بركات الله تعالى لطيبة وللمؤمنين وسط الأنهر والجنان هناك
....
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
هذا الفصل سأخصصه لبيان كيف بارك الله تعالى ما حول مسجد المدينة طيبة المباركة ، وكيف كان تعالى يعرف به قبل ما عرف به مصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم وعينه له بأن إليه سيكون مجيء المهاجرة آخر الزمان وتلك البركات ، وسيرد في هذا الفصل مزيد نقض لجهل الأمة في كشف حقائق تتعلق بتلك البقعة المباركة أكثر مما رددت عليهم من قبل ونقضت .
وسأذكر فيه إن شاء الله تعالى أكثر مما يتعلق ببركات الله تعالى المقدرة له آخر الزمان وللأمة ، بما يدعم تعيين المسجد الأقصى أنه مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي تقرر بهذا الكتاب وهو الحق لما سأقرر مزيدا من البراهين أكثر مما فات وقررت .
كما سأعرف هنا في معنى قوله تعالى : ﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ﴾ و ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ .
ومن سبل السلام والدعوة لدار السلام مجيئ بني إسرائيل لمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم مقر المسجد الأقصى ، ذلك الأمر الذي كتمه بنو إسرائيل ولم تعلمه الأمة ليومنا هذا ، إلى أن قدر الله تعالى إظهاره بأصول هذه الدعوة المباركة .
فموسى صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى وأرسله لخلاص بني إسرائيل وعبر بهم البحر الأحمر كان دخوله لجزيرة العرب لا كما زعم وتوهم الناس نتيجة تحريف اليهود لذلك لصالح إخفاء تلك الحقيقة بقطع جمهور المخلصين الأول عن هذه الأرض فلا يكون لهم أي صلة تأريخية بها وببيت الله عز وجل المبني على أرضها ، ولا بسيرة ابن ابراهيم الذي ترعرع بها وتسلسلت منه ذرية وكثروا ، حتى ما يكون أي دليل ولا متعلق بهذه الأرض ومن عليها بالخلاص الأخير ، ويمكرون ويمكر الله تعالى والله خير الماكرين .
نعم ، كان خروجهم من مصر للجزيرة العربية وانطلقوا لمكان المدينة جمعهم الله تعالى لذلك المبارك وكان النص بذلك صريحا في الزبور فقال هناك في ذلك :
﴿ شَقَّ الْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ ، وَنَصَبَ الْمِيَاهَ كَنَدٍّ ، وَهَدَاهُمْ بِالسَّحَابِ نَهَارًا ، وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ ، شَقَّ صُخُورًا فِي الْبَرِّيَّةِ ، وَسَقَاهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ ، وَأَجْرَى مِيَاهًا كَالأَنْهَارِ وَسَاقَ مِثْلَ الْغَنَمِ شَعْبَهُ ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي الْبَرِّيَّةِ ، وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ الْبَحْرُ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ ، هذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ ، وَطَرَدَ الأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِالْحَبْلِ مِيرَاثًا ، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ﴾
أدخلهم مدينة طيبة دار السلام يعرفهم بها ، ومثل ما اندرس ذكر بيت الله الحرام وقدسه الأشرف الذي بناه الخليل وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام فلا يوجد لهما ذكر بعهدهم ، اندرس كذلك ذكر هذا الجبل ومدينته المقدسة دار السلام ، لا يطيقون يعلق بهم إسماعيل وذكره ولا البركة في ذريته ، وإن كان هذا البيت وذلك الجبل فيجب عليهم أن يبدلوا ذكرهما ويحرفوه وبالفعل تحقق لهم هذا فها هي الحمقاء لا شعور لها بذلك ، فمن علم وأدرك أنهم بعد عبورهم من مصر للجزيرة تملكوا المدينة وجبلها المقدس وعظموه وقدسوه لما كان أوحى لهم تعالى عن ذكره وما سيكون فيه من عظيم مجد الله تعالى وتكشف بره وبهائه فيها آخر الزمان .
ولا يستبعد أن الله تعالى كلم عبده موسى من فوق ظهره مثل ما كلمه من فوق جبل سنا ، فقد ثبت بتأريخهم أن الله تعالى كلم موسى عبده من جبلين هما جَبَلِ هُورٍ وجبل سينا أو سنا .
﴿ وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ ، هذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ ﴾ ، هناك تم تعيين فضل هذا الجبل ونبأهم عنه تعالى بحقيقته وما سيكون عليه من أمور عظيمة وأنه سيحل فيه الجبار كيومهم هذا وهو حال بقدسه معهم ويكلم نبيهم تكليما ، وبين لهم أن مثل هذا سيكون لبني إسماعيل في آخر عمر الدنيا عند إرادته تعالى إنزال قضائه على كل الأرض .
هناك عند جبل أحد وفي ربوع طيبة المباركة أخذ منهم على ذلك ميثاقا عظيما بأن يؤمنوا بهذا ولا يتركوه وأنهم إن تركوه سيلعنهم وينتقم منهم وينبذهم عن سبل السلام تلك ودار السلام ، حتى أنه ليستوثق منهم لأمره عز وجل ويثبته بتأريخهم لمستقبلهم ومستقبل أجيالهم من بعدهم ، رفع فوقهم الطور فقال في ذلك تبارك وتعالى :
فكان الطور المرفوع فوق رؤوسهم هو جبل أحد والميثاق عليهم أن يؤمنوا بهذا الأمر ويتقبلونه مثل ما هو معهم الآن سيكون مع ذرية بني إسماعيل آخر الزمان ، وتطلب استسلامهم لذلك رفع الطور فوق رؤوسهم ليخافوا ويوثقوا على أنفسهم في ذلك ، فقبلوا لبرهة ثم نقضوا عهدهم مع الله تعالى آخرا .
وفي ذات السورة البقرة فضحهم الله عز وجل بموضع آخر وكشف عن سبب نقضهم ذلك الميثاق والعهد الذي أراد أخذه عليهم كما الآيات التالية ، لكن قبل أحب أنبه على ما ورد بإنجيل المسيح الصحيح عليه الصلاة والسلام لما أجاب استفسارهم عن المسيا والميثاق له أخذ والعهد على أن يكون ممن من بني إسحاق ، فأكذبهم وقال بل العهد أخذ على أن يكون ببني اسماعيل وهناك جن جنونهم عليه وكفروه وعادوه لذلك وطلبوا قتله فيما بعد ، فمهما آتاه الله تعالى من آيات لم يقبلوا منه فقط لأنه لم يدعي كما هم بل صرح أن العهد أخذ لبني إسماعيل وهم يدعون لقومهم أنه أخذ لبني إسحاق من بعد ما حرفوا وبدلوا بالنبوءات على أن لا يكن في بني إسماعيل بل في بني إسحاق ، إن كرهم لذلك شديد وكفرهم به عظيم مبين .
فقال تعالى في كشف تلك الحقيقة كما في سورة البقرة ما يلي :
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾
أقول : ولم ينفرد الزبور بذكر ذلك عنهم أعني مجيئهم للمدينة أول أمرهم عند جبل أحد ، بل بالتوراة نفسها تقرر هذا هناك صريحا بأنهم سكنوا المدينة بقرب ذلك الجبل وتملكوا أرضها بعد ما قاتلوا ملكها وهزموا جيشه لأن الله تعالى يطوف بهم ويملكهم الأراضي ويقسمها لهم ميراثا على ما وعد إبراهيم الخليل أن يكثر ذريته ويملكهم ميراث الأمم ومن ضمن ذلك أراضي الجزيرة العربية ، فقال هناك :
فَقَالَ: « إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ ، وَهذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ : حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ ﴾
ومثل ما كان لهم سيكون لبني عمومتهم فالبركة ستكون ببني إسحاق ومثل ذلك بل أكبر وأكثر ستكون في بني إسماعيل فهي موعدة من الله تعالى لخليله إبراهيم أن يكثر ذريته ويبارك فيها ويملكها أرض الأمم ، ولا بد أن يقع وعد الله تعالى وتتم كلماته لخليله إبراهيم ، فأين الذي حصل لبني إسماعيل مثل ما حصل لبني إسحاق يا كذبة يا محرفة ، أخبرونا أين حصل ومتى إن كان عندكم من علم ؟!
لكن من أين يأتيكم العلم وقد سرتم وسلكتم جحر الضب وانحرفتم كما انحرفوا عن خلاص الله تعالى وعظيم ذكره .
ومثل ما نزل الجبار لبني إسرائيل وكان مخلصا لهم ، سينزل وربي على جبل أحد وسيكون مخلصا في هذه الأمة ، وكما بارك هناك سيبارك هنا ، مواعيده لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقا ستكون كما وعده .
وستكون بركة مضاعفة كما سيمر معنا بيان ذلك بالتفصيل لاحقا إن شاء الله تعالى .
ومن أوهام الأمة وما أكثر ما توهمت على كتاب الله تعالى ومواعيده ونبوءاته ونبوءات رسله ، أن حسبوا أرض اللبن والعسل هناك بالشام وأنهم بعد لم ينالوا ذلك طوال سنوات ما دون الأردن ولم ينالوها إلا لما عبروا نهر الأردن ، وكذبوا بل هم بالأرض التي بارك فيها ولا زالوا حتى نبذهم وطردهم منها ولعنهم واعقبهم باللعنات ، من بعد ما كانت البركات تلازم أسلافهم طوال زمن ذلك الجيل والبركات معهم غذائهم من الله تعالى من وسلوى ، وشربهم من ضرب العصا مشهور ، وأي بركة أعظم من ذلك ستكون إلا ببركة منتظرة للمدينة وجبلها المقدس وأهلها المهاجرون من كل زوايا الأرض .
