الفصل الأول

 

حقيقة مذهب البخاري في كتاب المناقب من الصحيح في اهتزاز العرش

 

ما رأينا البخاري رحمه الله حين روى عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نص الخبر في اهتزاز العرش مضافا لعرش الرحمن عز وجل ، بل رواه عنه من وجه آخر وفيه قوله : " اهتز العرش لموتِ سعد بن مُعاذ " .

 

أما مسلم رحمه الله تعالى فرواه بهذا الإسناد من وجه آخر لكن بلفظ : " اهتز عرشُ الرحمن ، لموت سعد بن مُعَـاذٍ " . فذكر مسلم رواية الأعمش بإضافة العرش أما البخاري فلا ، لم يروه كذلك وهذا منه رحمه الله تعالى للتنبيه على الخلاف الحاصل في معنى هذا الخبر ، فلم يلتفت لذلك ابن حجر الشارح ، أو قولوا لم يتنبه له ، فأخذته حدة الترجيح بعيدا عن هذا وحامى عما قاله جابر رضي الله عنه اعتقادا منه ربما أن هذا ما رجحه البخاري ، فأوقع اللبس الذي حصل وأثبت بالوهم هذا المعتقد الباطل عند من قلده بعده حتى اعتمد عند الكثير بان هذا المعتقد هو الحق والراجح مما روي في الباب ، والذي لا يحيد عنه إلا من أنكر فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه وأحال ذلك على البخاري رحمه الله تعالى وأنه المقصود من تبويبه ، ورمى من خالف قوله هذا وقال باعتقاد البراء رضي الله عنه أنه متأول ، مع أنه هو المتأول في محصلته النهائية في شرح معنى الخبر ، ومن خالفهم في هذا إنما قال بما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، إثباتا منهم لما سمعوا وليس الأمر على ما زعم شارح صحيح البخاري ، وسيأتي بإذن الله تعالى الإستدلال لذلك وأثباته بحمد الله تعالى .

 

وكل من قال بقول البراء من الصحابة أصاب الحق ، ومن خالفهم وقال بقول جابر جانبه الصواب في نسبة الإهتزاز أو التحرك ! لعرش الرحمن عز وجل ، فهو قول منكر يلزم عليه ما هو أنكر منه ، خصوصا لمن قال بأن الله تعالى مستو على عرشه بـ " مماسة " والعياذ بالله تعالى ، وهو قول حكي عن بعضهم .

 

ومن لم يلتزم اثبات هذا في معتقده منهم ، سيبقى لازم قوله الجهل أيضا إذ سينفي ما لا علم له به بدعوى التنزيه وهو يعتقد في العرش ما يعتقده ، وهي اضافات لما أضيف للرحمن عز وجل وهو أقرب له ، ولا تنفك تلك الإضافة عن من أضيف له المتحرك او المهتز بما أنهم أثبتوا له نفسه النزول والصعود سبحانه ، فالإضافة هنا بالحركة باتت لكليهما ، للمُحَركْ المضاف إليه المتحرك نزولا وصعودا لا انفكاك بينهما للإضافة على حسب معتقدهم ، سواء قالوا بالمماسة أو لم يقولوها فرارا بدعواهم عن التشبيه وأن يحل به من صفات المخلوقات ، فالإستواء والإهتزاز بالنسبة للعرش حركة فاعل بمفعول به لا يمكن بحال نفي ذلك بالمعقول لأنه مما ينسب لمخلوق استوى عليه الخالق فحين يهتز أو يأط فلا بد أن هذا الأثر من مؤثر سواء قالوا بمماسة أو بغيرها وما هذه الأقوال منهم إلا تحكمات خيالية غير واقعية بالنسبة للمخلوق ، أما الخالق فهي مفترضة هنا لا باعتبار المضاف إليه بل بالمضاف ذاته ولذا لا يعد قولهم معقولا بتاتا ، ولا بد من تأثير عمل ما أجرى هذه الحركات بالمخلوق خارجة عنه ، وهذا باعتبار لا أي مخلوق ، بل مخلوق من مخلوقات الله تعالى العظيمة المضافة إليه إضافة تشريف وقرب حتى وصف نفسه سبحانه بالمستوي عليه على ما ثبت هذا بالنقل ، فلا يصح نسبة الحركة له بغير هذا الإعتبار المعقول والذي لا يصح فيه التأويل بعيدا عن الأثر والمؤثر المتحرك والمحرك ! ، بما ان أدلة النقل أثبتت ما أثبتت .

