قال السائل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يكون اختلاف عند موت خليفة ، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة ، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ، ويبعث إليه السفياني جيشا من الشام فيخسف بهم في البيداء بين مكة والمدينة ، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من كلب والويل لمن لم يشهد غنيمة كلب ، فيقسم المال في الناس قسمة نبيهم ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ) .

الإشكال : ما صحة هذا الحديث ؟ .

وإذا كان صحيح ، فما معنى قوله : ( من أهل المدينة ) . رغم أنك يا شيخ من أهل الكويت " على حسب علمنا " ، والله أعلم .

وما سبب هذا الهروب ؟ وإذا كانت البيعة في بداية الأمر لأهل مكة ، فأين الغرباء النزاع من القبائل والمؤمنين بك الآن ؟.

وإذا كان المهدي يعلم انه المهدي لماذا يخرجونه وهو مكره ؟ ، أي ما معنى الإكراه هنا ؟.

وذكرت يا شيخ في " رفع الالتباس " ، أن الخارج بمكة هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فماذا تقصد يا شيخ بهذا الخروج ؟ اهـ .

أقول في جواب هذه الأسئلة :

لا أدري من أين أتى السائل بذكر السفياني هنا وأقحمه في لفظ حديث أم سلمة وهو ليس منه * ، وكيف يجوز له في محل التحقيق والتدقيق والاحتجاج أن يخلط ما بين الرواية لفظا ، والرواية بالمعنى ، وكان ينبغي عليه الفصل في هذا والتثبت ، ويعد هذا منه مثال حاضر على ما قررته سابقا من كثرة وقوع الخلط وتحقق اللبس في هذا الباب وغيره من أخبار الساعة بسبب هذه الزيادات التي تضاف للأخبار عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي ليست مما قال ولا ثبتت عنه ، ما يوقع التداخل والإشكال في معنى الأخبار الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام ، يزيد الرجل من فهمه وظنه ثم تصير بعد ذلك تلك الزيادة رواية وحديثا مرفوعا إلى نبي الله تضاد ما ثبت عنه من وجه آخر وهكذا ما يربك المتلقين ويوقع في أذهانهم اللبس .

وأقرب شيء مثالا على ذلك لفظ هذا الخبر المسؤول عنه ، حديث أم سلمة رضي الله عنها في خبر الخليفة والرجل الخارج من المدينة إلى مكة ، ومدار إسناده على قتادة ، وما يدرينا ما دُسَّ بين ثنايا هذا الحديث مما قاله قتادة أو من هو دون قتادة في هذا الإسناد .

وقد سبق أن جفل بعض أهل التحقيق من بسط وطول التفاصيل الواردة بهذا الخبر من هذا الطريق ، ومما يؤكد مخاوفهم وجود أصل الخبر في الصحيحين من غير ذكر هذه الزيادات المطولة المريبة والغريبة ، ورد بلفظ موجز جامع ، لا ذكر فيه للإكراه والأبدال وكلب وعصائب العراق والهروب ، مما هو أليق بتشدقات القصاص لا بكلام سيد البشر والذي اختصر له الكلام اختصارا ، وطوعت له مجامعه بأوجز بيان وأبلغ عبارة شاملة جامعة تغني عن التفاصيل المخلة والمضطربة .

وهذه الكلمات المستنكرة هنا هي كما قلت أنسب لسرد القصاصين مثل قولهم : أن السفياني من ولد خالد بن يزيد ، وأنه ضخم الهامة وبوجهه أثر الجدري ، وبعينه نكتة بيضاء .

وكقولهم : يؤتى السفياني في منامه فيقال له : قم فاخرج ، وانظر من على باب دارك ؟! . وما شابه ذلك من تفصيلات كاذبة أقرب للخيال منها لوحي النبوة ، أطلقها من لم يتورع عن الخوض في غيب الله تعالى ، يبتدعون من القول ما يفترون به على الله تعالى ورسوله مما يحطون به على أقوام ويزكون آخرين يتلاعبون بتلك الأخبار تلاعبا على حسب الأهواء في أزمانهم ، وعلى وفق النزاعات في تلك العصور الغابرة .

يمدحون بعض القبائل ويطعنون بآخرين على وفق ذلك ، مثل تنقصهم لقبيلة كلب في هذا الخبر المنسوب تفصيلا لأصل حديث أم سلمة ، ومثل تزكيتهم لبني تميم في حديث علي الموضوع في خبر الحارث حراث ( 1 ) , وزيد عند نعيم بن حماد عن الحسن في وصف خلقته كذلك ، أنه : ربعة كوسج . وتشدق آخرون بالكذب فقالوا : هو مولى لبني تميم ( 2 ) .