ومن ينسى ثيابهم لأربعين سنة لم تبلى ولا أحذيتهم حتى قيل انقطع كل ذلك بمجرد عبورهم لنهر الأردن ، فكان الامر معكوسا برؤوس الجهلة من هذه الأمة حتى حملوا تفاسير الكثير من الآيات على وجه الكذب والافتراء ، هذا من وجه في إكذابهم ومن وجه آخر :
أن الله تعالى في القرآن يكذب أمتنا التائهة بما زعمت في ذلك ويعين طيبة أنها هي الأرض التي باركها وليس ما وراء نهر الأردن هو المعني بتلك البركة ، حين كان الله عز وجل يعرف نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام بها وتنقله الريح إليها في قوله عز وجل :
فإن كانت تلك الأرض ليست في دياره عبر الأردن بل تنقله الريح بإذن ربه لها فأين ستكون برأيكم إلا بطيبة السلام ومستقر تجلي الرحمان عز وجل ، هل تريدونها بتركيا أو السودان أو ليبيا ، وما في الآية دليل قاطع اضافي على صحة تعيني للمسجد الأقصى وأنه مسجد المدينة المنورة لا ما زعمه الكذبة على الله تعالى ورسله ، لأن المباركة عقبت تعيين الجهلة ولم تكن هناك ، هناك قدس اليهود المهدوم ولم تكن حوله مباركة أصلا لا بعهد سليمان ولا بعده ، وكل تلك الأكاذيب والتخيلات ما هي إلا برأس الضلال الجهلة اتباعا لتحريف اليهود واستمرارا على مزاعمهم بقدسية ما أزال تعالى عنه القدسية .
بل المباركة المعنية بتلك الآية هي بالمدينة ومن حولها وبهذا تأكيد لتعيين المسجد الأقصى الذي بارك حوله أنه بالمدينة لا عبر الأردن .
فكانت الريح تنقله للمدينة وجبلها المقدس من الشام هذا معنى قوله تعالى لا كما حرفت الأمة الغبية وزعمت ، وما الأرض عبر الأردن بأولى من المدينة المقدسة لتنقله الريح لها ، لأن الأصل نقله من مكان سكناه لا إليه فهذا هو الأصل في انتقاله .
فكان ينقل للمدينة ويرجع منها لسكنه ومستقر ملكه ، لأنه لم ينقطع عنها من بعد ما عرفه بها فكانت تنقله الريح إلى هناك ومن معه وإليها يرجع ولم يكن المعنى من ذلك انتقال واحد ثم انتهى الأمر أبدا كانت تنقله مرارا وتكرارا إليها هذا معنى تلك الآيات .
بل حتى داود قبله عليه الصلاة والسلام كان يأتيه وله استقرار فيها وتعبد عندها ولم يكن ينقطع عنها كما سيمر معنا الإشارة لذلك ، مع أنه يأتيها بمشقة فلا ريح تحمله ، وقصة عبورهم الأردن والافتتان بالشرب منه كما قص ذلك تعالى في القرآن إنما كان عبوره نهر الأردن في تلك الواقعة من المدينة ذهب للشام لا العكس .
مثل أنهم لم ينقطعوا عن بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ولا يغركم اندراس ذكر البيت الحرام من تأريخهم وعهدهم الكاذب ، فقد كان بالواقع القديم مع أولئك الأنبياء معترف به ويزورونه عبادا لله تعالى مثل ما يزورون المدينة وجبلها المقدس ، لقد كانت من ميراثهم كل تلك النواحي ملكهم الله عز وجل لها من زمان موسى عليه الصلاة والسلام .
ومما يثبت أن انتقال الريح بسليمان النبي للمدينة وجبلها المقدس ما ورد بالآية الأخرى في تسخير الريح له فكانت تشير لمجيئه للمدينة أيضا ما يثبت تقريري الحق هنا أن مجيئه من خلال الريح لها متكرر وليست هي مرة واحدة فقط .
وهي من المثاني في القرآن التي اقشعر منها جلد المهدي خليفة الله تعالى ورسوله ثم لان جلده بعد تيقنها لذكر الله تعالى وما أنزل من الحق ، فقال تعالى فيها :
وهنا هذا الحرف المثبت ﴿ الْقِطْرِان ﴾ هو الحق في تلك الآية عكس ما ثبت النساخ في المصحف واشتهر من قراءة الأغلب لها فذلك تحريف في رسم ذلك الحرف لا ريب في ذلك عندي ، فالقطر مبدل من قطران كما في قوله تعالى : ﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ ، فأثبتوها هنا لكن في قصة النبي سليمان حرفوا رسمها وأسقطوا ( آن ) لكن ثبته آخرون حتى يفضح هؤلاء ، وحتى ما يتم التعيين الحق ثم يأخذوا يكثروا من الكلام الفارغ الكاذب على غيب الله عز وجل ويتم صرف الناس بسلطة الشيطان بما ينفث في صدور أولئك من تلك التحريفات ليبطل حقيقة تأويل بينات الذكر ويتم له صد الناس كما هو حاصل مع هذا الحرف وغيره وصرفهم عن واقع التأويل ويذهب بهم بعيدا كما حصل معنا في قطران المدينة وتلك العين التي أسالها عز وجل لنبيه سليمان ليشاهد من فوق تلك الرياح هو وجنده ومن معه محمولا من عامة الناس .
وقد نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير ( القطر ) و ( القطران ) كل ذلك سواء كان يقول بأن المراد (النحاس ) وقد أخطأ وربي فالمراد النفط حميم جهنم كما في تلك الآية في هذه الآية أيضا في خبر تسخير الريح لسليمان عليه الصلاة والسلام .
وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم لما كان يقول : ( والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ) . وكان حق تحقق ذلك إذ لا زال يطأ أحدهم حميمها المتجمد ذاك من الدهر نتيجة اسالة عين القطران للنبي سليمان بقرب المدينة ، ثم لما تقادم عليه الوقت صار كما يراه العالم اليوم وقبل اليوم وبذلك العرض والمساحة ، تلك الحرات السوداء نتيجة انبثاق تلك الحمم الجهنمية من باطن الأرض ليندفق على وجه الأرض هناك فيكون ذلك آية لسليمان وتعريفا وتعليما له وللخلق عما سيكون من تأويل الحق في قضاء الله تعالى آخر الزمان ، حين يأتي وملائكته وتأتيهم جهنم قرب المدينة من خلال تلك الفوهات البركانية ليسربلوا من قطرانها وتسم ملائكة الله عز وجل خراطيمهم من ذلك الحميم وهي تجرهم مقبلين بتلك السلاسل والقيود ليقيم الله تعالى عليهم حقه بشهادة أولئك الأشهاد ويقرر عليهم كل ما ذكر بذلك الخصوص المنبأ عنها بكل تلك الآيات العديدة في كتبه والأنبياء .
لهذا نقلت الريح سليمان لتلك الناحية ليريه أسالة عين القطران تلك حتى يعرفه بما سيكون آخر الزمان من قضاء الحق وتجلي الرحمان العظيم فتعرض عليه الأمم ويشهد عليها كلها ورسله وملائكته وعباده الصالحون ، فمن فوق ذلك الجبل المقدس ستقوم شهادة الله تعالى ، وهذه قصة تلك العين الحق لا كما زعم الجهلة الذين لا يعلمون حقيقة ذلك الأمر ثم هم إلا يفترون على غيب الله تعالى ورسله بتخاريف قصصهم ذاك ، مثل أن بمجرد ورود خبر تلك العين بسورة سميت بسبأ حتى بادر منهم من قال تلك العين باليمن وسالت لمدة ثلاثة أيام ووصلت لكذا وكذا ، كذب في كذب وما أجرأهم على الله تعالى ، والعميان يرون بقايا ذلك القطران حول المدينة إلى اليوم ولا شعور لهم من عمى القلوب والأبصار .
حرفوا ذلك الحرف مثل ما اجتهد معاوية بن أبي سفيان وتأييد عبدالله بن عمرو لتحريف معنى تلك العين في قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج التي قص تعالى في سورة الكهف : ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُفِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ . قَرَأَ اِبْن عَاصِم وَعَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ ( حامية ) يحرفون الكلم من بعد مواضعه ليهتدوا بمثل معاوية وابن عمرو حتى يطمس بهم الشيطان علائم غيبه وبينات تحقق عظيم مقدمه آخر الزمان تحيط بهم نار آكلة بحضرته تبارك وتعالى ، كما قال الأنبياء كاشعيا صلى الله عليه وسلم :
﴿ ارْتَعَبَ فِي المدينة الْخُطَاةُ أَخَذَتِ الرِّعْدَةُ الْمُنَافِقِينَ : مَنْ مِنَّا يَسْكُنُ فِي نَارٍ آكِلَةٍ ؟ مَنْ مِنَّا يَسْكُنُ فِي وَقَائِدَ أَبَدِيَّةٍ ؟﴾
ولتعلموا وتتيقنوا ما المقصود هنا اقرأوا هذا فيما جرى لبني إسرائيل مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي مثله سيجري مع البشر حين يمكن الله تعالى للمهدي :
قال القرطبي رحمه الله تعالى : الْبَاقُونَ قرأها بـ " حَمِئَة " أَيْ كَثِيرَة الْحَمْأَة وَهِيَ الطِّينَة السَّوْدَاء اهـ .
