الفصل الثالث
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ﴾ ﴿ وخير أملا ﴾
وبعد أن تم انجاز التقرير في معنى قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ﴾ ، وبيان أن ذلك متعلق بتابوت الشهادة المذكور خبره في سورة البقرة في زمان بني إسرائيل والذي أسسه الله تعالى على يدي النبي الرسول موسى عليه الصلاة والسلام ، وجعله تعالى وما فيه ومتعلق به باق في بني إسرائيل أتتهم به الملائكة تحمله آية على ملك أول خليفة في بني إسرائيل لله عز وجل ، لأنه هو من اختاره لهم بعد أن طلبوا يكون لهم ملك كما للأمم غيرهم ، فاختار لهم ذلك الملك وجعل آية ملكه تابوت الشهادة تحمله الملائكة حتى وضعته بين يديه : ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
ثم تبع ذلك تقرير الكلام في قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ ، وبيان أن المقصود بالربوة ذات القرار والمعين متعلق هو أيضا بذلك التابوت مع بعض اشارات تدل على أمر ذلك التابوت العظيم المقدس الآية الباهرة على تعيين أول خليفة لله تعالى في بني إسرائيل وسيكون كذلك آية باهرة على تعيين أول خليفة لله عز وجل كذلك في هذه الأمة ، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال ما معناه أنه ما كان في بني إسرائيل شيء إلا وهو كائن في هذه الأمة ، ومن أبرز وأعظم ما كان فيهم أمر ذلك التابوت المقدس بل كان قدس الأقداس لا يمسه أي أحد ولا يجوز النظر له حتى ، ومن مسه من غير سماح من الله تعالى هلك ولو بمجرد النظر ، لذا كان مما يجب عليهم ستره ووضعه داخل خيمة سترا ثان له ، وكان من عظيم قداسته أن الغمام يغشاه ويحدث الله تعالى من خلاله نبيه موسى صلوات ربي وسلامه عليه .
وفي هذا المقال أتى الدور على بيان معنى قوله عز وجل : ﴿ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ﴾ .
وأن ذلك متعلق به أيضا ، وهو وما فيه الباقيات الصالحات وهو خير ثوابا وخير مردا ، وبأمره المعاد الذي وعد نبيه أن يرده إليه حين تحقيق ذلك فقال له عز وجل : ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ .
ولأن كل ذلك بسبيل واحد قال بالهدى في وعده للنبي صلى الله عليه وسلم بالعودة وقال به في أمر الباقيات الصالحات تابوت الشهادة وما فيه ، ومما فيه لوحي الشهادة والتوراة كتاب الله تعالى الذي فصل فيه كل شيء فقال في ذلك : ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ . وهذا في سورة الكهف ولما كان هذا متعلق بتابوت الشهادة واعادة أمره للناس ثانية آخر الزمان قال تعالى بذلك السياق من سورة الكهف : ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً ، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ .
والكتاب ذاك هو المنزل على قلب موسى صلوات ربي وسلامه عليه فصل لهم فيه شأنهم وما يكون من أمرهم ليكون لهم هدى وبينات ، لكنهم كفروا بذلك وحين يؤتى به مع التابوت آخر الزمان ويحضر لذلك عتاتهم لتقوم الشهادة عليهم وحين يوقنون بتحقق أمر الله تعالى المقدر المكتوب ، حين ذاك يجزعون ويقرون بأن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وبينت عليهم مطابقة يرون ذلك من أحوالهم التي كانت مع ما فصل بذلك الكتاب ، فسبحان من اقررهم بذلك وأبلغهم علمه بالغيب ومقدرته على كل شيء : ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ﴾ ، ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ ، ﴿ إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ، وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ .
وهناك تفصيل تحت هذا العنوان في بيان معنى تسيير تلك الجبال : ( هل وقعت القارعة ؟ وقفة مع ذكر الجبال وأحوالها في القرآن من خلال سورة (القارعة) ) .
وبروز الأرض وحشر الأشد على الرحمان عتيا منهم تجدونه مبسوط البيان تحت عنوان هذا الفصل من كتاب مجد طيبة : ( الفصل الرابع : براكين مكة والمدينة حقيقة لا يعرفها العامة والجيلوجيون ) .
