الفصل الثاني
بيان فرق ما بين السماء القديمة والسماوات السبع دونها
كل جاهل سيقف على تفصيل المقال المبسوط في بيان معنى طي السماء في الفصل السابق لن يصدق ، بل سيكفر بما قيل وسيجد وجدانه وقد ارتطم بجدر من الموانع التي حالت بين عقله وفهم ما تقرر في بيان هذا الأصل العظيم من أصول دعوة الحق المباركة في هذا الكتاب .
وفي الفصل هذا سيعزز ما تقرر قبل بما سيزيد الجهلة والكفرة بعدا أكثر وحسرة عاقبتها لذة ستكون بعقول وقلوب الذين يؤمنون بهدى الله تعالى ، ويوقنون به على الدوام .
ومن جهل السابقين واللاحقين في هذا الباب عدم تفريقهم وادراكهم للمعنى الذي تعالى يفرد به في آيات من القرآن اسم " السماء " وفي آيات أخرى يسميها بالجمع " السماوات " .
مثلا لما يقول عز وجل : ﴿ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ﴾ .
أو قوله عز وجل : ﴿ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ﴾ .
الأسباب هي المسافات ما بين الطباق أو السماوات لقوله تبارك وتعالى : ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ .. فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، إِلا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ .
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ ، ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ .
فدعوى التملك والخبر بالارتقاء والنفاذ أو ركوب الطباق كله يقع على السماوات لا يأتي بها على الإفراد قط ، لأن ذلك مما لن يكون بمقدورهم أبدا .
ومثله الطي ، فقوله عز وجل : ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾. بالإفراد خلاف قوله عز وجل : ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ، أو قوله تبارك وتعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ . فهو إن أفرد اسم السماء فلأنه يريد معنى خلاف المعنى حين يخبر عن الجمع ، يفيده قوله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَوْا ﴾ ، وقوله تبارك وتعالى ﴿ أَوَلَمْ يَرَ ﴾ ، وقوله عز وجل ﴿ أم لهم ﴾ وحتى قوله ﴿ مَّا تَرَى ﴾ * ، فكل ذلك مما ثبت لهم العلم به ورؤية شيء من تفاصيله ، وادعاء ملكيته كذلك ، مثل ما ثبت لهم تجاوزه والارتقاء لطباقه ، أما في شأن سماء السماوات فالأمر مختلف لا يصح حصول ذلك لهم على الإطلاق ، فلا معرفة لعدم احاطتهم بها ولا دعوى تملك لأنهم لم يبلغوا إلا طرفها فقط من ناحية الأرض والسماوات السبع المحيطة بها .
والمخالفة في ادراك ذلك ستكون بسبب جهلهم في معرفة الحكمة وراء التفريق في الخطاب الرباني ما بين الإفراد والجمع لاسم السماء .
ولأشرح المعنى من حيث الواقع ايناسا للعاقل ، وإلا الهدى بالقلب والعقل اكتفى بالنقل وجاء الإيضاح والتفسير من الواقع للتأكيد على المعنى وتصديق النقل بالكشف عن حقيقة تأويل كل ذلك ، ولينظر العاقل اليوم من زاوية تحقق التأويل فهذه وحدها كافية ليصل الفاهم للمعنى المقصود من كل هذا البيان والشرح .
فقوله عز وجل : ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجا ﴾ . فمن يمكنه أن يجادل اليوم إلا من عدم العقل والبصيرة بأن كون القمر والشمس على ما وصف الله عز وجل لا يصح بتاتا على وفق معتقد وافهام الجمهور كافة ، وهذه أقمارهم الصناعية المرسلة تجوب الكون بالأعلى وتصور كل تلك المجرات الهائلة الخلقة والواسعة الانتشار البعيدة كل البعد عن القمر والشمس في مجرتهما فكيف من ثم يكونان في كل تلك المجرات على ما وصف تعالى ناهيكم في سماء السماوات نفسها على سعتها وعظم ما حوت حتى تعد في سعتها مجرة الشمس والقمر لا شيء يذكر كحبة رمل واحدة على ساحل خليج أو محيط ؟!