وَذكر عن اِبْن عَبَّاس قال : " أَقْرَأَنِيهَا أُبَيّ كَمَا أَقْرَأَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي عَيْن حَمِئَة " اهـ .
وذكر القرطبي أيضا : قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص : فَأَنَا مَعَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ــ يريد قراءته لها بـ ( حامية ) ; فَجَعَلُوا كَعْبًا بَيْنهمْ حَكَمًا وَقَالُوا : يَا كَعْب كَيْفَ تَجِد هَذَا فِي التَّوْرَاة ؟ فَقَالَ : أَجِدهَا تَغْرُب فِي عَيْن سَوْدَاء , فَوَافَقَ اِبْن عَبَّاس اهـ .
وهنا ابن عباس يوفق للحق في تعيين تلك العين بالقطران لكنه في العين التي في قصة سليمان والريح قال بخرافة النحاس ، والنحاس باتفاق البشر معدن غير سائل عكس النفط ذلك القطران فهو في أصل خلق الله عز وجل له مادة سائلة .
وينسبون له كذبة أخرى أن النحاس سال من ذاك اليوم ولم يسيل لغيره وها هي قصة ذي القرنين تكذبهم لقولهم أن الذي استخدمه نحاس ، والحق أن مراد الله تعالى خلاف ذلك وهو النفط لا النحاس ومع هذا ظهر أنه سائل حتى في زمن ذي القرنين فأصل خلق النفط سائل سواء كان هذا في زمن النبي سليمان أو ذو القرنين وإلى زماننا هذا الذي ملأوا كروشهم من خيره ولا بات لهم تفكير إلا بالإزدهار بالدنيا من خلاله ، ثم هم فجأة يسربلون منه وتسمهم الملائكة على خراطيمهم من سواده وتغشى ناره وجوههم يوم يقيم الله تعالى دينونته عليهم كما قص تبارك الله رب العالمين .
والذي لم يفطن له ابن عباس ومن قلده ولهذا افتروا فريتهم أن القطران خلاف النحاس يخرج سائلا ثم لوقت يجمد ، ويستفاد منه وهو سائل لغايات مقصودة لاحقا مثل ما يفعل به اليوم بزفلتت الطرقات ، يترك من بعد ما كان سائلا فيجمد ويستفاد منه من هذا الوجه ، عكس النحاس تماما فهو بكميات أقل بكثير تحت الأرض من النفط ، ويكون جامد ولإستخراج الحاجة منه يجب صهره بالنار ، فقلب ابن عباس ومن قلده هذه الخاصية المقصودة خصوصا في قصة ذي القرنين لترميم السد والشد منه ، وصرفوا المعنى عما يريده الله تعالى لجهالات وظلمات عقولهم .
على العموم النحاس في قصة ذي القرنين لم يكن هو المقصود بتلك العين وكذبوا في قول ذلك عليه مثل ما كذبوا في ذلك على العين التي أﻻنها الله تعالى لنبيه سليمان فهو معدن لا يقاس بالنفط بتاتا لا كمية ولا في أصل خلق الله تعالى له ، فذلك سائل من باطن الأرض وإن ظهر وإن بقي هناك يبقى سائلا من أصل خلقه ، أما النحاس فهو أقل وصلب في خلقته كالذهب والفضة ، وإيقاد ذو القرنين النار من أجل اذابة زبر الحديد ومن المخبول الذي سيحتاج بعد إذابة الحديد للنحاس المسال ، إنما يحتاج القطران السائل ليشد به ذلك الحديد حين يعود لأصل عنصره فيتجمد وأراد مهندس الجسر هناك سد ثقراته بطليه بمادة النفط من أجل ذلك وربما من أجل منع يأجوج بوقتهم ومأجوج من تسلقه للزوجة مادته بعد أن يلتصق بالحديد الذي صهر من بعد ما يجمد .
ثم يا كذبة القطر ليس معدنا ولا هو أصل لأي معدن ، وما أشد تحريفكم وتلاعبكم بنبوءة من نبوءات الغيب ، فالقطر صفة لحبات نزلت من أي مادة سائلة كانت ، سواء صلبة وأذيبت أو كانت سائلة وقطرت ، ولا يوصف أصل الشيء في ذلك فيقال : قطر . هذه ابتدعها الكذبة على كتاب الله تعالى . كقول النبي ايوب عليه الصلاة والسلام :﴿ الَّذِي تَهْطِلُهُ السُّحُبُ وَتَقْطُرُهُ عَلَى أُنَاسٍ كَثِيرِينَ﴾ . فالقطر هنا صفة لحبات المطر وليس هو اسم لشيء مستقل بذاته يعرف به مثل ما كذب أولئك على كتاب ربنا بقطرهم .
أو كما في الزبور قوله : ﴿ وَتَقْطُرُ السَّحَابُ نَدًى ﴾ . وصف حبات المطر بالقطر .
وقوله : ﴿ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ ﴾ . انظروا جعله صفة للشيء وليس اسما له كما فعل أولئك الكذبة ، الذين يعد تشدقهم وصفا لا اسما لشيء محدد ، فلا تدري قطر ماذا تلك العين ؟!
ومثله في الزبور : ﴿ قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْنِ ﴾. جعله صفة للنفس على المجاز تعبيرا للمبالغة في وصف الحزن .
ولا يمكن يكون القطر كما هو ظاهر إلا صفة للشيء لا هو الشيء بذاته مستقلا فيعرف باسم تلك الصفة على أنه أسم له ، وتلك بدعتهم ليتسنى لهم يقولون بعد ذلك كذبا على الله تعالى إنه : ( نحاس ) ، فيلبسون على الناس أنه قطر نحاس والذي هو مبتدع من عقولهم فالله تعالى لم يقل نحاس بل هم قالوا ابتداعا من أنفسهم على غيب الله عز وجل ، وأيضا الله تعالى لم يقل قطر بل قطران يصف الزفت وهو موصوف هكذا على لسان نبي من قبلهم اشعيا عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا هم تلاعبوا من وجهين ، تلاعبا أن الله تعالى قال ( قطر ) أي قطر شيء ما ، وهم زادوا أن تفسيره قطر نحاس اختراعا هكذا من مخيلتهم ، وهذا لم يقله فلم يقل قطر بل قطران ، وزادوا بعد الأسقاط ذاك لإنقاص كلمة قطران ، تفسير كاذب أن ذلك ما هو إلآ قطر نحاس ، ولهذا ترون ليس لهم في ذلك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم شيئا وإلا لصاحوا به ، بل افتروا عليه وعلى كتاب ربنا الذي أنزله عليه ، فلا هو قال ذلك لهم ولا الرب عز وجل صرح بما قالوا ، ليأتينا هؤلاء وهم يقولون ويعينون بأن المراد نحاس والنحاس كما قلت في أصل خلقته صلب عكس النفط في أصله سائل إنما كان يخبر تعالى أنه فجر له تلك العين وأسال ذلك القطران للخارج حتى يراها نبيه ومن معه ويراها الخلق آية لهم جميعا فيما بعد ، وهي بالفعل كذلك وظاهر أثرها ليومنا هذا ، وقد كذبوا فيما قالوه وما أكثر ما يتقولون على كتاب ربنا عز وكل .
وفرية ابن عباس تلك التي قلدته الأمة العمياء واتبعته عليها ولا بصيرة لأحد من بينهم فيخرج لينقضها عليه ، هي أختها التي لمعاوية وابن العاص معه حين افتروا على عين ذي القرنين والتي كانت هي الأخرى من القطران كذلك ، بالمثل كما فعلوا مع عين النبي سليمان ، فزعم معاوية رغم ثبوت القراءة عن أبي من في المصطفى صلى الله عليه وسلم ولو أن الله تعالى سلم رسمها بمصاحفهم ، إلا أن الشيطان أراد أيضا تحريف تلك كما فعل بعين قطران سليمان عليه الصلاة والسلام لكنهم لم يفلحوا لا معاوية ولا رفيقه فثبتت خلاف ما افتروا .
فقال معاوية : ( حامية ) . معارضة لـ ( حمئة ) والتي لمعناها تفسيرا ووصفا سيأتيكم لاحقا .
وقول معاوية أيضا صفة وليست اسم جنس مثل ما قال ابن عباس وتقلد باطله الأمة وثبتوا ذلك رسما في المصحف ولا أقول تصحيفا بل تحريفا ، وقولهم حامية اسم صفة فقد يكون الخبر لعين ماء تفور وحينها تكون غير صالحة لمقصد ذي القرنين بطلي ذلك الجسر المدعم بالحديد بعد اذابته وتصنيع دعائم له وما شابه مثل ما يفعل البشر اليوم يذيبون الحديد ويصنعون منه دعائم وحمائل مثل ما يقدرون ويحبون ، وأي مخبول كما ذكرت قبل سيحتاج للماء المغلي في تلك الصنعة .