وابراز الأرض معناه الكشف عن تلك الأسرار بايقافهم على حقيقة أبواب جهنم من أين تكون مفتحة ليطرح فيها تعالى من علم أنه مستحقا لدخول النار والناس لا زالوا في الدنيا ، ولما كان ذلك متعلق في رجوع الناس لأمر تلك الباقيات الصالحات بأن يجعل لذلك مردهم وفيه للمؤمنين أملا ليورثهم الجنة التي وعد عباده وينجيهم من الضيق والإضطهاد وكل تلك الملمات التي ستقع عليهم لا يجدون منها فكاكا ولا ردا ، فقال تعالى في سورة مريم ما يلي تبارك وتعالى : ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ، إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ، جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ..
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ، وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ، أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ، ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ، وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً ، قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ﴾ . ولم يشفع لذكر الله تعالى هنا بيانه في الموعودين بكل ذلك وعيده بأن يحيق بهم العذاب أو الساعة ، فتوهموا لذكر تلك المفردات في السياق من حشر لجهنم ومع الشياطين أيضا وذكر انكار البعث والورود ، فكل ذلك شتت أذهانهم وصرفهم عن لب السياق وسره المكنون ، فتداخلت عليهم المواعيد وأساسها موعدة الله تعالى بالرجوع بهم لتلك الباقيات الصالحات ليحسم أمرهم ويقضي فيهم بما قدر وكتب سبحانه العليم الحكيم .
ولم يشفع لذكره تعالى هذا نزع العتاة الأشداء بالكفر من كل شيعة ، وكأن ما يدخل جهنم إلا هؤلاء دون من اتبعهم ، لكن لما كان هؤلاء دخولهم في ذلك الوقت حتمي من دون سائر الخلق لأن الله عز وجل عالم بشديد كفرهم عليه وعلى دينه وشريعته ، فينزعهم كما وعد من بين شيعهم فيصليهم النار بعد اقامة الشهادات عليهم ، ثم أتباعهم مرجوون ليوم الحساب العام الأكبر وحينها يكون دخول الجميع ويكون ذلك الورود العام ، لكن قبل ذلك الفصل وهم بالدنيا في أمر أولئك العتاة شديدي الكفر والعناد والكبر ، ولهذا كان مرد ذلك السياق من سورة مريم لذكر الباقيات الصالحات والمعني بذلك التابوت وما فيه ومعه ، فسبحان مدبر الأمر الذي لا يقضي سواه ولا يخرج الخبء من السماء والأرض غيره ، وإليه منتهى كل تلك الأسرار لا يكشف عنها إلا هو تبارك الله رب العالمين الذي له القضاء لا لغيره .
ثم حتى ذكر الشياطين أوهمهم ذكرهم هنا فحسبوا المعني بذلك العرض العام والحساب العام ثم الدخول العام لجهنم ، وجهل أولئك أن الشيطان القرناء لأولئك العتاة هم المعنين بذلك الوعيد كذلك دون سائر الشياطين ، ارتبط المصير لكل شيطان قرين مع كل انسي عات بالكفر والكبر ممن سيحاسبهم الله تعالى وهم بالدنيا ثم يدخلهم الجحيم بعد اقامة الشهادة عليه ، وأقران أولئك من الشياطين مصيرهم كما هؤلاء ، كل يدخل مع قرينه للنار لا يتخلف قرين عن قرينه أبدا ، ولهذا كان حشر حتى أولئك الشياطين لازم كما ذكر تعالى بتلك الآيات وحتمي لا ينفك وينفصل أحدهم عن الآخر لهذا ذكروا مع بعض باتحاد ذلك المصير والعياذ بالله ﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ﴾ ، وفي العرض العام والدخول العام للخلائق كلها ليس هناك من هو أولى من غيره فلا يتقدم ولا يتخلف أحد فكلهم سيكونون أولى بالدخول وهو مصيرهم المحتوم ، لكن لما كان ذلك دخولا مخصوص وهم بالدنيا وفي ذلك موعدا جعله تعالى لهؤلاء مخصوص لقوله تعالى في سياق آيات سورة الكهف ما يلي : ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً ، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ .
وذلك الموعد احملوا عليه كل ما ذكر تعالى من سؤالهم عن متى ذلك مثل قوله تعالى على ألسنتهم في أكثر من موضوع من كتابه كما في سورة الأنبياء قوله عز وجل : ﴿ خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ، بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ . وآياته الباقيات الصالحات تابوت الشهادة وما فيه ومعه ، يتوعدهم حين يريهم تلك الآيات أن النار حينها ستفاجئهم وتبهتهم ولن يستطيعون لها ردا ، وكيف تفاجؤوهم النار إلا بما تقرر هنا لا في سواه ، وإلا من يموت ويبعث من الموت ثم يساق من أرض الله تعالى الوسعة عاريا وبعضهم يسحب على وجهه ، كيف أمثال هؤلاء سيفاجأوا بالنار وقد كشف عن بصرهم وأيقنوا وقتها المصير ، لكن الذين سيفاجأون أولئك العتاة وزمر الشر والبغي والكفر والعناد ، حين يجدون النار مفتحة أبوابها لهم وهم بالدنيا بعد لم يبرحوها ، وكانوا يحسبون بينهم وبين ذلك أمدا بعيدا ، لكن الله سيباغتهم وإذا هم بالساهرة .
أو قوله عنهم كما في سورة النمل : ﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ، قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ . فانظروا وتمعنوا لروعة مخاطبته لهم بذلك ، فلم يختص انكار البعث ببني إسرائيل ولم يكن فيهم ذلك اللهم إلا لفرقة يقال أنكروا ذلك من المتأخرين سماهم بالإنجيل ووصفهم بذلك الإنكار لذلك عوقبوا بعدم دخول الجنة ، وهؤلاء شذاذ لا يمكن ينزل تعالى خطابه هذا ويقرنه ببني إسرائيل بسببهم ، لكنها تلميحات لأولئك البلهاء كما قال تعالى أنهم بشك من ذلك بل هم منها عمون ، إذ يمارون بالبعث والخروج والله يتوعدهم بالآخرة ودخول الكفار العتاة النار ووصف ذلك ببعض ما يستعجلون به وأن يكون ردفا لهم ذلك ، ومراده المختصون بذلك الميعاد لهذا ختم السياق بتذكير بني إسرائيل بما نزل بالكتاب لأنهم هم المعنيون بذلك ولهم ذلك الوعيد وذلك الإنكار بما سيرجعهم له مما يعد من غيب السماء والأرض ، فالسماء كما تقرر قبل نسبة للصيحة في تعيين المهدي عليه الصلاة والسلام ، والأرض بإخراج تلك الباقيات الصالحات التي تقرر قصصها بكتابه المجيد ، وسيعلم الكفار أي منقلب سينقلبون .
وهل هناك من زعم كذبا ادراكه علم الآخرة إلا أولئك اليهود ؟!
وفي سورة سبأ قال عنهم ورد عليهم بقوله : ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ .
إنه قادم ودوما يتوعدهم به ، فإلى الأمام إلى المباغتة والفجائية العظيمة التي أنتم منها في شك بل أنتم منها عمون ، فسبحان من لا يعلم الغيب إلا هو ، ولا يقضي ويكتب القدر إلا هو ، بيده الخير والموازين كلها إليه تبارك الله رب العالمين .
ومن جهة تفاسير من سلف لمعنى تلك الآيات من سورة مريم والكهف ، فهو على ما اعتادوا عليه من اعمال فكرهم القاصر بمثل ذلك من مواعيد الله تعالى لعباده لم يكن يسعهم يقولون الله أعلم بذلك ، بل قالوا برأيهم وأماني أنفسهم بأن يتأولوا معنى كلام الله تعالى حسب مبلغهم من العلم مع بلوغهم النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول المرء في كتاب الله تعالى برأيه ، ففعلوا ذلك مع أنهم لا يجدوا عن من أوحي إليه بالكتاب شيء في ذلك ، ورغم ذلك خالفوا وقالوا بالرأي والظن وأكثروا على كتاب الله عز وجل بمثل ذلك حتى قال بعضهم في تفسير الباقيات بالبنات ، وآخرون حملوا ذلك على الثواب ، والثواب كما هو بدهي أجر على أعمال وخصها أكثرهم بالذكر ، هكذا ينزلون كلام الله تعالى وتلك المواعيد العظيمة له تبارك وتعالى ، والثواب مما يستقبل لا مما يعقب الإنسان ويسبقه حتى يصح رده إليه ، وتلك الباقيات صريح وعد الله تعالى في ذكرها أن لها المرد كقوله لنبيه في وعده يعيده : ﴿ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ ، والمقصود موعدة له سابقة حتى على بعثه وخلقه بين الناس بما نص عليه بالكتب التي سبقته ، فكان رده له بهذا الإعتبار .