 

وكل من زعم بأن ذلك معلوم غير معقول أو مجهول كاذب ، وهذا يصح باعتبار الخالق من غير اضافة المخلوق له محل التأثر والحركة ، ويدل على صدق هذا التزام من التزم " أطيط العرش " كأطيط الرحل صفة كالأهتزاز من الإستواء ، بل الأطيط والإهتزاز من أثار ونتائج الإستواء فلزمهم القول به ، وكل من قال بأن ذلك معلوم غير معقول أو مجهول يعد كاذبا وملبسا كذلك ، وخالطٌ ما بين المعقول والمجهول باللامعلوم ، ليكذب كيف ما يريد بعد .

 

ولذا رأينا لما كان مالكا رحمه الله تعالى أعقل القوم أنكر ما أنكر ومن ذلك الأطيط والإهتزاز ! ، خصوصا الأطيط لأنه زيادة في الإثبات على الحركة بالصوت ! وهذا من نتائج الأثر على الأجسام والتأثير بها ، لا مجال للجدال في ذلك ، حتى بالغ وأنكر ما لا يصح إنكاره مع هذا نفرة من ذلك رحمه الله تعالى ، وسيأتي الكلام على كل ذلك وتفصيله إن شاء الله تعالى .

 

فالبخاري رحمه الله تعالى إنما أثبت في الترجمة ليدلل على مناقب سعد واستفتحها بالرواية عن البراء في مناديل سعد فروى عنه قوله : أهديت لنبي صلى الله عليه وسلم حلةُ حرير ، فجعل أصحابه يمسونها ويَعجبون من لينها ، فقال : " اتعجبون من لين هذه ؟ لمناديلُ سعد بن مُعاذ خيرٌ منها أو ألين " .

 

وفي هذا والله أعلم منه تقدمة لما سيروي لاحقا من خلاف بين البراء وجابر في نسبة اهتزاز العرش لموته ، فقد عد جابر أن بين حي البراء وحي سعد نفرة وكأن البخاري قدم برواية البراء قبل ليرد على هذا الزعم لكن بالإشارة الخفية التي ما فطن لها ابن حجر الشارح وهو من هو بفطنته إلا أن تكون الفطنة بالمشتهى فيرجح المرء ما يغلب على هواه ومن الهوى حب الإستكثار والتشدق وإلا مثله نحسب له متسع بالتحقيق بما انه توسع ، والأمر بين فقد روى لفظ حديث الاعمش من طريق ليس فيه نسبة العرش للرحمن عز وجل ، وساق تلك الرواية تبعا لرواية البراء في مناديل سعد إظهارا لما قلت وإثباتا له ، وهي من حديث "فضلُ بن مساور " ختن أبي عوانة ، قال الشارح نفسه ليس له في البخاري غير هذه الرواية !! ، قلت : اختياره لها للضرورة ولم يجد غيرها إشارة منه لما تقدم لذا أثبتها بعد الرواية عن البراء رضي الله عنه.

 

والدليل على ذلك أنه بعد تلك وهذه أتبع بالرواية عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر ، وفيها قول الرجل لجابر : فإن البراء يقول اهتز السرير ! ، فقال جابر : إنه كان بين هذين الحيين ضغائن ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اهتز عرشُ الرحمن لموت سعد بن مُعاذ " .

