﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ 
...
أقول : اعتقاد الناس في معنى هذه الآية يدل على مدى التباس أمر الله عز وجل هذا في الأمة وأثر التحريف الذي سرى لدينها فخلط عليها أمر الله تبارك وتعالى هذا من عدة أوجه لكن من بركات هذا الكتاب الجديد أنه يرد على شبه هذا الإلتباس مما سيزيح عنها ذلك كله إن شاء الله تعالى وينقضه بفضل ربنا عز وجل وفتحه عن دين الأمة دين الإسلام وملة خليل الرحمان عليه الصلاة والسلام .

وأبدأ فأقول في بيان التأويل الحق الصحيح لتلك الآية : أن لو ذهب القارئ لعهد اليهود القديم وطلب البحث عن هذه الجملة المركبة " الأرض المقدسة " فلن يجدها أبدا إلا في موضع أوحد وهو نبوءة لزكريا عليه الصلاة والسلام عن طيبة الخير والنور حين يورثها الله تعالى لعباده المؤمنين ، وبالنص الوارد في القرآن ( الأرض المقدسة ) :
 

﴿ تَرَنَّمِي وَافْرَحِي لأَنِّي هأَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ ، يَقُولُ الرَّبُّ. 
فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ، وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ ، فَتَعْلَمِينَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ .
وَالرَّبُّ يُرِثُه نَصِيبَهُ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَخْتَارُ طيبة بَعْدُ .
اُسْكُتُوا يَا كُلَّ الْبَشَرِ قُدَّامَ الرَّبِّ ، لأَنَّهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَسْكَنِ قُدْسِهِ 

وفي القرآن ليس إلا الآية التي وضعت عنوانا للفصل هنا ، ما يدل على أن المعني بتلك النبوءة وبنص تلك الآية من القرآن سواء .

طبعا مبنى تلك الكذبة التي بثت في هذه الأمة وسرت لدينها تفسيرا لتلك الآية نقلا عن أكاذيب اليهود ، ومبنى تلك الكذبة على دخول بني إسرائيل حين خروجهم من مصر أين كان ذلك الدخول ، والأصل الحق المقرر بدعوتنا المباركة أنه كان لجزيرة العرب وقد صرح بذلك في عهدهم القديم المقدس نفسه لكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يبالون من شدة تحريف اليهود وقد تولى كبر ذلك أعلاما منهم كانوا في الجزيرة مثل كعب وورقة بن نوفل وغيرهم ، فهؤلاء سواء من جهل وحسن نية أو من ضلال وسوء نية ، بثوا تلك الجهالات والأكاذيب بين المسلمين حتى سرى ذلك في دينهم ، ولثقتهم بهم تلقفوا ذلك عنهم وترسخت مع الزمان ولم تجد من ينقضها ويبطلها إلا حين بعث المهدي بإذن الله تعالى وهداه ، وقد حان الوقت الآن للإعلان عن ذلك بكل ثقة بأمر الله تعالى وهداه على ما سيتقرر بهذا الكتاب الجديد في مجد طيبة المباركة دار السلام .

وكيف لا يكون ذلك وهو التأويل الحق وتلك القداسة والبركة ستكون بطيبة الخير وعد الله الحق ، وهو ما يتعارض مع معتقد اليهود الباطل الكاذب ، وبضدها تتبين الأشياء .

فإما يقبل المطلع هنا الخلاص والبركة بأورشليم داود عبر نهر الأردن حسب معتقد محرفة اليهود ، أو أن الخلاص سيكون حتما بطيبة الخير والنور دار السلام لمقتضى كل تلك البراهين التي سطرت بهذا الكتاب ، وما لكم لا تؤمنون بهذا الحق والصدق وتدعون للجهلة والضلال مع اليهود ما اختاروه من أورشليم الكذب واللصوصية والغش ولحوم الكباش والتيوس والبقر المشوية وسائر أكاذيب القداسة هناك ، وأنتم ترون كل تلك البينات والبراهين على أن كل ذلك التأويل إنما يكون بالمدينة طيبة السلام والبركة والمجد ، ذكر الله تعالى ومواعيده على ألسنة سائر رسله ، وترون كل تلك الآيات في النصر والتأييد لما يقال ويقرر هنا من آيات كونية تابع وقعها واقترانها بما كتب هنا سائر الأتباع للدعوة : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ .

وللتقديم في تقرير هذه الحقيقة الشرعية ، سندرج لذلك من وجهين ، الوجه الأول : 

مقارنة أورشليم داود ما وراء النهر مع طيبة المقدسة . فأورشليم مدينة وثنية كانت حاربها النبي داود عليه الصلاة والسلام وحرمها بالسيف وحرق شجرها وهدم دورها واتخذها سكنا له : وَحَارَبَ بَنُو يَهُوذَا أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ ، وَأَشْعَلُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ ...

وَبَنُو بَنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا الْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ ، فَسَكَنَ الْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بَنْيَامِينَ فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هذَا الْيَوْمِاهـ. ( القضاة )

فمن أين تأتيها القداسة على هذا ؟!

أتتها من المسجد الذي بناه فيها ابن داود النبي سليمان عليهما الصلاة والسلام ، وبالغ يهود حتى جعلوا القداسة تسري على المدينة كلها ، وهي ما قرأتم في نشأتها وتأريخا ، كانت دار حرب وفتحت عنوة وهدمت دورها وحرق شجرها ، وابقي بعض أناسها خلافا للتوراة ، يعني بنيت على معصية لأن في الشريعة دار الحرب يباد أهلها ويحرمون ولا يبقى منهم أحد تحت السماء لكن هنا الذي حصل العكس .

وبالطبع لم يكن موسى هناك عليه الصلاة والسلام ولا تابوته وعصاه ولوحي العهد ولا التوراة ، ولم يأتيها التابوت وكل ذلك إلا بعد بناء المسجد على يدي سليمان من هناك جاءت القداسة لتلك المدينة وقبل ذلك لا ، وكذاب من قال بغير هذا كابن كثير غفر الله تعالى له ، حين تعدت على ألسنتهم قداسة المسجد للمدينة ومن ثم تعدت كذبا وزورا للأرض كلها وعلى ذلك جماهيرهم الضلال حتى قالوا كذبهم أن المقصود بالقداسة أرض أريحا وأريحا ملعونة بنص توراتهم التي يدعون .

وبعضهم قال : الأرض كلها هناك مقدسة وليس المدينة فقط ، لكن ابن كثير صرح في تفسيره بذلك وقال بأن قداستها من حيث سكن يعقوب عليه الصلاة والسلام فيها ، وهذا كذب وتزييف داخله من تحريف اليهود كما قلت على أولئك الكتبة .

فيعقوب سكناه المقدسة طيبة وعلى جبل أحد هو واخوانه الأنبياء وأبناءه منهم ، ولم تكن لهم قداسة وراء النهر إنما قداستهم قامت بالجزيرة العربية ببيت الله عز وجل وطيبة الخير والنور لاختيار الله تعالى ذلك .

لم تكن لهم أي قداسة وراء النهر اللهم إلا ما تقرر عن مسجد سليمان وقبله وبعد أن دمر لا قداسة إنما ذلك اعتقاد الجهال تلقفوا ذلك من محرفة اليهودية ، ولم تقيد القداسة بأي مكان إلا بتابوت العهد وقدس الأقداس الذي لا زال مع موسى بخيمة العهد وبداخله التابوت ، فكان يتنقل معهم أين ما ذهبوا ولم يقيد بمكان إنما تقييده بتلك الخيمة التي كان يحل عليها القدوس المبارك للأبد أين ما حلوا ولم تذكر تلك الخيمة من بعد موسى قط اختفى ذكرها من أسفارهم معه عليه الصلاة والسلام ، انقطعت عنهم بانقطاع التكليم مع موسى عليه الصلاة والسلام بعد ذهابه ، إنما بقي معهم تابوت العهد وما حوى بداخله لوحي العهد الوصية والتوراة والعصا ، وما حلت القداسة بالمسجد الذي بناه سليمان إلا بحلول تابوت العهد في وسطه ، وعليه أقول وهو الوجه الثاني كما سيمر معنا لاحقا من المدخل لتقرير هذا الحق العظيم في مقارنة أورشليم داود مع طيبة الله طيبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :


فكيف تقارن مدينة أو بلاد وأرض هكذا نشأتها وشأنها ، مع أرض ومدينة وجبل اختاره الله تعالى ليكون سكنا له ومحل نزوله لتحقيق القضاء العظيم ، وفيه عرض رؤوس الكفر والنفاق بالدنيا للحساب والفضح ، وحوله يجمع الله تعالى عباده وهناك تكون جنته لهم ، مثل ما تكون ناره لأعدائه .

مدينة وجبل اختارها تعالى لذلك التقديس من أول خلقه للكون ، وعرف عباده الرسل عليها ودعى لها حتى أن الحق في خروجه من مصر كان لها وهذا مقرر في تأريخهم وتوراتهم ، لكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يعلمون :
 

﴿ تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ الشَّعْبَ الَّذِي فَدَيْتَهُ تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ ...

تَقَعُ عَلَيْهِمِ الْهَيْبَةُ وَالرُّعْبُ بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَالْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ ، حَتَّى يَعْبُرَ الشَّعْبُ الَّذِي اقْتَنَيْتَهُ.
تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ.
الرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ 

وبمثل هذا اثبتوا على لسان نبيه داود في الزبور قوله :
 

﴿ وَسَاقَ مِثْلَ الْغَنَمِ شَعْبَهُ ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي الْبَرِّيَّةِ ، وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ الْبَحْرُ .وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ ، هذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ . 