فالعاقل الفاهم بعد المؤمن المصدق إلا ويوقن أن ذلك الوصف غير صحيح على الإطلاق ، لو كان المعنى ما يذهب له جهلة الجماهير اليوم وقبل في ادراك المعنى من الخبر بالسماوات هنا ، إلا من هدى الله تعالى من نبي أو رسول ، فأولئك فقط هم المهتدون للمعنى هنا العارفون بالفرق ، وسواهم في ظلمات الجهل سنة الله تعالى في الخلق : ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ .
وصدق الكريم العظيم القائل بمحكم التنزيل : ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ، فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ، فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ . فأنى لهم الإيمان وظلمات الكفر تحيط بالبعض ، وظلمات الجهل بالبعض الآخر .
فالسماوات الطباق اللآتي فيهن القمر نورا والشمس سراجا خلاف ما اعتقد به الجمهور ، فلا سماوات هناك بحسب اعتقادهم الباطل ، بل هي سماء واحدة والسماوات السبع دون تلك السماء وفيهن القمر نورا والشمس سراجا حقا ، وهن ما قال فيهن تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ، سواهن سبعا في ابتداء الخلق لأنهن على المعنى الذي لم يدركه الجمهور ، ولما كن تلك السبع على خلاف السماء الواسعة جدا والتي حوت كل تلك المجرات والنجوم والكواكب الهائلة الانتشار التي قال تعالى فيها : ﴿ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ ، ولما أراد التوسيع في الخلق أفرد ، أما
في خبر خلق الأرض والسماء لما كانت دخان بين تسويتها بالعدد واختصاصهما ببعض ، فتلك التي تلاصق الأرض وهي الطباق الملتفة حولها لتكون جوها الخاص بها دون ما حوت السماء الكبرى لها ولغيرها من خلقه الواسع وأفلاكه المنتشرة والتي بدأ البشر يكتشف سعة كل ذلك الآن رويدا رويدا .
فتلك السماوات والطباق هي التي سيصدق عليهم في تجاوزها الأخبار ، أما سماء تلك السماوات فلا يعتقد بصدق تجاوزها والنفاذ منها إلا القوم الذين لا يعقلون ، لعظم تلك السماء التي تحوي كل تلك الأفلاك المكتشفة حتى الآن دعوا عنكم ما لم يكتشفوه بعد ولن يكتشفوه أبدا ، لعظمها قال المسيح عليه الصلاة والسلام بإنجيله في خبرها ما يلي : ﴿ سماء السماوات لا تسعه لأن إلهنا غير محدود ﴾ ، وقبله قال فيها نبي الله تعالى نحميا عليه الصلاة والسلام : ﴿ أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ ، أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَكُلَّ جُنْدِهَا ، وَالأَرْضَ وَكُلَّ مَا عَلَيْهَا ، وَالْبِحَارَ وَكُلَّ مَا فِيهَا ، وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا ، وَجُنْدُ السَّمَاءِ لَكَ يَسْجُدُ ﴾ ، وهذا التفريق الحق ما بين حقيقة السماوات السبع وسماء تلك السماوات ، وعليه لن تجد التناقض لا في القرآن ولا الأنبياء في مسألة الإفراد والجمع لإسم السماء ، ولا يمكن الموائمة بين كل ذلك إلا على أصول هذه الدعوة المباركة وهو ما تم إيضاحه وسيتم إن شاء الله تعالى وفق ما سيذكر في هذا الكتاب .
وعليه يلزم فهم المعنى من قوله تعالى في طي السماء : ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب ﴾ ، على ما تقرر في هذا الكتاب ، لأن سماء السماوات لا تطوى بل توسع ، وإنما تقبض السماوات المحيطة بالأرض وهي معلومة لديهم بل مسمية كل طبقة منها باسم يطلقونه عليها - أعني مستكشفوا الفضاء - ويدعون في كل طبقة منها ما يعرفون فيها ويقدرون مسافاتها بحسب مبلغهم من العلم ، وهي التي قال فيها تبارك وتعالى : ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ، إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ ، فانتبهوا كيف أضاف زينة الكواكب للسماء الدنيا على الإفراد ، لأنها خلاف السماوات بل هي التي تحوي السماوات على ما بين الأنبياء وهي التي جعل فيها تلك الزينة لأهل الدنيا .