 

وقد وهم جابر لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعدة أوجه سأفصل فيها ردي عليه لكن قبل لي وقفة مع مسألة الضغينة بين حيي الأنصار على ما زعم جابر ، وهذا قد كفاناه البخاري رحمه الله تعالى بما أورد أولا عن البراء في منقبة سعد ومن التخرص دعوى جابر في هذا ، وهي وحدها دالة على أن هذا الصحابي رضي الله عنه هنا يتكلم بغير ثقة منه بما يقول وإلا لو كان واثقا بما قاله لم يحتج لمثل هذا التعريض الغير واقعي حتى أن الخطابي رد على هذا بأن جابر وهم بهذا فعلا ، فقال :

 

هذا خطأ فاحش ! فإن البراء أيضا أوسي يجتمع مع سعد بن معاذ في الحارث بن الخزرج ، والخزرج والد الحارث بن الخزرج ، وليس هو الخزرج الذي يقابل الأوس وإنما هو على اسمه اهـ . ( 3 )

 

الوجه الأول من أوجه الرد على اختيار جابر : وهو أيسرها أن أكثر الصحابة لم يروَ عنهم على الإضافة والقطع الذي قال به جابر ، فمن أين انفرد عنهم بذلك ؟! ، فالروايات بهذا الباب على الجزم ليست إلا منه ومن امرأة انصارية أخرى لا يؤخذ منها مثل ذلك ، علمته وجهلته عائشة ؟! ، فهي لم تشهد شيء ومن شهد قال بما يكذبها وجابر معها ، وهم من سأذكرهم بالوجه الثاني .

 

ثم إن رواية أنس باهتزاز العرش اختلف عليه بها ، فمن وجه روي عنه بالإضافة عن الحسن عنه مثل رواية جابر ، وخالف قتادة الحافظ الثبت فلم يضفه مثل اكثر الروايات في هذا القصة .

 

الوجه الثاني : أن بعضهم روى في حادثة دفن سعد ولم يقل بما قال جابر بل بخلافه ، ولا يمكن يصدر الخبر على الوجهين عنه صلى الله عليه وسلم ، فأحدهما كاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة ، إما جابر والمرأة ومن قال بقولهم ، نقول هذا بغض النظر عمن ثبت عنه هذا ومن لم يثبت ، فكل من زعم هذا القول فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا من كان ، أو من قال بخلاف قولهم يكون كاذبا إذا ، لا محالة لا بد أحدهم كاذب بذلك ، وليكن جابر وهذا هو الحق فقد قال بما خولف عليه وقد شهد لمن خالفه ما سيأتي فتيقنت كذبه لا محالة والتبعة في ذلك دعوها علي المهم ان يرفع اللبس العظيم هذا عن دين الله تعالى وأشرف ما فيه عرش الرحمان وما تعلق بذلك وأضيف لصفات الرحمان عز وجل ، فهذا الاهم الآن ولأجله عمدت لرفع هذا الكذب وإزالة هذا التلبيس والتدليس عن دين الله تعالى.

 

قال ابن عمر رضي الله عنهما : " اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا " قال : ثم قالوا : وما العرش ؟ قال : سبحان الله ، لقد تفسخت أعواده ، أو عوارضه ، وإنه على رقابنا وأكتافنا ، وكان آخر من خرج من قبره النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن سعدا ضغط في قبره ضغطة ، فسألت الله تعالى أن يخفف عنه " وقرأ : ﴿ ورفع أبويه على العرش ﴾ قال : السرير " .

 

وروي عنه بغير إضافة وليس لإبن عمر غير هذا القول وقد استدل له بالقرآن ، ولما كان هذا مما لا يقال باجتهاد لم يصح قول ابن حجر في الفتح : أنكر بن عمر ما أنكره البراء فقال : إن العرش لا يهتز لأحد ، ثم رجع عن ذلك وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن ، أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه اهـ . ( 4 )

 

أقول قول الشارح هنا أن ابن عمر رجع عن ذلك وهم لا شك إن كان يعني بذلك روايته باهتزاز العرش الغير مضاف ، فقد حكاها الطحاوي في مشكل الآثار في جملة الروايات التي لم يأت فيها التصريح أي العرشين المراد هناك لذا حملها الطحاوي على ما ثبت عن ابن عمر ، حمل المبهم عنه على قوله المفصل ولم يذكر قول ثان لإبن عمر على ما زعم الحافظ ابن حجر غفر الله له .

