من تخريجات ابن تيمية الباطلة على أصل قوله في تعيين الطائفة المنصورة
قوله رحمه الله تعالى في الجواب الصحيح : لو كان النصارى متبعين المسيح والمسلمون كفارا به ، لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين .. اهـ . ( 3/506 )
وهذا الواجب لا يشك بتحققه اليوم عاقل مدرك ، وهل واقع الأمة المعاصر المخزي لقضها وقضيضها إلا تكريسا لما نفاه ابن تيمية وادعى لازمه ما افترض من باطل ! ، وما افترض ذلك إلا لإستحالة حصول ذلك عنده ، والذي جره لهذا فهمه الخطأ لمعنى خبر الطائفة المنصورة والقول في تعيينها ، وإخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام بظهورها وعدم تضررها بخذلان الخاذل ولا مخالفة المخالف ، وضمان الله تعالى لها النصرة الدائمة والظهور على أعدائها ، فحمل ذلك ابن تيمية على التعيين الخطأ فوقع من قوله ما وقع وكان مستبعدا له مفترضا إياه على الإستحالة ، مستدلا بذاك على بطلان دين النصرانية المحرف ببطلان هذا اللازم واستحالة وقوعه ، لكن الطامة أن ظهورهم اليوم أظهر من أن يجحد وهم في واقعنا أمكن وأقدر من أن يظهر عليهم لا المسلمون ولا المشركون ، وعلى وفقه ماذا يجب أن نعتقد فيما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ؟! ، إلا أن نوقن أن ذلك من الافتراض الباطل ، وتبقى عقيدة المسلمين سالمة من المعارضة بهذا اللازم ، والخلل إنما أتى من فهمه هو نفسه لخبر الطائفة المنصورة والقول في تعيينها !! .
وزاد من خطأه رحمه الله تعالى توسيعه دائرة الطائفة المنصورة وتعميمها هنا ليدخل سائر الأمة تحت حكمها في مقابل النصارى فقال ما قال وافترض الباطل لازما على وفق هذا الفهم الغير صواب ولا شك .
وأيضا زاد في ذلك حين التزم إدخال طلاب المسيح عليه السلام وأتباعه في أول عهدهم في ذلك ، فاضطرب عليه ولم يأتِ بشيء إلا التخبط في طريق الوصول لمعرفة حقيقة هذا الظهور ومتى أوانه .
أورد ذلك على نفسه بجوابه المعارض لعقيدة النصرانية المحرفة ، حين زعم احتجاجهم لصحة دينهم الفاسد بقوله تعالى : ﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( الآية 55 من سورة آل عمران )
قال رحمه الله تعالى في هذا : وقالوا ـــ أي النصارى ـــ ولنا في هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم .. وأعظم حجتنا ما وجدنا فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .
فأجاب رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله : ما ذكروه حجة عليهم لا لهم ، فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، وخبر الله حق ، ووعد الله صدق ، والله لا يخلف الميعاد ، فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم .
ثم لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الذي بعث به المسيح ، وسائر الأنبياء قبله ، ... صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته ، وكذبوه فيما بشر به ، فجعل الله أمة محمد فوق النصارى إلى يوم القيامة ! ، كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة .. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة .
ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم ، وأخذوا منهم خيار الأرض : الأرض المقدسة ، وما حولها من مصر والجزيرة ، وأرض المغرب ، ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى ، ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين ، وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم ، ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم .
ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح والمسلمون كفارا به لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين ، لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى ، فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى اهـ . ( الجواب الصحيح 3/504 )
هذا تمام كلامه المنكر في هذا الأمر ينقضه ما عليه واقع الأمة التعيس اليوم مثل ما ذكرت آنفا ، فالنصارى لهم السلطة المطلقة في التحكم بمجريات الحكم في بلدان الوطن العربي وغير العربي من شعوب العالم المنتمية للإسلام ، وما حكام هؤلاء إلا دمى بأيدي النصارى ، دمى لعب أو أحجار شطرنج على طاولات وكالات الإستخبارات الغربية ، يقلبون أمورهم مثل ما يشاؤون على وفق مصالح النصارى العامة ، وهم بمثابة النواب الأذلاء الذين لا يتوانون في تنفيذ رغبات سيدهم وإمامهم الأكبر ! .
وهكذا دائما الإمام الأكبر لا بد له من نواب صغار يديرون تفاصيل الممالك دونه لاستحالة أن يدير كل التفاصيل بنفسه فلا بد له من أعوان ، وعليه نصبوا هؤلاء الحثالة ليديروا مملكتهم الكبرى لا أكثر .
هم ظاهرون ولازم ابن تيمية ثبت بطلانه ولا يعني هذا أنهم على دين الحق أبدا ، لا يعني هذا التسلط والظهور ذلك إنما المعارضة حصلت في مخيلة شيخ الإسلام وغيره من فهمهم الباطل لخبر ظهور الطائفة المنصورة وظنهم دوام ذلك إلى الأبد من عصر السابقين .
وما يعنيه هذا الظهور للنصارى على سائر العرب اليوم وعلى كل من ينتمي للإسلام من الشعوب الغير عربية ، هو بطلان حال الأمة العربية وغيرها ممن ينتمي للإسلام وفساد دينهم جميعا لا في أصله ، حاشا لله أن يكون دين الإسلام باطلا والعياذ بالله ، لكن فسد الدين الذي يحسبونه الإسلام بتلبيس رهبان السوء ، مثل ما أفسد إخوانهم دين اليهودية والنصرانية من قبل ، وحرفوا الدين بتأويلاتهم الباطلة وأذهبوا نوره مثل ما فعل أمثالهم في ملل الكفار من قبل ، فانطمست معالمه الظاهرة وعاد في أصله وفصله غريبا لا يعرف إلا من هذه الفئة القليلة الطريدة المنبوذة ، طائفة المهدي ومن معه ، هذه هي الحقيقة التي ينبغي على الجميع إدراكها ، وليس الأمر على ما زعم الزاعمون وتمنى المتمنون !! .