أما السماوات السبع فهي قرينة بالخلق مع الأرض ، ومثلما خلق السماوات في يومين كما مر معنا قبل هو أيضا خلق الأرض في يومين ، وذلك صريح في القرآن بقوله عز وجل عن السماوات قبل وعن الأرض : ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ أتياه ، والسماوات لم تخلق بعد سبعا فخلقهن العزيز القوي بعد ذلك على ما أخبر وأوحى في كل سماء أمرها ، ثم أفرد بالذكر بعد ذلك الخبر عن زينة السماء الدنيا بمصابيح ، ويريد سماء السماوات والمصابيح تلك النجوم ومجموع المجرات التي يشاهدها المستكشفون الآن من خلال ما قدر الله تعالى لهم من وسائل اتصال ووصول للفضاء الخارجي ، وما يشاهدونه من ذاك الكم الهائل من النجوم وتلك السعة في الخلق الرهيبة والتي لا يحصيها عددا ومكانا إلا الله عز وجل ، كل ذلك مما لم يدخل في جملة الخلق المذكور بالأيام ، ولا تلك السماء هي تلك السماوات ولا هي داخلة في جملتها بل هي سماء السماوات الأعظم والأوسع في الخلق والسابقة في الخلق بما لم يذكر لنا تعالى عنه إلا أنه لن يزال يوسع في ذلك الخلق ولن يبدل ولن يزول .
أما السماوات السبع فهي التي ستبدل لغير الحال التي تشاهد عليه اليوم ، لا تبديل يراد منه ازالة ما يطرأ عليها من فعل المخلوقين كما بين معنى ذلك قبل فيما اختص بسماء السماوات ، بل تبديل يغاير حقيقتها المشاهدة للبشر الآن تتكشف عنه حقائق مختلفة بالمرة عما يشاهد اليوم في الحياة الدنيا ، وكيف لا وهي منازل المؤمنين والتي من خلالها يعرفون درجاتهم في الجنة ، ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أتم خلق الأرض وتقديره ما سيجري فيها ثم خلق تلك السماوات السبع بعد أن استوى إليها ، فكيف يكفرون وقد أوجدهم من العدم وهم بحكم الموت لأنه بدأ به فقال : ﴿ كنتم أمواتا فأحياكم ﴾ ، ثم أماتهم بعد ذلك وهم لا زالوا أرواحا بعد , ثم أحياهم بشرا وسيميتهم بعد ذلك . وأفاد السياق المشترك فيه وصف خلق الأرض والسماوات مع خلق البشر بمختلف مراحلهم بأنهم مرهونون بالوجود لا بالأرض فقط بل والسماوات وأن كل ذلك الخلق مختص بعضه ببعض ، فالسماوات ستنقلب منازل جنان لهم ، والأرض دركات جحيم لبعضهم ، أما ما تحويه سماء السماوات فلا شأن لهم بذلك سوى كون بعض ما فيها زينة لدنياهم فقط ومتى ما زالت الحاجة لتلك الزينة ستزول تلك الزينة ومصادر علم الحساب والتي هي أيضا علامات لتحديد مساراتهم على وجه الأرض ، أما عدى ذلك فالبقاء للخلق والتوسعة لأن الذي أوجد ذلك كله من قبل البشر وأرضهم وسماواتهم ما أوجده إلا ليبقى تعالى ويدوم إلى ما لا نهاية خالقا آمرا ناهيا ويوجد من خلقه ما يشاء ، ومثل ما خلق الملائكة ومن ثم الشياطين والجن وبعدهم الإنس ، قادر يوجد من الخلق ما يشاء تعالى وبأي مكان وزمان يشاء ، لا نهاية لخلقه ولا لأمره سبحان العزيز الحكيم.
وليست تلك بأول الآيات الجامعة لخلق السماوات والأرض بسياق يتعلق بخلق البشر للعلاقة المباشرة ، بل بغيرها ساق الله تعالى ذكر خلق السماوات والأرض مع خلق منافع للناس للعلاقة والاتصال على أنها آيات لمن يعقل ، ولا يمكن أن يعقل الحقيقة من لا يشاهدها وهي غائبة عنه بالتمام كما هي عليه الحال بالنسبة لاعتقاد الجمهور قديما وحديثا عن حقيقة وجود السماوات السبع ، فهم باعتقاد أن كل ما يشاهدونه ويشاهده اليوم غيرهم من مستكشفة الكفار ما هو إلا للسماء الأولى أما بالنسبة للسماوات غيرها الست فوجودهن بحكم الغيب لم يطلع عليها بشر قط ليس نبي ، وهذا مع كونه غير صحيح وحق فهو خلاف مفهوم تلك الآيات فالله عز وجل أحكم وأعلم ان يطلب التفكر من البشر والاعتبار عليه كآيات له من غير ما يشاهدون حقيقته ولا يطلعون عليه ، وذلك متحد وموافق على التمام مع اعتقاد المهدي في حقيقة وجود تلك السماوات فهي المشاهدة وهي التي يصح بالعلم بها الاعتبار لمن لديه هبة عقل ومزيد هدى من الله تعالى .
