فصــل (6)
أما الوصف بأنه ( معلَّم ) فهو وصف شرعي صحيح ولو فات الأمة وجهلت إدراك معنى ذلك ، ويبقى هذا الوصف كالوصف بـ( الإرسال ) شرعي ولم يسقه المولى عز وجل إلا لتأكيد هذه الحقيقة الشرعية ، هذا هو المراد من إطلاق هذا الوصف بالقرآن ، التأكيد على نفي التعيين للمذكور في سورة الدخان أنه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بل المراد بإيراد هذا الوصف في تلك السورة ذات المهدي فهو الذي ناسب وصفه بـ( المعلَّم ) وهي صفة مقابلة للوصف بـ( النبوة ) الخاص بالأنبياء ، إلا أن أصحاب الوصفين قد يقع عليهما الوصف المشترك وهو ( رسول ) فالمعلم والنبي يصح أن يكونا رسل ، لكن لا يكون المعلم نبي ، ولا النبي معلم بالمعنى الخاص من اسم هذه الصفة .
وبذلك يتأكد بالقرآن في حق المهدي الوصف المغاير في العادة والمألوف عند الأمة ، في أن المراد في هذه النبوءة ليس المهدي بل ( المصطفى ) صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا وبسبب جهل هذا دخـل الغباء على أمـة الإسلام في جهل هذه الحقيقة البينة أشد ما يكون البيان ! ، ولا أدل على ذلك بما أكده القرآن وهـذه النبوءة القرآنية نفسها وذلك في وصـف هذا المعلم بأنه : ﴿ رسول مبين ﴾ . مع أنه سبحانه لما أعقب ذكر ذلك بقصة موسى عليه السلام وصفه بقوله :﴿ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم . أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين ﴾ .
وصف موسى هنا بـ( الكريم الأمين ) لكن المهدي وصفه بالـ( مبين ) وفرق ما بين الوصفين ظاهر لكل عاقل ، وبأدنى فكرة لما تقرر هنا يوقن المرء مدى غباء وجهل هذه الأمة في تفويت إدراك حقيقة ذلك على نفسها ومن هنا صح وصفها بذلك ! .
والأمة وللأسف ما زالت تجهل وتجحد كل ما أتى به المهدي من العلم والهدى ، وما دلها على حق ما علمته من قبل إلا وجحدت عليه ذلك وأنكرته مهما برهن لذلك بالنقل ، ومهما أُيد وعززت حجته بعدم مقدرتهم على النقض ، ومن هنا استحقت هذا الوصف : أنها أمة غبية بالفعل .
غفلت وجهلت الأمة أن المهدي ( رسول ) من المولى عز وجل ، والرسول يناقض حقيقة إرساله أن يأخذ من غيره ، وهذا عين ما يطالبون اللحيدي عليه السلام فيه ، أنه لم لا يأخذ عن العلماء والمشائخ ، وما علم المغفلون السذج أن مبنى هذا على أصلهم الفاسد الضال : أن المهدي ليس رسول .
غفلوا وجهلوا أن المعلم وصف شرعي صحيح للمهدي ، وأن القرآن الكريم وصفه في سورة الدخـان بأخص صفاته هذه مضافة للإرسال ، ومع هذا لم يدركوا حقيقة الأمـر ويتيقنوا أن الموصوف في تلك السورة ليس هو ( المصطفى ) r على الرغم من ثبوت دليل ذلك .
وكل هذا تهربا من لازم هذا الاعتقاد ولازم هذا الفهم ، أن المهدي بالفعل هو رسول من رسل الله سبحانه ، فقالوا بتأصيلهم المنكر ( لم لا يأخذ اللحيدي عن المشائخ والعلماء ) ، ويبقى كل ما قاله واعتقده ما لم يقره المشائخ والعلماء ليس بشيء ، مهما استدل ، وبأي نقل موثق استظهر ، وإن تزلزلت الأرض وتواترت الخلافات تزامنا مع خـروج دعوته وتحققا أثناء ذلك لن نصدقه : ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا . فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ .
نعم ( المعلَّم ) وصف شرعي للمهدي في القرآن ومقتضى السنة وما سيق في خبر سورة الدخان إلا لتأكيد هذا المعنى ، فالوصف يبقى من المولى عز وجل ولو سيق على لسان حال من اعرض عنه ، وعليه يكون الأمر سيان على وفق هذا المعنى والاعتبار في أن يقولوا ( رسول ) مجنون أو ( معلَّم ) مجنون ، ففي كلا الحالين التهكم والتكذيب حاصل ، بل ثبت من المخالفين والمكذبين هذا النعت على كل رسول يرسـل ، سواء كان ( معلَّم ) وهذا ما أكدته آيات سورة الدخـان ، أو ( رسـول ) مطلق دليل ذلك قوله تعالى : ﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾.
