الباب الثاني 

 

● ما وقع للصحابة من خلاف في هذا الأصل العظيم 
● وما نقل عند أهل الكتاب في بيانه 

● تفصيل الكلام في الأحاديث الواردة في المهدي 

 

الفصل الأول 

ما وقع للصحابة من خلاف في هذا الأصل العظيم 

ظن كثير من الناس أن أول خلاف وقع في هذه الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الخلاف فيمن يخلف رسول الله بعد وفاته , وأيْمُ اللهِ إنهم لكاذبون ما كان هذا الخلاف وقد دهمهم أمر عظيم وخطب اضطرب له عمر حتى أزبد شدقاه ! , وكان أكثر الصحابة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتوفى , والتزموا هذا ومنعوا الناس من دفنه وعللوا هذا من عدة أوجه : 

أولا : أنه لم يمت ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل مـات . وأقسم عمر أن رسول الله سيرجع كما رجع موسى , وأنه لا يموت حتى يفني الله المنافقين ! , وأنه رفع كما رفع عيسى عليه الصلاة السلام وليرجعن . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : اقتحموا على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ينظرون إليه ثم توعدوا من قال إنه مات ونادوا في الحجرة وعلى الباب : لا تدفنوه فإنه لم يمت(1) .

ثانيا : عمر علل متراجعا عما سبق بقوله في خطبته بين يدي الصديق : قلت لكم بالأمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت ـ يريد قوله أنه لم يمت ـ وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله عز وجل ولا عهد عهده إلي رسول الله ولكني قد كنت رجوت أن يعيش رسول الله حتى يكون آخرنا(2) . وفي رواية عن ابن عباس أنه قال في زمن خلافته : الذي حملني على ما قلت حين توفي أني كنت أقرأ هذه الآية : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ (3) فوالله إن كنت لأظن أن يبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه للذي حملني على ما قلت(4). قلت يشهد له ما رواه ابن سعد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنهم قالوا ـ يريد أكثر الصحابة ـ : كيف يموت وهو شهيدٌ علينا , ونحن شهداء على الناس , فيموت ولم يظهر على الناس ؟ لا والله ما مات ولكن رفع كما رفع عيسى وليرجعن (5). 

قلت : ويجب أن يعلم أن هذا معتقد أصحابه قبل وفاته أصلاً ويدل عليه ما رواه واثلة بن الأسقع قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تزعمون أني من آخركم وفاة ألا وأني من أولكم وفاة وتتبعوني أفناداً يهلك بعضكم بعضاً " (6) . هذا وقد بين لهم هذا وأثبته مع بيان أنه سابقهم من وجه آخر كما في الصحيح عن عقبة قال : صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات , فقال : " إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم " . ومعنى فرط لكم أي سابقكم (7) .

 الحاصل أنه لما قبض عليه الصلاة والسلام ظهر النزاع على هذا الأصل بين أصحابه وانقسموا إلى فريقين , وكان أكثرهم على أنه لم يمت وأنه سيعود وكان رأس هؤلاء الفاروق رضي الله عنه , وكان أبرز من خالفهم الصديق والعباس . جاء عن عروة أن العباس كان يتلو قوله تعالى :  ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾ والناس لا يلتفتون إليه , وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك (8). وخلاصة الكلام فيما وقع بين أصحابه في هذا الأمر , وهو على وجهين :

الوجه الأول  : أن منهم من ذهب إلى أنه لم يمت حتى يشهد على أمته ويظهر على المنافقين ويعز به الدين , وأن ما وقع عليه مما ظاهره الموت ما هو إلا كما حدث لموسى وعيسى عليهما السلام , وفي هذا الخلاف سلموا للصديق ولما استدل به وانتهوا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي بالفعل , وأنه يجب عليهم دفنه من بعد ما كانوا يمنعون هذا , وأيقظهم الصديق رضوان الله عليه من سكرتهم بعد أن تلا قوله تعالى : ﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ﴾ قال عمر : والله ما هو أن سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض وعرفت أن رسول الله قد مات  اهـ(9). هذا بخصوص الخلاف الأول . 