إنما يحتاج للقطران أو قل الزفت كما قال به اشعيا عليه الصلاة والسلام عن فتنة صدام على الكويت حين حرق آبارهم النفطية ، وهناك يفعل به ذو القرنين مثل ما وصفت لكم أما الماء فكلام فارغ .
ويحسب معاوية أنه أتى بالحق المبين وإنما أتى بمضحكة فاضحة عليه ورفيقه عقب الذنب ذاك ، وحتى كعب على ما به من بلاء لم يقرهم على وهمهم ذاك بل نزع لمن قرأها بحمئة ويريد تأييد أنها من طين أسود .
وذكر القرطبي في تفسيره لآية سورة الكهف تلك بقوله :
وَقَالَ الشَّاعِر وَهُوَ تُبَّع الْيَمَانِيّ : قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِي مُسْلِمًا مَلِكًا تَدِين لَهُ الْمُلُوك وَتَسْجُدُ بَلَغَ الْمَغَارِب وَالْمَشَارِق يَبْتَغِي أَسْبَاب أَمْر مِنْ حَكِيم مُرْشِد فَرَأَى مَغِيب الشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا فِي عَيْن ذِي خُلُب وَثَأْط حَرْمَد . والْخُلُب : الطِّين : وَالثَّأْط : الْحَمْأَة . وَالْحَرْمَد : الأَسْوَد اهـ .
وهذه صفات للنفط ذاك القطران المعلوم فهو الذي في أصل خلق الله تعالى له سائل لا يحتاج لمن يوقد نارا تحته ليذيبه ، عكس النحاس فالقطران سائل في أصل خلقته وإلا ما قدر الخلق على اخراجه من باطن الأرض وبهذه المقادير الهائلة ليفتنهم فيه عز وجل ، وحين توقد النار فيه فهو نار الله تعالى الحامية .
أقول : فكانت تلك الآيتين من المثاني لتعريف سليمان عن تلك الحقائق وذلك التعيين ، ولهذا ربط الله تعالى ما بين قصة تسخير الريح له ومجيئه للمدينة وجبلها بتلك الآيتيين لهذا المعنى الذي قررته ، لتعريف النبي عليه الصلاة والسلام سليمان بما سيكون من قضاء الجبار العظيم آخر الزمان على ما بينت وبالتفصيل في الفصل الرابع من هذا الكتاب .
نعم ، لقد فصل آيات ذلك تعالى للجميع : ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ، لكن من هؤلاء ؟!
إنهم الأشهاد من الأنبياء الذين سيعودون فصل لهم ذلك الذكر وتلك الآيات وعرفهم مكان تحقق تأويل كل ذلك ، ودعاهم لها وواعدهم بالرجوع لها ليشهدوا على أممهم ، وهي لهم من دون الخلق : ﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ .
يَا رَبُّ ، اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ يَا رَبُّ ، ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ ، لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ .
أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ . كَذلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا ، وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا ...
يَا خَائِفِي الرَّبِّ ، بَارِكُوا الرَّبَّ . مُبَارَكٌ الرَّبُّ السَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ ﴾
عقب بذكر ملك باشان ذكر فرعون مصر لأنهم أول ما لقوا من بعد مصر ملك باشان وهو ملك المدينة وقد نسب الجبل المقدس لباشان كما سيمر معنا لاحقا إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك ، لتدركوا أن المقصود بباشان هنا المدينة المنورة ، فقد ملكهم الله تعالى تلك الديار بل لا زالوا يصولون ويجولون وهو يملكهم أراضي الجزيرة العربية كما وعد ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ .
وكان ذلك التجوال لتحقيق الوعد إلى أن رفضوا العبور لنهر الأردن ليستكملوا تحقيق وعد الله تعالى لخليله ، فعاقبهم الله تعالى بسخطه ومنعهم من استكمال ونيل تلك البركة واستبدلهم بذريتهم ليعبروا ويكملوا ما وعد الله تعالى من تمليك اراضي الأمم لذريته ، فكانت البداية الجزيرة العربية ، وكل من زعم أن تجوالهم كان بصحراء ما تسمى الآن سيناء بمصر فهو كاذب على وعد الله تعالى ومباركته لابراهيم وذريته فما هناك إلا خيبة الكذب والإفتراء على غيب الله عز وجل ، أما في الجزيرة فهناك البيت الحرام الذي بناه الخليل والمدينة وجبلها المقدس ، وهناك بارك الله تعالى لإبراهيم الخليل كما قال تعالى : ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ ، وهي ذات البركة التي أراد بقوله عز وجل : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ ، كما هي ذات البركة التي نص عليها بخبر سليمان والريح التي كانت تحمله : ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ .
وهي ذات البركة التي يريد ربنا تعالى بقوله :
ومشارق الأرض ومغاربها يريد جزيرة العرب وقد سبق وتقرر وصولهم لساحل الخليج وتحديدا عند تلول كاظمة ومرجها المشهور ، وهناك كلم موسى وهناك أمره تعالى يصنع التابوت ولوحي العهد .
حتى أنهم أورثوا ما وراء النهر لكن لم يشير له لأن المقصود بيان أصل مستقرهم وتملكهم وهو الجزيرة العربية ومن كذب وزعم بعموم النص هذا فعدم وصولهم لأفريقيا يكذبهم واقعيا وتأريخيا ، كذلك مشرقها ما وراء البحر ، فهم لم يواجهوا المجوس ولا من وراء المجوس في بلاد الوثنية .
وأوروبا كذلك وتركيا خصوصا ، ولعل هذا سبب اغفاله تعالى ذكر ذلك عن مشارق الأرض ومغاربها ، بل هذا هو الحق والله لا ينطق ويخبر إلا بالحق ، فلو قال بالشمال فالشمال تملكوا طرفه من ناحية الجزيرة وما وراء نهر الأردن لكن لم يتقدموا أكثر فلم يصلوا لتركيا وما ورائها أوروبا ، وربما بلاد ما بين النهرين لم يخوضوا غماره ولهذا اغفل ذكر الشمال جملة .
ولكن لما كان يعني أرض الجزيرة العربية فحصر توريثهم بين مشارقها ومغاربها وأراد بالحصر حصرها كلها بتلك الصفة لأنها شبه جزيرة محدودة وحدها بما وصف تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة ، بالنسبة للتوريث .
أيضا لم يذكر جنوبها مثل أنه لم يذكر شمالها ، لأنهم لم يتملكوا اليمن وذلك الوصف بحسب تمركز تجوالهم وسط الجزيرة إلى ما دون جنوبها ، لمكان البيت الحرام والمدينة وجبلها المقدس ، ومشرقها لمرج كاظمة وتلولها ، فهذا المقصود من كل ذلك الوصف تحديدا فدخل ما بين الحدين ، ولا شمال ولا جنوب للسبب الذي بينت .
واليمن في الجنوب لا زالت بلاد شرك ووثنية إلى استسلامهم لسلطان النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، يعني لما طار صيته عليه الصلاة والسلام وعظم ملكه حتى ان الريح كانت تحمله والطير تخدمه وعلم منطق كل شيء ، حينها فقط اليمن آمنت ، وإلا قبل يعبدون الشمس ولا يدرون ما يجري من حولهم ولا مر يبدو عليهم ذكر موسى صلى الله عليه وسلم وآيات عمل الله تعالى من حولهم ولا كأنهم أحياء ولا كأنهم على وجه جزيرة واحدة موحدة ، ويبدو كان مناخهم جميل وإلا لكرهوها ولم يعبدوها ، وانا لنحمد الله تعالى ولو تأخرت مبادرتهم للإيمان أن جعل من خلفتهم المتأخرة من يعمل عكس ما عمل أسلافهم بأن بادروا وسبقوا الناس للإيمان بحق الله تعالى هذا ، والمقادير بيد الله تعالى يفعل كما يشاء المبارك .
وذلك الوصف والحصر بالمشارق والمغارب مؤداه لحقيقة الخلاصين الأول والثاني ومدى ارتباطهما ببعض وتشابهما ببعض ومن ذلك تمليك ذات الأرض وتوريثها وبذات العصا لكن في الأولين موسى وفي الآخرين المهدي عليهما الصلات والسلام .
أقول : وبرهان هذا التعيين والتحديد يثبت صحة اعتقادنا وأصلنا الحق الصادق في هذه الدعوة بأن دخول بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر للجزيرة العربية ، فتلك الأرض التي وعد الرب عز وجل خليله إبراهيم أن يورثها لذريته من بعده فكانت خصوصية التوريث في هذا الكوكب للجزيرة العربية إلى طرفيها المذكورين ، وتأتي تلك الخصوصية لوجود البيت للرب الذي بناه وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، كذلك لارتباط ابنه اسماعيل بها وستنشأ ذريته بالمكان الذي سيترعرع به ، فتكون ذريته متملكة للأرض التي سيعيشون بها ، خصوصا والوعد والعهد من الله تعالى سيكون فيهم آخر الزمان مباركا كما في زمان بني إسرائيل وزيادة ، وإلا أين يريد الضلال العميان تحقق ذلك الوعد والعهد في استراليا ؟!
كذلك يثبت هذا كذب تحريفهم في أن الدخول كان لصحراء سيناء المتعارف عليها الآن وقبل في مصر ، فهناك صحراء محدودة ولا مقارنة ما بين تلك الأرض وجزيرة العرب ، إلا كما الفرق ما بين الله تبارك وتعالى والشيطان ، ثم أي بركة تنص عليها تلك الآيات وجدت في صحراء سيناء ؟!