وليس بصحيح أيضا قول ابن تيمية في المانع من ظهور اليهود ، وأن هذا لمقتضى أخبار الطائفة المنصورة وبقاء الدين عزيزا على الدوام ، أبدا فاليهود هم أيضا اليوم ممكنين من العرب ، تمكينا إن لم يكن أقدر وأمكن من تمكين النصارى فليس دونه ، والظاهر للعارفين المطلعين على خفايا الأمور أنهم أمكن من النصارى لكنهم يديرونها من وراء الستار ، وهذا بين من مجريات الأمور العالمية في سياساتهم الدولية المعاصرة ، اليهود لهم المكنة المطلقة على السياسة الدولية ، فالعالم كله محكوم من حزبي أمريكا جناحي النسر !! ، وهؤلاء محكومين من اليهود لا يماري بهذا إلا جاهل أو جاحد .
فهل يعني تسلط اليهود بالقوة وظهورهم على العرب أن دينهم في أصله باطل أبدا لا يعني هذا , بل العرب هم الباطل وهم من كفر وارتد عن الدين الصحيح وتخلوا عن أصله ، فسلط عليهم هؤلاء التسليط العام الذي نفى تحققه ابن تيمية لإستدلاله الغير صحيح ، وافترض مثل ما قلت لإستحالة تحققه ذاك الباطل من اللازم ، أن يكون دينهم حق ودين المسلمين هو الباطل ! .
لكن الحق أن العرب هم الباطل ودين محمد وشريعته صلى الله عليه وسلم دائما هو السالم ولو حرف المحرفون وأذهب إشراق نوره جهالات أحبار السوء ، لكن يبقى في أصله سالم ولروحه حياة في جيله القادم ، ينهضهم الله تعالى به ويعلي شأنهم كعهدهم السابق متى شاء سبحانه ، فكلماته تامة ومواعيده كلها صادقة ، وأي خلل إنما يعود لتقصير الناس وجهلهم في فهم تلك المواعيد وحقيقتها .
ثم قوله رحمه الله تعالى : فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .. فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم اهـ .
أقول : هذا من أكذب الأقوال وأشدها تخرصا خصوصا مع ظنهم أن ذلك كائن ليوم القيامة ، لكن ماذا بوسعي أقول وأنا في دهشة شديدة من هذه المقدرة الذهنية على الجمع ما بين المتناقضات والمخالفات التاريخية والواقعية ! .
من أين أتى ابن تيمية رحمه الله تعالى بما قال ليحمله على ظاهر القرآن ، إنها النبوءات حين يفسدها التأويل الباطل ويذهب نور حقيقتها التحريف ! .
هذا غير صحيح على الإطلاق بل تلاميذ المسيح عليه السلام نالهم من الإضطهاد بعد رفعه والتشريد والتعذيب ما نالهم ولم يمكنوا ! ، وما مكن مبشرهم نفسه عليه السلام فكيف بهم ، والكل يعلم ما حصل في قصته وما وقع من تشبيه الله تعالى لأعدائه على أحد تلاميذه فظنوه المسيح وليس هو ، بل رفعه الله تعالى وطهره من رجسهم ونجسهم ، وكان الأمر شديد الغموض حتى قال بصلبه بعض أخلص تلاميذه ! ، بل صدقت أمه عليها السلام أن هذا ما حصل لولدها حتى طالبت بجثة المصلوب ، وكانت الفتنة عظيمة جدا في ذلك .
لكن الله تعالى برحمته ستر ورفع الغمة عنها وعن أخلص تلاميذه بعودته ! وإيضاحه ما خفى عنهم على الرغم من إخبارهم عن ذلك سابقا لكن لم يثبت علمهم في مخيلتهم من هول الصدمة وشدة المفاجأة ! ، وهكذا سيدنا مصطفى الله تعالى عليه الصلاة والسلام سيعود لإيضاح ما خفى من أمره ويكشف الغمة والكرب العظيم عن هذا الأمة برحمة الله تعالى وفضله .
وما يدري ابن تيمية بهذا رحمه الله تعالى وهو في هذا المبحث على إحدى الضفتين ، لكنها البعيدة للأسف ، فقد أغلق على نفسه وقال مقولته المتخرصة الأخرى : فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب ، لكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء بعد أيام ، وقال : أنا المسيح ، وذاك شيطان ! اهـ ( مجموعة الفتاوى 7/ 59 ) .
وهذا منكر من القول عظيم ، وهو انسياق خلف النصارى في تحريفاتهم ومزايدة عليهم بتحريف وعمى شديد على النبوءات ، وإلا فالحق أن المسيح عليه السلام عاد وربط الله بعودته على قلب والدته البتول ومخلصي أصحابه ، وذكرهم كما عنفهم على تصديقهم أنه هو المصلوب ! ، وبين لهم أنه سبق له القول أنه سيرفع فكيف يصدقون ما حصل على الرغم من شدة الشبه ، وبذلك زالت الشبهة عنهم وتيقنوا الأمر على وجهه الصحيح ، وكانت عودته عليه السلام لهم نصرة للحق ودفعا للباطل أن لا يلتبس على أمره عليه السلام.