الوجه الثاني : أما هذا الخلاف الثاني وهو مما خفي أمره وحقيقته على جهال هذه الأمة حتى ظنوا أنه مما فصل فيه وانتهى أمـره بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما انتهى إليه الأمر في الخلاف الأول , وهذا جهل ممن ظنه بل هو خلاف باقي لم يحسم , وظاهر ما روي عن ابن عباس عن عمر في زمن خلافته يدل على أن في نفس عمر منه شيء , وإلا ما وجه ذكره بعد كل هذا الزمان معللا سبب اختياره القول بعدم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : ﴿ ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ مع أنه قال في خطبته بين يدي الصديق : أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب , ولا كانت عهداً عهدَه إلي رسـول الله ولكني قـد كنت أرى أنه سيدبرنا (10). وهذا يدل على أنه نفى عن الكتاب القول بعدم موت النبي أو أن يكون في هذا عهداً عن الرسول , وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم  يرجع بعد قبضه فهذا غير مراد من نفيه , والدليل على هذا أنه نزع بالاستدلال على هذا إلى الآية المذكورة , فيجب التنبه إلى هذا التفصيل ليزول الوهم ويعرف وجه الخلاف على التمام .
 

وهذا أبلغ رد على الجهلة الذين جعلوا الخلاف بين أصحابه على موته فقط من غير أن يعوا هذا التفصيل , ألا ترى أن العباس رضي الله عنه قال حين وقع الخلاف بينهم على موته : قد مات , أي قوم فادفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته إماتتين , أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك , فإن كان كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله !!(11). وفي هذا أبلغ رد على من ادعى الإجماع على عدم عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا بعد قبضه إذ علق العباس تحقق هذا بالمشيئة على مرأى ومسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يُدَّعى بعد هذا الإجماع على نقيضه , هذا لا يستقيم .

أما الصديق فكما قطع بموته قطع كذلك بعدم عودته وهذا ثابت عنه , ومن زعم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سلموا له بعدم العودة كما سلموا له بتحقق وفاته , أو أنهم لم يكن من خلافهم أصلا عودة النبي صلى الله عليه وسلم ليشهد على أمته , فقد أعظم الفرية على أصحابه وعلى غيب الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . 

وما كتابي هذا إلا لنقض الكذبة الكبرى التي مبناها على الجهل لا العلم , على التقليد لا النظر والتحرير الحسن , وما التوفيق إلا من عند الله تعالى .

قال أبو هريرة : وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجه رسـول الله فقبله , ثم قال : بأبي أنت وأمي , أمـا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها , ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً (12) . وفي الصحيح بلفظ : لا يجمع الله عليك موتتين , أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها (13) . قال الحافظ ابن حجر : وأشد ما فيه إشكالا قول أبي بكر لا يجمع الله عليك موتتين , وعنه أجوبة : قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال , لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى , فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعها على غيره كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف , وكالذي مر على قرية , وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها (14) . 

قلت : ما نقل عن العباس صريح في هذا , وهو توفيق منه بين القولين ورد على أصل الخلاف الذي يَلزم منـه عنده أنه يموت موتتين , وهذا على خلاف من ظن أن أصل الخلاف هو في موت النبي صلى الله عليه وسلم , ومنتهى ما استدل به من منع تحقق عودته لزوم الموتتين له عليه الصلاة والسلام وهو اختيار الصديق والعباس على تجويز من العباس لإمكانية تحقق عودته إلا أنه علق ذلك بالمشيئة على ما نقل سابقاً , والصحيح أنه لا يلزم من تحقق ذلك ما جعلوه لازما , لاحتمال أنه لم يمت على الحقيقة في زمانهـم وإنما بدى لهم الأمر كذلك , ثم بعد ذلك رفع بإذن الله كما حصل هذا لعيسى عليه الصلاة والسلام .