وَطَرَدَ الأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِالْحَبْلِ مِيرَاثًا ، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ 


ومن هنا جاءت القداسة للمدينة ولها نسبت الأرض المقدسة ، وهذا مثل ما أنه يعين الأرض التي خرج لها بنو إسرائيل على يدي الله عز وجل التي دمرت فرعون وجيشه ، وهي الجزيرة ، كذلك تم تعيين الأرض المقدسة أين هي وتلك المدينة المقدسة وجبلها أين يكونان ، لا كما زعم بتحريف اليهود وأكاذيبهم التي انطلت على الأمة وعلماء التفسير فيها ، كقول ابن كثير المشار له قبل وهذا نصه :

﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ . قال : ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَحْرِيض مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام لِبَنِي إِسْرَائِيل عَلَى الْجِهَاد وَالدُّخُول إِلَى بَيْت الْمَقْدِس الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زَمَان أَبِيهِمْ يَعْقُوب لَمَّا اِرْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْله إِلَى بِلاد مِصْر أَيَّام يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى خَرَجُوا زَمَان مُوسَى فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْمًا مِنْ الْعَمَالِقَة الْجَبَّارِينَ قَدْ اِسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا وَتَمَلَّكُوهَا فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّه - مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام - بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا وَبِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ وَبَشَّرَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالظَّفَر عَلَيْهِمْ فَنَكَلُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا أَمْرَهُ فَعُوقِبُوا بِالذَّهَابِ فِي التِّيه وَالتَّمَادِي فِي سَيْرهمْ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ كَيْف يَتَوَجَّهُونَ إِلَى مَقْصِدٍ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَة لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْر اللَّه تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ : " يَا قَوْم اُدْخُلُوا الأَرْض الْمُقَدَّسَة " أَيْ الْمُطَهَّرَة وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : عَنْ الأَعْمَش عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " اُدْخُلُوا الأَرْض الْمُقَدَّسَة " قَالَ هِيَ الطُّور وَمَا حَوْله وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَغَيْر وَاحِد وَرَوَى سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي سَعْد الْبَقَّال عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : هِيَ أَرِيحَاء وَكَذَا ذُكِرَ عَنْ غَيْر وَاحِد مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَفِي هَذَا نَظَر لأَنَّ أَرِيحَاء لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَة بِالْفَتْحِ وَلا كَانَتْ فِي طَرِيقهمْ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَقَدْ قَدِمُوا مِنْ بِلاد مِصْر حِين أَهْلَكَ اللَّه عَدُوَّهُمْ فِرْعَوْن اللَّهُمَّ إِلا أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِأَرِيحَاء أَرْض بَيْت الْمَقْدِس كَمَا قَالَهُ السُّدِّيّ فِيمَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْهُ : لا أَنَّ الْمُرَاد بِهَا هَذِهِ الْبَلْدَة الْمَعْرُوفَة فِي طَرَف الطُّور شَرْقِيّ بَيْت الْمَقْدِس وَقَوْله تَعَالَى : " الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ " أَيْ الَّتِي وَعَدَكُمُوهَا اللَّهُ عَلَى لِسَان أَبِيكُمْ إِسْرَائِيل أَنَّهُ وِرَاثَة مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ " وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَاركُمْ " أَيْ وَلا تَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَاد" فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ " اهـ .

أقول : هذا الكلام على قلته محشو بالأكاذيب والتقولات على غيب الله تعالى ما يؤلم القلب جدا ، لكن العزاء في تعهد الله تعالى بحفظ ذكره ومواعيده مهما كثر الوراقون وزيفوا وتقولوا بجهل وسوء قصد ، أو بجهل مع حسن قصد .

ولنقض هذا الكلام الباطل وتلك التعيينات الكاذبة على غيب الله تعالى وذكره وآيات بيناته ، سأنقل الكلام التالي من نص أوصوا يحفظونه مع التوارة بالتابوت شهادة عليهم ليوم الآخرة ومما ورد فيه ويهم ذكره هنا أمران :

الأول : في تعيين جهنم التي اثبت في ذكرها تعيين مكانها ما بين مكة والمدينة ، وهذه الأرض هي محور تحقق تأويل أمره تعالى العظيم ليدرك الجاهل أين هي الأرض التي تقدست والتي يعنيها تعالى بتلك الآية محل السؤال ، فقال عن حلول غضبه على اليهود وهو مما توعدهم به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبرهم عن افسادهم الثاني وحلول القضاء على رؤوسهم الثاني فقال :
 

﴿ أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ ، وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ . إِنَّهُمْ جِيلٌ مُتَقَلِّبٌ، أَوْلاَدٌ لاَ أَمَانَةَ فِيهِمْ. 

هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهًا ، أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ . فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْبًا ، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ.

إِنَّهُ قَدِ اشْتَعَلَتْ نَارٌ بِغَضَبِي فَتَتَّقِدُ إِلَى الْهَاوِيَةِ السُّفْلَى ، وَتَأْكُلُ الأَرْضَ وَغَلَّتَهَا ، وَتُحْرِقُ أُسُسَ الْجِبَالِ .

أجمَعُ عَلَيْهِمْ شُرُورًا ، وَأُنْفِدُ سِهَامِي فِيهِمْ ... إِنَّهُمْ أُمَّةٌ عَدِيمَةُ الرَّأْيِ وَلاَ بَصِيرَةَ فِيهِمْ ، لَوْ عَقَلُوا لَفَطِنُوا بِهذِهِ وَتَأَمَّلُوا آخِرَتَهُمْ . 

لِيَ النَّقْمَةُ وَالْجَزَاءُ. فِي وَقْتٍ تَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ إِنَّ يَوْمَ هَلاَكِهِمْ قَرِيبٌ وَالْمُهَيَّآتُ لَهُمْ مُسْرِعَةٌ ، لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ حِينَ يَرَى أَنَّ الْيَدَ قَدْ مَضَتْ ، وَلَمْ يَبْقَ مَحْجُوزٌ وَلاَ مُطْلَقٌ .

اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي. سَحَقْتُ ، وَإِنِّي أَشْفِي، وَلَيْسَ مِنْ يَدِي مُخَلِّصٌ.

إِنِّي أَرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ يَدِي وَأَقُولُ: حَيٌّ أَنَا إِلَى الأَبَدِ ، إِذَا سَنَنْتُ سَيْفِي الْبَارِقَ ، وَأَمْسَكَتْ بِالْقَضَاءِ يَدِي ، أَرُدُّ نَقْمَةً عَلَى أَضْدَادِي ، وَأُجَازِي مُبْغِضِيَّ.

أُسْكِرُ سِهَامِي بِدَمٍ ، وَيَأْكُلُ سَيْفِي لَحْمًا بِدَمِ الْقَتْلَى وَالسَّبَايَا ، وَمِنْ رُؤُوسِ قُوَّادِ الْعَدُوِّ *.

تَهَلَّلُوا أَيُّهَا الأُمَمُ، شَعْبُهُ ، لأَنَّهُ يَنْتَقِمُ بِدَمِ عَبِيدِهِ ، وَيَرُدُّ نَقْمَةً عَلَى أَضْدَادِهِ ، وَيَصْفَحُ عَنْ أَرْضِهِ عَنْ شَعْبِهِ 

هنا يعين لعقوبته ظهور نار جهنم ويثبت بخبره هذا في التوراة ووعيده لبني إسراعيل أن تلك النار متصلة بالهاوية من تحت السفلى وهذا الوصف صريح بأن تلك النار هي جهنم وأن وقت خروجها حين نزول نقمته تعالى عليهم ، وقد تم لكم تعيين مكانها بفضله وهداه حتى ما أن يعلن فصله بين الناس ، فعباده سيكونون قد عرفوا شأنها وسبق له أن أبان لهم عن حقيقتها .

وقوله : بحجب وجهه عنهم ، لأنه فعل حقا وسيعود يظهره لأمته المرحومة آخر الزمان وشعبه المقدس ، على ما فصل في هذا الكتاب في بيان مجد طيبة المقدسة دار السلام على أتم وجه ولله الحمد .

والثاني : ذكره أين سكن يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو الوجه الثاني من تقريري الكلام السابق بالمقارنة ما بين أورشليم داود وطيبة السلام والنور والبركات ، فأقول :

في تعيين سكن يعقوب عليه الصلاة والسلام وأين بارك له وهو ما صرح به في هذا السفر من التوراة ، وقد علمتم في الفصل الخامس أين كانت البركة وسبق هناك ذكر براهين ذلك التعيين ، وهنا سنرجع لذلك بالقول التالي من سفر موسى عليه الصلاة والسلام والذي سطر فيه تفاصيل نزول القضاء الأخير على بني إسرائيل ونسب كل ذلك لآخرتهم وأنهم حمقى لما لم يتأملوا بهذا الوعيد وما سيجري من تلك التفاصيل في أوقاتها ثم هم لا ينتبهوا لذلك ولا يدركوا حقيقة التأويل بأن له ابتداء يقع فيه ثم تتابع الشرور عليهم التي جمعها تعالى لهم وادخرها لهم في علم الغيب .

فقال قبل الكلام المنقول سابقا ما يلي في تعيين سكن يعقوب عليه الصلاة والسلام وكيف حلت عليه البركة من الله تعالى هناك :
 

﴿ اِنْصِتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلَّمَ ، وَلْتَسْمَعِ الأَرْضُ أَقْوَالَ فَمِي ، يَهْطِلُ كَالْمَطَرِ تَعْلِيمِي ، وَيَقْطُرُ كَالنَّدَى كَلاَمِي كَالطَّلِّ عَلَى الْكَلاءِ ، وَكَالْوَابِلِ عَلَى الْعُشْبِ .

إِنِّي بِاسْمِ الرَّبِّ أُنَادِي أَعْطُوا عَظَمَةً لإِلهِنَا ، هُوَ الصَّخْرُ الْكَامِلُ صَنِيعُهُ إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ إِلهُ أَمَانَةٍ لاَ جَوْرَ فِيهِ صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ .

ألْرَّبَّ تُكَافِئُونَ بِهذَا يَا شَعْبًا غَبِيًّا غَيْرَ حَكِيمٍ ؟ أَلَيْسَ هُوَ َمُقْتَنِيَكَ هُوَ عَمِلَكَ وَأَنْشَأَكَ ، اُذْكُرْ أَيَّامَ الْقِدَمِ ، وَتَأَمَّلُوا سِنِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ . اِسْأَلْ أَبَاكَ فَيُخْبِرَكَ ، وَشُيُوخَكَ فَيَقُولُوا لَكَ ، حِينَ قَسَمَ الْعَلِيُّ لِلأُمَمِ ، حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ ، نَصَبَ تُخُومًا لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ .

إِنَّ قِسْمَ الرَّبِّ هُوَ شَعْبُهُ يَعْقُوبُ حَبْلُ نَصِيبِهِ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ قَفْرٍ ، وَفِي خَلاَءٍ مُسْتَوْحِشٍ خَرِبٍ . أَحَاطَ بِهِ وَلاَحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ .

كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ ، هكَذَا الرَّبُّ وَحْدَهُ اقْتَادَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ أَجْنَبِيٌّ .

أَرْكَبَهُ عَلَى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ فَأَكَلَ ثِمَارَ الصَّحْرَاءِ ، وَأَرْضَعَهُ عَسَلاً مِنْ حَجَرٍ ، وَزَيْتًا مِنْ صَوَّانِ الصَّخْرِ ، وَزُبْدَةَ بَقَرٍ وَلَبَنَ غَنَمٍ ، مَعَ شَحْمِ خِرَافٍ وَكِبَاشٍ أَوْلاَدِ بَاشَانَ ، وَتُيُوسٍ مَعَ دَسَمِ لُبِّ الْحِنْطَةِ ، وَدَمَ الْعِنَبِ شَرِبْتَهُ خَمْرًا 


مرتفعات الأرض يريد جبل أحد واسمه عندهم باشان ، وفي الزبور في ذكر المهدي قال هناك ما سبق وذكر في الفصل الثالث ، قال هناك :
 

﴿ إني رافعٌ عيني إلى الجبال إلى حيث تأتي مِنـهُ نُصرتي ، نصرتي من عند الرب صانع السماوات والأرض 

﴿ الإِلهُ الَّذِي يُعَزِّزُنِي بِالْقُوَّةِ ، وَيُصَيِّرُ طَرِيقِي كَامِلاً ، الَّذِي يَجْعَلُ رِجْلَيَّ كَالإِيَّلِ ، وَعَلَى مُرْتَفَعَاتِي يُقِيمُنِي 


فهنا الجبل المقصود سكنه يعقوب عليه الصلاة والسلام وبورك له هناك البركة الموعودة بها الجزيرة فتعود لها كما كانت ، كما كانت في زمان آدم وابراهيم ويعقوب وداود وسليمان ، فتلك الأرض التي كان وعدههم بها قبل ما يخرجون من مصر تفيض لبنا وعسلا ، لو أطاعوا واستجابوا لكنهم عصوا وتكبروا عليه وعلى أمر الله تعالى ذاك .

هناك أسكن تعالى يعقوب قديما وفاء لما وعد جده من قبل أن يورث ذريته كل تلك الأراضي ويبارك لهم ، وكذب ابن كثير وكذبت كل أمته من هم على هذا الإعتقاد الباطل المخالف حتى نقلوا الأرض المباركة والمقدسة لغير مكانها جهلا منهم وضلالا والعياذ بالله ، وجرأة وتقولا على غيب الله تعالى ووعده .

وما علم أولئك الذين ضلوا عن ذكر الله تعالى وعظيم بيناته ، أن الأساس بوعد الله تعالى لخليله ابراهيم ولذريته انطلق من الجزيرة العربية وها هو يستودع الله ابنه اسماعيل البكر في قلب الجزيرة حتى بنى البيت هو وابنه هناك اعلانا لانطلاق التوريث واعلانا بتعيين قداسته فتبارك الله عالم الغيب والشهادة الذي تعهد بحفظ ذكره ولو ضل من ضل عنه ، ولو حرف الشيطان ما حرف بمن حرف ، فقد تعهد بحفظ ذلك واتمام تحقق تأويله ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون ، ولو حرف من حرف عن قصد وعن غير قصد ، فلله المجد وكامل الإحاطة بكافة البشر والشياطين والجن .

واقرأوا بربكم العظيم واتقوا الله تعالى ببينات ذكره وآياته المجيدة العظيمة ، لهذا النبي الزكي حزقيال عليه الصلاة والسلام ماذا قال حين يتحقق وعد الله تعالى ويجمع عباده أين يجمعهم ؟

إلى أي أرض مقدسة يرجع بهم ؟ ، قال :
 

﴿ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُ:عِنْدَمَا أَجْمَعُ عبادي مِنَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ ، وَأَتَقَدَّسُ فِيهِمْ أَمَامَ عُيُونِ الأُمَمِ ، يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا لِعَبْدِي يَعْقُوبَ 


هذه الأرض يا ابن كثير يا من عميت بصيرته وتاهت مخيلته فاتبع تحريف اليهود فكان من الكاذبين على غيب الله تعالى ورسله ، حين حصر التوريث لما وراء النهر دون الجزيرة مخالفا كتاب ربنا تعالى وما قرر فيه : ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ ، وقد سبق في الفصل الخامس التعليق على دلالة هذه الآية بما يكذب قول ابن كثير ذاك المنخدع بتزييف اليهود حتى ما يعلم ولا يؤمن إلا بمدينة ليعقوب عليه الصلاة والسلام فيما وراء نهر الأردن ، وكأن الله تعالى لم يعد خليله أن يورث ذريته أرض الجزيرة العربية ، كيف والبيت الحرام فيها وابنه وضع هناك ، أليس ذلك فتحا لباب الوعد بالتوريث ؟

والذي هو ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

فهذا هو الوعد وحين يجيبها تعالى تلك الدعوة تتحقق البركة ويكثر الله لهم في الثمرات كما في قوله عز وجل : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . يريد بالبلد الميت جزيرة العرب حين يتحقق الوعد وتحل البركات كما كانت .


وفي الزبور :


﴿ أَسَاسُهُ فِي الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ
الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَها أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ !!
قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ اللهِ 

أقول : تيقنوا بأن من قال لكم عن الأرض المقدسة وتعيينها بغير ما تقرر لكم هنا فأعلموا أنه كاذب مفتري على ذكر الله تعالى وعظيم آيات بيناته .

و لا يسعني الخروج من هنا وأنا لم أعلق ولو على سبيل الإيجاز على باقي أوهام ابن كثير في تفسيره ، ومنها قوله : وَالدُّخُول إِلَى بَيْت الْمَقْدِس الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زَمَان أَبِيهِمْ يَعْقُوب لَمَّا اِرْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْله إِلَى بِلاد مِصْر أَيَّام يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام اهـ .

أقول : هذا كذب وتقول على تلك التواريخ الغابرة ومن هنا أتت جهالته بحصر التوريث والوعد به لما وراء نهر الأردن ، ولم يكن لأورشليم أي تعيين ولا شأن في زمان يعقوب ولا تعرف أين هي ولم يكن لها اسم تعين به وتعرف به في ذلك الوقت ، فضلا عن اسمها في زمان داود عليه الصلاة والسلام أورشليم ، ولا يثبت قط ذكر سكن يعقوب اورشليم في زمانه عليه الصلاة والسلام ، وهذا تأريخهم مثبت يستطيع مراجعته أي أحد فليس فيه ذكرا لما قاله ابن كثير ، فذلك وهم من كيسه ليعبئ كتابه على كتاب الله عز وجل ، فيشوش على حقيقة سيرة أولئك الأنبياء ومواعيد الله تعالى ، حتى نقل وعده لذرية خليله ابراهيم من قلب الجزيرة العربية من مشارقها لمغاربها بتلك الأكاذيب لتكون عبر نهر الأردن ، العمي لا يرون أنه لم يذكرها تعالى قط بخبر توريثهم للأرض ، لقلة شأن ذلك مع توريثهم حقا لقلب جزيرة العرب بما فيها المقدستان مكة والمدينة . 

ومثل ابن كثير تنطلي عليه أكاذيب اليهود حقا لهذا هو يقول بما بثه بكتابه التفسير ، وهو يجهل غور تلك التحريفات والتبديلات وأصولها بل لا يعلمها بتاتا ، مثل زعم كاتبهم الشيطاني عبثا بالنبوءات بعهدهم القديم المزعوم ما يلي :
 

وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ ، هذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ ، وَطَرَدَ الأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِالْحَبْلِ مِيرَاثًا ، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ فَجَرَّبُوا وَعَصَوْا اللهَ الْعَلِيَّ ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا بَلِ ارْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ انْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ أَغَاظُوهُ ِمُرْتَفَعَاتِهِمْ ، وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ سَمِعَ اللهُ فَغَضِبَ ، وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدًّا ، وَرَفَضَ مَسْكِنَ شِيلُوِ، الْخَيْمَةَ الَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ ، وَجَلاَلَهُ لِيَدِ الْعَدُوِّ وَدَفَعَ إِلَى السَّيْفِ شَعْبَهُ ، وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ النَّارُ ، وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِالسَّيْفِ ، وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى الْوَرَاءِ جَعَلَهُمْ عَارًا أَبَدِيًّا ، وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ ، وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا ، جَبَلَ صِهْيَوْنَ الَّذِي أَحَبَّهُ ، وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ ، كَالأَرْضِ الَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى الأَبَدِ وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ ، لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ "


هنا الأصل الذي ترجع إليه أوهام ابن كثير أمثاله ممن خدعوا وانطلت عليهم تحريفات وتبديلات شيطان العهد القديم ، فسبط يوسف المرفوض هم من اورث المدينة وجبل أحد المقدس وما حولها من يهود ، فنقلت خيمة القداسة من تخوم قدسه وذاك الجبل في زعم الكاتب الشيطاني لما وراء نهر الأردن لسبط يهوذا هناك ولجبل صهيون وبنى حسب كذب ذلك الكاتب الشيطاني هناك مثل مرتفعات مقدسه كالأرض قال التي أسسها إلى الأبد ، وهناك اختار داود ليرعي يعقوب مجددا ، أكاذيب مبناها على الباطل والأفتراء والعصبية والحقد والعنصرية ، ضد كل شيء يرجع لبني إسماعيل وللعهد في ذريته ، وعلى وفق هذا التأصيل والتحريف كان ما تفوه به ابن كثير من أكاذيب ثبتها في تفسيره من غير شعور منه ، بل بسبب جهله بمتاهات كاتب عهدهم القديم الشيطاني سرت تلك عليه وعلى أمثاله رحمه الله تعالى وغفر له .

