الفصل الثاني

ما أثر عند أهل الكتاب في هذا الأصل العظيم

 

إن أعظم نبوءة وردت في زبور داود عليه السلام هي تلك التي حاج بها عيسى عليه السلام اليهود في كون مسيا المنتظر سيكون من ذرية إسماعيل وليس من ذرية إسحاق كما كان اليهود يزعمون .

 

وهذه النبوءة التي احتج بها عيسى على أحبار اليهود ، اقتبسها من الزبور وأثبتها في إنجيله عليه السلام ، وإن من نصرة الله العزيز لي أن جاءت مؤيدة لهذا الأصل العظيم الذي قررته هنا وناطقة بالإشارة إليه ، وإني لأعدها مـن أعظم هدايات الله عليَّ التي لا تعد ولا تحصى ، فوفقني بها لأستأنس من موافقتها لما عندنا في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . كتاب الله الذي من صفاته أنه مصدق لما بين يديه ، ولا شك أن هذا الأصل العظيم داخل في هذا المعنى .

 

إن من أول اهتمامات اليهود حين أيقنوا أن عيسى نبي الله ورسولاً لليهود أن يسألوه عن خبر ( مسيا ) الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيم المنتظر ما اسمه ؟ ومن أين يأتي ؟ ومن نسل من يكون ؟ ، فقد كان الخلاف في ذلك الزمان بين اليهود والإسماعيليين على نسب الرسول صلى الله عليه وسلم حاصل بينهم ، فاليهود يزعمونه لبني إسحاق ويخالفهم الإسماعيليون فينسبونه لهم .

وقد تعجب أخي المؤمن حين تعرف أن اليهود قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكون رسول الله اسمه محمد ، إلا أنهم ما أن عرفوا أنه يخبر تلاميذه أنه من نسل إسماعيل حتى جن جنون اليهود وردوا عليه قوله بعد أن سلموا بصحة نبوته وعملوا على قتله ، ولما لم يمكنوا ألَّبوا عليه الرومان بفرية أنه يعمل لإقامة ثورة شعبية ضدهم , فكان ما كان من أمرهم إلى أن مسخ الله تعالى أحد تلاميذه وكان خائنا لعيسى على صورة المسيح عليه السلام بعد أن رَفع نبيه إلى السماء ونجاه من القوم الظالمين . وكان من حجته عليه السلام عليهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل وليس إسحاق ، ما يجدونه عندهم مكتوبا في الزبور ما نصه : ﴿  قال الله لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك  (1) فقال لهم عيسى : " فإذا كان رسول الله الذي تسمونه مسيا ابن داود فكيف يسميه داود ربا ، صدقوني لأني أقول لكم الحق إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق "  . فقال تلاميذه : يا معلم هكذا  كتب في كتاب موسى أن العهد صنع بإسحاق ، فأجاب عيسى متأوها :" هذا هو المكتوب ، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع بل أحبارنا الذين لا يخافون الله " (2) . والنبوءة هذه برمزيتها ترمي إلى أكثر من إثبات نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن باب التبشير برسول الله وحفيده المهدي سيقت هذه النبوءة على هذا اللفظ ونقلها عيسى عليه السلام مؤكدا صدقها في إنجيله ، هذا الإنجيل العظيم الذي وللأسف مازال أهل الإسلام يجهلون حقيقته ، وقد كان رهبان السوء يخفونه عن الناس بدعوى أن إسماعيليا كتبه ، وهي دعوى كاذبة يدعونها على كل ما خالف ما يكتبه أحبارهم ورهبانهم الكذبة الفجرة ، إلى أن كشفه الله تعالى وأظهره للعلن ، وهذا الإنجيل هو الإنجيل الصحيح كتبه بين يديه تلميذه البار برنابا ، وهذه النبوءة تنص على عدة أمور عظيمة منها :

أولا : تشير إلى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى حين من الدهر.

ثانيا : تشير إلى عودته عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا مرة أخـرى وإلى هذا الإشارة بقوله : ﴿ حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك . ولا أرى إسم النبي صلى الله عليه وسلم الذي سمى به نفسه من بين خمسة أسمـاء وهو قوله : "  أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " (3). فقوله : " وأنا الحاشر "  إنما يريد به الإشارة إلى عودته كما نبوءة الزبور والإنجيل هذه . قال الحافظ ابن حجر : وفي رواية : " يحشر الناس على عقبي "  ولبعضهم عقبيَّ على التثنية . قال : واستشكل التفسير بأنه يقضي بأنه محشور فكيف يفسر به حاشر وهو اسم فاعل اهـ (4) .