 

أما إن كان يعني الحافظ غير هذا وهو أن لإبن عمر رواية مصرحة بذلك فقد كذب ، لا رواية بهذا المعنى عند ابن حبان ، ولم يحكي عنه الطحاوي إلا قوله المأثور عنه ، وهو الموافق لما قال البراء لم يذكر عن ابن عمر أنه عاد أو روي عنه ما يوافق قول جابر بل عده في جملة من قال بخلاف قول جابر . ولا أرى ابن حجر هنا إلا داخله الوهم مما ذكر إبراهيم الحربي وحسب ان لإبن عمر الرواية على المعنيين وهذا غير صحيح .

 

والحافظ غفر الله له لم يكتف بهذا من التلبيس ، بل رمى إبن عمر مثل ما رمى البراء معه بالتأويل في هذا ، بل اجتهد أيضا يضعف الرواية عن إبن عمر المصرحة بأن الذي اهتز إنما هو عرش سعد الذي حمل عليه ، فقال : هذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر ، وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره .

 

أقول : هذا لا يفيد في اسقاط ما قال إبن عمر هنا فعطاء رحمه الله تعالى انتقده الحفاظ بآخره بالرفع للصحابي وهذا ليس منه فقد وصله ، ثم هم لم ينقدوه بقلب الأخبار أو الزيادة على المتون ، وقد روي عن ابن عمر في خبر جنازة سعد من غير طريقه ، وإن كان المستنكر عليه هنا ذكره " الأعواد " فقد رويت في خبر عرش سعد من غير ابن عمر ، روي عن عائشة من قول " أسيد بن حضير " رضي الله عنه وسيمر معنا قريبا فلا وجه لإنكار ما روي عن ابن عمر بحجة أن راويها عطاء بن السائب ، وأقصى ما أنكر على عطاء رفعه ما كان يروي عن التابعين للصحابة وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، حكى ذلك عنه أبو حاتم الرازي وأحمد رحمهم الله تعالى وكفى بهما تفسيرا للحال المستنكرة على عطاء .

 

بل زاد أبو حاتم بقوله : كان محله الصدق قبل ان يختلط صالح مستقيم الحديث ، ثم بآخره تغير حفظه وفيه تخاليط كثيرة ، وقديم السماع منه سفيان وشعبة ، وفي حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة لأنه قدم عليهم في آخر عمره ، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب رفع أشياء كان يرويها عن التابعين ورفعها إلى الصحابة . (التهذيب 7/179 )

وهنا أقول : بأن الفضيل بالفعل روى عنه حديث ابن عمر وكذلك رواه عنه جرير وهو بصري كذلك ( لم يقبل روايته عنه إبن معين ) ، لكن رواه عنه أيضا عبد السلام بن حرب وهو كوفي سمع منه قبل اختلاطه فقد كان يوصي أيوب بالسماع منه مقدمه من الكوفة فقد صححوا الأخذ منه في ذلك الوقت قاله الدارقطني ، وقد اتفقوا جميعا على رواية هذا الحديث عنه على هذا الوجه ولم يُخَالَفوا ما يدل على أنه مما ضبط عن عطاء بن السائب عند الكوفيين والبصريين سواء .

 

ولفظه عن جرير عند ابراهيم الحربي أنه قال : إن العرش ليس يهتز لموت أحد ولكن سريرُهُ الذيِ حُمِلَ عليه . ( غريب الحديث 1/172 )

 

وتنطع ابن حجر بالقول أيضا في معارضة ما روي عن ابن عمر : ويعارضه رواية الترمذي من حديث أنس قال : لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون : ما أخف جنازته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة كانت تحمله اهـ .

 

وهذا لا يعارض ما قال إبن عمر بحال ولذا لم يذكر وجه المعارضة حين ادعى ذلك شارح الصحيح ولو وجد لقال به .

 

ثم ختم رده على حديث ابن عمر بالقول : وقال الحاكم : الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجه في الصحيحين ، وليس لمعارضها في الصحيح ذكر اهـ.( 5 )

 

وللرد على هذا أقول : أن الصحيحين فيهما قول جابر وما ترجح له وفهمه هو ولا يصح رفعه بحال ، بل رفعه كذب وهذا ما سنثبته بهذا الكتاب بإذن الله تعالى . وقد روي في الصحيح ما يخالف قوله من صحابي آخر مثله ، ومن التلبيس أن يجعل قول البراء بالمقابل مع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فقط لأن جابر قال قال رسول الله فقد يهم وينسب لرسول الله ما لم يقله حسب فهمه هو ، بل الحق أن يجعل قول البراء ذلك بالمقابل من قول جابر نفسه ، والصحابة حين يختلفون بالقول في خبر يتعين على الباحث النظر بالترجيح ، وليس من الترجيح في شيء اعتبار جابر سمع هذا من المصطفى صلى الله عليه وسلم دون غيره ! ، بل هناك من سمع خلاف ما يدعي جابر ، بل أكثر وسنذكر كل ذلك بإذن الله تعالى ، والعدل أن لا يقال بمثل هذا القول خصوصا في ادعاء صحابي ثبت عليه المخالفة فيما يزعم ، أعني قوله بأول ما أنزل من القرآن فجابر خالف وعلى الرغم من رواية ذلك عنه في الصحيح فلم يكن قوله عندهم بأولى من قول غيره مع تحقق مخالفة غيره له .

 

وهنا مثله ما الذي جعل قوله هو المعتمد في اهتزاز العرش دون قول البراء ومن خالفه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، هل لقوله أنه سمع ذلك من رسول الله ؟! ، لقد نسبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا وبان كذب الناسب .

 

أم لأنه بالرواية قيل عنه كذا : " قال رسول الله " . ومن تفحص ألفاظ هذا الخبر عنه يجده قال ذلك في أكثر من موضع ، عند حمل الجنازة ، وقاله والجنازة على شفير القبر ، بل عنه أن ذلك قيل قبل ما يعرف المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الميت هو سعد بن معاذ أصلا وسيأتي ايراد تلك الرواية وفيها ما يشعر أن جابر كان يذكر ذلك حكاية وسيأتي في الفصل التالي زيادة تحقيق لهذا المعنى في التعليق على حديث جابر عن ذلك مما قاله جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بلغه خبر موت سعد بن معاذ وهو أصل الخبر في اهتزاز العرش وما كان هناك على الإضافة قط ! ، فبأي المواضع تلك يرون جابر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل ؟! .

 

فكل هذا من التصرف بالمعنى ولا شك ، كل يروي على الوجه الذي يروي وإنما الحق أن جابر قاله مرة واحدة على حسب ما فهم هو لا ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحتى لو قلنا سمع ذلك منه صلى الله عليه وسلم ، فهذا محمول على مثل ما سمع غيره لكنه زاد هو على غيره بما توهمه وليس به .

 

ولا أكثر ما يدل على هذا وأن جابر رضي الله عنه وهم ، من حديث أسيد بن حضير قالت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم ذا الحليفة تلقاه غلمان الأنصار يخبرونه عن أهليهم ، فقيل له ماتت امرأتك فبكى ، وكنت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أتبكي وانت صاحب رسول الله وقد تقدم لك من السوابق ما تقدم ؟ قال : فيحق لي أن أبكي وقد سمعت رسول الله يقول : " اهتز أعوادُ العرش لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه . ( 6 )

 

وهنا فائدة جليلة ما سبق وذكرها أحد قبلي في هذه المسألة وهي أن قوله هذا مخالف لقول جابر رضي الله عنه وموافق لقول ابن عمر رضي الله عنه بأعواد العرش ، هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ذلك مقرا ما قاله فعائشة رضي الله عنها بينهما وهم يتحدثون .