وكان هذا الرجوع من جنس رجوع موسى عليه السلام وإيليا للإلتقاء بالمسيح عليه السلام قبل رفعه ، وقد حصل ذلك على مرأى ومسمع من بعض تلاميذ المسيح عليه السلام شهد بهذا إنجيل المسيح العظيم ، وابن تيمية بنفسه رحمه الله تعالى يقول : وقولهم برجوع المسيح لا يقدح في نقلهم عنه ! . وهذا مما نقل في إنجيله عن أخلص وأقرب تلاميذه رضي الله عنهم وهو برنابا.
وهذا نص خبر عودة موسى عليه السلام وإيليا من الإنجيل قال التلميذ البار برنابا رضي الله عنه كاتب الإنجيل الصحيح : ولما قال يسوع هذا انصرف وذهب إلى جبل طابور وصعد معه بطرس ويعقوب ويوحنا اخوه مع الذي يكتب هذا، فأشرق هناك فوقهم نور عظيم ، وصارت ثيابه بيضاء كالثلج ، ولمع وجهه كالشمس ، وإذا بموسى وايليا قد جاءا يكلمان يسوع بشأن ما سيحل بشعبنا وبالمدينة المقدسة ، فتكلم بطرس قائلا : يا رب حسن أن نكون ههنا ، فإذا أردت نضع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة والأخرى لإيليا ، وبينما كان يتكلم غشيته سحابة بيضاء ، وسمعوا صوتا قائلا : انظروا خادمي الذي به سررت ، اسمعوا له ، فارتاع التلاميذ وسقطوا على وجوههم إلى الأرض كأنهم أموات ، فنزل يسوع وأنهض تلاميذه قائلا : لا تخافوا لأن الله يحبكم وقد فعل هذا لكي تؤمنوا بكلامي.اهـ ( الفصل 42 ص 55 )
وتضمن هذا النص فوائد جليلة ليس هنا أوان الحديث في تفصيلها ، بل المهم عندي هنا الكلام في عودة هذين النبيين الكريمين وهما موسى وإيليا عليهما الصلاة والسلام ، وهما من الأنبياء الموعودين بالرجعة للدنيا لإتمام الشهادة على كل الناس ممن اتبع دينا سماوي أو دينا شركيا وثنيا محدثا ، مع شهادة حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام بذلك ، وعدا من المولى عزوجل في إظهار دينه على سائر الأديان ، ولذا أثبت الله تعالى لتلاميذ المسيح إمكانية عودتهما والتقائهما برسول الله المسيح قبل رفعه ! .
ويلزم من قول ابن تيمية في عودة المسيح عليه السلام بعد رفعه أنه شيطان ــ عياذا بالله من هذا القول المنكر ــ قول ذلك حتى في موسى عليه السلام وإيليا !! ، بل والنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام بعد عودته ليجتمع مع إخوته من رسل الله لإتمام الشهادة على الخلق !! ، وقد ثبت تصريحه بهذا عن رسول الله المصطفى عليه الصلاة والسلام كما سيمر معنا قريبا في قصة عمر رضي الله عنه ومعارضته من قال أن رسول الله مات ، ويكفي في هذا المنكر العظيم سماعه لينفر العاقل منه فضلا عن أن يؤمن به أو يخوض بجهل فيقع في أمر النبوءات وعودة الرسل بالجهل ثم يجلب على نفسه ما لا تحمد عقباه .
فما له ابن تيمية وهذا يتعرض له بالتخرص وينسب المسيح عليه السلام للشيطان ، لوما شدة التباس أمر النبوءات في دين الله تعالى عليه وعلى غيره من هذه الأمة ، مثل ما كان ملتبسا أمر صلب عدو المسيح على تلاميذ المسيح عليه السلام ، وإلا نبي الله ورسوله كان أخبرهم بأنه سيرفع ويسلمه الله من شر اليهود وأسيادهم من الرومان ، ومع هذا لما رأوا شدة الشبه بالخلقة وحتى الصوت وقع منهم ما وقع ، لدرجة مطالبة مريم عليها السلام بجسد هذا الملعون الذي وقع عليه الشبه لظنها القوي أنه ولدها المسيح عليه السلام على ما قص كاتب الإنجيل برنابا رضي الله عنه .
وقول ابن تيمية في هذا لا يبعد كثيرا عن زعمه الآخر في قصة عمر رضي الله عنه حين قبض المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال أنه سيعود لأنه رفع كما رفع موسى وعيسى ، فادعى : أن ذلك من إلقاء الشيطان على عمر رضي الله عنه !! اهـ ( مجموعة الفتاوى 1/296 ) .
بل كان يستدل لكل ذلك ويقرن بالذكر أيضا ويزيد في إفساد النبوءات بقوله : فإن قيل : إذا كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل لهم هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا . وقوله : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين .
قيل : ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبدالله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين ، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له ، وقتل النبي لا يقدح في نبوته ، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء ..
وكذلك اعتقاد من اعتقد من الحواريين أنه جاء بعد الرفع وكلمهم هو ، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ـــ ولا يوجب لهم النار ـــ ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه ، وعمر لما كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه ، لم يكن هذا قدحا في إيمانه ، وإنما كان غلطاً ورجع عنه اهـ.( مجموعة الفتاوى 7/60).
وهذا من القول بين البطلان وفيه تخليط كثير دفعه له معتقده في وجوب بقاء الطائفة المنصورة وهو ما ألجأه لهذه التأويلات الفاسدة والتخاليط العجيبة ، والرد عليه سيكون من عدة أوجه :
الأول في قوله : ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه اهـ .
