الفصل الثاني
﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾
وبعد تقرير الكلام في أول اشارة في القرآن عن تابوت الشهادة ومصيره المرتبط ببعث المهدي والتمكين له آخر الزمان ، نأتي الآن لتقرير الكلام في ثاني إشارة في ذلك وطبعا كما قلت قبل في بيان شرح الإشارة الأولى : كلكم على علم بأن الأمة لا يمكن لها اعتقاد ارتباط تابوت الشهادة في عهد موسى عليه الصلاة والسلام بالمهدي وبعثه عليه الصلاة والسلام ، والتمكين له في الأرض اهـ .
وهنا أعود لأقول : بأن الأمة لا يمكن لها اعتقاد ارتباط ذكر تابوت الشهادة المخبأ لهم لحين بعث المهدي والتمكين له عليه الصلاة والسلام ، بأم المسيح وابنها الآية عليهما الصلاة والسلام ، فسبحان الله ما أعظم تدبيره واحاطته بالغيب الذي هو من كتبه وهو من دبر تفاصيله .
لهذا ترونهم حين ذكر الله تعالى ذلك وربط بعضه ببعض أنهم أخذوا يتقولون ويخوضون بجهل كل زاعم العلم بين يديه وكالعادة كعب ومن ينقل عنه من بينهم ، فقال ما قال وعين بذلك كعادته بيت المقدس ينزع ليهوديته البغيضة الملعونة المطرودة من رحمة الله تعالى وحضرته كما طرد إبليس المنبوذ ، فنبذوا كما نبذ لكن كعب الكذاب أصر كما هو حال اليهودية كلها ، برد ذلك وعدم الإعتراف به .
نعم ، ربط الله عز وجل ذكر المسيح وأمه عليهما الصلاة والسلام بذكر ذلك التابوت وهو في غوره وربوته تلك ، ليقرر أمام أعينهم ذكره وميعاده وهم لا يعلمون ، وبدلا من قول من سلف الله أعلم بما قال ووصف أخذوا يخبطون يقررون على عادتهم أن الله تعالى ينزل كلاما لا معنى له ، فتارة يذهبون به للأرض المنبوذة وأخرى للغوطة ، وقليل منهم أصاب فقال لمصر لكن لا علم لهم بتاتا بالسر وراء ذلك ، فسبحان الله الذي جعل من القرآن أسرارا ومكنونات عصية إلا على من شاء الكشف عن باطنها له فأنجز وعده الذي وعد بأن عليه هو وحده بيانه ، وأقسم لكم بالله العظيم بعد تقرير الكلام تحت هذا التعقيب : الإيمـــــــان بالكتـــــــاب .
والذي تبع تقرير الكلام تحت هذا العنوان : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية .
أن صاحبكم اليوم لما آوى لفراشه بعد صلاة الفجر لم ينفك تفكيره في قصة ذهاب مريم وابنها لمصر كما هو مبين بالانجيل الصحيح الحق ، يجذبه لذلك أمرا ملح ، ثم بان أن الأمر مقدر ومرتب له لتصديق ما قرر في تجلي الأسرار له تجليا ، وأن ذلك بيد مالك الملك مدبر الأمر والمرتب له ، لا لأي أحد سواه ولا المهدي نفسه يختار متى يعلم ذلك ويرتب له بنفسه .
ثم لما نهض من فراشه واستطرد وراء التفاصيل فإذا بها تتفتح متهللة تباعا يحار العقل حين يتيقن أنه للتو قد وقع على الإشارة الثانية الخفية لتابوت الشهادة في القرآن ، من بعد أن لم يكن له علم بذلك ولا بالخيال حتى .
فماذا عن قصة ذهاب مريم وابنها لمصر في الإنجيل ؟ ، ورد ما يلي : لما ولد يسوع في زمن هيرودس ملك اليهودية كان ثلاثة من المجوس في أنحاء المشرق يرقبون نجوم السماء فتبدى لهم نجم شديد التألق فتشاوروا من ثم فيما بينهم وجاءوا إلى اليهودية يهديهم النجم الذي يتقدمهم فلما بلغوا أورشليم سألوا : أين ولد ملك اليهود فلما سمع هيرودس ذلك ارتاع واضطربت المدينة كلها فجمع من ثم هيرودس الكهنة والكتبة قائلا : أين يولد المسيح ، فأجابوا : أنه يولد في بيت لحم ..