هذا وجه والوجه الآخر أنه لم يمنع دليل أن يقع هذا له كما وقع لعيسى , وإن اختلف تحقق التوفي لكليهما خصوصا على مذهب ابن حزم على ما سبق بيانه , وهو من نقل عنه صاحبنا قوله بالإجماع على أن الرسول عليه الصلاة والسلام  لن يبعث إلى الدنيا مرة أخرى , ومذهبه أن عيسى عليه السلام توفي على الحقيقة ورفع إلى السماء بعد ذلك , فما المانع أن يقع مثله لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاز لعيسى عليه السلام , فإن كان الجواب أن عيسى عليه السلام ثبت له ذلك بالكتاب والسنة , قلت : وأكثر منه ورد لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما هو أشبه بالتصريح ومنه ما هو تلميح , وما كتابي هذا إلا لكشف الغمَّة عن الأمة في هذا الأمر الذي يعد بحق ولا أبالغ أعظم مقدمات أمر المهدي المنتظر , ومن لم يفتح الله تعالى عليه بالعلم بهذا الأصل العظيم , فلن يهتدي لما التبس على الناس من حقيقة تحقق تأويل بعث المهدي إذ أنهم ما زالوا ولن يزالوا ينتظرون مهديهم محمد بن عبد الله , ودون ذلك في الحقيقة ما تقطع له الرقاب وتسفك له الدماء !! , فهل رأيتم مثل هذا الفوت فوتاً . وما أشبه اعتقادهم بالمهدي محمد بن عبد الله باعتقاد الرافضة بمهديهم إذ أن مهدي الرافضة لا حقيقة له , وكذلك مهدي من ينتمي للسنة لا حقيقة له إذ أنهم يعتقدون أنه رجل من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي الحقيقة أنه لا وجود لهذه الشخصية المتخيلة إلا بعقولهم وتصوراتهم . 

ومن الغريب أن من الأولين من كان يظن ببعض من لا يوافق اسمه ما ورد ذكره في بعض الأحاديث ما يدل على أن الجيل الأول ليس هو في أخبار المهدي مثل من جاء بعدهم إذ أنهم متفقون على أن المهدي لن يكون اسمه إلا محمد بن عبد الله , وهذا خلاف ما عليه الجيل المتقدم , فمنهم من ظن أن ابن الزبير قد يكون هو العائذ بالحرم , ومنهم من اعتقد أن محمد بن علي هو المهدي , ومنهم من اعتقد ذلك بعمر بن عبد العزيز كما ذكر ذلك عن الحسن البصري وهو مروي عن قتادة وأبي قلابة وسعيد , وقاله أحمد في إحدى الروايتين عنه , كذلك منهم من كان يرى أن موسى بن طلحة هو المهدي , وهذا كان منهم في عصر التابعين ما يدل على أن الاعتقاد بأن المهدي اسمه محمد بن عبد الله ليس هو مما اتفق عليه في جيلهم , فافهم هذا فإنه يفيدك في أن من دونهم ليس هو من الأهلية للكلام في تعيين المهدي إذ أنه ينقصهم من المعرفة في هذا الشأن الكثير .
 
والعجب كل العجب من التويجري رحمه الله تعالى في المعاصرين إذ أنه خارج عن هذه القاعدة المتأصلة في أخبار المهدي عند المتأخرين , فمن اعتقاده رحمه الله تعالى خروج خليفة آخر الزمان من صفاته ما للمهدي المنتظر !! , فهو يحثو المال من غير عدد !! , وأنزل عليه حديث صحيح مسلم عن جابر , وهو أمر منه بحق عجيب ولا أدري كيف جاز هذه المسلَّمة عندهم في أخبار المهدي وخالفها , وقال بما قال وهو حق والمراد بهذا الخليفة السفاح الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج آخر الزمان وإليه الإشارة بحديث ثوبان المرفوع : "
وإذا وضع السيف في أمتي فلن يرفع حتى تقوم الساعة " (15) وما السيف هنا إلا سيف هذا الخليفة المنتظر , وجاء لقبه بالسفاح من أجل ما سيكون من كثرة القتل والإهلاك في المنافقين على يديه , وسيأتي زيادة تفصيل عن أخباره في الفصل الأخير بحول الله تعالى وتوفيقه .