أقول : بل يقدح وهو كفر ممن بلغته الحجة وأيقنها في حقيقة المصلوب ، وقد عذر الله ورسوله الحواريين وأمه لقوة الشبهة عليهم بقوة شبه المصلوب بالمسيح عليه السلام فذهلوا حينها من هول الصدمة ولهفة الفراق عما كان يقول لهم من قبل ، فشككوا أو صدقوا جزما أنه صلب وكانوا قد ذهلوا عن تصديق خبره من قبل ، أنه سيرفع ويسلمه الله من شر هؤلاء ولن يناله أذىً .
عذروا لشدة التباس الأمر ، لكن بعد زواله برجوع المسيح عليه السلام وإيضاحه لحقيقة ما جرى ، لو أصروا بعد ذلك على أنه هو من صلب لكفروا ، وليس صحيحا قول ابن تيمية هنا أن هذا الشك أو التصديق أنه المصلوب لا يقدح بإيمانهم ، لأن ذلك داخل في باب تكذيب الرسول فيما أخبر وهو كفر ، فمن كذب الرسول في خبره عن الله تعالى وعن أمر غيبه يكفر ولا شك ، فكيف يقال في مثل هذا بقول ابن تيمية حين أعمل فيه هذا العذر وهذا التأويل وأنزله منزلة الأحكام العامة ، هذا ذهول لا يليق بمثل ابن تيمية رحمه الله تعالى لو ما شدة الجهل فيه في هذا الباب مع أنه صاحب الجواب الصحيح ! ، فما بالكم بمن هو دونه .
أقول : لا شك أن هذا ليس هو من باب الأحكام العامة التي يصح تأولها إلى ما دون الكفر، فهي مسألة حادثة فرد ، وفي حياة الرسول المسيح عليه السلام قطع فيها كل عذر بعودته ! ، كمثل قصة ذات أنواط ، فلو أبوا إلا ذات أنواط لكفروا ، ومثله في أمر صلب المسيح عليه السلام ، فلو أصروا أنه صلب لكفروا لتبليغ الرسول لهم كذب ذلك ، مثل ما لو أصر مسلم أن المصلوب هو المسيح عليه السلام بعد بلاغ القرآن بالنفي لكفر ، لأنه تكذيب للقرآن ، وتكذيب القرآن والرسول المبلغ عن الله تعالى كفر .
وذات أنواط قد تكثر ويكثر عابديها ، أما المسيح فواحد فرد في قصته بين المسحاء ، فكل من قال هو الذي صلب يكفر ولا كرامة فقوله تكذيب لله ولرسوله عليه السلام فلا يصح عليه عد أمره من أمر الأحكام العامة ليصح فيه العذر بالجهل أو التكذيب .
ولو ما جهل ابن تيمية في هذا ويقيننا بعدم بلوغ العلم له وتعذر وصوله هو للعلم في ذلك ، لقلت بكفره على تأصيله هذا واعتقد ذلك فيه ، لكن ليحذر غيره من المعاصرين أن يقعوا بالكفر والردة في مثل هذا الخوض لعدم توفر الموانع لهم مثل ما هي لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، أعني القول بأن الذي عاد لتلاميذ المسيح ما هو إلا الشيطان .
الثاني في قوله : وعمر لما كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه ، لم يكن هذا قدحا في إيمانه ، وإنما كان غلطاً ورجع عنه اهـ .
أقول : هذا غير صحيح وجزمه مظنون هنا ، وشيخ الإسلام لم يميز رحمه الله تعالى ما بين رجوع عمر عن القول بموته ، وما بين القول بوجوب عودته والفرقُ ما بين الأمرين ظاهر ولو خفى إدراكه على مثل إبن تيمية رحمه الله تعالى ، فرجوعه لتيقنه قبض المصطفى عليه الصلاة والسلام لا لقوله بعودته!.
يفيد ذلك ما رواه الدارمي رحمه الله تعالى وابن سعد قول العباس على رؤوس كبار الصحابة رضي الله عنهم : قد مات , أي قوم فادفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته إماتتين , أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك , فإن كان كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله !! . ( رواه الدارمي 1 / 39 ) و ( ابن سعد 2/204 )
وهذا كما هو ظاهر فيه تفريق ما بين الإقرار بوفاته ووجوب دفنه عندهم ، وما بين عودته عليه السلام بعد ذلك ! ، وما عهدنا العرب فيها عجمة وليس لهم لغة تعينهم على بيان مراد أنفسهم ، وهم أهل البلاغة وأسياد البيان .
وهذا الذي أثر عن العباس رضي الله عنه وعلقه بالمشيئة ! ولم يمنع منه مطلقا كما هو ظاهر كلامه إلا أنه ادعى لازمه أن رسول الله تعالى سيموت موتتين وهذا مستبعد عندهم جدا وهو المانع الذي منع من قال بأنه توفي وأنه يجب عليهم دفنه ، وهو ما ذهب إليه كل من خالف عمر رضي الله عنه ومن معه ، وقد صرح به الصديق رضي الله عنه على ما نقل عنه في الصحيح وقال بقول العباس : أن الله لا يجمع عليه موتتين ، أيميت غيره موتة واحدة ورسوله يميته موتتين ، فأقسم الصديق أن هذا لن يكون ! .