والقول الحق بنقض القداسة معهم والأصطفاء ما قاله الأنبياء فيهم من موسى عليه الصلاة والسلام لإشعيا وعيسى صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين على ما تقرر معنا في الفصل السابق ويلحق به تفصيلي هنا في هذا الخصوص ، وملاك ذلك كله قضاء الله تعالى عليهم بالمرتين الأولى على لسان موسى الكليم وأوكد لهم على لسان سليمان النبي صلى الله عليه وسلم باني هيكلهم ومسجدهم ، والقضاء الأخير بحسب ما تقررت تفاصيله على لسان موسى الكليم صلوات ربي وسلامه عليه وقد ذكرته قريبا قوله : 
 

﴿ أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ ، وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ إِنَّهُمْ جِيلٌ مُتَقَلِّبٌ ، أَوْلاَدٌ لاَ أَمَانَةَ فِيهِمْ 


ويصدقه قول النبي دانيال صلى الله عليه وسلم التالي :
 

﴿ وَصَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِي وَاعْتَرَفْتُ وَقُلْتُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْعَظِيمُ الْمَهُوبُ، حَافِظَ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ ، أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ ، وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ ، وَمَا سَمِعْنَا مِنْ عَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بِاسْمِكَ كَلَّمُوا مُلُوكَنَا وَرُؤَسَاءَنَا وَآبَاءَنَا وَكُلَّ شَعْبِ الأَرْض ، لَكَ يَا سَيِّدُ الْبِرُّ ، أَمَّا لَنَا فَخِزْيُ الْوُجُوهِ ، كَمَا هُوَ الْيَوْمَ لِرِجَالِ يَهُوذَا وَلِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ ، وَلِكُلِّ إِسْرَائِيلَ الْقَرِيبِينَ وَالْبَعِيدِينَ فِي كُلِّ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتَهُمْ إِلَيْهَا ، مِنْ أَجْلِ خِيَانَتِهِمِ الَّتِي خَانُوكَ إِيَّاهَا. 

يَا سَيِّدُ، لَنَا خِزْيُ الْوُجُوهِ ، لِمُلُوكِنَا ، لِرُؤَسَائِنَا وَلآبَائِنَا لأَنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ لِلرَّبِّ إِلهِنَا الْمَرَاحِمُ وَالْمَغْفِرَةُ ، لأَنَّنَا تَمَرَّدْنَا عَلَيْهِ ، وَمَا سَمِعْنَا صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِنَا لِنَسْلُكَ فِي شَرَائِعِهِ الَّتِي جَعَلَهَا أَمَامَنَا عَنْ يَدِ عَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ ، وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَعَدَّى عَلَى شَرِيعَتِكَ وَحَادُوا لِئَلاَّ يَسْمَعُوا صَوْتَكَ ، فَسَكَبْتَ عَلَيْنَا اللَّعْنَةَ وَالْحَلْفَ الْمَكْتُوبَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَبْدِ اللهِ ، لأَنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ .

وَقَدْ أَقَامَ كَلِمَاتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْنَا وَعَلَى قُضَاتِنَا الَّذِينَ قَضَوْا لَنَا ، لِيَجْلِبَ عَلَيْنَا شَرًّا عَظِيمًا ، مَا لَمْ يُجْرَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا كَمَا أُجْرِيَ عَلَى أُورُشَلِيمَ كَمَا كُتِبَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى ، قَدْ جَاءَ عَلَيْنَا كُلُّ هذَا الشَّرِّ ، وَلَمْ نَتَضَرَّعْ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ إِلهِنَا لِنَرْجعَ مِنْ آثَامِنَا وَنَفْطِنَ بِحَقِّكَ ، فَسَهِرَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ وَجَلَبَهُ عَلَيْنَا ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا بَارٌّ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا إِذْ لَمْ نَسْمَعْ صَوْتَهُ . وَالآنَ أَيُّهَا السَّيِّدُ إِلهُنَا ، الَّذِي أَخْرَجْتَ شَعْبَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ، وَجَعَلْتَ لِنَفْسِكَ اسْمًا كَمَا هُوَ هذَا الْيَوْمَ ، قَدْ أَخْطَأْنَا ، عَمِلْنَا شَرًّا.

يَا سَيِّدُ، حَسَبَ كُلِّ رَحْمَتِكَ اصْرِفْ سَخَطَكَ وَغَضَبَكَ عَنْ مَدِينَتِكَ أُورُشَلِيمَ جَبَلِ قُدْسِكَ ، إِذْ لِخَطَايَانَا وَلآثَامِ آبَائِنَا صَارَتْ أُورُشَلِيمُ وَشَعْبُكَ عَارًا عِنْدَ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوْلَنَا . فَاسْمَعِ الآنَ يَا إِلهَنَا صَلاَةَ عَبْدِكَ وَتَضَرُّعَاتِهِ ، وَأَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى مَقْدِسِكَ الْخَرِبِ مِنْ أَجْلِ السَّيِّدِ . أَمِلْ أُذُنَكَ يَا إِلهِي وَاسْمَعْ. اِفْتَحْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ خِرَبَنَا وَالْمَدِينَةَ الَّتِي دُعِيَ اسْمُكَ عَلَيْهَا ، لأَنَّهُ لاَ لأَجْلِ بِرِّنَا نَطْرَحُ تَضَرُّعَاتِنَا أَمَامَ وَجْهِكَ ، بَلْ لأَجْلِ مَرَاحِمِكَ الْعَظِيمَةِ . يَا سَيِّدُ اسْمَعْ. يَا سَيِّدُ اغْفِرْ. يَا سَيِّدُ أَصْغِ وَاصْنَعْ. لاَ تُؤَخِّرْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِكَ يَا إِلهِي ، لأَنَّ اسْمَكَ دُعِيَ عَلَى مَدِينَتِكَ وَعَلَى شَعْبِكَ.

وَبَيْنَمَا أَنَا أَتَكَلَّمُ وَأُصَلِّي وَأَعْتَرِفُ بِخَطِيَّتِي وَخَطِيَّةِ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ ، وَأَطْرَحُ تَضَرُّعِي أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِي عَنْ جَبَلِ قُدْسِ إِلهِي ، وَأَنَا مُتَكَلِّمٌ بَعْدُ بِالصَّلاَةِ ، إِذَا بِالرَّجُلِ جِبْرَائِيلَ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الرُّؤْيَا فِي الابْتِدَاءِ مُطَارًا وَاغِفًا لَمَسَنِي عِنْدَ وَقْتِ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ . 

وَفَهَّمَنِي وَتَكَلَّمَ مَعِي وَقَالَ: « يَا دَانِيآلُ ، إِنِّي خَرَجْتُ الآنَ لأُعَلِّمَكَ الْفَهْمَ. فِي ابْتِدَاءِ تَضَرُّعَاتِكَ خَرَجَ الأَمْرُ ، وَأَنَا جِئْتُ لأُخْبِرَكَ لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ . فَتَأَمَّلِ الْكَلاَمَ وَافْهَمِ الرُّؤْيَا . سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا ، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ .


فهذه شهادات الحق فيهم لا الأكاذيب التي قررها في تفسيره ابن كثير وأمثاله ، فلا قدس لهم هناك بعد ما قضى عليهم الله عز وجل بما كتب على لسان موسى من قضاء إلى آخرتهم ، حجب وجهه عنهم وانتهى أمرهم بحلول تلك اللعنات عليهم وهدم مدينتهم ، فلا قداسة إلى الختم بالنبوءة والرؤيا ومسح قدوس القدوسين والإتيان بالبر الأبدي ، والمراد به المهدي هنا فبه تختم الرؤيا والنبوة ، ومن قال بغير هذا فهو كاذب شيطاني أو مخدوع جاهل بأمرهم ولا يدري عن كتبهم وما دون فيها وإن اطلع على ذلك احتاج لتوفيق الله عز وجل وتبصيره ليتجاوز كل تلك التحريفات والتبديلات من ذلك الكاتب الناسخ الشيطاني .

وانتبهوا هنا إلى حقيقة أنهم لما فطنوا لذلك القضاء على لسان موسى أنه حل بهم فعلا واعترفت به الأنبياء حتى بفترة السبي كدانيال هنا وحزقيال هناك وزكريا بعد والمسيح عليهم الصلاة والسلام ، وكان أكد عليه النبي سليمان نفسه عليه الصلاة والسلام باني ذلك المسجد المقدس فيهم وإليكم نص كلامه ولو أني سبق ونقلته لكن أقرره هنا ليترابط بالدلالة مع كلام موسى قبل ودانيال بعد وما سأنقله عن زكريا لاحقا فقال عليه الصلاة والسلام مؤكدا على قضاء الله تعالى عليهم من قديم على لسان النبي موسى صلى الله عليه وسلم :
 

﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَنْقَلِبُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَبْنَاؤُكُمْ مِنْ وَرَائِي ، وَلاَ تَحْفَظُونَ وَصَايَايَ ، فَرَائِضِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَكُمْ ، بَلْ تَذْهَبُونَ وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى وَتَسْجُدُونَ لَهَا ، فَإِنِّي أَقْطَعُ إِسْرَائِيلَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ، وَالْبَيْتُ الَّذِي قَدَّسْتُهُ لاسْمِي أَنْفِيهِ مِنْ أَمَامِي ، وَيَكُونُ إِسْرَائِيلُ مَثَلاً وَهُزْأَةً فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ ، 
وَهذَا الْبَيْتُ يَكُونُ عِبْرَةً . كُلُّ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَتَعَجَّبُ وَيَصْفُرُ ، وَيَقُولُونَ : لِمَاذَا عَمِلَ الرَّبُّ هكَذَا لِهذِهِ الأَرْضِ وَلِهذَا الْبَيْتِ؟

فَيَقُولُونَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَهُمُ الَّذِي أَخْرَجَ آبَاءَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ ، وَتَمَسَّكُوا بِآلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا وَعَبَدُوهَا ، لِذلِكَ جَلَبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ هذَا الشَّرِّ 