عكس الجزيرة ما حول المدينة فقد نص الأنبياء أنها ستعود كما كانت جنان .
إنه الحق والباطل ، الصدق والكذب ، فأيهما تختارون لدينكم وأمانتكم ؟
إنهم يكفرون جميعهم الآن بحقيقة وعد الله وعهده بتوريث المؤمنين الأرض ، لأنهم أضاعوا الأرض وكرهوا وعد الله تعالى أصلا من الأساس .
فالبركة كانت للخليل عليه الصلاة والسلام ، بارك له بزرعه ومواشيه وأولاده وكثر خيره جدا ، فكانت البركة حول المسجد الأقصى مما كان حصل في زمان الخليل عليه الصلاة والسلام وعلى ذلك يحمل خبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجا وأنهارا " . لأنها كانت كذلك في زمان الخليل وستعود آخر الزمان مثل ما كانت ولعله أكثر كما في زمان آدم عليه الصلاة والسلام لو طرح البذر على الصخر لنبت .
وفيما قاله لموسى الرب عز وجل عن بركة تلك الأرض بوقته ما يلي : ﴿ فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً .. فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ .. تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ ﴾ .
فكل الأنبياء في نبوءاتهم أخبرت عن البركة لهذا الجبل وما حوله ، سواء فيما سبق أو فيما سيأتي آخر الزمان كقول النبي ارميا عليه الصلاة والسلام :
اِسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ أَيُّهَا الأُمَمُ ، وَأَخْبِرُوا فِي الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ ، فَيَأْتُونَ وَيُرَنِّمُونَ فِي جبل قدسي ، وَيَجْرُونَ إِلَى جُودِ الرَّبِّ عَلَى الْحِنْطَةِ وَعَلَى الْخَمْرِ وَعَلَى الزَّيْتِ وَعَلَى أَبْنَاءِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَتَكُونُ نَفْسُهُمْ كَجَنَّةٍ رَيَّا ، وَلاَ يَعُودُونَ يَذُوبُونَ بَعْدُ .
حِينَئِذٍ تَفْرَحُ الْعَذْرَاءُ بِالرَّقْصِ ، وَالشُّبَّانُ وَالشُّيُوخُ مَعًا . وَأُحَوِّلُ نَوْحَهُمْ إِلَى طَرَبٍ ، وَأُعَزِّيهِمْ وَأُفَرِّحُهُمْ مِنْ حُزْنِهِمْ.
وَأُرْوِي نَفْسَ الْكَهَنَةِ مِنَ الدَّسَمِ ، وَيَشْبَعُ شَعْبِي مِنْ جُودِي .
هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ ، وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ ، لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ .
سَيَقُولُونَ بَعْدُ هذِهِ الْكَلِمَةَ ، عِنْدَمَا أَرُدُّهم : يُبَارِكُكَ الرَّبُّ يَا مَسْكِنَ الْبِرِّ ، يَا أَيُّهَا الْجَبَلُ الْمُقَدَّسُ.
هَا أَيَّامٌ تَأْتِي ، يَقُولُ الرَّبُّ ، وَأَقْطَعُ مَعَهم عهْدًا جَدِيدًا يَقُولُ الرَّبُّ : أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا ﴾
ويقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام في ذلك :
﴿ أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا ﴾
ويقول النبي زكريا :
رَبُّ الْجُنُودِ يُحَامِي عَنْهُمْ فَيَأْكُلُونَ وَيَدُوسُونَ حِجَارَةَ الْمِقْلاَعِ ، وَيَشْرَبُونَ وَيَضُجُّونَ كَمَا مِنَ الْخَمْرِ ، وَيَمْتَلِئُونَ كَالْمَنْضَحِ وَكَزَوَايَا الْمَذْبَحِ .
وَيُخَلِّصُهُمُ الرَّبُّ إِلهُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. كَقَطِيعٍ شَعْبَهُ ، بَلْ كَحِجَارَةِ التَّاجِ مَرْفُوعَةً عَلَى أَرْضِهِ.
مَا أَجْوَدَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ اَلْحِنْطَةُ تُنْمِي الْفِتْيَانَ ، وَالْمِسْطَارُ الْعَذَارَى ﴾
وعلى وفق ذلك خرجت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبارك مدها وصاعها مرتين الحديث المشهور ، يريد يواطئ ما قاله النبي اشعيا . وانظروا بإمعان فيما سأنقله عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف يوافق ما قاله النبي اشعيا وارميا في ذلك صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " . ( رواه مسلم ومالك وجماعة )
وعند مسلم رحمه الله تعالى مطولا ولفظه عن أبي سعيد مولى المهري قال : أنه أصابهم بالمدينة جهد وشدة وأنه أتى أبا سعيد الخدري فقال له إني كثير العيال وقد أصابتنا شدة فأردت أن أنقل عيالي إلى بعض الريف فقال أبو سعيد لا تفعل الزم المدينة فإنا خرجنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم أظن أنه قال حتى قدمنا عسفان فأقام بها ليالي فقال الناس والله ما نحن ها هنا في شيء وإن عيالنا لخلوف ما نأمن عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
" ما هذا الذي بلغني من حديثكم والذي نفسي بيده لقد هممت أو إن شئتم - لا أدري أيتهما قال - لآمرن بناقتي ترحل ثم لا أحل لها عقدة حتى أقدم المدينة :
وقال اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف ، اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم اجعل مع البركة بركتين والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها ثم قال للناس ارتحلوا فارتحلنا فأقبلنا إلى المدينة فوالذي نحلف به أو يحلف به الشك من حماد ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان وما يهيجهم قبل ذلك شيء " .
يريد كما قال اشعيا وزكريا المضاعفة مرتين كما هو ظاهر .
وفي صحيح البخاري ومسلم : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال : " اللهم حبب إلينا المدينةكحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا " .
وفيهما عن أنس : " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة " .
ولما كان ذلك المراد منه تحقق البركة آخر الزمان للمدينة وجبلها كما أخبرت بذلك الأنبياء لا كما فهمت الأمة الغبية ، قال عليه الصلاة والسلام بما قاله النبي ارميا تماما واقرأوا معي ذلك بقوله في الحديث المشهور الذي رواه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونظر إلى الشام فقال : " اللهم أقبل بقلوبهم " ، ونظر إلى العراق ، فقال نحو ذلك ، ونظر قبل كل أفق ففعل ذلك ، وقال : " اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض ، وبارك لنا في مدنا وصاعنا " .
وروى معناه عن زيد بن ثابت مختصرا بلفظ : أنه اطلع قبل اليمن ، فقال :
" اللهم أقبل بقُلوبهم " واطلع من قبل كذا " ، فقال : " اللهم أقبل بقلوبهم " ، وبارك لنا في صاعنا ومُدنا " .
وللتأكيد على أنه يريد ما يكون آخر الزمان رواه البخاري عن ابن عمر بلفظ :
" اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا ، قال : قالوا : وفي نجدنا ، قال : اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا , قال قالوا : وفي نجدنا ، قال : قال : هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان " .
ولفظه عند أحمد : " اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي صاعنا ومدنا ويمننا وشامنا ثم استقبل مطلع الشمس فقال من هاهنا يطلع قرن الشيطان من هاهنا الزلازل والفتن " .
وهذا دليل على أنه يريد زمان تحقق البركة بآخر الزمان بعد ما تكون الفتن وتكون الزلازل وهو زماننا هذا والبركة ستكون فجأة مع الصيحة على ما أفاده حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيه : " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها " . يريد من البركة الحاصلة مع النداء فمن غرسها فستنبت مباركة ، هذا معنى الخبر للبركة المنتظر حلولها على المدينة وجبلها وما حولها .
ولما كان الحال كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجا وأنهارا " . وبينت قبل أن العود هنا يرجع إما لما حصل في زمان الخليل عليه الصلاة والسلام ، أو زمان آدم ، فتلك الحال بالعود للجزيرة كما كانت من قبل وقد ذكر ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يواطئ أيضا ما قاله قبله اخوانه من الأنبياء ، كقول النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام :
أُكَثِّرُ عَلَيْكِ الإِنْسَانَ وَالْبَهِيمَةَ فَيَكْثُرُونَ وَيُثْمِرُونَ ، فَتُصْبِحِينَ آهِلَةً كَسَالِفِ الزَّمَانِ ، وَأُحْسِنُ إِلَيْكِ أَكْثَرَ مِمَّا أَحْسَنْتُ فِي الأَيَّامِ الْغَابِرَةِ ، فَتُدْرِكُونَ جَمِيعاً أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ﴾
هنا كلام النبي يدل على عود لها على مثال سابق مثل ما قرر ذلك صلى الله عليه وسلم في خبره .
واقرأوا للنبي ملاخي عليه الصلاة والسلام ماذا قال في ذلك :
لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ ، وَجَرِّبُونِي بِهذَا ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ ، إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوَى السَّمَاوَاتِ ، وَأَفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ .
وَأَنْتَهِرُ مِنْ أَجْلِكُمْ الآكِلَ فَلاَ يُفْسِدُ لَكُمْ ثَمَرَ الأَرْضِ ، وَلاَ يُعْقَرُ لَكُمُ الْكَرْمُ فِي الْحَقْلِ ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.
وَيُطَوِّبُكُمْ كُلُّ الأُمَمِ ، لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ أَرْضَ مَسَرَّةٍ ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ ﴾
كلهم يقرر ذلك ويخبر به .
ويقول حزقيال أيضا : ﴿ وَهَذَا مَا يُعْلِنُهُ السَّيِّدُ الرَّبُّ : فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُطَهِّرُكُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ آثَامِكُمْ أُسْكِنُكُمْ فِي الْمُدُنِ فَتُبْنَى الْخَرَائِبُ ، وَتُفْلَحُ الأَرْضُ الْجَرْدَاءُ عِوَضَ أَنْ تَبْقَى أَرْضاً خَرِبَةً فِي عَيْنَيْ كُلِّ عَابِرٍ ، فَيَقُولُونَ : قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الأَرْضُ الْجَرْدَاءُ كَجَنَّةِ عَدْنٍ ، وَأَصْبَحَتِ الْمُدُنُ الْمَهْجُورَةُ الْمُتَهَدِّمَةُ مُدُناً مُحَصَّنَةً آهِلَةً , فَتُدْرِكُ الأُمَمُ الَّتِي مَا بَرِحَتْ حَوْلَكُمْ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ، قَدْ بَنَيْتُ مَا تَهَدَّمَ ، وَغَرَسْتُ مَا أَقْفَرَ أَنَا الرَّبُّ قَدْ نَطَقْتُ وَأُنْجِزُ مَا وَعَدْتُ بِهِ ﴾
تبنى لكثرة من سيلتحق بهم من البلدان الكثيرة ويجاورون المدينة فتعمر القرى والمدن من حولهم بأولئك ويتحقق كل ما قاله الأنبياء ، ويكونون مميزون عن غيرهم كل من يراهم يعرف أنهم من اختار الله تعالى وميز من بين الشعوب ، بعلامات يتعرفون بها عليهم .
وفي نبوءة زكريا عن بركات المدينة طيبة النور والخير الخبر عن انشقاق جبل احد لينبع من هناك نهر عظيم ويكون مصبه للبحر الشرقي يريد الخليج العربي والبحر الغربي ويريد البحر الأحمر فيقول صلوات ربي وسلامه عليه :
وَيَأْتِي الرَّبُّ إِلهِي وَجَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ مَعَه ، وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ نُورٌ. الْدَّرَارِي تَنْقَبِضُ , وَيَكُونُ يَوْمٌ وَاحِدٌ مَعْرُوفٌ لِلرَّبِّ ، لاَ نَهَارَ وَلاَ لَيْلَ، بَلْ يَحْدُثُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ يَكُونُ نُورٌ ، وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ مِيَاهًا حَيَّةً تَخْرُجُ مِنْ أُورُشَلِيمَ نِصْفُهَا إِلَى الْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ ، وَنِصْفُهَا إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ فِي الصَّيْفِ وَفِي الْخَرِيفِ تَكُونُ ، وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى كُلِّ الأَرْضِ ، فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ الرَّبُّ وَحْدَهُ وَاسْمُهُ وَحْدَهُ ﴾
ولم تنفرد نبوءة زكريا عليه الصلاة والسلام بذكر نهر يكون من المدينة بل سبقه الزبور في تقرير ذلك فقال هناك :
تَعَالَوْا وَانْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ الَّذِي صَنَعَ عَجَائِبَ فِي الأَرْضِ . يَقْضِي عَلَى الْحُرُوبِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا. يَكْسِرُ الْقَوْسَ وَيَشُقُّ الرُّمْحَ ، وَيُحْرِقُ الْمَرْكَبَاتِ الْحَرْبِيَّةَ بِالنَّارِ . اسْتَكِينُوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ ، أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ وَأَتَعَالَى فِي الأَرْضِ ﴾
وفيه أيضا :
﴿ يَا مُتَّقِي الرَّبِّ اتَّكِلُوا عَلَى الرَّبِّ هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ ، الرَّبُّ قَدْ ذَكَرَنَا فَيُبَارِكُ يُبَارِكُ مُتَّقِي الرَّبِّ ، الصِّغَارَ مَعَ الْكِبَارِ لِيَزِدِ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ ، عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَبْنَائِكُمْ ، أَنْتُمْ مُبَارَكُونَ لِلرَّبِّ الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
وهنا يكشف في الزبور بنص هذه النبوءة معنى ما قاله النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن البركة مرتين ، وتفسير ذلك جاء في الزبور أي يبارك الجيل الأول وأيضا الجيل الثاني الذي بعده وهذا تقرر على لسان غيره من الأنبياء وأكده بالزبور في موضع آخر نوراني مشرق أحب نقله هنا مطولا فيقول عن البركة وخير المدينة وحب عباده لها :
الْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ ، وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ يُكْتَبُ هذَا لِلدَّوْرِ الآخِرِ ، وشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ الرَّبَّ لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ .
الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ ، لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي طيبة بِاسْمِ الرَّبِّ ، وَبِتَسْبِيحِهِ فِيهاَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ .
مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى ، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى ، كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ.
وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ ، وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ ﴾
ويقول اشعيا عليه الصلاة والسلام :
هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ ، رَبُّ الْجُنُودِ : أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي وَمَنْ مِثْلِي يُنَادِي ، فَلْيُخْبِرْ بِهِ وَيَعْرِضْهُ لِي مُنْذُ وَضَعْتُ الشَّعْبَ الْقَدِيمَ ، وَالْمُسْتَقْبِلاَتُ وَمَا سَيَأْتِي لِيُخْبِرُوهُمْ بِهَا .
لاَ تَرْتَعِبُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا ، أَمَا أَعْلَمْتُكَ مُنْذُ الْقَدِيمِ وَأَخْبَرْتُكَ فَأَنْتُمْ شُهُودِي . هَلْ يُوجَدُ إِلهٌ غَيْرِي ، وَلاَ صَخْرَةَ لاَ أَعْلَمُ بِهَا ﴾
بركات على الجيل الأول والجيل الثاني .
ويقول النبي " يوئيل " عليه الصلاة والسلام أيضا في بركتها ويذكر من ذلك خبر النهر الذي سيخرج من تلك المدينة :
اَلشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَظْلُمَانِ ، وَالنُّجُومُ تَحْجُزُ لَمَعَانَهَا ، وَالرَّبُّ مِنْها يُزَمْجِرُ ، َمن أُورُشَلِيمَ يُعْطِي صَوْتَهُ ، فَتَرْجُفُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ. وَلكِنَّ الرَّبَّ مَلْجَأٌ لِشَعْبِهِ وَحِصْنٌ فَتَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ ، سَاكِنًا فِي أُورُشَلِيم جَبَلِ قُدْسِي . وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مُقَدَّسَةً وَلاَ يَجْتَازُ فِيهَا الأَعَاجِمُ فِي مَا بَعْدُ .
وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الْجِبَالَ تَقْطُرُ عَصِيرًا ، وَالتِّلاَلَ تَفِيضُ لَبَنًا ، وَجَمِيعَ يَنَابِيعِها تَفِيضُ مَاءً ، وَمِنْ بَيْتِ الرَّبِّ يَخْرُجُ يَنْبُوعٌ وَيَسْقِي وَادِي السَّنْطِ ... وَالرَّبُّ يَسْكُنُ فِي أُورُشَلِيم ﴾
إذا سيكون مصدر أنهر الجزيرة العربية ليس المطر فقط شتاء وصيفا ، بل من مصادر تلك الأنهر هذا النهر الذي من بركة الله عز وجل سيمد كل تلك المجاري بالماء لتعظم الجزيرة بذلك النهر ويكثر خيرها الموصوف على ألسنة الأنبياء بأوصاف باهرة تخبر عن عظيم خير الله تعالى عليهم كيف سيكون .
بل أحد الأنبياء وهو حزقيال يصف من بركته أن يتخذ من أوراق الشجر على ضفافه علاجا رأى في ذلك مناما ورؤيا الأنبياء حق ، وهو حزقيال عليه الصلاة والسلام فقال :
وَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ ؟». ثُمَّ ذَهَبَ بِي وَأَرْجَعَنِي إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ وَعِنْدَ رُجُوعِي إِذَا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ.
وَقَالَ لِي: « هذِهِ الْمِيَاهُ خَارِجَةٌ إِلَى الدَّائِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَتَنْزِلُ إِلَى الْعَرَبَةِ وَتَذْهَبُ إِلَى الْبَحْرِ . إِلَى الْبَحْرِ هِيَ خَارِجَةٌ فَتُشْفَى الْمِيَاهُ . وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ حَيْثُمَا يَأْتِي النَّهْرَانِ تَحْيَا . وَيَكُونُ السَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا لأَنَّ هذِهِ الْمِيَاهَ تَأْتِي إِلَى هُنَاكَ فَتُشْفَى ، وَيَحْيَا كُلُّ مَا يَأْتِي النَّهْرُ إِلَيْهِ .