وقد عرف العلماء أن وجه كلام الصديق هذا ، إنما هو رد على من قال أنه سيعود ، وعليه كان النزاع بين الصحابة ، منهم من يقول سيعود وهو لم يتوفى ، عليه عمر والكثير من الصحابة ، ولقوة نفوذ هؤلاء واعتبار قولهم في أمر قبضه عليه الصلاة والسلام عجزوا الآخرين عن دفنه وتركوه لعدة ليالي لا يستطيع أحد يقربه ، وقد كان عمر يهدد بقتل من يقرب جثته عليه السلام .
قال ابن سعد عن الحسن : لمّـا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ائتمر أصحابه فقالوا : تربصوا بنبيكم ، لعله عرج به . قال : فتربصوا به حتّى ربا بطنه فقال أبو بكر : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . ( الطبقات2/208 )
ثم سلموا بعد ذلك حين تيقن الفريق المعتقد لعودته بعد انتظار تلك الليالي أنه بالفعل توفي ، فقرروا عند ذلك دفنه عليه السلام .
وهنا يفهم من رد العباس والصديق رضي الله عنهما على إيراد لازم الموتتين على من قال بأنه لم يمت ، ثم تعليق العباس بالمشيئة عودته عليه السلام إن كان الأمر هذا حقا ، أن الأصل في الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم عودته عليه السلام ، وفرع عليه الإقرار بوفاته ومن ثم وجوب دفنه ، فهذا هو الوجه الحق في المسألة ولا يجوز قول غيره ، فكل ذلك يعد من التخرص والمزاعم الباطلة ، مثل زعم شيخ الإسلام هنا على عمر رضي الله عنه أن أخطأ بقوله ذلك ورجع عنه من غير أن يعي حقيقة الخلاف الجاري بين كبار الصحابة ، وتفريقه ما بين أصل النزاع وفرعه .
وهنا الوجه في هذه المسألة وحصول اللبس على ابن تيمية رحمه الله تعالى لمجرد إقرار عمر للصديق بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قبض بالفعل وأنه يجب عليهم دفنه ، شبيه باللبس الذي وقع عنده في إقرار عمر الفاروق للصديق في قتال مانعي الزكاة ، فقد وهم ابن تيمية أيضا وهما عظيما في أن تسليم الفاروق للصديق بوجوب القتال إنما هو منسحب على الحكم عليهم بالردة ، وهذا منكر عظيم وخلط عجيب جدا أعجب من مثله أن يقع بمثل هذه السطحية في إدراك حقيقة الأمر ، ومعرة ما ذهبوا إليه لو يعلمون تعود على الحقيقة للفاروق بالنقص لكن حاشاه رضي الله عنه ، إنما المعرة تعود على ابن تيمية ومن فهم فهمه في حقيقة النزاع على مانعي الزكاة ، وهل يصح في الفاروق أن يعارض مقاتلة مانع الزكاة الجاحد وجوبها على الإطلاق وهذا ما فهمه هؤلاء بغير روية ! ، وهذا الصنف من الجهل معارضة الإمام في إيجابه مقاتلتهم ، لكن الحق أن المنازعة إنما هي في إيجابه مقاتلة مانعها المقر بوجوبها ، وهذا الذي دعى الفاروق لمعارضة الصديق في بادىء الأمر ثم سلم لقوله وقال : ما أرى إلا أن الله تعالى شرح صدر الصديق للقتال ! . لما رأى من عزمه على المقاتلة .
وتثبت بعض المرويات كما أثبت في سنن ابن منصور وغيره أن الفاروق وعلى الرغم من تسليمه للصديق ما زال في نفسه من ذلك بقية ، حتى أرجعهم لأهاليهم وكف المسبيين جميعهم وردهم لمأمنهم بعد توليه زمام الإمامة .
فماذا يقول ابن تيمية الآن في تراجع الفاروق وتسليمه لقول الصديق في حكم مانعي الزكاة ، هل هو خطأ أيضا ؟! ، أم ما كان عليه من معارضة للقتال هو الخطأ ؟! ، فعاد عنه للصواب من اختيار الصديق رضي الله عنه .
فإن اختار الثاني فعندها سنقول ليس مجرد التراجع من عمر دليلا على التصويب ، مع أنا لا نسلم له أن عمر بالفعل تراجع عن قوله بالعودة ، بل هو كما ذكرت إنما تراجع عن القول بوفاته وسلم بوجوب دفنه عليه السلام ، ومع هذا في قضية مانعي الزكاة ثبت أن ليس في مجرد تراجعه حجة في المسألة تدعونا للقول أن هذا كان من إلقاء الشيطان ! .
ومثل ما ثبت عنه أنه ليس على قول الصديق في ردة مانعي الزكاة واستحلال سبيهم لمجرد منعهم الزكاة عن الإمام مع تسليمه له في حكم القتال ما أوهم ابن تيمية وغيره أن الفاروق معه في كل ذلك ، وهذا ما فهموه من ظاهر الأمر ، كذلك أنا أقول أنه ليس على قول الصديق في عدم عودته ولو سلم له بأنه توفي وأنه يجب دفنه ، ومن خالف في ذلك فعليه الدليل عن الفاروق وإلا بفيه التراب .