قلت : لا وجه له إلا لكونه سبباً لهذا الحشر من جهة المثال في المنام ، وهي الرؤيا المختصة بأمر المهدي كما هو محقق في نازلته ، إذ بمثال النبي صلى الله عليه وسلم مُهِّد الأمر وتم الفصل ، وأيضا على سبيل الحقيقة لاحقا ، إذ سيكون قد تحقق بعثه مرة أخرى وسيكون بوجوده هناك سبباً لحشر الناس من الصالحين إليه مرة أخرى ، وقد ورد من ألفاظ هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " والحاشر أحشر الناس على قدميَّ " (5). وأما قوله في الحديث : ( وأنا العاقب ) فقد اتفق أهل الحديث في تفسيره على أن المعنى أنه خاتم الأنبياء وآخرهم وأنه ليس بعده نبي ، هكذا قالوا في تفسير هذا الحرف اقتصارا على ما ذكروا . ومن معانيه وهو المراد من يخلف غيره ، وأراد بذلك عليه الصلاة والسلام نفسه فقد ورد عنه قوله : " أنا السيد والعاقب " يريد أنه يعقب نفسه ويأتي مرة أخرى ، وهذا هو المعنى المرموز في هذا الاسم . ومما يصح في معنى هذا الاسم أيضا " المُعقِّب " الذي يغزى عليه غزوة بعد أخرى . قال الشاعر :

 

سما لِلَبُونِ الجارمي سَمَيْدَعٌ             إذا لم ينل في أول الغزو عقَّبا

وقال أبو عبيد عن الأصمعي : أعقبتُ الرجل إذا ركبت عُقبة  وركب عقبة ، وقال : قال غير واحد : عاقبت الرجل من العقبة .  وقال أبو نصر عن الأصمعي : عقب يُعَقِّب تعقيبا ، إذا ما غزى ثم ثنى من سنته . قال طفيل الغنوي :

 

عناجيجُ من آل الوجيه ولاحق          مغاوير فيها للأريب مُعَقَّبِ(6)

 

ثالثا : وفيها الإشارة إلى بعث المهدي حفيد النبي عليه الصلاة والسلام في قوله : ﴿  يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك . وفي نص هذه النبوءة من الزبور والإنجيل فائدة عزيزة تضاف لما سبق ، وهي أن المهدي سيكون بعثه وخروجه إرسالا من الرب عز وجل وفي هذا موافقة لنص القرآن كما ورد في سورة الدخان قوله : ﴿  أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين  وأنه سيكون ذا سلطان وقوة بين أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا يتضح أن بعثه سيكون للانتقام من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين تركوا دينه .

وهذا المعتقد أعني القول بعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينص عليه عيسى عليه السلام ببشارته بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإشـارة والرمز تارة ، وبالتصريح أخرى ، وقد ورد هذا عنه في عدة مواضع من إنجيله منها ، قال عليه السلام في الإنجيل : " سأعود قبيل النهاية وسيأتي معي أخنوخ وإيليا ونشهد على الأشرار الذين ستكون آخرتهم ملعونة  " (7). ثم عاد وقال في موضع آخر : " متى اقتربت نهاية العالم يرجع إلى العالم أخنوخ مع إيليا وآخر " (8). نكَّر هنا الأخير ومـراده النبي عليه الصلاة والسلام . قال عليه السلام في الإنجيل : " صدقوني إني رأيته وقدمت له الاحترام كما رآه كل نبي ، لأن الله يعطيهم روحه نبوة ، ولما رأيته امتلأت عزاءاً قائلا : يا محمد ليكن الله معك وليجعلني أهلا أن أحل سير حذائك ! لأني إذا نلت هذا صرت نبيا عظيما وقدوس الله " . وقال في موضع آخر : " لست أهلا أن أحـل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمونه مسيا " . وقال : " أنا عبدالله وأرغب في خدمة رسول الله الذي تسمونه مسيا " (9).  وهذا يفيد تعظيم عيسى عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر هذه النصوص وهو كذلك ، بل له مقام عظيم ، وهو أعظم مما يتصوره متصور من المسلمين . ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه ليؤكد في إنجيله على الآتي بقوله : " ومع أني لست مستحقا أن أحـل سير حذائه ، قـد نلت نعمة من الله لأراه !! " (10) . وهذا صريح في لقاء عيسى عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسيتحقق آخر الزمان عند نزوله عليه والائتمام به في الصلاة وغيرها ، وهو المراد من قوله المذكور سابقا : " متى اقتربت نهاية العالم يرجع إلى العالم أخنوخ مع إيليا وآخر " . والمراد بأخنوخ إدريس عليه السلام ، وإيليا إلياس عليه السلام ، وأما الآخر كما قلت سيد الأولين والآخرين إمامنا وهادينا بإذن الله محمد صلى الله عليه وسلم ، لا كما ظن الجهال أنه غيره مع تسميه بإسم النبي واسم أبيه . ويكون اجتماعهم للشهادة على الكفار والكذبة من المنافقين ، تقديرا وحكمة من العزيز الحكيم القادر على كل شيء . 