فاستحضر هيرودس إذ ذاك المجوس وسألهم عن مجيئهم ، فأجابوا : أنهم رأوا نجما في المشرق هداهم إلى هناك فلذلك أحبوا أن يقدموا هدايا ويسجدوا لهذا الملك الجديد الذي تبدى لهم نجمه ، فقال حينئذهيرودس : اذهبوا إلى بيت لحم وابحثوا بتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه تعالوا وأخبروني لأني أنا أيضا أريد أن أسجد له وهو إنما قال ذلك مكرا .
وانصرف المجوس من أورشليم وإذا بالنجم الذي ظهر لهم في المشرق يتقدمهم فلما رأوا النجم امتلأوا سرورا ولما بلغوا بيت لحم وهم خارج المدينة وجدوا النجم واقفا فوق النزل حيث ولد يسوع .
ولما دخلوا المنزل وجدوا الطفل مع أمه فانحنوا وسجدوا له وقدم له المجوس طيوبا مع فضة وذهب وقصوا على العذراء كل ما رأوا وبينما كانوا نياما حذرهم الطفل من الذهاب إلى هيرودس فانصرفوا في طريق أخرى وعادوا إلى وطنهم وأخبروا بما رأوا في اليهودية .
فلما رأى هيرودس أن المجوس لم يعودوا إليه ظن أنهم سخروا منه فعقد النية على قتل الطفل الذي ولد وبينما كان يوسف نائما ظهر له ملاك الرب قائلا : انهض عاجلا وخذ الطفل وأمه واذهب إلى مصر ، لأن هيرودس يريد أن يقتله . فنهض يوسف بخوف عظيم وأخذ مريم والطفل وذهبوا إلى مصر ولبثوا هناك حتى موت هيرودس اهـ .
ثم نزل القرآن بقوله تعالى : ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ، وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ .
ومن الإبتداء ايقنوا أن ذكر مريم وابنها وأن في ذلك آية ، بعد ذكر ارسال موسى وأخيه بآيات الله تعالى وعلى رأس ذلك العصا الربانية فتعمل كل تلك الآيات في وسط مصر ، أن في ذلك ارتباطا لم يكن يعلمه الناس أخفاه الله تعالى وآن الأوان للكشف عن سره ، وذلك أن ايواء مريم وابنها الآية إنما كان لتلك الربوة التي تحتها كانت مخبأة العصا وتابوت الشهادة ، لهذا وصف تلك الربوة بذات القرار والمعين ، نسبة لإستقرار واستيداع التابوت والعصا هناك ، وكون ذلك معين يريد مآلهما كائن للخروج العظيم من هناك يراجع الموضوع التالي : السؤال: ماذا حدث لتابوت الشهادة ؟
وتشبيه خروج تابوت الشهادة بالمعين تشبيها له بخروج الماء الذي وجوده هو أصل للحياة فشبه تعالى خروج التابوت والعصا من هناك بخروج الماء أصل الحياة ، وليس هذا بالتشبيه الوحيد له في ذلك بل لذلك مثنوية بالتشبيه به ختم سورة الملك فقال هناك عز وجل : ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ .. قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴾ .
وهنا يشبه خروج التابوت والعصا بخروج الماء لأنهما أصل الحياة ، بالماء حياة الأجساد وبوحي الله تعالى حياة القلوب والأرواح وكما قال المسيح عليه الصلاة والسلام : إن الله صلاح بدونه لا صلاح ، إن الله موجود بدونه لا وجود ، إن الله حياة بدونها لا أحياء اهـ .
فجاء التشبيه في ذلك من هذا الوجه ، وقد كان لهم اخفاء تابوت الشهادة والعصا وتلك المقدسات بمنزلة من غار عنه الماء فلم يكن لهم معينا ، ثم إذا اخرج مجددا في الجيل الأخير كانت عودته بمنزلة عودة الماء الغائر ليكون معينا مجددا ، وكل ذلك من ضرب الأمثال .
وقد ورد عن جمهرة من الأنبياء أخبار عودة أمر العصا تلك في آخر الزمان وأن الله عز وجل سيعمل بها كما السابق منهم اشعيا النبي عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ وَيَصِيرُ جُمْهُورُ أَعْدَائِكِ كَالْغُبَارِ الدَّقِيقِ ، وَجُمْهُورُ الْعُتَاةِ كَالْعُصَافَةِ الْمَارَّةِ ، وَيَكُونُ ذلِكَ فِي لَحْظَةٍ بَغْتَةً .. وَيُقِيمُ عَلَيْهِ رَبُّ الْجُنُودِ سَوْطًا .. وَعَصَاهُ عَلَى الْبَحْرِ ، وَيَرْفَعُهَا عَلَى أُسْلُوبِ مِصْرَ ﴾ .