ولما كانت الباقيات الصالحات من الأمور السابقة صح في وصفهم معها بالرد إليها وأن بها الأمل ، أما الثواب فلا يصح في وصفه ذلك لكن من عدم التوفيق قالوا في ذلك بما قالوه ، ولأنهم تجشموا العناء فيما لا يمكنهم معرفة حقيقته فثبت عليهم الخلط وترديد الأقوال الساذجة في أصول عظيمة لم يقدر تعالى لهم بأن يهديهم لمعرفتها ، فغالبوا وغلبوا حتى أتوا بما يثبت فشلهم ومخالفتهم لأمر الله عز وجل اليقين .
ولما كان القرآن في مقام التصديق للذي سبقه ومهيمنا عليه ، كان الأنبياء في كل تفصيلات نبوءاتهم إنما يخبرون عن هذا الأمر على أنه خلاص للمؤمنين آخر الزمان من الإضطهاد والضيق الذي سيلم بهم ولن يكشفه إلا الله تعالى ، وأن لا امل لهم إلا بذلك ولا نجاة إلا بربهم وبما قدر من تفاصيل هذا الأمر والمخرج الرباني العظيم الباهر الذي هو أملهم وخير مرد لهم كما قال تعالى في القرآن في تلك الآيتين ، وستجدون مصداق ذلك بمثل قول النبي إرميا عليه الصلاة والسلام : ﴿ حِينَئِذٍ تَفْرَحُ الْعَذْرَاءُ بِالرَّقْصِ ، وَالشُّبَّانُ وَالشُّيُوخُ مَعًا ، وَأُحَوِّلُ نَوْحَهُمْ إِلَى طَرَبٍ ، وَأُعَزِّيهِمْ وَأُفَرِّحُهُمْ مِنْ حُزْنِهِمْ ، وَأُرْوِي نَفْسَ الْكَهَنَةِ مِنَ الدَّسَمِ ، وَيَشْبَعُ شَعْبِي مِنْ جُودِي ... فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ .
سَيَقُولُونَ بَعْدُ هذِهِ الْكَلِمَةَ ، عِنْدَمَا أَرُدُّهم : يُبَارِكُكَ الرَّبُّ يَا مَسْكِنَ الْبِرِّ ، يَا أَيُّهَا الْجَبَلُ الْمُقَدَّسُ .
هَا أَيَّامٌ تَأْتِي ، يَقُولُ الرَّبُّ ، وَأَقْطَعُ مَعَهم عهْدًا جَدِيدًا يَقُولُ الرَّبُّ : أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا ﴾ .
أو قول النبي هوشع عليه الصلاة والسلام : ﴿ يَجْمَعُ المَنْفِيِّين يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ ، وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ ، الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ ، وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ . لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْلِ لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ ، يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ ، بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ ﴾ . فكل الأمل في هذا الأمر ولا ملجأ إلا لله تعالى ، لأن الأرض كلها اتحدت ضد عباده ، ضد دينه والعقيدة التي أحب والشريعة التي أرتضى لخلقه ، ثم من يمكنه يخلصهم من كل أولئك وهم بتلك الكثرة والقوة ؟!
ليس إلا الله تعالى ملجأ للضعفاء من عباده في وقت الشر هذا ، ولا يمكن يجيب المضطر إلا هو تعالى ، وبتلك القوة الباهرة الربانية العظيمة ، حينئذ تعلم الأرض كلها من هو الله تبارك وتعالى ، ما هي قوته ، وكيف جبروته ومدى مقدرته ، وكيف أنه فصل عن ذلك بالكثير والكثير من كتبه وعلى ألسنة الكثير من رسله ، فتبارك الله رب العالمين .
Powered by Backdrop CMS