وَيَكُونُ الصَّيَّادُونَ وَاقِفِينَ عَلَيْهِ يَكُونُ لِبَسْطِ الشِّبَاكِ ، وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَسَمَكِ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا جِدًّا ، وَعَلَى النَّهْرِ يَنْبُتُ عَلَى شَاطِئِهِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كُلُّ شَجَرٍ لِلأَكْلِ ، لاَ يَذْبُلُ وَرَقُهُ وَلاَ يَنْقَطِعُ ثَمَرُهُ . كُلَّ شَهْرٍ يُبَكِّرُ لأَنَّ مِيَاهَهُ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَقْدِسِ ، وَيَكُونُ ثَمَرُهُ لِلأَكْلِ وَوَرَقُهُ لِلدَّوَاءِ.﴾
وقصة هذا النهر وانشقاق الجبل عنه يؤكد على ما تقرر عن مماثلة الآيات ما بين الخلاص الأول بموسى والثاني بالمهدي عليهما الصلاة والسلام ، وأنه صدقت النبوءة التي حكت عن أن بركة الخلاص الثاني سيكون أعظم من بركة الخلاص الأول ، وهذا النهر لهو أكبر برهان على ذلك ، إذا أن مياهه ستسقي خلق كثير لا يقارن بهم جمع بني إسرائيل بوقتهم ، ولا الصخرة كالصخرة ، فتلك صخرة مجهولة محدودة مهما بلغت ، أما هذا فجبل !
ونظير ذلك في شأن النار ذاتها كما مر معنا سابقا وفي هذا الفصل سيتم بيان الفروق ما بين الخلاصين الأول والثاني وضمن ذلك تلك النيران قديما في زمان موسى عليه الصلاة والسلام والتي ستكون في زمان المهدي مثل ما اتضح للقارئ الفرق ما بين انشقاق الحجر في زمان موسى وانشقاق جبل في زمان المهدي فهل في ذلك مقارنة ؟!
وتلك نار لم يراها كل أحد ، عكس النار في زمان المهدي فقد قطع المولى عز وجل بأن يراها كل من تحت السماء !!
فضلا عن أنها نار جهنم بعينها وفيها نصوص كثيرة عند الأنبياء كما قرأتم وفي كتاب الله عز وجل القرآن بسط في ذكره الكثير من الآيات كما مر معنا في الفصل السابق ، في ذكر تلك الفوهات البركانية بين مكة والمدينة ومنها ستكون تلك النار المذكورة جحيم ربنا تطلع عليهم وهم بعد بالدنيا وفق مشيئة الرب العظيم .
وهذا ولا شك من الفروق بين الخلاصين وتعظيم أحدهما على الآخر .
وحين ذاك تعم البهجة المؤمنون ويفرحون بحضور ربهم وتجليه أمامهم مستترا بالغمام ، ويرتقون الجبال يتطلعون من بعيد من كثرهم يتزاحمون لعل كل منهم يكون أقرب ويعاين ، ويقول في ذلك النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام معبرا عن ذلك ومعينا للمكان أيضا أنه في جزيرة العرب لا كما كذب يهود عليهم لعائن الله تعالى لتحريفهم الذكر وكفرهم به :
وسالع جبل مشهور معلوم قريبا من مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويقول فيه النبي أيضا :
ويذكر الجبل هنا سالع باسمه بقصد التعيين ، واشعيا عليه الصلاة والسلام من أكثر الأنبياء اخبارا لوحي الله تعالى عن تلك العواقب والخواتيم وأكثرهم تعيينا ولعلهم قتلوه لذلك وبغضوه أشد البغض لأنه لم يسكت ويخفي مراد الله تعالى ، فلا زال ينادي بذلك فيهم حتى قتلوه عليه الصلاة والسلام .
كيف لا وهو القائل عن ربه عز وجل :
أتعلمون ما المراد بالصدق هنا ؟!
هو ما بعث به المهدي عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ . ولهذا لن تجدوا ذكر من جاء بالصدق هكذا إلا بموضع واحد من القرآن لأن المعني بذلك معين فرد ، ويريد تعالى بذلك أنه سيبعث بتأويل البينات التي كتموها من بعد ما أبداها الرب عز وجل وأعلنها على ألسنة رسله مثل ما قاله على لسان هذا النبي المبارك اشعيا بقوله السابق ، ويشير له تعالى بقوله :
وقال عز وجل :
وهنا عرضت فائدة تعين الكلام حولها في قوله تعالى ( لعلهم ) و ( يؤمنون ) ولم يقل ( يتذكرون ) هنا ، كما قاله في خبر قصص الأولين التي لهم فيها بصائر ، في قوله عز وجل :
في حين ختم سورة الدخان بقوله تبارك وتعالى :
مع أنه أكد على عدم تذكرهم بأول السورة فقال :
استعمل هنا ذات الكلمة في خبر بني اسرائيل ( لعلهم ) للترجي ، لتشابه الحال ما بين بني اسرائيل وأهل الدخان ومن حولهم ، فكما هؤلاء سيكون هؤلاء ، أولئك لم يؤمنوا وهؤلاء لم يتذكروا ، وباتت ( لعلهم ) في كلا الموضعين للدلالة على تشابه الحال على عدم ايمان بني اسرائيل ، وعدم تذكر أهل الدخان ، وكيف لا يكون ذلك وفي نفس سورة الدخان عقب بذكر قوم فرعون ذكر قوم الكويت .
وأولئك مطلوب منهم الإيمان ، والمعاصرون لتأويل الذكر مطلوب منهم التذكر حتى يؤمنوا ، ولما كان أولئك الأمر بعيدا عنهم طلب منهم الإيمان الإيمان بالغيب ، عكس المتأخرين طلب منهم التذكر واعمال العقل بالتدبر ، هل تلك الأحداث مما نبأ الله الناس عنها .
وتمعنوا لما كان تفاصيل الكتاب عن ذلك للناس كافة هدى ورحمة لهم في ذلك ، طلب منهم للتعميم التذكر ، أي حين يكون ذلك أن يتمعنوا ليقع منهم التذكر ، لكن لم يكن ذلك من الفريقين فأتى الرب عز وجل بتلك الكلمة (لعلهم ) لتشابه احوالهم ، وليبرهن ذلك على عظيم علم الله تعالى واحاطته بالغيب ، حتى أنه ما يورد كلمة إلا ولها دلالتها بمنتهى الاحاطة والعلم الرباني للغيب ، فسبحان الله العظيم ما أقدس صفاته وجلال قدرته .
ومثل ما توعد تعالى من يكتم البينات باللعن ، توعد كذلك من لا يتذكر حين تأتيه البينات بقوله :
وهنا معنى مجيئ البينات تحقق تأويلها ، وفي بني اسرائيل ولعنهم هناك معنى المجيئ الاخبار عنها ، لهذا نص على مجيئ الله تعالى بظلل الغمام حين تحقق التأويل .
ويفضحهم الله تعالى في قوله التالي عز وجل :
هنا يفضحهم تعالى بأنهم ادعياء كذبة وأنهم سبق وقتلوا نبيا أرسل الله تعالى له نارا من السماء لكن رغم ذلك قتلتم من كان له ذلك ، فقط لأنه لم يخف ذكر البينات ، هذا معنى الكلام هنا .
ولشديد كفرهم كفروا بالمسيح رغم ما أجرى تعالى على يديه الطاهرتين من آيات باهرات ومنها احياء الميت ، وثبت بالإنجيل الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام ، أنهم قبلوه وعظموه وعزموا يتبعوه بل ينصبوه ملكا عليهم ، لكن لما سأله رئيس الكهنة بمشهد من الجمهور عن مسيا من يكون وما اسمه المبارك ، ولما صرح ولم يكتم أنه في بني اسماعيل ورد عليهم أكاذيبهم دعواهم أن العهد والمخلص لن يكون إلا فيهم ببني إسحاق حينذاك انقلبت الأمور رأسا على عقب وتكالبوا على عداوته وطلب قتله ، ثم قص الله تعالى من ذلك ما شاء في القرآن ، وسبب كل تلك العداوة كما قال تعالى لعدم كتمانهم للبينات وقولهم بالعهد فيمن سيكون ، وهذه مشكلتهم الكبيرة مع الأنبياء ، لم يكونوا يقبلوا منهم النبوءات في بني إسماعيل ، حتى موسى عليه الصلاة والسلام على ذات الطريق معهم وكل من أتى بعده ، وما قصة العجل المعبود فيهم إلا مشاكسة وتمرد ، واعلان البينات التي الآن يتحقق تأويلها وتعين مكاناتها هي سبب كفر أولئك الملعونين ، يجب أن تدرك هذه الحقيقة وتفهم مسبقا قبل أن يتضح كل شيء لمن يريد النجاة والفوز بالآخرة .
ونعود مع اشعيا عليه الصلاة والسلام لكلام آخر له عن ذلك يربط بكل صراحة ما بين قول الصدق بالبينات وبين المهدي المخلص فيقول :
هاتوا دعواكم يقول الرب هلموا حججكم ليبدوا ويبينوا لنا الحوادث بينوا السالفات ما هي فنتأملها ونعلم منتهاها أوأسمعونا المستقبلات ، بينوا ما سيأتي فيما بعد فنعلم أنكم آلهة وافعلوا خيرا أو شرا فننظر جميعا ونرى .