ويقول : ﴿ هُوَذَا اسْمُ الرَّبِّ يَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ غَضَبُهُ مُشْتَعِلٌ وَالْحَرِيقُ عَظِيمٌ سَخَطًا ، وَنَارٍ آكِلَةٍ .. لِغَرْبَلَةِ الأُمَمِ بِغُرْبَالِ السُّوءِ ، وَعَلَى فُكُوكِ الشُّعُوبِ رَسَنٌ مُضِلٌّ .. وَيُسَمِّعُ الرَّبُّ جَلاَلَ صَوْتِهِ .. وَيَكُونُ كُلُّ مُرُورِ عَصَا الْقَضَاءِ الَّتِي يُنْزِلُهَا الرَّبُّ عَلَيْهِ وَبِحُرُوبٍ ثَائِرَةٍ يُحَارِبُهُ ﴾ .
وعلى لسان النبي ميخا عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ اِرْعَ بِعَصَاكَ شَعْبَكَ غَنَمَ مِيرَاثِكَ .. كَأَيَّامِ الْقِدَمِ ﴾ .
وعلى لسان حزقيال عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ وَأُمِرُّكُمْ تَحْتَ الْعَصَا ، وَأُدْخِلُكُمْ فِي رِبَاطِ الْعَهْدِ﴾ .
أما في الزبور فقال : ﴿ لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي ، عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ﴾
وقال : ﴿ وباسمي قرنهُ يرتفع ، فأجعل على البحر يده وعلى الأنهار يمينه ﴾ . وغير ذلك مما تواتر عن الأنبياء أن عصا الله عز وجل قدر لها الإنتقال ليد المهدي لتعمل بأمر الله عز وجل كما عملت في زمان موسى صلى الله عليه وسلم ، بسط ذلك بكتاب مجد طيبة في الفصل السادس : المدينة المقدسة في النبوءات من منظور جغرافي . يراجع هناك فقد بسط الكلام في ذلك أكثر مما ذكر هنا .
ولهذا لما قدر تعالى للمسيح العودة آخر الزمان وكان له كل ذلك الإرتباط بذلك الشأن كان تعالى له الأمر بذهابهم إلى هناك وحين آواه من القتل كان ملجأه لمصر ولذلك المكان تحديدا وتحته كان وجود ماء الحياة وعليه كان وصف الله تعالى بكتابه القرآن تلك البقعة بما وصف ، ويظن الجهال ممن تقدم بين يدي أمره تعالى هذا أن ذلك مجرد مكان حتى اختلفوا في تعيينه ، أو أنه مجرد ماء أو مجرد شجر وثمر ، لا يدرون ولم يكفوا ألسنتهم عن الخوض في القرآن ومواعيده بآرائهم .
وإذا أدركتم معنى قرارا في تلك الآية ومعين وأيقنتم بأن تلك الأوصاف عائدة لتابوت الشهادة وما حوى المخفي غورا بباطن تلك الأرض التي قدر تعالى أن تكون في آخر الزمان كذلك في وسط مصر وخروج ما في جوفها من وسط مصر على الناس يشاهدون تلك الآية عيانا كما قال عز وجل : ﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ ، ﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾ .
عليكم كذلك ادراك أن معنى قوله تعالى بتلك الآية : ﴿ وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ﴾ أنه وصف كذلك عائد لتابوت الشهادة المخفي بباطن تلك الأرض ولو طابق ذلك الوصف جغرافيتها ، فالروابي ما أشرف من الرمل نقل ذلك ابن منظور في لسان العرب وقال : الرابية فيها خثورة وإشراف تنبتُ أجود البقل الذي في الرمال اهـ . ( لسان العرب باب الراء ج4ص56 )
ويأتي معنى ربوة اسما مفردا لمعنى النشأة ، حكى ابن منظور في ذاك الباب قوله : ربوت في حجره رُبُوا ورَبوا . وربيتُ رباءً ورُبِياً ، كلاهما نشأت فيهم : أنشد اللحياني لمسكين الدارمي :
ثلاثة أملاك ربوا في حجورنا ** فهل قائل حقا كمن هو كاذبُ ؟
وأنشد في الكبير للسموءل ابن عادياء :
نُطفةٌ ما خُلقتُ يوم بُوريتُ ** أمرت أمرها وفيها رَبيتُ
كنها الله تحت ستر خَفِيَّ ** فتجافيتُ تحتها فخفيتُ
وحكى عن الأصمعي قوله : ربوت في بني فلان أربو نشأت فيهم ، وربيت فلانا أربيه تربية وتربيته ورَبَبته ورَبَّيته بمعنى واحد .