ولما أيقنوا ذلك بدأ التحريف ومن هناك انطلقت بدعتهم الكبرى في دعوى الخلاص الكاذب واعادة بناء الهيكل والمسجد ، الخلاص الذي أتى بهم من المغرب للمشرق لا كما قال النبي باروك من المشرق للمغرب ، ودبجت الأسفار وختمت بالتحريف النهائي على أن الخلاص في بني اسحاق لا بني إسماعيل ونقض العهد بذلك التحريف والميثاق ، وزعم لما وراء النهر كما مر معنا انشاء خيمة بديلة وجبل مقدس بديل ، وكل ذلك أكاذيب باكاذيب ، واقتنعوا بما قاله النبي زكريا عليه الصلاة والسلام في خراب الأرض المقدسة بحق ومحق تلك البركة لما نقضوا العهد والميثاق فيما بعد ورفضوا ميثاق الله عز وجل نهائيا بأنه كائن قدرا من الله عز وجل في بني إسماعيل كما كان نظيره من قبل في بني إسحاق من باب عدله وميزانه الحق ، فانظروا ماذا قال النبي زكريا في ذلك مثل ما أقر دانيال ومن قبلهم ارميا عليه الصلاة والسلام بالخراب الأبدي على رؤوسهم وأن لا خلاص لهم إلى النهاية وسيكون في غيرهم وليس فيهم على ما تقرر جوابا على توسلات النبي دانيال ، وأن ذلك المسجد الذي بناه النبي سليمان سيكون عبرة بما سيحل به .
 

﴿ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ : اقْضُوا قَضَاءَ الْحَقِّ ، وَاعْمَلُوا إِحْسَانًا وَرَحْمَةً ، كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ ... فَأَبَوْا أَنْ يُصْغُوا وَأَعْطَوْا كَتِفًا مُعَانِدَةً ، وَثَقَّلُوا آذَانَهُمْ عَنِ السَّمْعِ. 
بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاسًا لِئَلاَّ يَسْمَعُوا الشَّرِيعَةَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ الْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ فَجَاءَ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ. فَكَانَ كَمَا نَادَى هُوَ فَلَمْ يَسْمَعُوا ، كَذلِكَ يُنَادُونَ هُمْ فَلاَ أَسْمَعُ ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.
وَأَعْصِفُهُمْ إِلَى كُلِّ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ. فَخَرِبَتِ الأَرْضُ وَرَاءَهُمْ ، لاَ ذَاهِبَ وَلاَ آئِبَ . فَجَعَلُوا الأَرْضَ الْبَهِجَةَ خَرَابًا 


لقد عموا باسخاطهم الرب عز وجل بما نقضوا ميثاق الله تعالى وعهدهم معه ، عموا على تلك الأرض البهجة المباركة وهي طيبة أرض الخير والبر والسلام ، محقوا بركتها فكان هناك انقلاب ولا ذاهب لها كما في عهد سليمان عليه الصلاة والسلام ولا آيب لها ، فصارت تلك البهجة خرابا بسبب اللعنة التي حلت عليهم لعصيانهم وصايا الرب عز وجل .

وقول ابن كثير بالكذبة الأخرى : فَعُوقِبُوا بِالذَّهَابِ فِي التِّيه وَالتَّمَادِي فِي سَيْرهمْ حَائِرِينَ لا يَدْرُونَ كَيْف يَتَوَجَّهُونَ إِلَى مَقْصِدٍ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَة لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْر اللَّه تَعَالَى اهـ .

وهذه كذبة أخرى بل حقها في الوصف أنها خرافة العميان ، فلم يكن هناك تيه بل تجوال وجهاد في طول وعرض الجزيرة العربية تلك البرية تحقيقا لما وعد تعالى بتمليك الأراضي لذرية ابراهيم الخليل من بني إسحاق وبني إسماعيل وإلا ليجبني هؤلاء ابن كثير وأمثاله من وراق المسلمين أين توريث أبناء اسماعيل على ما وعد تعالى أباه إبراهيم الخليل ، ، ما الذي حصر ذلك بيعقوب من بني اسحاق دون حتى اخوته فضلا عن إسماعيل ، لو ما مكر اليهودية وانقيادكم وراء أفكارهم الشريرة ، لكنتم تبصرتم وفطنتم لكل ذلك المكر الشيطاني والتحريف الإبليسي الذي فرق بين الإبن وأخيه وفرق بين ميراثهم الإلهي لأبيهم الخليل حتى ما يذكر إلا ابن اسحاق وبني يعقوب ويهوذا تحديدا وكل ما عدا هؤلاء نسي أنساهم الشيطان ومكره ذكر الله تعالى ومواعيده وبقوا مع المقبورين المطرودين من رحمة الله عز وجل وميراثه الحق .

وقد كانوا رفضوا الجهاد قبل وأخذ الميثاق من الله تعالى والايمان به والتزامه ، ولما رفع فوقهم جبل أحد سلموا من بعد ما ارتعبوا وأيقنوا حزم المولى معهم في ذلك ــ راجع الفصل الخامس من الكتاب ــ وأنه مبيدهم لا محالة ما لم يستسلموا لأمره ، وهناك تابعوا وأخذ يحقق بهم المولى عز وجل تنفيذ توريث ذرية ابراهيم لتلك الأرض فضربوا ملوكا واحدا بعد واحد واستولوا على كل تلك المدن والقرى بوقتهم يتملكونها ويقسمها الله تعالى على أسباطهم ، فأين هذه الحقيقة من مخيلة ذلك الكاذب وناقل الكذب ليصفوا حالهم بلا حكمة ومعهم الله تعالى اربعون سنة ، ألا يستحي من يردد مثل هذا القول والاعتقاد بتفاسيرهم تلك وهم ينسبون الباطل لله عز وجل وكان عمله هو معهم بمنتهى الحكمة والربانية ، كان يعد بهم لمستقبل ينزل فيه قضائه عز وجل ، وهذا التائه ورفاقه وامتهم العمياء ينسبون كل ذلك للتيه والضياع ، فضاع عن عقولهم تيقن الحق ومعرفته ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .

وتلك تفاصيل سيرهم وجهادهم ولهم كتاب ولو انه مفقود حاليا واسمه : كِتَابِ " حُرُوبِ الرَّبِّ " ، نقل منه بعهدهم الكثير من تلك الأخبار ، ومنها قولهم التالي : فَأَرْسَلَهُمْ مُوسَى مِنْ بَرِّيَّةِ فَارَانَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. كُلُّهُمْ رِجَالٌ هُمْ رُؤَسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل اهـ .

انظر يا أعمى حتى اسمائهم دونت هناك الذين صعدوا ليتجسسوا على بلاد ما وراء نهر الأردن ، ذكر ذلك في احد اصحاحات ما يسمى سفره بـ " العدد " .

انظروا من أين يصرحون أرسلهم موسى ؟ ، قالوا : من برية فاران ولم يقولوا من سيناء يا كذبة يا عمي القلوب والعقول والعيون كذلك لأنه كان يسعهم لليوم يقرأون ذلك .

لهذا اعتقاد الحق أن تجوالهم وجهادهم بعد ما خافوا والتزموا العهد والميثاق أنه كان من وسط جزيرة العرب برية فاران ، وتملكوها من بعد ما قضى لهم المولى عز وجل على شعوب وممالك وسط الجزيرة العربية مثل عوج في باشان وِسِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ السَّاكِنِ فِي حَشْبُونَ بالإسم نصوا عليهم وهم شعوب كانت تسكن في الجزيرة وليسوا هم في صحراء سيناء الخاوية كما يزعم المحرفة عليهم ، وهم لم ينكروا ذلك وها هو مدون بكتبهم كما ترون ، لكن تلك الخرافة التي نبتت في رأس مثل ابن كثير ورفاقه محت كل ذلك الذكر ونقلوهم لصحراء غير مستوطنة ولا بها تلك الشعوب والممالك المذكورة ليحبكوا تلك الخرافة الأخرى أنهم لا زالوا بتيه هم وربهم لا يدرون أين يذهبون .
 

﴿ مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا ، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ : الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ ، وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بِنْتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ ، وَبِنْتَهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ ، لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى ، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا.

وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ.
لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ،
لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ.
بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ ، وَحِفْظِهِ الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمَ لآبَائِكُمْ ، أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ.

فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ اللهُ، الإِلهُ الأَمِينُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيلٍ ،
وَالْمُجَازِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ بِوُجُوهِهِمْ لِيُهْلِكَهُمْ . لاَ يُمْهِلُ مَنْ يُبْغِضُهُ بِوَجْهِهِ يُجَازِيهِ.
فَاحْفَظِ الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ الْيَوْمَ لِتَعْمَلَهَا.
وَمِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ هذِهِ الأَحْكَامَ وَتَحْفَظُونَ وَتَعْمَلُونَهَا ، يَحْفَظُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ اللَّذَيْنِ أَقْسَمَ لآبَائِكَ ،
وَيُحِبُّكَ وَيُبَارِكُكَ وَيُكَثِّرُكَ وَيُبَارِكُ ثَمَرَةَ بَطْنِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ : قَمْحَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ وَنِتَاجَ بَقَرِكَ وَإِنَاثَ غَنَمِكَ، عَلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمَ لآبَائِكَ أَنَّهُ يُعْطِيكَ إِيَّاهَا.