أما أنا فأقول انظروا معنا هذا الأثر عن الفاروق ما بعد تلك الحادثة وفي زمن ولايته ماذا قال لإبن عباس ، قال ابن عباس رضي الله عنه : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرة وما معه غيري , قال : وهو يحدِّث نفسه ويضرب وحشيّ قدمه بدرته , قال : إذ التفتَ إليَّ فقال : يا ابن عباس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ؟ . قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين , أنت أعلم ! . قال : فإني والله إن كـــان الـذي حمـلني على ذلك إلا أني كنت أقـــرأ هــــذه الآيــــــــــــــة :
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ فوالله إن كنت لأظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخـر أعمالهـا , فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت . ( السيرة لإبن هشام 4/ 286 )
ما دعاه لهذا القول وإعادة ذكر ذاك النزاع إلا لما وقع في قلبه من تحديث أن الرسول لا بد من شهادته على آخر أمته لظاهر الآية التي تلا ، وهو عين معتقدنا الحق الذي نحن عليه اليوم ، ولو كان تسليم الفاروق على ما زعم ابن تيمية جار على أصل المسألة وهو عودته عليه السلام ، وفرعها وهو إيجاب دفنه ، لما قال في زمن ابن عباس هذا القول ولما بقى لها في ذهنه بقية أبدا ، خصوصا على اعتقاد ابن تيمية أنه من إلقاء الشيطان ، وهو خطأ رجع عنه عمر الفاروق المحدث ! .
لكن الحق أن ابن تيمية رحمه الله تعالى وهم في هذا مثل ما وهم في مسألة مانعي الزكاة وجر رجوع الفاروق رضي الله عنه لوجوب قتالهم على استحلال سبيهم وهو ما لم يرده الفاروق ، ولذا ردهم مثل ما قلت بمجرد توليه الخلافة.
وكذلك جر رجوع عمر رضي الله عنه عن قوله بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، لعقيدة وجوب عودته للدنيا ليحقق الإشهاد ، وفي كل ذلك وهم ابن تيمية مثل ما وهم الكثير في هذه الأمة حتى باتت عندهم اليوم من الأمور الإجماعية عياذا بالله تعالى من الضلال والجهل .
الثالث في قوله : فإن قيل : إذا كان الحواريون الذي أدركوه قد حصل لهم هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا . وقوله : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين اهـ .
أقول : هذا الإيراد بحد ذاته مغالطته عجيبة ، لأنه أولا لا يمكن أن يصدر من نصراني يؤمن بعقيدة الصلب أنه واقع على المسيح من أجل تطهير خطايا المؤمنين به ، وهذه حقيقة عقيدة النصرانية الكاذبة الفاجرة .
ولم يبقَ لهذا القول وجه إلا بإيراده على وفق اعتقاد المسلمين ، وهذا هو الصحيح ، ولا استبعد أن منتج هذه المغالطة هو ابن تيمية نفسه أورد هذا الإشكال القائم عنده ورام رده بالحجة على حسب ما يفهم ، لكنه فشل وأتى بالطوام مع عدم تمكنه من رد هذا الإشكال الذي أورده ، وما حسب رحمه الله تعالى أن هذا الإشكال قائم على أكثر من ظن الحواريين أن المسيح عليه السلام صلب حتى يجتهد بالرد على ذلك بما زعم .
بل الإشكال سيبقى قائما لا يزيله شيء لثبوت الواقع على خلاف ظاهر تلك الآيات وذلك بحسب فهم ابن تيمية ومن وافقه على هذا الفهم المضطرب لآيات وعد الله تعالى بالقطع بتأييد الذين آمنوا بالمسيح على عدوهم ! .
فكيف يستقيم قولهم في ذلك والحواريون أضعف وأذل ما كانوا بعد فقدانهم وجود المسيح بين أظهرهم ، شهد بذلك خاتمة الإنجيل وما سطرته أنامل تلميذه البار رضي الله عنه برنابا ، فقال في بيان مدى ضعفهم بعده عليه السلام : فأمر رئيس الكهنة أن لا يتكلم أحد عن يسوع الناصري وإلا كان تحت عقوبة الحرم ، فحصل اضطهاد عظيم فرجم وضرب ونفي من البلاد كثيرون لأنهم لم يلازموا الصمت في هذا الأمر .
وقال أيضا : وبعد ان انطلق يسوع تفرقت التلاميذ في انحاء اسرائيل والعالم المختلفة ، أمام الحق المكروه من الشيطان ، فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائما ، فان فريقا من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشروا بأن يسوع مات ولن يقوم ، وآخرون بشروا بأنه مات بالحقيقة ثم قام ، وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله وقد خدع في عدادهم بولص ، أما نحن فإنما نبشر بما كتبت الذين يخافون الله ليخلصوا في اليوم الآخير لدينونة الله آمين اهـ .
هذه حقيقة الأمر ، فقد كان التلاميذ قلة وبعضهم فتن وارتد لمعتقد الشيطان على حسب ما ذكر تلميذه الصادق البار برنابا ، فإين الظهور والمكنة على حسب ظاهر الآيات التي أوردها ابن تيمية ، وعد أن لا إشكال يعارضها إلا قول بعض التلاميذ أن المسيح بالفعل صلب ، ثم أخذ يجيب عن ذلك بما ذكرت سابقا ، فما أزال الإشكال وشفى بالجواب ، ولا هو عرف بحقيقة التأويل ووفق للجمع في بيان سر التنزيل ، بل أتى بالتخليط على كل ذلك وبقى الإشكال قائما لن يرفعه إلا تقريري هنا بحول الله تعالى ، وبهذا التقرير وحده سيعرف المؤمن حقيقة تأويل تلك الآيات وسيهدى بإذنه تعالى وتوفيقه للجمع ما بين مراد الله تعالى بالقرآن فيما أخبر عن أتباع المسيح عليهم السلام .