وعن الجوهري حكى : ربيته تربية وتربيته أي غذوته ، قال : هذا لكل ما يَنمِى كالولد والزرع ونحوه اهـ .
كذلك تأتي تلك الكلمة اسما مفردا لمعنى النماء قال ابن منظور : أربيته نميته وفي التنزيل : ﴿ ويربي الصدقات ﴾ وفي الربا قال : ﴿ ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ﴾
وحكى ابن منظور عن ابي اسحاق قوله : الربا ربوان : فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجر به منفعة فحرام ، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر .
وذكر عن الفراء : قرئ هذا الحرف ( ليربو ) بالياء ونصب الواو قرأها عاصم والأعمش ، وقرأها أهل الحجاز ( لتربوا ) بالتاء مرفوعة . وكل صواب فمن قرأ لتربوا فالفعل للقوم الذين خوطبوا دل على نصبها سقوط النون ، ومن قرأها ليربو فمعناه ليربو ما أعطيتم من شيء لتأخذوا أكثر منه ، فذلك رُبُوُّهُ وليس ذلك زاكيا عند الله اهـ .
ويطول الكلام في بيان تعدد الأوجه لمعاني تلك الكلمة ، والذي قادر على أن يهب نبيه مجامع الكلم ويختصر له اختصارا فيشمل معاني عدة بالكلمة الواحدة يطلقها في الوصف ، فكيف بالله نفسه الوهاب ومقدرته على طي كل تلك المعاني تحت كلمة يصف بها أمرا ما ويريد أن يدخل تحتها معاني جمة تدل على قدرته وعظيم حكمته ورحمته بعباده ، فتبارك الله القادر على كل شيء .
والذي يترجح في خصوص معنى تلك الكلمة على سبيل الحصر ببيان المقصود هنا ويدل عليه دلالة مطابقة غير ما فات من بيان معنى الإنماء والإنشاء والتربية ، الزيادة فمعنى كلمة ( ربوة ) الزيادة أشار له ابن منظور في كتابه لسان العرب وأحال معناه لأثر كما قال في حديث طهفة قال : من أبى فعليه الرِّبوَةُ . أي من تقاعد عن أداء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة الواجبة عليه كالعقوبة له ، ويروى :
من أقر بالجزية فعليه الربوةُ أي من امتنع عن الإسلام لأجل الزكاة كان عليه من الجزية أكثرُ مما يجب عليه بالزكاة اهـ .
وقال صلى الله عليه وسلم عن الصدقة : ( وتربو في كف الرحمان حتى تكون أعظم من الجبل ) . أي تُنَشأ متنامية .
وقال تعالى في صفة الأرض : ﴿ اهتزت وربت ﴾ قيل عظمت وانتفخت وقرئ ( وربأت ) فمن قرأ : وربت فهو ربا يربو إذا زاد ، ومن قرأ وربأت بالهمز فمعناه ارتفعت . حكاه ابن منظور في لسان العرب .
وذكر في قوله تعالى : ﴿ فأخذهم أخذة رابية ﴾ . أي أخذة تزيدُ على الأخذات ، قال الجوهري : أي زائدة كقولك : أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت اهـ .
وهذا هو المرجح بأن معنى تلك الكلمة الزيادة ، وإن كان ﴿ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ ، حين عصوا الرسل أخذهم الله تعالى أخذة رابية والمعنى كما قال ابن منظور : أخذة زائدة على الأخذات من قبل . فأخذت هؤلاء المتأخرين ستكون زائدة على كل أخذة من قبلهم لأشرار الأمم وجبابرتهم كالفرعون وغيره ، ولهذا سمى تعالى المكان الذي آوى إليه مريم المصطفاة وجنينها الآية بالربوة أي الزيادة بما ادخرته للمتأخرين بما تحت تلك الأرض عما كان منها في زمن الفرعون ، ولما كان ذلك محفوظا لهم هناك مستورا ، وصفه بالقرار أي المحفوظ به ما للمتأخرين فيه زيادة ، وبالمعين يريد حين تحقق تأويله فيكون في وقته مشاهدا مشاهدة عظيمة .