 

 

 

الباب الثاني - لفصل الأول

 
ما وقع للصحابة من خلاف في هذا الأصل .
أول خـلاف وقـع في الأمـة بعد قبضه , إنكار أنه قبض
الصحـابة قالوا بقول عمـر :أن الرسول سيرجع ليحقق الإشهاد والظهور ليفني المنافقين
عمـر رجـع عن قوله بعدم وفاة رسول الله وعلل أنه كان يرجو أن يكون آخرهم
عمـر علل زمـن خـلافته أن داعيـه لعدم مـوت رسول الله أن إشهاده إنما يكون في آخر أمته
مـا رواه ابن سعد عـن مـوقف أكثـر الصحـابة مطابق لقول عمر في الإشهاد
قـول الصحـابة في إشهاد الرسول علىآخر أمته كان منهم في حياته
أبـرز مـن خـالف عمـر وممنمعه بعد قبـض المصطفى , الصديق والعباس
الصحابة رجعوا لقول الصديق أنه مات
حقيقة الخـلاف بعد قبض رسول الله بين أصحابه , : أنه مات , : أنه سيعود
الخـلاف الثاني :وهـو قولهم بعـودته باقـي لم يحسم كقولهم بعدم موته
العباس لا يجحد القـول بعـودة رسـول اللهوإنما يعلقها بالمشيئة
مـن زعـم أن الصحابة الذين قالوابعودته سلموا للصديق بذلك كمـا سلموا بعد مـوته أعظم الفرية عليهم
هـذا الكتاب فيه رد فـرية مـن زعم أن الصحابة رجعوا عن القول بعودته
قـال الحـافظ قـول الصديق : " " رد منه على من قال بعودته
قـول العباس صريح في تأكيد أنمن الصحابة من قال بعودته
لا يلزم من عودة رسول الله أن يجمع عليه موتتين.
لم يمنع دليل شرعي من تصديق عودة رسـول الله كما عيسى عليهم السلام جميعا
التصديق والعلـم بجواز عودةالنبي أعظم مقدمات تصديق بعث المهدي وتعيينه
اعتقـاد أهـل السنة بالمهـديمحمد بن عبد الله أشبه باعتقاد الـرافضة بمهديهم فكلاهما لا وجـود له على الصحيح
من المتقدميـن من لا يرى أن المهدي اسمه محمد بن عبد الله وهو خلاف ما عليه المتأخرين
التويجـري لا يعد حـديث الخليفة الذي يحثو المال آخر الزمان في المهدي محمد بن عبد الله

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

( 1 ) طبقات ابن سعد ( 2 / 271 ) .

( 2 ) رواه البخاري وابن سعد ، والبيهقي في الاعتقاد ( 348 ) , وغيرهم .

( 3 ) سورة البقرة ( 143 ) .

( 4 ) السيرة لابن هشام ( 4 / 286 ) .

( 5 ) طبقات ابن سعد ( 2 / 271 ) .

( 6 ) الهيثمي ( 7 / 309 ) .

( 7 ) رواه البخاري ( 3 / 209 ) , وأبو يعلى ( 3 / 287 ) .

( 8 ) ذكره في الفتح عن المغازي لأبي الأسود (8/146) .

( 9 ) رواه البخاري في أكثر من موضع .

( 10 ) راجع الفتح ( 13 / 209 ) .

( 11 ) رواه الدارمي ( 1 / 39 )  .

( 12 ) السيرة لابن هشام ( 4 / 280 ) .

( 13 ) رواه البخاري وغيره .

( 14 ) الفتح ( 3 / 114 ) .

( 15 ) رواه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم