بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمــة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد ، وعلى الأتقياء الأوفياء من آله وصحبه ، من الأولين والآخرين ، أما بعد :

 

إن من أشرف العلوم الشرعية علم العبد بما يليق لله تعالى في أسمائه وصفاته العلية ، مما لا يسع المرء الكلام فيه بجهل أو القول فيه بلا علم ، فيفتري الكذب في ذلك على الله ورسوله ، أو أن يقلد من قال ببعض ذلك ممن أجاز لنفسه الخوض في هذا العلم فيسمع منه ما لا يليق بالله تعالى وعظمته وينافي قداسته وجلالته ، فيقلد المرء في هذا بغير علم منه بما يليق وما لا يليق الكلام فيه في صفات الباري سبحانه ، فيتبع من ضل فيضل معه عن سواء السبيل .

 

والخير كل الخير في تنزيه الله تعالى عن كل نقص ، وطرد الأذهان عن كل ما يتصوره الإنسان صفة له من الخيال ، فإن ما يتخيله المخلوق إنما يتصوره على حسب ما تقوى عليه مداركه المبتدعة المخلوقة ، ولا يمكن ادراك حقيقة الخالق وكمال صفاته بإي قوة مخلوقة ، وإلا لعد ذلك نقصا فيه وهو محال ، فالمخلوق لا يدرك كمال وتمام ما هو مخلوق مثله بعيدٌ عنه ، فكيف بمن خلقه وهو أبعد من كل موجود عن مداركه وحواسه .

 

ولما كان الله عز وجل لا يمكن ان يحاط به تصورا من مخلوقاته الأدنى لعلوه عنها وبعده اللامتناهي عن زمانها ومكانها ، فموجوداته تبقى مخلوقات محدثات من العدم ، في زمانها ومكانها ﴿ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 0 لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ .

 

﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 0 هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ .

 

له صفات الكمال المطلق ، والعظمة والجبروت القاهر ، لم يقم لمشهد كبريائه وجبروته جبل ؟! ، فكيف بالإنسان الضعيف ؟! .

 

وكان قد خبأ موسى صلوات ربي وسلامه عليه لما رام شوقا لرؤية وجهه الكريم ، خبأه في جوف صخرة لحين يمر بقداسة ذاته العظيمة ، وسُتَر عبده المحبوب مما لا يطيق : ﴿ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .

 

وهكذا لم يجد موسى الجبل وحين واعده ليعلمه أن مطلبه محال تحققه نهاه أن يقرب الجبل من قومه أحد ، ولا من دوابهم شيء ، فكل روح تقرب من ذاك المكان حين تجليه وتكون بحضرته تلك اللحظة ستفنى ، ويحل الدمار على كل حي تواجد هناك ، لا يبقى إلا وجود الحي الذي لا يموت وكل روح تموت حين وجوده ، فكيف بموسى لو أشرف وشخص للرحمن عز وجل ؟! ، فقد صعق ولم يرى منه ما رأى الجبل ، وإلا لذُهِبَ بهِ مثلَ ما ذُهِبَ بخلقهِ العظيم ، ذلك حتى يعلم موسى ما علم .

هذا وقد خلط بصفاته وجهل حقيقتها العظيمة الكثير ممن يزعم العلم والتحقيق وخلطوا فيما بلغهم من أخبار صفاته عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي قدر له أن يلقي على كلام كل من سبقه من أنبياء الله ورسله نورا يجلي كل ما أخفي وأغمض من كلامهم عنه سبحانه ، إن كان في صفاته العلية القدسية سبحانه ، أو فيما يكون في دنيانا لمنتهاها ، وآخرتنا في سرمدها في كل ذلك أخبر كان ينظر له مثل ما ينظر أحدنا لكفه ، وتمثل له المشاهد على الحيطان وخلال المنازل ، ويسمع من ذلك أصواتا ويرى صورا ، فسبحان الذي جلى له الحقائق حتى يراها من خلفه ومن أمامه في يقظته ومنامه فصلوات ربي وسلامه عليه من عبد شكور ، نبي كريم رسول .

 

لكن الناس تأبى إلا التخليط والبعد عن الحق والعلم والرشاد والتسديد ، لقول الزور والبهتان على الله تعالى ورسوله ، فعاد الجهل بالمسلمين مثل ما كان فيمن سبق أو أشد من جديد ، وزاد فيهم ذلك حتى قيل بالرحمن سبحانه قولا بالنكارة قبيح شديد ، وانطلى من ذلك على كافة جماهيرهم فباتوا بعيدين عن الحق مقلدة ، يتبعون زلة العالم طباقا متتالية حتى تستحكم فيهم بدعه ، فلا يحورون ولا يصعدون ضاعنين في مرباع شره بلا أفئدة ، والويل لمن أنكر عليهم فاندرست فيهم منارات الحق ومعالمه ، كل ما أنكر عليهم وردت عليهم تلك وَذِيكَ المحدثة ، لا تراهم إلا مذاهب في ذلك ومدارس متعددة ، كل ينادي على ليلاه ومنواله لا يبرحه ، فغم عليهم الحق المبين من كل ناحية .

 

وقد آن أوان الحق ليتجلى بنوره مشعا في سماء الآخرين ، لينير قلوبا بعد طول ظلامها الدامس ، وعماها الطامس ، فترى الله متجليا من نقصها ، بكماله حين تعجز عن إحاطة الإدرك بالفكرة فتقدسه ، وتنخنس عن فحص من استحال على اللامعقول فتسكن للممكن المقبول ، فإنها لن تقوى إلا بهذا عن ذلك ، ومن خلط فقد افترى وقصد المهالك .

وقدر علينا مجابهة من رام من عقلاء أمتنا والنخبة من سلفنا طلب علم حقيقة ذلك ، وقصدوا لتبينه فضل أكثرهم لما اتخذوا العقل دليلا ، وآخرين استسلموا لآثار من استؤمنوا في النقل عن سيد المبلغين عن رب العالمين ، فكان طلبهم أسمى لكن ابليس كان مع الفريقين قد سوى مداخل ومخارج الفاتنين ، يشد في إضلالهم أجمعين ، فنال نصيبه وقد حان أوان فحصه ، بل قولوا بإذن الله تعالى طويى بسطه وقضى نحبه .

 

ألا وإن أجل المخلوقات لله تعالى وأعظمها عرشه ، فما سلم هو كذلك من جهل الجاهلين وتخرص الغافلين ، يلقي بينهم وسواسه ونزغه ليصرف عن حقيقة آيات الله تبارك وتعالى شأنها العظيم وقدرها الرفيع ، يريد ينال من المكرمات المعظمات بإلحاق نواقص الأذهان فيها العاجزات ، جهده يشين ما رفع الله تعالى .

 

فصدق القوم واعتقدوا بعرش الله سبحانه الذي وسع السماوات والأراضين والكرسي الذي وسع كل ذلك ، فأحاط بالكل عظمة لا تدرك بعقولنا الضعيفة ولا تتصور ويحاط بها بأبصارنا الكليلة المحدودة ، ومع ذلك اعتقدوا فيه ما يدل على سطحية غريبة في إدراكهم ، غرهم في ذلك من اغتر ، أو روايات ألفاظ وهم فيها من لم يوفق ويحيط بها جمعا وتفنيدا ، مثل ما هدينا نحن لذلك وبحمده سنكون من الشاكرين ، ومن شكر نعم الله تعالى اخلاص النصيحة لخلقه وهدايتهم لما يرضيه في تنزيهه عن كل مثال وتشبيه ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ، بإرشادهم لسبل الحق وإيضاحه فيبتعدوا عن سبل الجهل والقول على الله تعالى بغير علم .

 

ومن تلك الإعتقادات التي توهموا فيها على عرش الرحمن عز وجل أنه اهتز "لموت سعد بن معاذ" ( 1 ) رضي الله عنه ، ولم يكتفي بعضهم بذلك حتى روى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يهتز على الدوام في آخر كل مساء ( 2 ) .