 

ولا يصح إدعاء البزار بأن هذا مما لم يوافق عليه ابن عمر بل ها هو مثل ما نرى أسيد يقول بهذا والنبي صلى الله عليه ويسلم يسمع منه ذلك لا ينكره ! . ( 7 )

 

وليس هذا فقط بل هناك ما يشهد لهذا المعنى ويضعف اختيار جابر وترجيح كل من رجح قوله واعتمد زعمه رفع ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ . وذلك فيما روي عن أسامة بن زيد وهذا ايضا مما لم يورده ابن حجر ولا سابقه مع تطويله بالشرح على البخاري وترجيحه ما رجح ورده على من وافق البراء بما رد ، ومع كل هذا لم يورد ما اوردته هنا ، وعليه داخل اعتقادهم اهتزاز العرش ما داخله ، وقد آن هدم هذه الفرية الكبرى بحول الله تعالى وتوفيقه ، ليزول عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبس الذي داخل هذا الأمر والفضل كله في ذلك لله تعالى فهو الذي يهدي من يشاء وينير بصيرة من يشاء عز وجل سبحانه ، فنعم المولى ونعم الفتاح النصير .

 

قال سعد بن مالك : لما مات سعد بن معاذ دخل أسامة مع النبي صلى الله عليه وسلم القبر فكنت على شفير القبر آخذ بناحية فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغى برأسه إلى أسامة فقلت : ما قال لك رسول الله ؟ فقال :

 

قال : " أما شعرت أن العرش اهتز لموت سعد بن معاذ ؟ " . ( 8 )

 

وهنا أقول : لم يجهر النبي صلى الله عليه وسلم يقينا بذلك بدليل أن أسامة أسرَّ له بهذا الإنباء ، ولو سمعه أحد لسمعه سعد بن مالك فهو على حسب هذه الرواية ممن حضر جنازة سعد بن معاذ ، لكن الناس بعد تحدثت بما أُخبِرَ عن أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربما يكون قد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم غير أسامة ، لكن يقينا ليس بتلك الجنازة فإسراره بذلك لأسامة ينفي نيته بالتحديث بذلك أقله بتلك الجنازة ، هذا شيء .

 

والشيء الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر أسامة بن زيد رضي الله عنه ماذا قال له ؟ ، قال : " أما شعرت " ؟ .

 

فبالله عليكم إخواني أيعقل ان يكون هذا في عرش الرحمن ، وما يُدري أسامة بالعرش إن اهتز ؟! ، وهذا من أظهر ما يكون على صحة هذه الرواية وأن المراد بذلك بالفعل العرش الذي حملت عليه جنازة سعد بن معاذ ، فما كان يمكن سؤال أسامة عن عرش الرحمن كيف اهتز ، وهل يمكن ويعقل سؤاله عن ذلك ؟! ، وما كان يمكنه أن يشعر بذلك لو كان اهتز بالفعل .

 

ولا يفوتني هنا أن أنبه لأمر من المهم التنبيه عليه ألا وهو رواية ابن عمر هذه قوله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هذا الذي تحرك له العرش ، وفتحت له أبواب السماء ، وشهده سبعون ألف ملكٍ من الملائكة ، لقد ضم ضمةً ثم فرج عنه " . ( 9 )

 

فقريب منها ما روي عن جابر قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا العبد الصالح الذي تحرك لهُ عرش الرحمن وفتحت له أبوابُ السماء ، وشدد عليه ، ثم فرج الله عنه" . ( 10 )

فانظروا كليهما سمعا نفس الخبر ، وكليهما يرفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن ابن عمر يقول به ما قال ، وجابر يقول به ما قال ، وتقولون لم يكذب أحدهما ؟ ، بلى وربي الكذاب جابر ، فقد كان يشتهي يخالف حتى خالفهم بأول ما نزل من القرءان ، قالت الأمة : أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق . وهذا هو الحق .