فأقول : قوله تعالى : ﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ . ( الآية 55 من سورة آل عمران )
ليس أوان تأويل هذا بعد رفع المسيح عليه السلام ، بل لذلك أمد بعيد ووقته آخر الزمان ، لما ثبت بنص رواية التلميذ البار برنابا رضي الله عنه لإنجيل المسيح ، وبيانه أن حال المؤمنين بالمسيح عليه السلام انتهى للتفرق ورجوع أكثرهم للقول الباطل في المسيح عليه السلام ، ولعله لم يبقى على الحق إلا برنابا وقلة جدا مع التلاميذ الأحد عشر ، أما الباقين فقد فتنوا وارتد أكثرهم على حسب رواية برنابا وقد نقلتها قريبا .
ووعد الله تعالى لأتباع المسيح هنا عليه السلام بالظهور إلى يوم القيامة من أعجب النبوءات في القرآن ، وقد حار في فهم هذه النبوءة ابن تيمية رحمه الله تعالى وأورد عليها ما أورد من إشكال ولم يستطع الجواب عليها على الإطلاق بل زاد عليها اللبس بذلك الجواب ، فلم يوفق لا بما أورد ولا بما أجاب ، وجافا الحقيقة والواقع وشريعة السابقين فيما قال غفر الله تعالى له .
وفيما زعم في اعتقاد صلب المسيح تقوّل على غيب الله تعالى ، وكذلك دعواه ظهور تلاميذ المسيح وأتباعه على من سواهم ، كل ذلك كذب لا شهادة له من واقع تاريخي ولا نقل توثيقي ، بل إن نص كتاب برنابا أكذب هذا الزعم وكشف عن أن التلاميذ الذين ثبتوا على المعتقد الحق بعد المسيح هم القلة ، وأن حالهم من الضعف والهوان على اليهود كان عجبا ، حتى قتل منهم من قتل وشرد من شرد في أصقاع الأرض .
والقول الحق الفصل في تأويل هذه الآيات أن الله تعالى حين يرد رسوله ابن البتول عليه السلام آخر الزمان ، سيبعث تلاميذه الأبرار الذين بقوا على معتقد الحق بعده معه في عودته ، ليشهدوا بشهادته على من ادعى أنه أكبر من إنسان .
فهذه حقيقة ذلك الوعد ، نبوءة صدق وحق لا يكذب بها إلا جاهل لا مناص له إلا أن يقول بما ذكر هنا ، أو يعد مكذبا للقرآن في ذلك الوعد أن يظهر أتباع المسيح المؤمنين به على عدوهم إلى يوم القيامة ، وهو مما لا يمكن تحققه إلا بعودة هؤلاء الذين آمنوا به ليظهرهم الله تعالى مع من سيظهر على الكفار آخر الزمان من إخوانهم المؤمنين في هذه الأمة ، وسيبقون على هذا إلى يوم القيامة ، فما بعد الريح التي تقبض أرواحهم إلا القيامة .
والذي يثبت ما ذهبنا إليه هنا وهو الحق شهادة الإنجيل كتاب الله العظيم ، وما روي عندنا مرفوعا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فهل هذا خير أم ما زعم ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وأصل كل ذلك في قوله تعالى : ﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ . وقوله عز وجل : ﴿ .. كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ﴾ . ( الآية 14 من سورة الصف )
والتأييد هنا في الآيات نبوءة وخبر لاحق وليس لزاما أن تحققه في عهدهم ، لما أوضحت سابقا وذلك :
أولا : لأن شهادة الإنجيل وإخبار كاتبه يخالف ذلك .
ثانيا : لأن المسيح نفسه عليه السلام اضطهد في حياته وطلب قتله حتى أوقع الله شبهه على تلميذه الدعي الخائن بعد ما رفعه الله إليه عليه الصلاة والسلام ، حصل ذلك في غرفة واحدة ما بين ذلك لحظات وعليه تورط الخائن في ظن الرومان أن هذا هو المسيح ع ليه السلام وليس الذي دخل أمامهم للتو ! لما حصل عليه من شبه شديد بالمسيح .
فكيف يكون الإضطهاد واقع عليه ويسلم منه تلاميذه ، بأي قوة يكون لهم ذلك واليهود شعبهم كانوا مكذبين للمسيح عليه السلام نفسه فما البال بتلاميذه ، وإن قيل : المراد ظهورهم بالحجة .
نقول : هذا كذب ، فشهادة تلميذه البار برنابا لا تسلم بهذا ، بل صرح بأن من تلاميذه من قال بخلاف الحق وتعددت بذلك ادعاءاتهم ، ناهيكم عن عامة بني إسرائيل !! ، ولم يخرج عنهم القول في المسيح لباقي الشعوب إلا على الوجه الباطل ، وما زالت الفئة القليلة جدا هم من كان على مثل قول برنابا البار رضي الله عنه ، وهؤلاء كانوا في قمة الإستضعاف ولم يتم لهم ظهور مطلقاً ، وعليه لم يبقَ إلا أن زمن هذا الظهور الموعود هو آخر الزمان عند عودتهم للشهادة على ما سأبينه لاحقا .
ثالثا : دعوة المسيح نفسه عليه السلام أن يبقي الله تعالى تلاميذه بعده ليشهدوا على الذين سيفسدون إنجيله عليه السلام ، وهذا مما لم يتحقق فإنجيله طمس ذكره وقدم للناس غيره مما حرف ونسب له كذبا وزورا ، حتى بلغت عدة أناجيل وكلها منحوله مكذوبة عليه .
وتحقيق الشهادة التي سألها لتلاميذه على من أفسد إنجيله ، لن يكون إلا في أحد هذين الزمنين :
الأول : بعد رفعه عليه السلام . وهذا مما لم يقع لما قدمت .