ووجه نمو ذلك ورباه عند الله تعالى هو هذا المعنى المبسوط شرحه هنا بأن مئاله للزيادة في تحقق معنى النصرة للمؤمنين والشدة على الأعداء أكثر مما كان من الأمر قبل في زمان الفرعون ، ففي زمان الفراعين الصغيرة المتأخرة فالأمر سيكون أشد وبه زيادة عظيمة على كل ما فات من أخذات ربنا للأشرار في الأمم السابقة .
ومهما يقول من لم يصدق بهذا التفسير فهو خير له لو آمن به من قولهم المشهور وانزالهم كلام الله تعالى ووصفه على وفق حثالات تصوراتهم ومستخرجات عقولهم القاصرة عن استيعاب حقيقة هذا الأمر الرباني الجلل ، واعتبارهم ذلك في مجرد وصف لتضاريس مكان ما يجهلون أين فينزلون كلام الله تعالى على مجرد وصفه لرمال ونبات ، وهذا مما جرى على عادتهم في تبسيط معنى كلام الجبار عز وجل الذي لا ينزل كلامه إلا لمعنى موافق لعظمة احاطته بالغيب وكبير تدبيره وتقديره وتحقق ما يريد من تأويل عظيم وخواتيم جليلة رعى أمرها ودبرها ورباها ونماها من الإبتداء للنهاية .
وحتى في المعنى المعتبر لحسن نبات تلك الربوة ، فقد شبه اخراج أمره من هناك بالنبات والزرع سواء في القرآن أو الأنبياء ، أما في الأنبياء فيكفيكم الوقوف على بسط الكلام في هذا الكتاب لتجدوا فيه مثل قول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ لتنفتح الأرض حتى يثمر الخلاص ، وينبت البر .. من انبأ بهذا منذ القدم ومن أخبر به من زمن بعيد ألست أنا الرب ولا إله غيري ، بار ومخلص وليس هناك آخر ﴾ .
وقوله : ﴿ تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَعَلَ ، اِهْتِفِي يَا أَسَافِلَ الأَرْضِ ﴾ .
ويقول نبي آخر وهو هوشع عليه الصلاة والسلام : ﴿ الآنَ يَذْكُرُ إِثْمَهُمْ وَيُعَاقِبُ خَطِيَّتَهُمْ إِنَّهُمْ إِلَى مِصْرَ يَرْجِعُونَ ﴾ .
إن الميعاد إلى مصر ولهذا أعطى عن ذلك لمحة في ذكر مريم وابنها عليهما الصلاة والسلام في الربوة ذات القرار والمعين .
وعلى لسان النبي ارميا حين أمره تعالى عند تدمير الهيكل وتدنيس تلك المقدسات المنبوذة المطرودة من رحمة الله عز وجل ، أمره أن يخبئ التابوت وما فيه وخيمة العهد وتلك المقدسات فقال حين تعقبه بعضهم ليعلموا أين سيخبئ كل ذلك :
وعندما وصل ارميا إلى هناك وجد غرفة في كهف وضع فيها الخيمة ، والتابوت ، ومذبح البخور ، ثم قام بسد المدخل ، لكن بعض الذين تبعوه جاءوا يقصدون أن يضعوا علامة على الطريق المؤدي إلى ذلك المكان لكنهم لم يجدوه وعندما سمع ارميا بهذا وبخهم قائلا : هذا المكان يجب أن يظل غير معروف حتى يجمع الله شعبه مرة أخرى ويرحمهم ، حينذاك سيعلن الرب هذه الأمور وسيرى مجد الرب في السحابة ، كما حدث أيام موسى ، وأيضاً عندما صلى سليمان أن يتقدس الهيكل بصورة مجيدة . ( السؤال: ماذا حدث لتابوت الشهادة ؟ تعقيب 6 الملف منشور في موقع المهدي )
ومصداق ذلك بكتاب ربنا تعالى القرآن : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ . وهذه في كتاب الله تبارك وتعالى اشارة منه لأمر اخراج التابوت في آخر هذه الأمة ويكون من أمره كما كان في زمان موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، فقد كان يتراءى لهم من خلال ظلل الغمام يغشى قدس الأقداس ، ولما أخبر تعالى بأن مثل هذا كائن فيما بعد كوعيد دل ذلك على أن التابوت سيكون من أمره مثل ما كان في زمان النبيين موسى وسليمان عليهما الصلاة والسلام ، وإلى ذلك كان يرمي بقوله في القرآن في سورة الأنعام : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ . وسيأتي الملائكة حين اخراج التابوت ورب الملائكة وتلك الآيات مع التابوت ، فكل ذلك سيأتي حين الفصل والقضاء وتمييز الخير عن الشر ، وأهل الخير عن أهل الشر ، وهكذا قدر ربكم وهكذا هو قضاءه الذي وعد بتحقيقه آخر الزمان ليختم نهاية أعمالهم في الدنيا ويتم كلماته وهو القادر على كل شيء ، الحكيم العليم العادل تبارك الله رب العالمين .