وبالمثل هؤلاء مع المهدي اللحيدي عليه السلام لما كان مرسلا من المولى عز وجل قالوا في وصفه تهكما بأنه مجنون على سنة من سبقهم من الجاحدين الكافرين ! .
أقول : هذه القاعدة والأصل الشرعي في حقيقة أمر المهدي عليه السلام في القرآن تدل على بطلان مثل ما قلت سابقا ما قعده الذين لا يعلمون ، بإيجاب رجوع المهدي عليه السلام لمشايخ الوقت ومن يزعم أنهم علماء ، ولو عقل هؤلاء وأدركوا الحق في أمره لأيقنوا أن هذا مناف للأصل القرآني والقاعدة في أمره التي جهلتها الأمة وباتت بسبب ذلك عمياء غبية عن هذا الهدي القرآني الرباني ، الذي يقتضي منه أن الرسول لا يأخذ ممن هو دونه ، يدري هذا ويفقهه أهل العلم بحق مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معارضته لأقوال واعتقادات ابن عربي الزنديق ، قرر هناك : أن الرسل لا يأخذون من غيرهم ، مثل أن المتقدم لا يأخذ من المتأخر ! . ( مجموعة الفتاوى 1/401 )
وبالمثل في مناقشته لمعتقدات النصارى أكد وأطال النفس في تأكيد هذا المعنى على وفق حال ( المصطفى ) صلى الله عليه وسلم ، وبين وجه هذه المنافاة في دعواه النبوة أن يأخذ عن غيره من دون الله تعالى في أمره واستشهد بقوله تعالى : ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ .
وعد هذا رحمه الله تعالى من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله .
وهؤلاء لما استيقنوا أن المهدي لم يأخذ ما أتى به من مشايخهم ممن يزعمون لهم العلم ، حينها لم يجدوا بدا من رميه بتهمة الجنون ، وبعضهم قال ساحر أيضا ، وكل ذلك مما وجدوا من مخالفة في عقيدته وتصديقه ومصادمة صريحة لأصولهم ومعتقداتهم المتوارثة ، لكن لما لم يكن ذلك بإقرارهم ولجحدهم ، نسبوه للشيطان والجنون مثل ما انتهى إليه أسلافهم من الكفرة الفجرة مع سائر أنبياء الله تعالى ورسله ، بحجة أنه لم يأخذ ذلك عن معلوم ، وهذا عين حجته وحجة المصطفى r من قبله أنهم لم يأخذوا ذلك عمن هو أدنى منهم بل أخذوا ذلك عن المولى عز وجل ، فالمصطفى r عن الوحي المباشر ، والمهدي عن طريق التعليم والتفهيم وهو الإلهام بمعناه الأدق الخاص الصحيح ، فالرسول أبدا لا يأخذ عن غيره .
ولما كالَ بعضهم لرسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم التهم الكاذبة ، ورماه بعض من لا يدري حاله وهو يجرأ على الكـذب أنه تعلم ذلك من بعض أهل الكتاب : ﴿ وقالوا أساطير الأولين اكـتـتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾ . فرد المولى على هذه الفرية بقوله : ﴿ قل أنزله الذي يعلمُ السر في السماوات والأرض ﴾.
علق ابن تيمية على هذا بقوله : قومه المكذبين له يعلمون أنه ليس عنده من يملي عليه كتابا وقد بين ما يظهر كذبهم بقوله تعالى : ﴿ قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ﴾ . فإن في القرآن من الأسـرار مـا لا يعلمه بشر إلا بإعلام الله إياه ، فإن الله يعلم السر في السماوات والأرض اهـ . ( الجواب الصحيح 1/406 )
وبالمثل ما أتى به المهدي عليه السلام ، هو من باب أسرار الله تعالى التي يكشفها لمن يشاء من عباده ، وليس بمقدور أيا كان أن يأتي بمثل ذلك من تلقاء نفسه وفي ذلك عبرة لأولي الألباب لكن أكثر الناس لا يعقلون .