وهذا كله من التخريف والتزييف والكذب على أمر المهدي عليه السلام أطلق فيه القصاصون ألسنتهم من غير خوف من الله تعالى .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى : أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد ، كلها باطلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقرب ما فيها : لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلاء ، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر . ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإنه منقطع اهـ ( 3 ) .

قلت : ذهل رحمه الله تعالى عن ورود ذكر الأبدال في لفظ حديث أم سلمة المبسوط المذكور هنا ، وقد قال بصحته (4) وهو مخالف لقوله المذكـور هنا .

وورود هذه اللفظة المستنكرة في لفظ الخبر المبسوط مما يقوي وضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة القصاص المتوسعين في مثل هذا على ما فصلت قبل .

ومثله ذكر إكراه المهدي على البيعة وهو قول باطل كثر تناقله في أخبار المهدي ، خصوصا فيما جمعه نعيم بن حماد وغيره في أخبار الفتن عن قتادة وهو الأنسب بقوله ، ومن نسب هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ خطأً بيناً ، فالمهدي لا يكون مهديا بإكراه أحد له على ذلك ، ولا مهديا بهداية غيره له في هذا الأمر ، إنما هدايته تكون من هداية الله تعالى له وتوفيقه لا يسبقه أحد لذلك وإلا لصار السابق أحق بالهداية منه لنيل هذا الوصف الذي غلب عليه حتى صار من أسمائه ، وكل من ظن أن المهدي يساق بيد هؤلاء كالكبش البهيم فهو ضال مضل ، رضي للمهدي النقيصة التي لا يمكن يرتضيها لنفسه العاقل المدرك ! ، وإنما الصحيح أنه هو من سيقودهم كقطعان غنم ضاعت بعد راعيها لا تجد من يرعاها ، وسيجمعهم بإذن الله تعالى على الهدى من بعد الضلال .

وهذا في حقيقة المهدي وكيف يكون ، أما الخارج من المدينة إلى مكة على ما ورد ذكره في حديث أم سلمة فما هو إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم نفسه ، حين عودته ليقوم بالشهادة على الكفار والمنافقين والمكذبين له من هذه الأمة وغيرها ، ذاك حين عودته آخر الزمان في جملة من سيعود من رسل الله تعالى وأنبيائه ، فكيف يكره أو يروع حاشاه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أم كيف يهدى من دون الله تعالى والعياذ بالله ، وإنما يعتقد هذا من لا يدري حقيقة الأمر ومآله .

والحديث بهذا اللفظ المبسوط رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ ، قطع بضعفه من محققي الأسانيد جماعة ، قال المباركفوري : الحديث ثابت من طرق أخرى عن أم سلمة وغيرها مختصرا دون قصة البيعة والأبدال وبعث كلب .. ، ولا يعتد بتصحيح من صححه كإبن القيم وغيره فهؤلاء لم يتفطنوا لعلل لفظ هذا الطريق وعلل سنده اهـ .

وهذا قول حق لا شك فيه ولا يصح رفع هذا الخبر للمصطفى عليه الصلاة والسلام لشدة الاختلاف في سنده على قتادة وهو مدلس ، وركاكة ألفاظ متنه وكثرة تفصيلاته تثبت بطلان رفعه ، على عكس ما جاء في الصحيح في خبر جيش الخسف من جزالة ألفاظه مع اختصارها ما يدل على صحته عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ، أما حديث قتادة فالأليق به قتادة وأن يكون من كلامه كما قلت سابقا ولا يليق مثل هذا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشبهه لكثرة تفاصيله وما ورد فيه من خبر العصب والأبدال وكلب وغير هذا مما ينافي أسلوب المصطفى عليه الصلاة والسلام بترك التصريح للتلميح .

وزيادة على ما فات تقريره ما يدل على وهن رفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء من عدة طرق عن قتادة من كلامه بالإسناد ، وجاء عنه أيضا مرسلا وهو الصحيح رواه عنه عبدالرزاق في مصنفه عن شيخه معمر وهم أعرف بحديث قتادة ولو كان ثابتا سنده عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبينوه بتلك الرواية وهم الأعرف بما روى مرفوعا مسندا ، أو ما رواه مرسلا غير متصل ، ومن وصله من طريق معمر لا يعتد بحفظه ، وقد اغتر من اغتر به لكثرة تداول القصاص له فظنوا صحته وليس كذلك .

وممن رواه عن قتادة موقوفا أبو هلال أخرج روايته نعيم والداني (5) وغيرهما . قال ابن حبان : أبو هلال يخطئ كثيرا . وقال أحمد : يخالف في قتادة وهو مضطرب الحديث . وقد روي عنه في هذا المعنى من غير هذا الوجه .

وليعلم القارىء أيضا أن كل ما ورد من آثار عن قتادة وغيره وفيه ذكر إكراه المهدي على البيعة والخروج لا يثبت من جهة السند ، ولا يقول بها إلا من لا يعي ويدرك في ثبوت الأخبار سندا ومتنا .

من ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال : يبعث الله المهدي بعد إياس حتى يقول الناس لا مهدي ، وأنصاره ناس من الشام عدتهم ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا عدة أصحاب بدر ، يسيرون إليه من الشام حتى يستخرجونه من بطن مكة في دار عند الصفا ، فيبايعونه كرها ، فيصلي بهم ركعتين صلاة المسافر عند المقام ثم يصعد المنبر . أخرجه نعيم عن الوليد بن مسلم وهو مدلس وشيخه مجهول ، ومثله راويه عن ابن عباس .

ومنها ما ذكر عن محمد بن عبيدالله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه : فيبايع كرها . رواه نعيم وعنه الحاكم وسكت عنه ، قال الذهبي : سنده ساقط محمد أظنه المصلوب . قال المباركفوري : ظنَّه محمد بن سعيد المصلوب ، ومهما يكن الأمر فالأثر ضعيف جدا ، لأن محمد بن عبيدالله العرزمي متروك ، والمصلوب كذبوه اهـ (6) .

ومنها عن الزهري : يستخرج المهدي كارها من مكة . فيه سعيد بن يزيد وهو مجهول .

وبإسناده عن الزهري ولفظه : يخرج المهدي من مكة بعد الخسف ، فيلتقي هو وصاحب جيش السفياني فتكون الدبرة على أصحاب السفياني ، فيخرج المهدي إلى الشام فيتلقى السفياني المهدي بالبيعة ويتسارع الناس إليه من كل وجه .

وكلها آثار لا تثبت من جهة السند ، والعمدة ما روي في الصحيح عن أم سلمة في خبر جيش الخسف .

أما بخصوص قول السائل : فما معنى قوله : ( من أهل المدينة ) اهـ . فهذا معناه على افتراض صحته عودة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليشهد على البشرية جمعاء ويقيم الله تعالى معه من يصدقه من رسل الله وأنبيائه وأنه كان صادقا مبعوث رحمة من الله تعالى ، ليخزي المولى عز وجل كل من كذبه ويظهر دينه على جميع الأديان .

وكما هو مقدر له على ما تقرر في أصول الدعوة المهدية دعوة الحق ، أن خروجه سيكون ابتداؤه من المدينة مقر إقامته السابقة ، وسيعلن ظهوره العظيم من قداسة الكعبة المشرفة ، وإلى ذلك ترمي الآية قوله تعالى : ﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾ .

وكذلك قوله عز وجل : ﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقاءه ﴾ . أي من لقاء تأويله وهو مما يقع آخر الزمان ، ومن تأويله لقاؤه موسى نبي الله ورسوله عليه السلام فيمن يلقى من رسل الله وأنبيائه تصديقا لوعده سبحانه في نصرة رسله ، وذلك يوم يقوم الأشهاد .

وفي خاتمة هذا الفصل أقول لهذا السائل : إذا عرفت ما سبق تقريره وأيقنته علمت حينها وجه ما كان في عقيدتك من خلط وعدم تمييز ما بين بعث المهدي اللحيدي عليه السلام ، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ثانية ، فالأول يمهد لعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل له علامات يعرف بها عينه وزمنه ومن أظهرها تواتر الزلازل واختلافات الناس وانبعاث الدخان الذي يسد ما بين الخافقين نص عليه كتاب ربنا عز وجل علامة لمهديه وخليفته المبين ، وقد وصفه في تلك الآيات بـ( المعلَّم ) وهو الوصف الذي لم يعرف أحد أنه من أوصاف المهدي عليه السلام ولم يعتقدوا استحقاقه له مع أن الله تعالى ذكره بالقرآن الكريم وهذا من أظهر الأدلة وأبينها على مدى ضلال الناس في أمره ، وجهلهم في معرفة حقيقة ما دل عليه من أخباره .

وللمصطفى في عودته ثانية علامات كذلك يعرف بها عينه وزمنه ومن أظهرها موت خليفة الله تعالى ونشوء الخلاف بعده والاضطرابات ، على حسب ما ورد بهذا الخبر الضعيف ، وبخبر جيش الخسف في الصحيحين ، فهذا الخسف بذاك الجيش من أظهر علامات عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب عودة المسيح عليه السلام ومن معه من رسل الله صلى الله عليهم وسلم جميعا .

 

​​​​​​​