مُبَارَكًا تَكُونُ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. لاَ يَكُونُ عَقِيمٌ وَلاَ عَاقِرٌ فِيكَ وَلاَ فِي بَهَائِمِكَ. 
وَيَرُدُّ الرَّبُّ عَنْكَ كُلَّ مَرَضٍ، وَكُلَّ أَدْوَاءِ مِصْرَ الرَّدِيئَةِ الَّتِي عَرَفْتَهَا لاَ يَضَعُهَا عَلَيْكَ، بَلْ يَجْعَلُهَا عَلَى كُلِّ مُبْغِضِيكَ. 
وَتَأْكُلُ كُلَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ الرَّبُّ إِلهُكَ يَدْفَعُ إِلَيْكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَعْبُدْ آلِهَتَهُمْ، لأَنَّ ذلِكَ شَرَكٌ لَكَ.
إِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: هؤُلاَءِ الشُّعُوبُ أَكْثَرُ مِنِّي . كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَطْرُدَهُمْ؟ 
فَلاَ تَخَفْ مِنْهُمُ. اذْكُرْ مَا فَعَلَهُ الرَّبُّ إِلهُكَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ الْمِصْرِيِّينَ. 
التَّجَارِبَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي أَبْصَرَتْهَا عَيْنَاكَ، وَالآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ وَالْيَدَ الشَّدِيدَةَ وَالذِّرَاعَ الرَّفِيعَةَ الَّتِي بِهَا أَخْرَجَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ إِلهُكَ بِجَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّتِي أَنْتَ خَائِفٌ مِنْ وَجْهِهَا.
وَالزَّنَابِيرُ أَيْضًا يُرْسِلُهَا الرَّبُّ إِلهُكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَفْنَى الْبَاقُونَ وَالْمُخْتَفُونَ مِنْ أَمَامِكَ.
لاَ تَرْهَبْ وُجُوهَهُمْ ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ فِي وَسَطِكَ إِلهٌ عَظِيمٌ وَمَخُوفٌ .
وَلكِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ يَطْرُدُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبَ مِنْ أَمَامِكَ قَلِيلاً قَلِيلاً. لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفْنِيَهُمْ سَرِيعًا، لِئَلاَّ تَكْثُرَ عَلَيْكَ وُحُوشُ الْبَرِّيَّةِ.
وَيَدْفَعُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ وَيُوقِعُ بِهِمِ اضْطِرَابًا عَظِيمًا حَتَّى يَفْنَوْا.
وَيَدْفَعُ مُلُوكَهُمْ إِلَى يَدِكَ ، فَتَمْحُو اسْمَهُمْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ حَتَّى تُفْنِيَهُمْ. 
وَتَمَاثِيلَ آلِهَتِهِمْ تُحْرِقُونَ بِالنَّارِ. لاَ تَشْتَهِ فِضَّةً وَلاَ ذَهَبًا مِمَّا عَلَيْهَا لِتَأْخُذَ لَكَ، لِئَلاَّ تُصَادَ بِهِ لأَنَّهُ رِجْسٌ عِنْدَ الرَّبِّ إِلهِكَ.
وَلاَ تُدْخِلْ رِجْسًا إِلَى بَيْتِكَ لِئَلاَّ تَكُونَ مُحَرَّمًا مِثْلَهُ . تَسْتَقْبِحُهُ وَتَكْرَهُهُ لأَنَّهُ مُحَرَّمٌ 


وهناك جبنوا من مواجهتهم مثل ما جبنوا من مواجهة شعوب وممالك وسط الجزيرة أول دخولهم لها لو ما رفع فوقهم الطور وألزمهم ذلك الميثاق والعهد فاستجابوا رغما عنهم ، ولما عادوا للعصيان والتمرد والتمنع عليه لعبور الأردن وهناك اختلف الأمر ولم يرفع عليهم الطور ، بل قضى عليهم بعدم الدخول لإكمال تنفيذ التوريث وجعل ذلك لجيلهم الثاني وبالفعل هلكوا جميعا ولم يتبقى من ذلك الجيل إلا يشوع والقنزي وهم من قاد العبور لما وراء نهر الأردن لمواجهة تلك الشعوب ، أما مع ممالك الجزيرة من بعد أخذ الميثاق والعهد منهم بالقوة سلمهم الله تعالى رؤوس تلك الشعوب كلها .

وحين خرج الأمر لغزو شعوب ما وراء نهر الأردن أرسل موسى عليه الصلاة والسلام جواسيسه ليعسوا الأرض ، ثم صار التمرد وعصوا وخرج الأمر بأن لا يخرج الا جيلهم الثاني وأنهم سيفنون كلهم وهذا لم يتم إلا من بعد ما ورثوا الجزيرة العربية من مشارقها لمغاربها كما أخبر بذلك الله تعالى .

ومن فوائد هذا النص اليقين في أن موسى لو كانت تلك الناحية مباركة لعلم هذا الأمر موسى عليه الصلاة والسلام ، فهو يطلب معرفة : ﴿ انْظُرُوا الأَرْضَ ، مَا هِيَ  و ﴿ َ كيْفَ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي هُوَ سَاكِنٌ فِيهَا ، أَجَيِّدَةٌ أَمْ رَدِيئَةٌ ؟ وَمَا هِيَ الْمُدُنُ الَّتِي هُوَ سَاكِنٌ فِيهَا ، أَمُخَيَّمَاتٌ أَمْ حُصُونٌ ؟ وَكَيْفَ هِيَ الأَرْضُ ، أَسَمِينَةٌ أَمْ هَزِيلَةٌ ؟ أَفِيهَا شَجَرٌ أَمْ لاَ؟  .

وهذا كله يثبت أن لا بركة هناك ولا تقديس ، كما فهم الجهلة عميان العقول وإلا علمه موسى ولم يسأل عنه ، وهذا الكلام بين جلي ، مثل أنهم تذمروا على موسى ووعد الله تعالى بالخير والبركات التي كانت مشروطة بتسليمهم وطاعتهم لا غير وكانوا مما قالوه عن الجزيرة حين تمردوا :﴿ كَذلِكَ لَمْ تَأْتِ بِنَا إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً ، وَلاَ أَعْطَيْتَنَا نَصِيبَ حُقُولٍ وَكُرُومٍ ، هَلْ تَقْلَعُ أَعْيُنَ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ ؟ لاَ نَصْعَدُ  .

وهذا حين تمردهم ومجادلتهم بذلك أول الأمر ، وهم بعد في جزيرة العرب ، فلم يروا البركة التي وعدوا يريدونها وهم عصاة ومتمردون على الله تعالى وأمره ، يريدون ذلك وبقلوبهم متشوقون لثوم مصر وبصلها وغثائها !!

الحاصل أنهم فيما قبل العبور للأردن وبعد العبور اختلفت الحال حتى في أحكام الشريعة ، فمعاملة ممالك وسط الجزيرة بخلاف معاملة من كانوا بعيدا عنهم وذكر ذلك صريحا فيهم كما في سفر " التثنية " :
 

﴿ حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ ، فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ ، وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا ، فَحَاصِرْهَا وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ . هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا.

وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا ، بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا : الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ ، لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ 


انظروا كيف اختلفت في شريعة موسى الأحكام بحق من هم وراء النهر ومن هم دونه ، جعل لكل منهم احكامه الخاصة ، وكأن أولئك كانوا وثنيون وتطلب الأمر تثبيت ذرية ابراهيم وابادت أولئك لانهم مشركون وكذلك من أجل تطهير الأرض المقدسة منهم ومن أصنامهم ، على عكس الشعوب التي وراء النهر فأولئك يغنمون إلا من يحاربهم يباد ولم يشترط عليهم الإبادة بكل حال لعدم القداسة في تلك الأراضي عكس جزيرة العرب ففيها قداسة ولا يجوز بحسب شريعة موسى صلى الله عليه وسلم ابقاء أهل الشرك والوثنية ، مثل ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم تدرجا حين انتهى أمره بأن لا يبقى دينان في جزيرة العرب ، فانظروا للقداسة وما تتطلبه كيف افترقت ما بين أرض جزيرة العرب وما وراء نهر الأردن .. 

وملاك كل ما تقرر هنا في تعيين المدينة المقدسة تكذيب نبي من أنبياء الله تعالى فيهم دعواهم ذلك وهو اشعيا عليه الصلاة والسلام ، وهو النبي الذي أوتي روحا قوية لينبئهم بالخواتيم والعواقب على ما ذكر كاتب عهدهم القديم ، فقال النبي :
 

﴿ اسْمَعُوا هَذَا يَابَيْتَ يَعْقُوبَ الْمَدْعُوِّينَ بِاسْمِ إِسْرَائِيلَ الْخَارِجِينَ مِنْ صُلْبِ يَهُوذَا ، الْحَالِفِينَ بِاسْمِ الرَّبِّ ، الْمُسْتَشْهِدِينَ بِإِلَهِ إِسْرَائِيلَ بَاطِلاً وَكَذِباً الَّذِينَ يَدْعُونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ 


وهذا من قوله تشكيك في بقاء قداسة تلك المدينة والهيكل أو المسجد ، بمعنى أن القداسة تلك كان مشكوك فيها أصلا من زمان اشعيا النبي وليس ارميا حين نبأهم عن قرب تحقق تدمير الهيكل ، لفسادهم وعبثهم هناك حتى أسخطوا ربهم وانتقم منهم ، ولما عادوا لكذبة القداسة للمدينة والهيكل انظروا ما قاله المسيح بحق تلك الفرية الكبرى عليه الصلاة والسلام :

﴿ ولعمر الله الذي تقف نفسي في حضرته لو لم يفسد كتاب موسى مع كتاب أبينا داود بالتقاليد البشرية للفريسيين الكذبة والفقهاء لما أعطاني الله كلمته . 

ولكن لماذا أتكلم عن كتاب موسى وكتاب داود فقد فسدت كل نبوة حتى أنه لا يطلب اليوم شيء لأن الله أمر به بل ينظر الناس إذا كان الفقهاء يقولون به والفريسيون يحفظونه ، كأن الله على ضلال والبشر لا يضلون فويل لهذا الجيل الكافر لأنهم سيحملون تبعة دم كل نبي وصديق مع دم زكريا بن برخيا الذي قتلوه بين الهيكل والمذبح .

أي نبي لم يضطهدوه ؟ أي صديق تركوه يموت حتف أنفه ؟ لم يكادوا يتركوا واحدا وهم يطلبون الآن ان يقتلوني يفاخرون بأنهم أبناء إبراهيم وأن لهم الهيكل الجميل ملكا .