 

وقال هو : أول ما أنزل يا أيها المدثر ، يا أيها المزمل ! . وهذا من ذاك يزيد من عنده ، وليس بمستبعد على الصحابي أن يهم ويكذب بنسبة الشيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولا لم يقله ، أو ما لم يفعله ، وجرى مثل هذا كثير لا يحصى من بعض أصحابه ، حتى رد بعضهم على بعض ، فلا يرهبنكم قول الصحابي قال رسول الله إذا ما خالفه غيره ، انتبهوا .

 

بل ليس أكثر من القسم على الباطل أو الظن ، فقد أقسم جابر رضي الله عنه على ابن صياد أنه هو الدجال لا يستثني ، ولما قيل له : لعلم تقول ذلك ؟! ، فقال : لأني سمعت عمر بن الخطاب : يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستثني أنه ابن الصياد فما أنكر عليه ذلك !! .

 

فمن كان هذا من أوجه الترجيح والجزم عنده ، فما يستبعد عليه أن يقع بمثل ما وقع به في عرش الرحمن عز وجل ، فهل غاب عنه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر تميم الداري وأنه وجد الدجال مكبلا في جزيرة بعرض البحر ، ثم إذا هو طفلا يلعب بالمدينة ! ، فإن كان عمر رضي الله عنه قال بالظن ولعل تميما أخبر بما أخبر لاحقا بعد قصة ابن صياد ، فما باله جابر يتشبث بقسم عمر المتوهم بإبن صياد ويترك ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم لعدم القطع عليه ، فهل صار ضن ابن الخطاب قاضيا على ترك القطع من رسول الله بإبن صياد ، وإن كان هذا له وجه قبل ما قص تميم الداري رضي الله عنه ، فلا مسوغ للقطع بإبن صياد بعد ذلك ، لكن هكذا هي بعض ترجيحات جابر رضي الله عنه تأتي مخالفة ، على الغيب البعيد ! .

 

وهذا مني إذ لم أحسن الظن بجابر أما إن أحسنت الظن بجابر فسأقول : أن هذا من كذب بعض الرواة عنه ، فهو لم يرفعه قولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفن سعد ، فأكثر من روى هذا الخبر عن جابر حين دفن سعد لم يقل بإضافة العرش للرحمن ، بل روي الخبر عنه مقصورا على تضييق القبر على سعد وتكبير النبي صلى عليه وسلم لذلك وتكبير الناس معه ، لم يذكر عن جابر أن رسول الله قال حينها ان عرش الرحمن اهتز إلا راوي أو اثنين بالمعنى أخبروا ، وبمجمل ما روي عن جابر ، أما أكثر من روى عنه هذه القصة فلم يقولوا بذلك انه كان خبرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دفن سعد ، ولا بإضافة العرش للرحمن ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا في الفصل الثاني تعليقا على ما روي عن جابر عن رسول الله في خبر موت سعد ان جبريل أتاه وأخبره بذلك .

 

الوجه الثالث : أن رواية سعد بن أبي وقاص في هذه القصة لم يثبت فيها اضافة العرش للرحمن عز وجل ، وهي بذات القصة وسعد ممن سمعوا رسول الله يتكلم بما قاله على جنازة سعد ، روى ذلك عنه ابن عامر عند الطحاوي في مشكل الآثار أنه قال : نزل الأرض سبعون ألف ملكٍ لشهود سعد ، ما نزلوها قطُّ ، واستبشر به جميعُ أهل السماء ، واهتز له العرش . فقال رجل لسعد بن ابراهيم وهو راويه عن ابن سعد بن أبي وقاص : إن العرشَ تدعوه العربُ السريرَ ، وإنما يعني سريرَ سعد بن معاذ ، فقال سعدٌ : ما بلغ سَريرُ سعد بن معاذ ان يذكرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . ( 11 )

 

وهذا القائل بهذا أخذ الخبر من ابن سعد بن أبي وقاص عامر بن سعد ولو كان في ذلك عن سعد عنده أن العرش قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافا لعرش الرحمن عز وجل لبلغه ذلك عن رسول الله عن سعد عن ابن سعد عامر وما احتاج ليقول ذلك بالقياس والإستنباط ! .

 

 

الوجه الرابع : ما روي عن جابر نفسه وفيه أنه لم يدرك وقت ما أخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت سعد واهتزاز العرش ليسمع أي العرشين كان يعني بل ما روي عن جابر نفسه ذلك الخبر إلا على عدم الإضافة ، روى ذلك إخبارا وحكاية عما لم يشهده فقال : جاء جبريلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من هذا العبدُ الصالحُ الذي مات فُتِحَتْ له أبوابُ السماء ، وتحرك له العرشُ قال :

 

فخرج رسولُ الله فإذا سعدُ بنُ معاذٍ ، فجلس على قبره وهو يُدفن ، فبينما هو جالس إذ قال : " سبحان الله " مرتين ، فسبح القومُ ، ثم قال : " الله أكبر ، الله أكبر " فكبر القوم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لهذا العبدُ الصالح شدَّد الله عليه في قبره حتى كان هذا حين فُرج عنه " . ( 12 )

 

وهذا فضلا على أنه مثل رواية الأكثر ليس فيه اضافة العرش ، هو حكاية من جابر ورواية عن رسول الله لم يحضرها ، فهل كان متواجدا لما أتاه حبريل عليه السلام ليعلم ذلك ، أو بالكاد يدرك هو بنفسه عليه الصلاة والسلام جنازة سعد لو ما نبأه جبريل عنها لربما فاتته ، وجاء في بعض الطرق أن كان ذلك منه ليلا .

 

فما الذي يجعلهم يوقنون بصدق من روى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا أثناء دفن سعد ؟، والرواية هنا تدل على أن جابر يحكي خبر اهتزاز العرش حكاية أخذها عن غيره يقينا ، وأما خبره هو عن نفسه وشهوده إنما كان لدفن الجنازة والأكثر رووا عنه ذلك فقط مقصورا على تضييق القبر وتكبير الرسول ومن كان معه ، لكن بعض الرواة لما اختلط عليهم الأمر صاروا يروون بالإدراج كل ذلك ، ومنهم من زاد على ذلك أو أفرد قول جابر باهتزاز عرش الرحمن ثم رفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لاحقا من باب الرواية بالمعنى او الإختصار ، وقد لمح لشيء من ذلك الخطيب البغدادي وفرق ما بين الرواية عن جابر بقصة جبريل ، وبين الرواية عن جابر بقصة دفن جنازة سعد بن معاذ وسأقف لاحقا عند هذا بزيادة بيان والله الموفق .


( 3 ) الفتح 7/501 .

( 4 ) الفتح 7/501 .

( 5 ) الفتح 7/501 . اجتهد اقف على ما نقل هنا عن الحاكم في المستدرك فلم استطع ، فإن لم يكن مثبت بالمستدرك فهذه كذبة أخرى من الحافظ ابن حجر ، أن ينسب لأحدهم قولا ثم لا نستطيع نقف عليه فليتنبه لهذا .

( 6 ) رواه الطبراني في الكبير 6/10 . وأبو نعيم في معرفة الصحابة والطحاوي في مشكل الآثار .

( 7 ) ذكره عنه ابن حجر في المطالب العالية 4/268 .

( 8 ) رواه أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي في مسنده 1/145 .

( 9 ) رواه الطبراني في الكبير 6/10 والأوسط 2/199 .

( 10 ) رواه الطبراني في الكبير 6/11 .

( 11 ) مشكل الآثار للطحاوي 10/370 .

( 12 ) مشكل الآثار للطحاوي10/368 .