وهذه آية أخرى جليلة من آيات أمر المهدي عليه السلام ، وإلا كثيرون ادعوا كذبا أمر المهدي فهلا كان بمقدورهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ، أنى لهم ذلك ؟! ، فهي أسرار الله عز وجل ، تأخرت كل الأمة عن آيات سورة الدخان وتعذر عليها فهمها وصدت عن ذلك ، إلا ما كان من اللحيدي الذي صاح بها بعد ما فتح المولى عز وجل على قلبه وفقهه وفهمه معنى كل ذلك ولم يجبن ولم يتقهقر عما أناط الله به ذكره للناس وتعليمه إياهم حقيقة هذه الأسرار وما يراد بكل تلك الآيات التي قال فيها والأخبار ، بما أعجز الناس عن نقضها ومعارضتها بحق ، وهذه آية أخرى تضاف لسابقاتها في أن ثبوت عجزهم دليلا على أن الله تعالى مؤيده وناصره ومظهر أمره ولو كره الكافرون .
ولا ننسى أن نضيف لهذا عجز خصومه ومكذبيه أن يأتوا برؤيا عن المصطفى r تناقض أمره وتنفي أحقيته بالإرسال ، هذا إن لم يكن وقع خلاف ذلك وأيدت دعوته من أكثر من جهة ، يقال هذا على كثرة المتعلقين بمقصود إثبات بطلان دعوته أقلها إن لم يكن له شخصيا ومن قبل معارفه ، فليكن من أتباعه لكثرة معارفهم ! .
وتأسس على ضلالهم هذا عدم الإقرار له بـ( المهدية ) فضلا عن أن يقروا له بـ( التعليمية ) من لدن العزيز الكريم ، فلا يتوهم متوهم أن وصفه بذلك أتى منهم كلا ، وإلا لقالوا على سبيل التهكم ( رسول مجنون ) ، لكن هكذا سبيل القرآن تقرير الحق ولو على لسان الخصوم المكذبين .
يدل على ذلك :
أولا : قولهم ( رسول مجنون ) سيكون من باب الإمعان بالتهكم إن كان مقصدهم ذلك ، فهو بالفعل رسول من الله تعالى يقر بذلك على نفسه ويعلنه في معتقده ، وبالمثل أتباعه ومن دان بدينه وعرف حقيقة إيمانه .
ثانيا : هم أصلا لا يعرفون هذه الصفة ولا يوقنونها من أوصاف المهدي عليه السلام ، والدليل على ذلك تحريفهم لمعنى هذه الكلمة ( معلَّمٌ ) ومخالفة مقتضاها ، فعندهم منفي أصلا عنه الأخذ عن شيخ وعالم فكيف ينسب للتعلم وهم لا يقرون أنه أخذ من المولى عز وجل ، ولا أخذ عن شيخ أو عالم .
ومن جهلهم حملهم هذه الوصف على المصطفى r إذ ثبت أنه أمي لم يتلق يقينا عن أحد من أهل الكتاب ، لا قراءة ولا سماع ، ولو قال بمثل هذه الفرى كذبا مثل ما بينت سابقا حين نقلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، فهذا وإن قيل قريب منه ـ أعني فرية الأخذ عن أهل الكتاب ـ فلا يصح تعميم ذلك على مقتضى كلمة ( معلَّم ) فتلك فرية الكذابين وهم قلة جدا وقد علم عامة أهل مكة على الخصوص وغيرهم من العرب ممن علم حال المصطفى صلى الله عليه وسلم على ما بين الله في كتابه ، أن هذا كذب وغير ممكن .
ولم يبق حينها إلا أن هذا الوصف رباني يراد به الكشف عن حقيقة هذه الصفة ومن المعني بها لحكمة التعيين ! ، ببيان أن المهدي ( معلَّم ) رباني إنما يأخذ علمه من لدن العلي الكريم بالإلهام ، وبذلك يفتح عليه وتكشف له أسرار النبوءات .
وهو ما أكده الخبر في أن المعلمين يعقبون الأنبياء في أممهم ، وقد سبق لي التعليق في أكثر من موضع على هذه الحقيقة وأكدت على أن خبر المعلمان الذين يكونون بعد كل نبي ذو أمة ، إنما يدل دلالة لا تنازع أن المهدي هو المراد بآيات سورة الدخان وليس المصطفى r ولذا وصف بالمعلم ولو كان المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوصفه بـ( الرسول ) .
(6) نشرت هذه المقالة في منتديات المهدي بتاريخ ( 11/3/1425 هـ الموافق 30/4/2004 ) .
Powered by Backdrop CMS