ومما يدل على أن مكان تحقق تأويل ذلك وابتدائه من مصر ما قاله النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام في موضعين الأول قوله : ﴿ وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ : هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ ﴾ .
والثاني قوله : ﴿ في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط ارض مصر ، وعمود للرب عند تخمها ﴾ .
وكل هذا التواتر في عمل الرب آخر الزمان كما عمل في زمان النبي موسى عليه الصلاة والسلام ، ومنه تعيين تحقق ذلك في مصر ، وهو القضاء الذي قضاه على مصر بأن هكذا سيعمل بهم وفي وسطهم خبأ تابوت الشهادة والعصا ، فقال اشعيا النبي عليه الصلاة والسلام بعد ما فصل في أحداث ستقع على مصر آخر الزمان فقال ما يلي : ﴿ فاين هم حكماؤك ؟ فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر ﴾ .
إنه القضاء العظيم الذي جهله كافة الناس لا حكماء مصر فقط ، وحين أمر الله تعالى بذهاب مريم وابنها عليهما الصلاة والسلام إلى هناك فوق ذلك المخبأ ، إنما أمر بذلك ليعطي لمحة في القرآن عنه بما نقلت هنا من قوله في سورة الأنعام ، فالحمد لله على هدايته وانارته بصائرنا ليعرفنا بأسراره ومكنونات كتابه المجيد ، والتي منها أمر تابوت الشهادة والعصا الربانية ، وحين يقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ اِهْتِفِي يَا أَسَافِلَ الأَرْضِ ﴾ ، وقوله أيضا : ﴿ لتنفتح الأرض حتى يثمر الخلاص ، وينبت البر ﴾ ، وقول هوشع عليه الصلاة والسلام : ﴿ إِنَّهُمْ إِلَى مِصْرَ يَرْجِعُونَ ﴾ ، نجد الله عز وجل بكتابه القرآن يجمع كل ذلك بآيات من سورة الروم ، ما تعد باعتقادنا في أصول دعوتنا المباركة بمثابة إشارة من جملة إشارات وردت في كتاب ربنا القرآن المجيد تنبه على أمر تلك المقدسات العظيمة ومنها التابوت * تابوت الشهادة هذا ، وذلك في قوله عز وجل في تلك السورة : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ، وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ . **
ومما يصح أن يعد اشارة كذلك في القرآن المجيد لسر التابوت المخفي تحت الأرض في ظلمات الأقبية ما قاله في سورة النمل : ﴿ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ .
قابل بذكر سره في السماء والأرض ما يخفون من أسرارهم ، وستجدون على عادتهم تبسيط معنى كلام الله عز وجل وضحالة تفسيرهم لذلك المعنى ، فحملوه على الغيث العام النازل من السماء ، ومخفيات الأرض على خروج النبات ، وردنا عليهم بأنه الغيث بحق لكن ليس على العموم بل هو غيث مخصوص يرسله تعالى لجزيرة العرب الميتة ليحييها بعد موتها ، وهو من أمر الساعة وعلامة لها أكيدة نبأ عنها في القرآن وعلى ألسنة جمهرة من الأنبياء ، ولا يعلم متى تحقق ذلك إلا هو ولهذا ربط ذكر ذلك مع الساعة فقال عز وجل : ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ﴾ .
فهل يعلم أحد متى الساعة ؟!
وكذلك الغيث الخاص لحياة أرض جزيرة العرب آخر الزمان هل يعلم أحد متى يكون تحقق تأويل ذلك ؟!
وهذا خبء السماء ، وأما خبء الأرض فهو بالتابوت والعصا معه ، وهو أعظم خبء له في باطن الأرض وعد بإخراجه للفصل آخر الزمان على ما فصل هنا وفي غير هذا المكان .
ومن لطفه تعالى أنه مثل ما ربط بذكره مريم وابنها الآية عليهما الصلاة والسلام كما مر معنا قبل ، هو هنا يربط ذكره أيضا بذكر اليمن الأول عباد الشمس لأن من مخبوءات الله تعالى في أولئك أنه من ديارهم تلك سيخرج الله تعالى ويهدي ذرية من هناك ليكونوا أكثر أتباعا للمهدي عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك مناسبة لربط ذكر التابوت المخبأ في باطن أرض مصر بذكر أولئك ، خصوصا على قراءة من عد ذلك خطابا من الله تعالى لا قولا على لسان الهدهد ، فربط ذكر ذلك بهم مثل ما ربط ذكر المسيح وأمه به لمناسبة رجعته آخر الزمان ليتم الفصل بكل ذلك وتقوم الشهادة به على الكفار جميعا .