الثاني : آخر الزمان حين عودته ويكونون معه ليحققوا الإشهاد في جملة من ذكرنا في اعتقادنا من رسل الله تعالى الذين سيعودون آخر عمر الدنيا لهذه الغاية ، وهو ما يفيده كلامه في الإنجيل عليه السلام قوله : ارحم من أعطيتني وخلصهم من العالم ، لا أقول خذهم من العالم ! ، لأنه من الضروري أن يشهدوا على الذين يفسدون إنجيلي ، ولكن أضرع إليك أن تحفظهم من الشرير حتى يحضروا معي يوم الدينونة يشهدوا على العالم وعلى بيت اسرائيل الذي أفسد عهدك اهـ . ( 112 ص285 )
وهذا هو القول الحق بإذن الله تعالى لأن الإشهاد حتما سيكون لاحقا للإفساد لا سابقا له ! ، ومن تنبه لهذا عرف الفرق وإيقن أن هذا مما لم يكن بعده في حياته عليه السلام ، لما قررت سابقا من حصول الإضطهاد بحقهم ، كذلك حصول الشك في أكثرهم وقولهم بالكفر والعياذ بالله تعالى .
ثم هنا وجه حسن يكشف حقيقة تأويل آيات الظهور وأنه كائن آخر الزمان لا محالة ، لا كما فهمها ابن تيمية وغيره كثير ، ذلك لأن الإفساد الحاصل في الإنجيل بعد رفعه مناف لظهورهم على أعدائهم ولم يبقى إلا اعتقاد أن ظهورهم الموعود بتلك الآيات سيكون آخر الزمان ! ، حين يحقق الله به الشهادة على بني إسرائيل والعالم كله كما سيكون بحول الله وقدرته ونصره لرسوله ولكتابه سبحانه .
ثم أيضا هناك وجه أتم وأكمل وأحسن في معنى الظهور وأنه كائن آخر الزمان ، ذلك في دعوة عيسى عليه السلام له ولتلاميذه أن يكونوا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومقتضى إجابة هذا الدعاء تحقق عودتهم آخر الزمان مثله عليه السلام ليصح دخولهم في أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وعليه قال المسيح عليه السلام : أيها الرب الجواد والغني في الرحمة امنح خادمك أن يكون بين أمة رسولك يوم الدين ، وليس أنا فقط بل كل من قد أعطيتني مع سائر الذين سيؤمنون بي بواسطة بشيرهم اهـ . ( 112ص285)
وهو عليه السلام بالعودة دخل في أمة المصطفى ومثله تلاميذه حين يعودون للحياة سيدخلون في جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا لهذا الدعاء ، وهو المعنى الذي تضمنته آيات الوعد بإظهار من آمن به عليه السلام على عدوهم .
وهذا الوعد بالإظهار هو عين ما أكد في قوله تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ﴾ . فكلنا يعلم يقينا أن لو كان هذا الظهور المنبأ عنه في هذه الآية دائما من حياة المصطفى عليه السلام ليوم القيامة لعد خبر الآية غير واقعي ، وذلك لعموم إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام عن الفتن واندراس الدين بل انقطاعه وعودته غريبا طريدا ، ما ينافي هذا الوعد ويدل على عدم تحققه ، فتعين علينا اعتقاد أنه ظهور مخصوص معين يكون آخر الزمان ، فيه يظهر الله الإسلام على سائر الأديان بتمكين المهدي عليه السلام ليحكم كل الأرض بهذا الدين العظيم بإذن الله تعالى ، وتكون شريعة الإسلام هي القائدة والرائدة لتنظيم شؤون الخلق .
وحين استشكلت عائشة زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم ظهور الفتن وعبادة الناس الأصنام بعد بعثه بالإسلام عليه السلام ، كان أول ما تبادر لذهنها هذا الوعد بالظهور ! ، وفهمت أن ما يخبر عنه من وقوع الفتن وعودة الناس للوثنية أنه مناف لهذا الوعد بالآية ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن بين لها أنه لا منافاة ، وأن حقيقة الوعد كونه لأمد محدود معين ، حد نهايته بالريح التي تقبض أرواح المؤمنين ! ، وترك لها ولمن بلغه الخبر تقدير بدايته بالفهم وقوة الإدراك ! .
وقد قلت قبل : أن ذلك مما يعقب الفتن وغربة الإسلام وضعف أمره ، ثم يكون ظهور الطائفة المنصورة بانتصار الإسلام وظهوره ما شاء الله له أن يظهر وبعد ذلك تأتي الريح فتقبض أرواح المؤمنين ، هذا معنى الآية وعليه تحمل أخبار الطائفة المنصورة وظهورها .
رابعا : لما روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال حدثنا الفضل بن محمد الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن الوليد قال : حدثني أبي قال : حدثنا عبدالملك بن عقبة الأفريقي عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن عبدالرحمن بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( .. مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتب رواكبها وهيأ مساكبها وحلق سعفها فأطعمت عاما فوجا ، ثم عاما فوجا ، فلعل آخرها عاما طعما ، يكون أجودها قنوانا وأطولها شمراخا ، والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاً من حواريه ) .( أخرجه القرطبي في التذكرة ص 718 )
قلت : تابع شيخ الترمذي على هذا الحديث أحمد بن عمر بن موسى بن زنجويه ، شيخ أبو الفرج الأصفهاني رواه عنه في كتابه مقاتل الطالبيين ( ص 31) .
وهذا يشهد لما قدمت ولا شك وصريح فيه ، وكونه مرفوعا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام يقوي القلب على هذا المعنى الصحيح في تفسير تلك الآيات ، ولو لم يكن إسناده بالقوي يبقى خير من قول الرأي بالقرآن والتخرص ! .
Powered by Backdrop CMS