لعمر الله إنهم أولاد الشيطان فلذلك ينفذون ارادته ولذلك سيتهدم الهيكل مع المدينة المقدسة تهدما لا يبقى معه حجر على حجر من الهيكل ﴾ " الإنجيل الصحيح - الفصل 189 "


لكن بالمقابل مع ذلك انظروا ماذا ينقلون عن اشعيا الذي عاب تقديسهم لتلك المدينة وهي وسط كل ذلك الدجل والكفر والشرك من كهنتهم وكان يوبخهم على ذلك بشدة حتى قتلوه ، فانظروا باسمه ماذا يدونون :
 

﴿ فَالَّذِي يَتَبَرَّكُ فِي الأَرْضِ يَتَبَرَّكُ بِإِلهِ الْحَقِّ ، وَالَّذِي يَحْلِفُ فِي الأَرْضِ يَحْلِفُ بِإِلهِ الْحَقِّ ، لأَنَّ الضِّيقَاتِ الأُولَى قَدْ نُسِيَتْ ، وَلأَنَّهَا اسْتَتَرَتْ عَنْ عَيْنَيَّ ، لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً ، فَلاَ تُذْكَرُ الأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَال.
بَلِ افْرَحُوا وَابْتَهِجُوا إِلَى الأَبَدِ فِي مَا أَنَا خَالِقٌ ، لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ أُورُشَلِيمَ بَهْجَةً وَشَعْبَهَا فَرَحًا .
فَأَبْتَهِجُ بِأُورُشَلِيمَ وَأَفْرَحُ بِشَعْبِي ، وَلاَ يُسْمَعُ بَعْدُ فِيهَا صَوْتُ بُكَاءٍ وَلاَ صَوْتُ صُرَاخٍ 


ينقلون في مجد المدينة آخر الزمان هناك في الجزيرة ويوهمون الناس أن المعني بذلك أورشليم داود عليه الصلاة والسلام أورشليمهم المدعى لها تلك القداسة كذبا وزورا ، ولا يستحون من الله وخلقه حين يجمعون على النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام من بعد ما قتلوه لتوبيخهم ونقض دعواهم قداسة اورشليم داود ، ثم هم يلصقون به ما قاله عن طيبة الخير والنور بالتحريف والتبديل أنه يعني أورشليم داود عليه الصلاة والسلام وليس طيبة أحد دار السلام ، وهذا انما يدل على شيطانية كاتب عهدهم الإبليسي الذي بدل عن كورش الفارسي أمره بحبس دانيال بالجب مع الأسود ليموت ، فحرفها لغيره حتى يمكنه الصاق دعوى الخلاص من بابل لأورشليمهم الكذبة الكبرى به ، وهنا قتلوا نبي الله اشعيا ثم هم يلصقون به ما لم يقله بل قال عكسه ودفع حياته ثمنا لإبلاغهم ما أمره الله تعالى عن اورشليمهم ولم يعصي الله تعالى بكتمان ذلك مثل أن المسيح لم يعصي الله تعالى ويكتم أن العهد والميثاق ببني اسماعيل لا بني اسحاق لما سألوه عن ذلك ، ثم هم بعد ذلك يطلبون قتله عليهم اللعن الأبدي ومصاحبة الشيطان في جهنم ، سرقة سرقوا من فمه عليه الصلاة والسلام دعواهم الكذب لأورشليم داود ، مثل ما أنهم سرقة سرقوا مباركة يعقوب من ابنه البكر بحسب دعوى كاتب عهدهم القديم الشيطاني ، وهكذا دينهم كله باطل وأكاذيب وسرقات لا تنطلي على من هداه الله عز وجل وأنار بصيرته ، إنما تنطلي على مثل ابن كثير ودعاويه تلك أو ابن جرير الطبري ونقله بتفسيره عن خلاصهم الكاذب ودعواهم في كورش إلى ما هنالك ، فالحمد لله الهادي للحق ولمجده العظيم وبهاء قداسته الحمد لله .

إنه الكفر والكذب على الله تعالى الذي ما يمكن لأحد غيرهم أن يخترع مثله ، ولا العناد والمكابرة والرد على الله تعالى وشرائعه ، أمضوا أعمارهم بالمشويات على المذبح يتطلعون لما بأيدي الفقراء من معزا ودجاج وخرفان وثيران ، وحتى البيض وكل ما يجده الفقير من كفارات وقرابين كانوا يأخذونه من الناس باسم الكهانة لله عز وجل ، حتى بغضهم أشد البغض ، وكل ذلك ينفذونه باسمه وباسم شريعته ومقدسه ، يجاهدون أنبياء الله تعالى طوال قرونهم لم لا يبقي البركة في بني اسحاق أبدا ويبعد عنها اسماعيل وتلك البرية ، ثم يأتي مثل ابن كثير والطبري بكل بلاهة ليدعوا لهم القداسة هناك والمباركة بما وراء النهر ، لأنهم وراء النهر بعيدا عن طيبة الخير فلم يروها لا بعقولهم ولا قلوبهم غشاهم من تلبيس شيطان العهد القديم ما غشاهم فلم يكونوا يبصرون ، وانتشرت اقاويلهم مسلمات على ملة ابراهيم وأمانة الله عز وجل وما دفع له الكثير من الأنبياء دمائهم وأرواحهم ، بتعاليم الكذب ثبت الباطل وازيح الحق ، ولم يقف ابن كثير ولا الطبري على انجيل المسيح الصحيح ولم يعرفوا حقيقة ما دون بعهدهم القديم ، وما يفيدهم بعد ذلك كله لما يأتي المسيح وبنفسه يهلك الله تعالى كل من يقول عنه انه اكبر من انسان ، والمهدي قبله بتلك العصا ولوحي العهد والتابوت ، كل الباطل والأكاذيب ستلحق ابن كثير والطبري لقبورهم تتوسدهم هناك وتنام معهم في أرض ما وراء النهر .

ومما ترتب على كذبتهم الكبرى خليط أوهام وتصورات تبعت تلك الكذبة وليس لها بحقيقة دين الله تعالى وغيبه أي اتصال إلا بتحريف اليهود وتزيين الشيطان ، ومثل ما لبس على الأمة البخاري ومسلم وشراحهما في تعيين المسجد الأقصى على ما في سورة الإسراء من ذكر ذلك ، هم هنا لبسوا وأوهموا بتعيين الأرض المقدسة بما لم يعينه الله تعالى على ما بين وشرح هنا ، وكل بدعة منكرة على غيب الله تعالى واعتقاد الحق إلا ومدخلهم يكون من خلال أولئك الإمامين غفر الله تعالى لهما ، تتركز البدعة برؤوسهم وتصوراتهم ثم يصوغون لها من المرويات ما يدعمها برأيهم وهم لا يعلمون أن ما في رؤوسهم ما هو إلا ضلالة عمياء وكذبة خبيثة صامتة ، لكن كل ما يتبع تصوراتهم وتخيالاتهم يطوعون له الأخبار ولو على الباطل ، مثل قصة تعيين الأرض المقدسة هنا والمسجد الأقصى على ما مر تقرير الكلام فيه في هذا الكتاب المبارك .

فاتفقا على حديث يروونه عن النبي موسى عليه الصلاة والسلام في قصة الموت وتمنعه عليه ومن ثم طلبه بأن يقرب قبره للأرض المقدسة ، وسبحان الله كما قصة الإسراء نقلوه من كونه مناما ليكون يقظة ثم هم يضحكون عقلاء البشر عليهم في ذلك ، إذ كيف يتصور موسى يرفض الموت ويكره لقاء الله تعالى ، لا ويخبط ملاك الموت ثم يفقأ له عينه ، وتلك قصة منام وضرب مثل لموسى وترجع رموز تلك القصة بالحق لا الباطل الذي تصوروه ، إلى وعد الله تعالى وحلول قضائه ، فالمقدسة مكان سكنى الرب عز وجل طيبة الخير والنور ، واطالة عمره صلى الله عليه وسلم من أجل انتخابه مع الشهداء ، وتقريبه للمقدسة ليكون منها باتصال وهي طيبة لأنه سيرجع لها حين حلول القضاء مع الأشهاد .

فأتوا لتلك القصة التي هي من ضرب الأمثال وتهيئة رسوله لتلقي هذا التعريف العظيم والتبصير بتفاصيل قضاء ربه كيف يكون ومن يكون الشهداء وأنه معهم ، فحرفوا مبنى تلك الرواية لتكون المقدسة عبر الأردن ، وقصة الموت وملاك الموت لمهزلة شبه قصص الكرتون للأطفال ، فحول ذلك لتنقص نبي من أولي العزم من الرسل ، بل الله نفسه جعلوا أفعاله مع رسوله ذاك التي هي بمنتهى الحكمة والجلال وبلوغ أقصى علم الغيب بالنسبة لرسوله ، لتكون كما ترون حط وتنقص ، والسبب افهام قاصرة وعقول منكوبة بتبين حقيقة الذكر والبينات العظيمة .

ومثل ذلك تلك الكذبة الكبرى أيضا التي نقل بسبب جهلهم بحقيقتها لما وراء النهر وليس هذا فقط بل دعموا بكذبتهم تلك كذبة اختا لها وهي قداسة ملك بني أمية أو شبه دعوى تقديس له بحكم الربط والعلاقة ما بين ملك بني امية ونزولهم الأرض المقدسة المفترضة بالكذب والبهتان ، وأعني حديث أبي حوالة ونصه وهو لفظ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن عبد الله بن حوالة الأزدي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المدينة على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئا وعرف الجهد في وجوهنا فقام فينا فقال :

اللهم لا تكلهم إلي فأضعف ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم ثم قال ليفتحن لكم الشام والروم وفارس أو الروم وفارس حتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا ومن البقر كذا وكذا ومن الغنم حتى يعطى أحدهم مائة دينار فيسخطها ثم وضع يده على رأسي أو هامتي ، فقال : يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك " اهـ . 

ولما كانت القداسة على أوجه :

قداسة المحل ، كالكعبة والتابوت والجبل الذي يحل الله تعالى عليه .

وقداسة بمعنى التطهير ، كقداسة الكهنة كهارون ليستطيع مس اقداس الله عز وجل بالنسك على شريعة موسى .

وقداسة بمعنى القربان لله تعالى والحق الخالص له من أي أحد سواه .