إنه سر الله تعالى حقا كما بين في سورة الفرقان فقال عز وجل هناك : ﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ، السر الخاص الذي اختص شأنه بعباده الذين زكاهم بكتابه الزبور بحفظ عهده وحفظ شهاداته وجعله خاصا بهم فقال هناك : ﴿ يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ ، وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ ، كُلُّ سُبُلِ الرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ ، مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الْخَائِفُ الرَّبَّ يُعَلِّمُهُ طَرِيقًا يَخْتَارُهُ ، نَفْسُهُ فِي الْخَيْرِ تَبِيتُ وَنَسْلُهُ يَرِثُ الأَرْضَ ، سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ ، وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ ﴾ .
والتابوت وما فيه كله شهادة لله عز وجل على الكفار ، ولا يستحقه ولا يكون له إلا من كان حافظا لعهده حافظا لشهاداته ، وهو عين ما لا زال قائما بحق كل ذلك المهدي عليه الصلاة والسلام في مبسوط كتبه ومقالاته في هذا الموقع المبارك ، يقرر ذلك ويتعهده بتوفيق وتسديد من الله عز وجل ، فكان ذلك السر أخص به وبره الذي سيظهره الله تعالى للعالم جميعا ، حتى يسير أمامه كما قال النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا ، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ ﴾ .
ولأنه يقصد بذلك وجود التابوت محمولا من الملائكة يسيرون أمامه كما كان في زمان بني إسرائيل ، قال في موضع آخر النبي ميخا عليه الصلاة والسلام ما يلي : ﴿ وَيَجْتَازُ مَلِكُهُمْ أَمَامَهُمْ ، وَالرَّبُّ فِي رَأْسِهِمْ ﴾ .
وفي هذا الخصوص يقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ رَبُّ الْجُنُودِ إِكْلِيلَ جَمَال وَتَاجَ بَهَاءٍ لِبَقِيَّةِ شَعْبِهِ ، وَرُوحَ الْقَضَاءِ لِلْجَالِسِ لِلْقَضَاءِ .. وَيَتَعَالَى رَبُّ الْجُنُودِ بِالْعَدْلِ ، وَيَتَقَدَّسُ الإِلهُ الْقُدُّوسُ بِالْبِرِّ ﴾ .
والرب لا يتراءى ويحل مجده من خلال ظلل الغمام إلا فوق المقدس تابوت الشهادة قدس الأقداس كما تقرر هذا من تفصيل قبل ، إن ثبت بمكان أو كان سائرا ، كما حصل في زمان موسى وسليمان عليهما الصلاة والسلام .
وقال بذلك النبي زكريا صريحا : ﴿ وَيُرَى الرَّبُّ فَوْقَهُمْ ﴾ . وهو عين ما تقرر من كلام النبي ارميا عليه الصلاة والسلام حين خبأ تابوت الشهادة بأمره تعالى فقال قوله المذكور قبل .
ومن كلام الأنبياء في بيان اختصاصه بالمهدي قول اشعيا عليه الصلاة والسلام في المهدي : ﴿ فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلهِي ، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ ﴾ .
ولما كان وجود تابوت الشهادة في مصر وكان من خبأه هناك بأمره تعالى النبي ارميا عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ هأَنَذَا أُرْسِلُ وَآخُذُ عَبْدِي وَأَضَعُ كُرْسِيَّهُ فَوْقَ هذِهِ الْحِجَارَةِ الَّتِي طَمَرْتُهَا فَيُبْسِطُ دِيبَاجَهُ عَلَيْهَا .. وَيَلْبَسُ أَرْضَ مِصْرَ كَمَا يَلْبَسُ الرَّاعِي رِدَاءَهُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ بِسَلاَمٍ ﴾ .
يلبسه رداء البر فيمكنه في الأرض ليقضي الله تعالى أمرا كان مفعولا .
وما ذكرت قبل في الأنبياء عن التمثيل للتابوت وخروج بره بالزرع ، مثله في القرآن عن تمثيل الله تعالى أمره هذا بالزرع في قوله عز وجل : ﴿ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ .
فبر الله تعالى الذي سيجتمع عليه كل رسله وأنبياءه الأشهاد سيخرج من باطن الأرض خروجا شبهه الله تعالى بخروج النبات كما قال على لسان النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام ، وعده كنوزا في المخابئ وظلمات الأقبية .
ومما يصح أن يعد اشارة كذلك في القرآن المجيد لأمر التابوت بما افتتح به تلميحا إليه وإلى أصحابه من قبل اليهود ، تلك الآيات في أول سورة البقرة بعد قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ . ويريد بالآخر الوعيد بيوم الفصل وهذا مما كان أشد الناس إيمانا به بزعمهم اليهود حتى كانوا يستفتحون به على أعدائهم والقرآن نص على ذلك ، ولكنهم في الحقيقة هم أشد كفرا به وجحدا ، فكان تعريض الله تعالى لهم بتلك الآيات بين وأخص امورهم ألا وهو التابوت فقال عز وجل في ذلك تشبيها لحالهم معه ما يلي : ﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ . أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ .
مثل انزال نوره لهم بوحيه من خلال التابوت بالذي استوقد نارا ولما استنار له الطريق وما حوله ، ذهب نوره فعادت به تلك الظلمة بعد النور لا يبصر الطريق ، وهذا عين ما حصل لهم بذلك التابوت وبعد ما ذهب به ، فقد كان لهم بمنزلة النور للسائر على الدرب في ظلمات الليل ، وقد اشتهر الخبر عنه في كتابهم طوال بقاء موسى صلى الله عليه وسلم فيهم وإلى زمان خليفته وبعده لزمن طويل ، حتى كان الحال معه في زمان النبي موسى صلى الله عليه وسلم لما يقارب الأربعين سنة ، لا يرحلون ولا ينزلون منزلا إلا بعلامة مسير التابوت وتوقفه ، وعلى وفق ذلك كانوا يسيرون ويتوقفون ، ويعرفون بتوقفه وتوقف ظلل الغمام فوقه ، أن في ذلك المكان مستقر جماهيرهم ، وأن هناك اختار لهم الله عز وجل مسكنهم ، فكان ذلك التمثيل مطابقا لحالهم تلك مع تابوت الله عز وجل ومجموع أقداسه .
وعلى ذلك استطراده بالتمثيل مع حالهم بالصيب والبرق ، وأنهم مع ضوء البرق يمشون وإذا أظلم قاموا ، وفي كل ذلك تمثيل لحال اليهود مع تابوت الله تعالى ومجموع تلك الأقداس العظيمة ، إذا كما ذكر مشى مشوا وإذا توقف توقفوا ، ثم بعد ذلك ذهب به فلا دليل لهم رباني من بعده ، ولو شاء الله القادر على أن يذهب كذلك بسمعهم وأبصارهم مثل ما ذهب بالتابوت منهم لفعل لأنه على كل شيء قدير ، ولو شاء ذلك لفعل .
ولهذا لما كان تعالى تمثيله بذلك المراد به تابوت الشهادة مع اليهود وبيان حالهم معه ، وأن به سيعمل الله تبارك وتعالى في تعيين خليفته المختار كما في اليهودية في امة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الزمان ، عقب ذلك بقوله تبارك وتعالى العليم الحكيم : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ . كان من علمه ارتباط ذلك قدرا وشرعا ، وأعلن تقديره أمر ذلك الخليفة من لدنه وأعلن عن ذلك نبوءة بين الملائكة قبل أن يخلق الإنسان ، وكان بذلك ترتيباته في ذلك السياق لآيات سورة البقرة ، أمثلة عن حال التابوت مع اليهود ، واخبار الملائكة عن تقديره ذلك بجعله خليفة في الأرض وأن تلك نبوءة قدرها لعلمه الغيب وأنه فعال لما يشاء سبحانه ، فتبارك الله الخالق العظيم المدبر الحكيم العادل .
وهذا بإيجاز الشرح والتفصيل عن اللمحة الثانية في التابوت ووجوده ، بكتاب الله عز وجل القرآن أحببت تعليقه لكم هنا في هذا الكتاب لتتحفوا أنظاركم بذكر ذلك وتسعدوا أرواحكم بقراءة تفاصيل ذلك ، والله الموفق .
-----------------------------
* الأولى في قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ﴾ ، والثانية في : ﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ﴾ ، وهو موضوعنا المشروح هنا ، والثالثة في قوله عز وجل : ﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ﴾ ﴿ وخير أملا ﴾.
** شرح معنى تلك الآيات في الفصل الرابع من هذا الكتاب .
Powered by Backdrop CMS