ها إنكم من لا شيء وعملكم ليس بشيء ، إنما يختاركم ذو الرجس . قد أنهضته من الشمال فسيأتي ومن مشرق الشمس يدعو بإسمي ويطأ الولاة مثل الوحل وكالخزاف يدوس الطين .
من أخبر من الأول حتى نعلم ومن قبلُ حتى نقول هو صادق ، ولكن ليس من مخبر ولا مسمع ولا سامع لأقوالكم
أنا أخبركم بالمحدثات وأسمعكم بها قبل أن تنبت .
أنشدوا للرب نشيدا جديدا تسبيحةً لهُ من أقاصي الأرض يا هابطي البحر وياملأه ويا أيتها الجزائر وسكانها ، لتُشدِ البرية ومدنها والحظائر التي يسكنها قيدار وليرنم سكان الصخرة ــ تنبهوا للجبل هنا من بعد ما كان اسمه سالع صار هنا صخرة نكر وطمس اسمه ، بحسب نسخة اخرى لا أذكر الآن الكاثوليكية أو ارثوثكس ــ وليهتفوا من رؤوس الجبال ليؤدوا المجد لله ويخبروا بحمده في الجزائر ، الرب كجبار يبرز وكرجل قتال يثير غيرته ويهتف ويصرخ ويظفر على أعدائه .
طالما سكت وصمت وضبطت نفسي فالآن أصيح كالتي تلد وأنفخ وأزفر ، أخرب الجبال والتلال وأيبس كل عشبها وأجعل الانهار يبسا وأجفف الغدران ، وأسير العمي في طريق لم يعرفوه وأسلكهم مسالك لم يعهدوها وأجعل الظلمة نورا أمامهم والمتأودات مستقيمة ، هذه الأمور سأصنعها ولا أخذلهم ﴾
ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا : ﴿ فَتَتَرَنَّمُ الْجِبَالُ وَالتِّلاَلُ أَمَامَكُمْ بَهْجَةً وَتُصَفِّقُ أَشْجَارُ الْحَقْلِ بِأَيْدِيهَا غِبْطَةً ، وَحَيْثُ كَانَ الشَّوْكُ وَالْقُرَّاصُ ، تَنْمُو أَشْجَارُ السَّرْوِ وَالآسِ : فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْلِيداً لاسْمِ الرَّبِّ وَعَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تُمْحَى ﴾
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾
ويقول داود عليه الصلاة والسلام في الزبور :
وهكذا لا زال الأنبياء يعلنون عن ذلك ولا يكتمونه ويصرحون به أشكرة ولا يهابون في ذلك لومة لائم يبلغونه عن ربهم ، ولأعدائهم فنون من التحريفات والتلبيسات ليصرفوا الناس عن هذا الحق الذي أنزل وأراده الله تعالى خاتمة لأمور ونهاية للعواقب .
ومن أشرهم كفرة اليوم تواطأوا على طمس كل ذلك وتحريفه بأن لا يؤمنوا به ولا يذيعونه ومن تحدث عنه يسكتوه اما بحبس أو بدعوى أنه مجنون ، فهم أشر من اليهود من حيث ادراكهم لتأويل الذكر واعراضهم عنه غير مبالين ولا طامعين بتصديقه ، وهم اليوم من أظهر الخلق بكفرهم بحق بينات الله تعالى وآياته ولهم ضروب من التحريفات والتلبيسات لا يسع المكان هنا لبيانها والوقف عند تفاصيلها .
وفي توراة موسى صلى الله عليه وسلم التصريح الأكيد في تعيين ذلك الجبل ونسبته للعرب فقال هناك :
ومثل ما في التوراة في تعيين مكان هذا الجبل أنه في فاران أي أرض العرب ، نظيره قول حبقوق عليه الصلاة والسلام :
ويأتي اشعيا عليه الصلاة والسلام ليعينه بذلك أيضا ، فيقول :
فما بقي لأولئك الكذبة المحرفة من مصداقية ، إنهم لا زالوا حربا على الله تعالى وقضاء أمره هذا وما بلغ الأنبياء عن ربهم ، ولا يزيد كل نبي يبعث ويبلغهم إلا طغيانا وجحودا وكفرا حتى لعنهم الله عز وجل لعنات أبدية .
وقبل ذلك قال عليه الصلاة والسلام في التوراة : ﴿ وأشرق نوره من سعير ﴾ . يريد بالإشراق ظهور أمر المهدي وتحقق تأويل بعثه عليه الصلاة والسلام ، والإشراق هنا معني به المهدي بالعموم وبالخصوص نيران آبار البترول ابتداء تحقق تأويل أمره مصدر ذلك الدخان المبين . وقد صنف في بيان كونها المشارق المذكورة في سورة الصافات كتابا تم نشره تحت العنوان التالي : ( بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون ) .
ويريد بالإشراق أيضا بتلك النبوءة آية النور هالة الغيم فوق رأسه ، فقد أشرق له النور هناك بجانب ذلك الجبل ، والذي سميت به سورة من سور القرآن سورة النور قوله تعالى :
وفي كتاب ( من آيات صدق الدعوة المهدية ) بين وجه تحقق تلك الآية وكيف جرت تفاصيلها ، ومن عظمها زيادة على أن الله تعالى ذكرها في القرآن وسميت سورة منه بها .
وكان النبي زكريا صلى الله عليه وسلم رأى فيها رؤيا سيأتي في الفصل التالي تفاصيل في شرحها إن شاء الله تعالى .
ويقول على مثالهم النبي يوئيل عليه الصلاة والسلام :
ويقول النبي ميخا عليه الصلاة والسلام كذلك :
ويعين النبي هوشع عليه الصلاة والسلام أن ذلك كما حصل مع الخارجين من مصر فيقول :
﴿ الرَّبُّ يَبْنِي أُورُشَلِيمَ يَجْمَعُ المَنْفِيِّين يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ ، وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ ، الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ ، وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ .
لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْلِ لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ ، يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ ، بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ.
سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ ، سَبِّحِي إِلهَكِ لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِكِ بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ.
الَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَمًا ، وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ ، يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي الأَرْضِ سَرِيعًا جِدًا يُجْرِي قَوْلَهُ.
يُخْبِرُ عبده بِكَلِمَتِهِ وِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ ، لَمْ يَصْنَعْ هكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ ، وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا ﴾ " الزبور "
وهذا مراد الله تعالى عن مباركة ما حول المسجد الأقصى يكني عن ذلك بما يريد يعمله في المدينة المنورة مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبعباده الذين قدر لهم أن يرجعوا لها آخر الزمان ليباركهم وينصرهم على أعدائهم ويكونون مقدمة لعودة رسله من الأشهاد ، فتبارك الله ما أعظم تدبيره وقوة احاطته بالناس وعلمه الغيب .
مثل ما كان يكني عن ذلك أثناء دخوله صلى الله عليه وسلم للمدينة ، أترونه صلوات ربي وسلامه عليه المبارك لما زجرهم عن امساك خطام ناقته لم يكن مأمورا بمعنى جلل عظيم ، ويريد يرسل إشارة ذات معنى ودلالة ؟
لقد نهاهم وقال المبارك صلوات ربي وسلامه عليه : دعوها فإنها مأمورة !!
وسارت وسارت ، وأين بركت ؟!
بركت على أرض أيتام فقال صلوات ربي وسلامه عليه : هنا ابنوا المسجد !
لقد كانت تلك البقعة من الأرض أرض أيتام ، وكذلك ينجي الله تعالى أيتام آخر الزمان من لن يكون له واليا إلا مولانا تبارك وتعالى .
إن الأمة التائهة هذه لا تدرك أعمال الله عز وجل ولا تخطيطه ولا عظيم أفكاره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم اشعيا :
لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لأَفْكَارِكُمْ ، وَلاَ طُرُقَكُمْ مِثْلُ طُرُقِي ، يَقُولُ الرَّبُّ ، فَكَمَا ارْتَفَعَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ ، كَذَلِكَ ارْتَفَعَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ ، وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ .
وَكَمَا تَهْطِلُ الأَمْطَارُ وَيَنْهَمِرُ الثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى هُنَاكَ ، بَلْ تُرْوِي الْحُقُولَ وَالأَشْجَارَ ، وَتَجْعَلُ الْبُذُورَ تُنْبِتُ وَتَنْمُو وَتُثْمِرُ زَرْعاً لِلْفَلاَحِ وَخُبْزاً لِلْجِيَاعِ ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي مُثْمِرَةً دَائِماً ، وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا ﴾
دعوها فإنها مأمورة .
وهكذا هي مثال لتكون رجعة الأيتام آخر الزمان بقدرة الله تعالى وتدبيره وليس بقدرة وتدبير أي مخلوق سواه ولو المهدي نفسه ، بل كان أعمى بل ميتا فأحياه المبارك واشرق عليه بنوره ، ذلك اليتيم الذي لا والي له من دون المولى الجبار عالم الغيب والشهادة .
نعم ، ليكون دخول المسجد كما الأول ، إليه وحده تبارك وتعالى : ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ :
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ " سورة الحشر "
ها ، تريدون الإيمان حقا بالله وحده وادراك عظيم علمه بالغيب واحاطته بكل شيء ؟
هيا آمنوا بذلك واعلموه وأيقنوه وادركوه ، لتبرد قلوبكم باليقين وتفوزوا بالسعادة الأبدية .