ولكل من تلك الأحكام أدلته التفصيلية ليس هذا مكان ذكرها ، ولما كانت راكبة رؤوسهم تلك الكذبة الكبرى في تعيين مكان الأرض المقدسة بزعمهم ، حملوا كذلك معنى هذا الخبر على ما هنالك وكذبوا والله ، بل تلك القداسة من أمور الساعة وأشراطها ، ويريد عليه الصلاة والسلام المكان الذي يتقدس بجلاله المولى عز وجل وقدرته العظيمة في يأجوج ومأجوج والخسف بهم وبمن نزلوا بأرضهم ، فيتقدس الرب هناك كما أخبر النبي حزقيال وكما نص على ذلك القرآن في خبر البطشة الكبرى ويريد الخسف العظيم من المشرق ، فتلك القداسة المقصودة لا ما تصوره أولئك المحرفة المتقولة على غيب الله تعالى .

لهذا ترونه يربطها بالخلافة آخر الزمان ومراده خلافة المهدي خلافة الله عز وجل ، وبالزلازل والبلايا والأمور العظام التي أخبر أنها من أشراط الساعة ، وتحقق تأويل الذكرى والقضاء وما أخبر عن يوم الحساب وادانة الأمم كلها ، وكل تلك الأمور من أشراط الساعة بعضها المؤذن بقرب قيامها وبعضها معها وبعضها بعد قيامها ، لكنهم حرفوا بعد إن لم يفهموا مراد المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقلوا معنى نزول الخلافة بتلك الأرض المقدسة لله عز وجل ، نقلوها لما وراء نهر الأردن على وفق اعتقاد اليهودية بالقداسة لتلك الأرض والتي كانت تنتظرهم هناك ليربط بها خلافة بني أمية فباتت النكبة على نكبة واجتمع بذلك مكر الشيطان كله بوجهيه ، القديم والحديث .

وقريب من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم برؤيا منام رآها يذهب بعمود نور من تحت وسادته ذهب به للشام ، ومراده بالشام هنا ما يقابل يمن بين يدي البيت الحرام ، ما تيامن منه يمن وما تشام منه شمال ، وتحديدا مقصده برؤياه الذهاب بذلك العمود من النور لأرض سكنى المهدي فهي على الشمال من مكانه لا اليمين ، والأصل بتسمية الشام هذا التقسيم وبه سمي الشام شاما ، أي على الشمال من البيت مقابل اليمين من البيت لليمن .

وحديث روي عن جماعة منهم أحمد بن حنبل عن عمرو بن العاص يرفعه : " بينا أنا في منامي أتتني الملائكة فحملت عمود الكتاب من تحت وسادتي فعمدت به إلى الشام ألا فالإيمان حيث تقع الفتن بالشام " .

جهلوا فماذا اعتقدوا ؟! ، اعتقدوا بتلك القداسة لبني أمية مع جهلهم على حديث ابن حوالة ، فعمود النور حمل على معنى انتقال نور النبوة أو وحي النبوة لتلك الناحية وليس هناك الا معاوية وأتى حديث ابن حوالة ليعزز من تلك الأوهام على ما أخبر عليه الصلاة والسلام ، ثم جاء مثل ابن تيمية ليجعل الإيمان هناك والمنصورة هناك والناجية هناك ، وسلبوا عن علي كل ذلك لم يستحقه برأيهم مقابل معاوية بن أبي سفيان ، لما عشعش في رؤوسهم من جهل وضلال على النبوءات ، مما غلب عليهم من كذبة اليهود في تقديس تلك الأرض فاتى هؤلاء ليدعون الإيمان فيها وأنها أرض الخلاص حين تقع الفتن ، وفيهم شطارة يجمعوا بين ذلك وبني أمية مع أن الفتن والبلايا والزلازل لا تكون إلا آخر الزمان ، لكن كل شيء يصح مع أفهام هؤلاء ويقع له تأويل ما لتوفق دلالات تلك الأخبار مع ما يتصورون من أكاذيب وجهالات عليها .

وليس مصادفة أن ذلك الصحابي أعني ابن حوالة من عنزة قبيلة المهدي ، وعليه اختيار المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقول له ذلك الخبر ، وتلك من الدلالات الخفية التي يقصدها فيما يخبر من غير أن يدرك الناس معنى ذلك .

والعجيب أن في بعض ألفاظ حديث عمود النور والكتاب الذان أخذا بالمنام من تحت وسادته وذهب به للشام أنه في منامه ليلة الإسراء به للمدينة ، وفي ذلك التأكيد على أن الشام من مكة لا يريدون به عرفا إلا الجهة ما تيامن وتشام بالنسبة للبيت للكعبة ، وهو الأصل كما قلت في تلك التسمية عند العرب .

ومن ألفاظ حديث ابن حوالة ما يوافق حديث عمرو بل حديث العنزي ابن حوالة هو الأصل والحديث له تلقفه الناس عنه وكان كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم متجه بابن حوالة العنزي ، وفيه أنه قال له : يا رسول الله ، اكتب لي بلدا أكون فيه ، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك . قال: عليك بالشام " ثلاثا " فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كراهيتي للشام قال: ( هل تدرون ما يقول الله عز وجل ؟ يقول: أنت صفوتي من بلادي ، أدخل فيك خيرتي من عبادي ، ، وإليك المحشر ، ورأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤ تحمله الملائكة ، قلت: ما تحملون ؟ قالوا: نحمل عمود الإسلام ، أمرنا أن نضعه بالشام ، وبينا أنا نائم رأيت كتابا اختلس من تحت وسادتي ، فظننت أن الله تخلى من أهل الأرض ، فأتبعت بصري ، فإذا هو نور ساطع بين يدي ، حتى وضع بالشام ، فمن أبى أن يلحق بالشام فليلحق بيمنه ، وليستق من غُدُره ، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله) .

والمحشر هنا المراد به ما قاله تعالى في سورة الدخان لا ما وهم عليه الناس فخلطوا على معنى هذا الخبر ، والصفوة بالنسبة لمرور موسى وقومه إليها وخروج بعث المهدي منها وسكنه فيها ، فهذا معنى اصطفاء تلك الناحية ولا أزيد من وصفها بالمقدسة والذي أيضا وهم الناس عليه لم يدركوا معناه ومعناه الذي قررت قبل أن التقديس بمعنى التحريم شعبها كله أضحية سيكون لأمر الله عز وجل ، كله سيذهب للهاوية خسفا وبطشة كبرى تقشعر منها الجلود وينذهل من هولها كل من سيدركها ويبلغه العلم بها .

وخيرته من عباده مهديه سيخرج منها ، ومن لم يستطع اللحاق به هناك ، ليلحق بيمن لأن عصبة أتباعه باليمن الآن ، وليشرب من غدره أي من نهر العلم الذي سينبع من هناك ، وكفالة الله عز وجل له الشام يريد أمر الله تعالى الذي سيخرج ابتدائه من هناك ، ورعايته لحفيده المهدي يهديه ويسدده وينير قلبه وعقله ويملأه بالايمان والتصديق ، هذا معنى تلك الكفالة الربانية ، وهذا معنى الحديث خذوه من وثاق ، ودعوا عنكم الوراق ، من بعد منهم أو قرب .

ويبقى أهم مفردات ذلك الخبر مما وقع منهم عليها التباس قوله ( المقدسة ) و ( الشام ) ، ومعناهما الصحيح الحق ما ذكرت .

.............


* هناك نبوءة عظيمة لاشعيا عليه الصلاة والسلام توافق ما ورد هنا على لسان موسى عليه الصلاة والسلام : ﴿وَيَأْكُلُ سَيْفِي لَحْمًا بِدَمِ الْقَتْلَى .. وَمِنْ رُؤُوسِ قُوَّادِ الْعَدُوِّ  . قال اشعيا : ﴿ أَمَّا أَنْتُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرَّبَّ وَنَسُوا جَبَلَ قُدْسِي ، وَرَتَّبُوا لِلسَّعْدِ الأَكْبَرِ مَائِدَةً ، وَمَلأُوا لِلسَّعْدِ الأَصْغَرِ خَمْرًا مَمْزُوجَةً ، فَإِنِّي أُعَيِّنُكُمْ لِلسَّيْفِ ، وَتَجْثُونَ كُلُّكُمْ لِلذَّبْحِ  .
التوراة هنا تقيد ما عمم بكلام النبي اشعيا وبهذا يترجح أن الأعيان والنخبة هم من يجازون فيما ورد ذكره في القرآن ويصعد بهم للمدينة للاشهاد وللخزي المنتظر من سربلتهم ووسمهم على الخراطيم إلى غير ذلك ، ومثله ما ورد في سورة الجاثية قوله تعالى : ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ، أي أعيانهم والمنتخبون من قوادهم يدل عليه قوله تعالى : ﴿ كَلا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ  . فقوله من راق دليل على أنهم ليسوا جميعا يفعل بهم بل من يختار الله تعالى أن يفعل به ذلك من الأعيان والوجهاء لكل أمة وشعب وقوم وبلد . 
ويؤكد على هذا قوله تعالى في سورة النمل : ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ﴾ .
فالحشر هنا ليس عاما كما هو ظاهر بل يأتي بهم تعالى أفواجا أفواجا كما قال النبي يوئيل عليه الصلاة والسلام :﴿ جَمَاهِيرُ جَمَاهِيرُ فِي وَادِي الْقَضَاءِ ، لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ قَرِيبٌ فِي وَادِي الْقَضَاءِ ، اَلشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَظْلُمَانِ ، وَالنُّجُومُ تَحْجُزُ لَمَعَانَهَا . وَالرَّبُّ من المدينة يُزَمْجِرُ وَيُعْطِي صَوْتَهُ  .
وهناك نص في الزبور كذلك يؤيد ما ورد بالتوراة من كلام موسى وما في القرآن : ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً . وهو قوله : ﴿ هو يستأصلُ رُوحَ الرؤساء وهو الرهيبُ عند مُلُوك الأرض  . وهذا دال على أن ذلك إنما يقع على نخبة منهم وليس جميعهم .
إذا هو حشر مخصوص وليس عاما لكل البشر الأحياء وقتها ، فما بالك بكافة الخلق من آدم لآخر بذرة من ذريته . راجع : ( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ تعقيب : 12 .