 

 

مواضيع الفصل الثاني

ما أثر عند أهل الكتاب في هذا الأصل العظيم

أعظـم نبـوءة في الـزبور عن المصطفى وحفيده المهدي تشير إلى عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عيسـى في الإنجيـل ينص علـى نبـوءة داود في الزبور
اليهود قبلوا مـنعيسىالتبشير برسول الله وأن اسمه محمد , ورفضوا قوله أنه من بني إسماعيل
من حجـة عيسـى على بطلان قـولاليهود فيه وتأييد قوله أنه من بني إسماعيل نبـوءةداود في الزبور
مـن المؤسف جهل المسلمين وجـود إنجيل عيسى الصحيح بين أظهرنا اليوم
من أسماء النبي ما يشير به إلى عودته
نبـوءة داود في الـزبور تنص على إرسال المهدي مـن الله تعالى وفي هـذا موافقة لما فيسـورة الدخان
عـودة رسـول الله نص على تأكيدها إنجيل عيسى عليه والسلام
إنجيـل عيسـى ينص على عـودة رسل الله إلياس وإدريس ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
 
 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) المزمور رقم (110) ص (912) على حسب طبعة دار الكتاب المقدس ! ، وهي محرفة هناك والمثبت هنا من إنجيل المسيح عليه السلام .
( 2 )  الإنجيل الصحيح ( 94) .
( 3 ) رواه البخاري في باب ما جاء في أسماء الرسول r ، راجع فتح الباري (6/554) .
( 4 ) الفتح (6/554) .
( 5 ) وفي لفظ : ( وأنا حاشر بعثت مع الساعة ) .
( 6 ) الأمالي لأبي علي إسماعيل القالي (1/185) .
( 7 ) الإنجيل الصحيح ( 105) .
( 8 ) الإنجيل الصحيح ( 218) .ورد ذكر عودة إلياس وإدريس في بعض المرويات عند المسلمين ما يفيد ويشهد لما ذكر هنا في الإنجيل من ذلك ما روي عن الحارث عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر الدجال : ( واليسع معه ينذر الناس ويقول : هذا المسيح الكذاب فاحذروه لعنه الله ) رواه نعيم في الفتن ( 2/545 ) قلت : لم أقف عند أهل الكتاب ما يشير إلى عودة اليسع والله أعلم في هذا ، ولعل المراد بهذا الخبر ما جاء عن رسول الله في تشبه الملائكة في صورة بعض الأنبياء . وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن بين يديه رجلين ينذران أهل القرى ) رواه الحاكم (4/537) والطيالسي (150) وأبو يعلى والبزار . وعن كعب : الدجال لم ينزل شأنه في التوراة والإنجيل ولكن ذكر في كتب الأنبياء ، إذا ظهر خرج إدريس وأخنوخ  يصرخان في المدائن والقرى : إن الدجال قـد خرج . رواه نعيم ( 2/541 ) قلت : قد وهم كعب والصحيح إدريس وإيليا ، فإن أخنوخ  هو إدريس ، وقد أغفل كعب هنا ذكر إلياس وهو إيليا ، وعلى هذا ما وقع في روايته ما هو إلا تكرير للأسماء . وممن ذهب لعودة إلياس عمرو بن دينار ، بل نقل عنه القرطبي بقاؤه في الأرض والخضر إلى آخر الزمان ، ورجح ذلك القرطبي كما في التذكرة (714) .
( 9 ) الإنجيل ( 92- 95-280 ) .
( 10 ) الإنجيل (160) .