المحكم من أقوال ابن تيمية في الفرق بين
الوقوع بالبدعة المكفرة أو الشرك والنفاق الأكبر
هذا الفرق في مذهب ابن تيمية رحمه الله تعالى مما لم يدركه هؤلاء الجهلة الضلال ، وحين التبس عليهم بعض إطلاقات حصلت في كلامه وتركب في رؤوسهم الجهل جراء ذلك ، عمدوا بالنتيجة لحمل قوله فيمن حصل منه بدعة مكفرة على من حصل منه شركا أكبر أو نفاقا أعظم ، لا يفرقون من كلامه ومراده ما بين الأمرين ويميزون السبيلين ، يتخبطون في الضلال ، يتقولون الكذب والبهتان على ما جود ذلك الإمام الهمام وأتقن في مسائل الأسماء والأحكام ، لا يلوون على شيء من الهدى ، لا فيما قرر هو ولا غيره من أعلام السنة القائمين على المحجة والتي زاغ عنها هؤلاء إلى غير رجعة والله أعلم .
وكل من رزق الهداية قديما أو حديثا يدرك الفرق في ذلك إلا هؤلاء الصعافقة المتطفلين على أهم مسائل العلم والإيمان في هذا الدين ، ألا وهي مسائل ( التكفير والتفسيق ) والتي هي من مسائل ( الأسماء والأحكام ) التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخـرة ، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا ، فإن الله سبحانـه أوجب الجنة للمؤمنين ، وحرمها على الكافرين ، وهذا من الأحكـام الكلية في كل وقت ومكان اهـ (1) .
ومن لم يدر ِالفرق من كلام أهل العلم ويعرف مرادهم سواء كان ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب أو غير هؤلاء ، فيما قالوه في مسائل ( تكفير أهل البدع والأهواء ) ومسائل ( تكفير المشركين ) ليس له أن يخوض ولا حتى يقارب تلك المباحث ، وسيبقى غريبا ًعن مضمارها بعيد عن مسارها .
وحين تعرف أخي المسلم وتوفق لتدرك الفرق في ذلك فاعلم حينئذ أن لا تعارض بين ما توهم عليه هؤلاء الضلال الاختلاف ، ولذا عمدوا لجمعه على خلافه ، واستبدلوا محكمه بالمتشابه ، وصاروا بذلك من أتباع أهل الضلال والبدع ، بدلا من أن يكونوا أنصارا للحق وشيع ، وثبت عليهم الاضطراب وتمخض من أقوالهم على السنة الهدم والخراب ، فباتوا للمشركين مهادنين أو مخادنين ، وللطواغيت مسالمين أو مقربين أولي رتب ، وهكذا هدم بهم التوحيد واستقر الشرك بفضلهم من غير مغير أو منكر ، يطاف بالأضرحة لا أحد يقول الله الواحد ، الله الواحد ، لا شريك له .
أقول : حين أراد ابن تيمية رحمه الله تعالى الكلام على مسألة ( تكفير أهل البدع والأهواء ) لا ( المشركين الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر ) ، قال مستهلا تأصيله لقاعدة التكفير كما بسط ذلك في المسائل المشهورة بالكيلانية وهي التي أكثر النقل عنها المبتدع في هذا المنحى ومؤسسه في الزمن الأخير المدعو داود بن جرجيس العراقي ، والذي يعد رأسا لهؤلاء المبتدعة الضلال من المتقولين على ابن تيمية ما لم يقله ، فقال رحمه الله تعالى في جواب تلك المسائل : القول بتكفير هؤلاء مبني على أصل لا بد من التنبيه عليه ، فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطرابا كثيرا في تكفير ( أهل البدع والأهواء ) ، كما اضطربوا قديما وحديثا في سلب الإيمان عن ( أهل الفجور والكبائر ) .
وصـار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية ، والممثلة : يعتقدون اعتقادا هو ضلال يرونه هو الحق ويرون كفر من خالفهم في ذلك ، فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق ، ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر بـ( المقالة ) التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها .
وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه ، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه ، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم ، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا ، لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ، وما يقوله أهل البدع والفرقة ، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة ، كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع ، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة ، وبعض المتفقهة ، والمتصوفة ، والمتفلسفة ، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام ، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة .
وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله تعالى ، والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء ، فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه ، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله غير متبعين لهوى : من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف .
ولا متبعين لظن : من حديث ضعيف ، أو قياس فاسد ، أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله أو عمله ، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى اهـ .
ثم بعد استرساله رحمه الله تعالى في ذلك وتقريره فرق مذاهب السلف في الإيمان والتصديق عن مذاهب الخلف من المبتدعة ، قال : إذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه ، إما لعدم تمكنه من العلم : مثل أن لا تبلغه الرسالة ، أو لعدم تمكنه من العمل ، لم يكن مأمورا بما يعجز عنه ، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه ، وإن كان من الدين والواجب في الأصل ، بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة ، فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا إذ ذاك وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل ، ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علما واعتقادا دون العمل .
فهذا أصل مختصر في مسألة ( الأسماء ) ، وأما مسألة ( الأحكام ) وحكمه في الدار الآخرة فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة ، أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان ، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان .
وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم من دخلها خلد فيها ، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب ، وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين في حق خلق كثير كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأيضا : فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب ، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره ، وإما لمصائب كفرتها عنه ، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه وإما لغير ذلك .
والوعيدية : من الخوارج والمعتزلة يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر لشمول نصوص الوعيد لهم ، ويكفرون مخالف ذلك ، ولهذا منعوا أن يكون لنبينا شفاعة في أهل الكبائر يخرجهم من النار ، وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك .
وكـان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة فقالوا : يجب أن يدخل فيها كل من شملته وهو خبر وخبر الله صدق ، فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده والكذب على الله محال ، فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد فإنها قد تتناول كثيرا من أهل الكبائر ، فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد .
والتحقيق أن يقال : الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد كما هو مشتمل على نصوص الأمر والنهي ، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه ، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروط بعدم الكفر المحبط ، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله ، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة ، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين فكذلك في موارد النزاع .
والله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب ، وأنه يقبل شفاعة نبيه في أهل الكبائر ، وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى وأن الرياء يبطل العمل ، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين ، إي في ذلك العمل ونحوه .
جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها ، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما إنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة .
إلى أن قال رحمه الله تعالى : إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملي وفي حكم الوعد والوعيد ، والفرق بين المطلق والمعين وما وقع في ذلك من الاضطراب في ( مسألة تكفير أهل البدع والأهواء ) متفرعة على هذا الأصل اهـ .
وبمثل ما افتتح الكلام في قاعدته في ( إحكام التكفير ) هذه بقوله : وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة اهـ .
ختم الكلام بقوله : وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل ، وان كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر .
وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين ، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض ، فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة اهـ .
هذا ملخص تقريره رحمه الله تعالى وزبدة تحريره في هذا الباب والناظر العارف يدرك أن كلامه في هذا إنما يحمل على الخلاف الذي حصل في سابق عهد الأمـة فيمن قال واعتقد في مسائل العقيدة والإيمـان مـا يؤول بالقائل إلى الكفر والعياذ بالله تعالى ، وهي المسائل المسماة في أبواب العقيدة بـ( العلمية ) الداخلة في اعتقاد ما عليه الرحمن عز وجل وما يليق بجلاله من قول أو فعل وما شابه ذلك من مسائل خاض فيها الناس قديما وحديثا ، مثل مسائل في القدر أو الإرجاء أو التشيع والرفض مما اختلف الناس فيما يستحق هؤلاء من أسماء الدين وأحكامه ، حتى روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في من ليسوا بغلاة من هؤلاء روايتين ، القول بالتكفير وعدمه .
ولذا نرى ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى يورد القول بإيمان بعض أمثال هؤلاء في قاعدته في التكفير من المخالفين لما عليه السلف الصالح ، ويعتبر فيهم الخطأ والغلط والنسيان أو الجهل واعتراء الشبهة ، وأن إيمانهم مما ثبت منهم بيقين ولا يزيل هذا الشك إلا يقين مثله في الثبوت .
وأصرح ما يدل على ما أعني هنا من كلامه رحمه الله تعالى ، وأنه لا يرى دخول المشركين في عموم تقعيده هنا وتأصيله الذي توهم عليه وأوهم به ابن جرجيس العراقي في زمان الشيخ رحمه الله تعالى ابن عبد الوهاب ، وبعده أفراخه ممن تلى ذاك الوقت إلى زماننا هذا ، أنه رحمه الله تعالى في هذه القاعدة يشترط تواتر نقل الحجة ليصح تكفير المخالف ، وأن تبلغه الحجة جملة وتفصيلا ، ثم يشترط لصحة كفر المخالف هنا في هذا الباب أيضا واستحقاقه للعذاب إنكـار مـا قامت عليه الحجة الرسالية ، ونزع لذلك بقوله تعالى : ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ .
فقال : فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول ، فلم يؤمن به تفصيلا ، إما أنه لم يسمعه أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها ! ، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به ، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه ، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها اهـ (2) .
فانظروا رحمكم الله تعالى وأنصفوا ، هل مثل هذا يصح قوله فيمن أتى بالشرك الأكبر المحبط للأعمال جملة ؟! ، لا شك أنه لا يسوغ هذا فيمن يأتي بالشرك الأكبر إلا هؤلاء الضلال الزائغين الملبسين على كلام هذا الإمام فيحملونه غير ما يحتمل ، ويبدلون معناه لما لا يريد ولم يطر ِ له على بال .
فإنه مما ثبت عنه من غير أن يدرك هؤلاء الأراذل أو أنهم مما تجاهلوه فالأصل في حالهم قلة الأمانة والثقة ، أنه لا يقول مثل هذا القول فيمن أتى بالشرك الأكبر وهو مما ثبت عنه بيقين في الكثير من فتاواه ، مثل قوله بالوصية الكبرى لأتباع عدي وهو يخاطب قوم هنا على سبيل التعيين :
كل من غلا في حي ، أو رجل صالح كمثل علي أو عدي أو نحوه ، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول : إذا ذبح شاة باسم سيدي ، أو يدعوه من دون الله مثل أن يقول : يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو ارضني أو انصرني أو ارزقني أو اغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى ، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل .
فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلها آخر . وعبادة الله وحده : هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حـتى قال له رجـل : ما شاء الله وشئت . فقال : أجعلتني لله ندا ؟! ، قل ما شاء الله وحده اهـ .
وقد أعاد قوله هذا في رسالته لأتباع عدي مرة ثانية تأكيدا على عظم المخالفة هنا ، وأكد على أن فاعل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، ولم يقل بما فصل من قبل لأن بابه مختلف هنا على الإطلاق وهو مما لم يعيه هؤلاء الأغرار أو أنهم تجاهلوه لإرادة التلبيس ولاستحكام الهوى في قلوبهم .
ومن ألطف ما قال في هذا الخصوص رحمه الله تعالى : الذين يؤمنون بالرسول ، إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسول ، وتبين أنه مشرك ! ، فإنه يتوب إلى الله ، ويجدد إسلامـه ! ، فيسلم إسلاما يتوب فيه من هذا الشرك اهـ (3) .
فلم يورد هنا له عذرا ولم يعتبر له جهلا ، بل نص على أنه كان مشركا وألزمه التوبة وتجديد الإسلام ! .
فأين هذا مما عليه هؤلاء الملبسة الضلال العاذرين بالجهل على التأبيد والإطلاق ، غير مميزين ولا مفصلين ما بين من يقع بالشرك الأكبر أو البدع التي قد تؤول بصاحبها للكفر أو عامة المعاصي ما دون الكفر أو ما ينتهي للكفر مثل استحلال الذنوب .
واذكر أيضا ما نقلته عنه سابقا قوله رحمـه الله تعالى في باب الشرك الأكبر : وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر ، ومنهم من يسجد له ، ومن يسجد من باب المكان المبني على القبر ، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس ، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق ، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير ، وليس كذلك ، كما يوجد مثل هذا في مصر ، والشام ، والعراق ، وغير ذلك ، ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله ، فيقول : اغفر لي ، وارزقني ، وانصرني ، ، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى ، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين ، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين ، وأن أصحابها إن كانوا معذورين بالجهل ! ، وأن الحجة لم تقم عليهم ، كما يعذر من لم يبعث إليه رسـول ، كما قال تعالى : ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين اهـ (4) .
فانظر كيف أثبت الشرك من أفعالهم هذه وسماهم بذلك مشركين ، واشترط للعقوبة رفع الجهل بقيام الحجة فقال : وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين .
مع عدم قطعه بيقين أن الحجة لم تقم عليهم ، على خلاف ما يقطع به هؤلاء الضلال على مشركي زماننا ، فلا تجدهم دائما إلا منظرين في أنهم معذورين بالجهل لم تقم عليهم الحجة ! ، وكل ذلك من حملهم كلامه في البدع المكفرة وسائر المعاصي ما دون الشرك ، على من وقع بالشرك الأكبر المحبط للإسلام جملة .
وقد عرف عنه رحمه الله تعالى في هذا الباب أنه كثيرا ما يستدل بقوله تعالى : ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وقوله عز وجل : ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ .
وما ثبت في الصحيحين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله : ( ما أحـد أحب إليه العذر من الله من أجـل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ) . ورغم هذا تراه يقول : فالمتأول والجاهل والمعذور ليس حكمه كالمعاند والفاجر ، بل جعل الله لكل شيء قدرا اهـ . فكيف بمن أعرض وأخلد للأضرحة يعبد من فيها ليلا ونهارا ولو دعي لتوحيد الله ونبذ الشرك اشمأز قلبه ونفرت روحه من ذلك .
وهذا كما قلت من قوله في أهل البدع والأهواء ممن أتى بمكفر ، أو ما يؤول بالمعتقد للكفر ، مع قوله كذلك فيهم من حيث الجملة في قاعدة التكفير في جوابه على المسائل الكيلانية : وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في خلاف ذلك ، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه اهـ .
فكيف يمكن التسوية بعد هذا بين حـال هؤلاء ومن أتى بالشرك الأكبر ، والأصل فيهم على ما علم من حالهم الإعراض عن تعلم دين الله تعالى وما يجب من توحيده عليهم ونفي الشرك عنه ، وهو ما يسر الله تعالى تعلمه وتيقنه بمجرد العلم بوجود القرآن والمقدرة على الوصول إليه ، فمجرد بلاغ القرآن لقوم تكون قد قامت الحجة الرسالية عليهم بذلك ، ومن قصر به المسير وأعجزته العوائق لا عذر له حينها في ذلك وإلا ما كان للقرآن حجة على أحد والله تعالى يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا كافة البشر وليس لأحد دون أحد : ﴿ لأنذركم به ومن بلغ ﴾ وبهذا تكون نذارة النبي صلى الله عليه وسلم به قائمة سواء بحياته عليه الصلاة والسلام أو بعد قبضه ، ببلوغ القرآن للناس ، فكل من بلغه القرآن كتاب الله تعالى فقد قامت عليه الحجة الرسالية بتوحيد الله تعالى ووجوب نفي الإشراك عنه لكل أحد ، سواء كان مدركا لرسول الله أو لم يكن ، وسواء كان شركه بنبي أو ولي أو شجر أو حجر ، ومن قال بغير هذا فقد ضل وابتعد عن سواء السبيل .
وسواء بلغه القرآن جملة أو تفصيلا فالحجة له لازمة ، فالقرآن كلام الله تعالى العظيم ينفي الشرك عن الله تعالى من حيث التفصيل والجملة كذلك .
وكان مما غر هؤلاء المبتدعة الضلال بعض اطلاقات وجدوها في كلام ابن تيمية فطاروا بها جاهلين بما يهدم فهمهم عليها من كلامه الآخر ، غير موفقين لما اعتراهم من جهل وهوى للتوفيق بين كلامه كله رحمه الله تعالى ، وهنا يتعين على القادرين من أهل العلم والمعرفة رد باطل من عاصرنا منهم مثل ما رد على سالفيهم من أهل الزيغ والضلال ، وبين للناس ضلالهم وتلبيسهم حتى يحذرهم الناس ، وعرفوهم أن ما ذهبوا إليه يمنعه ما صرح به من نسبوا إليه فهمهم هذا ، وأن من أقواله ما يبين فاسد معتقدهم .
ومن مطلقات كلامه رحمه الله تعالى في هذا الخصوص قوله : يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره اهـ .
ويدخلون في عموم قوله هذا المشرك ، ولا يلتفتون لتقريراته الأخرى كقوله في شرح العمدة : الشرك لا يغفر ولو كان أصغر اهـ . نقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع مقرا له .
كما ذُكـر عنه في الفتاوى والوصية الكبرى على ما مر معنا سابقا قوله : من غلا في نبي أو رجل صالح أشرك . . ، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل اهـ .
فكل هذا من المحكم في كلامه في باب الفرق بين ذنوب البدع والمعاصي والشرك الأكبر ، ومنه قوله وهو أشده في الباب على هؤلاء الضلال في كتابه ( درء تعارض العقل والنقل ) تعليقا على قوله عز وجل : ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ :
الرسول يدعو إلى التوحيد ، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يُعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم ، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك ، وهذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله في تصديق رسله فلا يمكن لأحد أن يقول يوم القيامة : إني كنت عن هذا غافلا . لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له ، فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك !! ، بل قام به ما يستحق به العذاب اهـ (5) .
أقول : وكما أن الحجة توثق ببلاغ الرسل زيادة على قيامها بحجة الدليل العقلي الفطري ، كذلك توثق بإبلاغ المبلغين عن الله ورسله من دعاة التوحيد الصادقين دعاة نبذ الشرك ، ولا أضل من المشرك نفسه إلا من عذره بالجهل بعد كل هذه التوثيقات والبلاغات .
وقول شيخ الإسلام رحمه الله في تمام سياق كلامه المذكور آنفا : ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحـدا إلا بعد إرسال رسـول إليهم ، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب ، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول ، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا اهـ .
أقول : إن كان مراده بذلك عذاب الدنيا دون الآخرة فهو عين الصواب ، أما إن كان المراد بقوله عذاب الآخرة كذلك ، فهذا خطأ منه لا شك في ذلك ، والدليل عليه قطع المصطفى على أبيه وأمه أنهما في النار وهم من أهل الفترة الذين لم يبعث إليهم رسول بنص القرآن .
قال عبد الله أبابطين : عموم قوله تعالى : ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به . . ﴾ يتناول كل مشرك ، والفقهاء من جميع المذاهب يذكرون في حكم باب المرتد أن من أشرك بالله كفر ويحتجون بهذه الآية ونحوها ولم يخرجوا الجاهل من العموم . وقال في موضع آخر عن العلماء في هذا : أن من أشرك بالله كفر ولم يستثنوا الجاهل ، ومن زعم لله صاحبة أو ولدا كفر ولم يستثنوا الجاهل ، ومن قذف عائشة كفر ، ومن استهزأ بالله أو رسله أو كتبه كفر إجماعا .
ومما يبين أن الجهل ليس بعذر بالجملة قول المصطفى في الخوارج ما قال مع عبادتهم العظيمة ، ومن المعلوم أنه لم يوقعهم بما وقعوا به إلا الجهل ، وهل صار الجهل عذرا لهم ؟! .
يوضح ما ذكرنا قول العلماء في باب حكم المرتد وأول ما يبدؤون به من أنواع الكفر والشرك يقولون : من أشرك بالله كفر . لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر ولم يقولوا إن كان مثله لا يجهله كما قالوا فيما دونه . وقد وصف الله أهل النار بالجهل اهـ (6) .
فمن ذلك اشتراطهم لكفر الكافرين المشركين إنشراحة الصدر بكفرهم ولم يقتصروا على شبهة ( العذر بالجهل ) وعدم بلوغ الحجة ، فزادوا قولهم باشتراط اعتقاد الكفر ، أو قولهم باشتراط قصد الكفر ، وغيره من ضلالات الأقوال والاعتقادات التي لا يتسع المقام لرد بطلانها ، ومن تقريرات أحدهم في هذا قوله : ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال عز وجل : ﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾ فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه ، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لاسيما مع الجهل بمخالفتها لطريق الإسلام ، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه اهـ (7) .
وكلام أهل العلم من المحققين في اعتراض هذه الضلالات غير خاف على أهل المعرفة ، كقول ابن تيمية رحمه الله في الصارم : من قال أو فعل ما هو كفر ، كَفَر وإن لم يقصد أن يكون كافرا ، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله اهـ (8) .
وقوله أيضا : قد تتجرد الردة عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة ، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية ، وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه اهـ (9) .
وقول الطبري في تهذيب الآثار بعد أن ذكر جملة من أحاديث الخوارج : فيها الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما اهـ (10) .
ومن ذلك ردهم لما قاله هذا الضال هزاع إذ قال ابن الوزير عن بعض فرق المعتزلة حين اشترطوا للكفر أن يعتقد ذلك مع القول ، وعارضوا بعموم مفهوم قوله تعالى : ﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾ وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء ، والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص . ومع نكارة هذا فالملجئ إليه عموم مفهوم ظني ضعيف اهـ (11) .
ومثله كان يردد هذا أسلافه من الضلال في زمن علماء الدعوة النجدية رحمهم الله تعالى علماء الدعوة لتوحيد الله تعالى ونفي الشرك عنه ، حكاه حمد بن عتيق عن أحدهم فقال رحمه الله تعالى :
ومن قوله ﴿ من شرح بالكفر صدرا ﴾ : أي فتحه ووسعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر فذلك الذي ندين الله بتكفيره .
فهذه عبارته وصريحها أن من قال الكفر أو فعله لا يكون كافرا وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه ، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين ، فإن كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كفر ولا يشترطون في ذلك انشراح الصدر بالكفر ولا يستثنى من ذلك إلا المكره .
وأما من شرح بالكفر صدرا ، أي فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه ، هذا هو المعلوم بالدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة اهـ (12) .
-----------------
(1) من المسائل الكيلانية " قاعدة في التكفير " .
(2) من جواباته على المسائل الكيلانية .
(3) قاعدة في ( الفرق بين عبادة أهل الإسلام وعبادة أهل الشرك ص 74 ) .
(4) قاعدة في الفرق بين عبادة أهل الإسلام وأهل الشرك ص 73 .
(5) درء تعارض العقل والنقل 8/490 .
(6) الدرر السنية 8/225 .
(7) شريف محمد فؤاد هزاع في كتابه العذر بالجهل عقيدة السلف . ومما زاد هذا الضال من موانع على ما قال أسلافه من الزائغين عن الحق : تكفير المسلمين الجهال الذين أضلوا بفعل علماء مضلين أصبح قواعد كلية ثابتة ، فنحن في زمان لا أشك أن الجاهل معذور ولا ينبغي لمن علم ما بعث به الرسول أن يشك في ذلك وهو يرى من ائتمنوا على الدين يسمون السنة بدعة والبدعة سنة وينفرون الناس عن الدين وينبذون أهل السنة بما تقشعر منه جلود المؤمنين اهـ . ( العذر بالجهل ص 47, 115 ) ومع هذا حين يأتم هؤلاء بمثل هؤلاء أعداء الحق ويعرضون عن إتباع ما في كتاب الله تعالى وسنة نبيه يرى لهم هذا الأحمق ذلك عذرا ومنجاة مما فعلوا من شرك ، فسبحان مقلب البصائر الخاتم على القلوب .
(8) الصارم المسلول 205 .
(9) المرجع السابق .
(10) الفتح 14/307 .
(11) إيثار الحق على الخلق 379 .
(12) سبيل النجاة 43 .