 

ضلال وكذب وقول على الله تعالى بغير علم ، فعرشه الذي وسع كرسيه وما وسع الكرسي معه جعلوه يهتز على الدوام ، أو يهتز لموت رجل ضم عليه قبره حتى روع المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخذ يدعو له إلى أن فرج عليه ، وكان ذلك من عدم استبرائه عن البول ، فما رضوا له ما رضي الله ورسوله من كرامة ، حتى جعلوا عرش الرحمن يهتز لموته ، وزاد آخرون فرووا أنه يهتز آخر كل مساء ، فصار ربنا الرحمن مستويا على عرش دائم الإهتزاز ، وفي هذا منتهى عدم التنزيه ، وأقبح ما يكون من التشبيه .

 

فمن كذب بهذا ؟! ، إنه جابر ، ومن قال بقوله أو نسبه لغير قائله .

 

ومن لبس بهذا ؟!، إنه شارح البخاري ، الذي اعتمد شرحه في شد هذا الكذب والوهم ولبس على الناس في الإيهام بصحة ثبوت هذا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم .

 

ومن قلد في ذلك وتابع بلا تعقل وحسن تحقيق ونظر ؟! ، إنها أمة لطالما عبئت بمثل هذا حتى قاربوا ضلال اليهود فنسبوا لله تعالى ولغيبه ما نسبه يهود ، فكانوا مثلهم أهل تخرص وتشبيه .

وأين ذهبت عقول القوم عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روي عن عائشة رضي الله عنها قالت :

 

خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فقام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم قام فأطال القيام ، وهو دون القيام الأول ، ثم ركع فأطال الركوع ؛ وهو دون الركوع الأول ، ثم سجد فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ، ثم انصرف وقد انجلت الشمس ، فخطب الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينخسفان لموت أحد ، ولا لحياته ". متفق عليه

 

وعرش الرحمن أجل من ذلك وأعظم ، ومع هذا لما كانت الشمس والقمر يحدث الله بحركة أحدهم على الآخر ما يحدث ، لم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم مما يكون لموت أحد ولا لحياته ، إنما هي آيات لتخويف العباد ، فكيف بالعرش وهو أعظم قدرا وهو مما لا يمكن لمخلوق رؤيته بالدنيا ، ثم يزعمون فيه ما يزعمون ، فلا هو مما يرى ليتعظ بحركته وأثرها مثل ما يحصل مع الشمس والقمر ، مع أن رسول الله نفى عنهم ما يكون لسبب موت أحد أو حياته ، فكيف بعد ذلك ينسب ذلك لما هو أجل منهم وأعظم ، وهما مما يرى وهو لا يرى ، هذا خلط بل خبل .

 

كذلك مات من هو أعظم منزلة من سعد بن معاذ بحياته صلى الله عليه وسلم ما كان له مثل ذلك لا بالإتفاق ولا الإختلاف ، مثل جعفر رضي الله عنه وغيره ممن قتل بأرض المعارك في سبيل الله تعالى .

 

بل حسب بعضهم لما انكسفت الشمس ووافق ذلك موت ولده ابراهيم عليه السلام ان ذلك لعله حصل لموت ولده فنفى ذلك بما قال ، وإنما المناسب لكرامة سعد اهتزاز سريره ، ويجوز بالخشب اظهار الكرامة مثل ما أظهر الله كرامة نبيه ومنزلته حين استبدل الجذع الذي كان يستند عليه للخطبة في مسجده بالدرج ، حينها حن عليه ذلك الجذع وصار له رغاء كرغاء البعير حتى نزل عليه الصلاة والسلام واحتضنه إلى أن سكن ، وكان ذلك على مرأى ومسمع من أصحابه في المسجد ، فهل عد ذلك كرامة للجذع ؟! ، فهو مجرد جذع شجرة لا أكثر ، لكن تلك منقبة له صلى الله عليه وسلم أن يجهش له حزنا ذلك الجذع ، ولسعد قريب من ذلك أن يهش له عرشه حتى تتفسخ أعواده فرحا للقاء سعد ربه .


( 1 ) متفق عليه .

( 2 ) رواه ابن أبي شيبة في العرش .