله حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يُـذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند ، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقا بأن الله ربه ، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق .
وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق ! ، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة ، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة .
وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم ، فهذا أشد كفرا ممن قبله ! ، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ! .
ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته ، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو اتباعا لغرض النفس وحقيقته كفر ، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبرا به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون ، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه .. اهـ (3) .
ومن أقوال ابن حزم رحمه الله تعالى في هذا المعنى أيضا أن : كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله ، عالما بأنه مسيء فيه مستغفر منه ، ومن كان بخلاف هذه الصفة ، لكنه مستحسن لما فعل غير نادم عليه ، فليس مسلما ! اهـ (4) .
وممن نقل الإجماع والاتفاق على حرمة المعازف أبو عمرو بن الصلاح ، ذكر ذلك عنه أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع فقال : حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه :
أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدف منفردا فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مـع أنه ليس كل خـلاف يستروح إليه ويعتمد عليه ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخـذ بالرخـص من أقاويلهم تزندق أو كاد .. اهـ (5) .
وقال ابن القيم : والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولا في ذلك ، وقد تواتر عن الشافعي أنه قال : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .
فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله : أنه يصد عن القرآن وهو شعر يزهد في الدنيا يغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه ، فليت شعري ما يقول فيما سماع التغبير عنده كتفلة في بحر قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم اهـ .
وقال القاضي أبو الطيب : وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن ، وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام .
وحكى أبو بكر الطرطوشي عن الشيخ أبي اسحاق في ( التنبيه ) قوله : فإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه : أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور .
قال ابن القيم : قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم اهـ .
وكان من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى التأديب بالضرب بالسياط لمن يتعاطى شيء من المعازف مثل العود والمزامير ، بل حتى صاحب التغبير ! ـ سبق ذكر صفة التغبير ـ .
وكان يفتي بوجوب كسر آلات المعازف متى رآها المرء ، ولا يرى على كاسرها شيء .
وحكى عمر بن صالح أن أحمد فعل ذلك بنفسه رحمه الله تعالى ، مر عليه رجل معه عود مكشوف فقام فكسره اهـ (6) .
وحكى عمر ابن الحسين أن أحمد كسر طنبورا في يد غلام لأحد الولاة .
وروى الخلال عن أحمد الدورقي أنه قال : سمعت وكيعاً يقول لرجل ٍ : خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه كما فعل ابن عمر (7) .
تم بحمد الله تعالى الانتهاء من تصنيفه
-----------
(1) الفروع ( 6/164 ) .
(2) قاعدة في المحبة ( 104 ) .
(3) الصارم ( 520 ) .
(4) الفصل ( 4/107 ) .
(5) عن إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لإبن القيم .
(6) الخلال ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .
(7) ذكره الخلال .