وهذا نظير من خالف باعتقاد كون الشمس سراجا في السماوات والقمر نورا فيهن ، مع اعتقادهم بحقيقة وجود السماوات وهذا أبعد ما يكون صدقا وحقا مع الشمس والقمر ، والحق ببطلان أوهام معتقداتهم المتوارثة ، ومع صدق ما أخبر عنه تعالى بكتبه وعلى ألسنة رسله ، يهم الناس ويبقى الحق حقا لأن مصدره حق والحق لا يتناقض ولا يكذب بخبره .
قال عز وجل : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ . وكل ذلك مما تدرك حقيقته وبمقدور البشر العلم به وادراك كونها آيات لله عز وجل لأنها كلها تنطوي تحت المشاهدة وأحكام الحس لديهم من السماوات للأرض لاختلاف الليل والنهار للفلك التي تجري على وجه البحر ، للسحاب المسخر في السماء وتصريف الرياح ، أما ما كان في تصور عقلية الجماهير عن السماوات الست الباقية فذلك مما لا عبرة بما فيها ما لم يقع تحت حس من يعقل ولا آيات لهم فيما غاب عن مدارك عقولهم ، والجهل ليس من سبل الموقنين قط ، ولا يستحضر الغائب أبدا لا بالإيمان المجرد الصادق ولا بالهلوسات الذهنية ، ولا حتى بنبوءات الحق ما دامت أنباءها لا زالت غيبية ، مثل رؤية النبي تماما صلى الله عليه وسلم بالمنام وهذا من صنف الحق فالرائي لم يشاهده على الحقيقة إلا مثال ، فكيف باستحضارات الجهل للحقائق فكلها باطلة ، نظير اعتقادهم كون الشمس سراجا في السماوات السبع والقمر فيهن نورا ، وهم باعتقادهم مع الشمس والقمر والأرض وكل تلك المجرات في السماء الأولى ، فأي تناقض حقيقي مع أخبار القرآن أكثر من هذا التناقض والمجافاة ؟!
لكن الأمر على ما تقرر هنا لا كاستحضار مهلوس لغائب فذاك أمر ، وعالم الحس والمشاهدة آمر آخر وما يخاطب الله عز وجل به عباده إلا وهو الحق لا هلوسة ولا استحضارات مجافية ومناقضة للحس والواقع .
ويبقى ادراك معنى الطي للسماء تلك على ما بين هنا بهذا الكتاب بأن يقوم بكنس أقمارهم الصناعية البشرية التي وضعوها هناك لما بلغوا وتجاوزوا السماوات السبع ، ووعيده بأن يطهر تلك السماء منها ، لهذا قال تعالى عنها : ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ .
فتلك السماء خلاف السماوات السبع ، فالسبع وجب الإيمان والتصديق بتجاوزها من قبلهم بسلطان من الله تعالى ، أما سماء تلك السماوات فلا يمكن هذا ، وهي التي نص تعالى بالمنع من تجاوزها في قوله عز وجل : ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ، فتلك ظلمات السماء لا يمكنهم الخروج منها ، خلاف الطباق السماوات السبع فاليقين للنقل وللمشاهدة الآن أن ذلك تحقق .
وكذلك نفى عنهم السماع منها فقال عز وجل : ﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ . أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ * .
فهذه حقيقة المعنى من إفراد الله تعالى لذكر السماء أو خبره عن السماوات بالجمع ، ومن جهل ذلك ولم يهد لمعرفة الحق في الفرق ما بين الإفراد والجمع بكلام الله تعالى وقبله كلام الأنبياء عن السماء ، من بعد هذا البيان فهم بالمنزلة مع أولئك أهل التخرص من أهل الكفر والنفاق ممن سبق الإشارة لما قالوه عن قيام الساعة وتوريث المؤمنين للأرض ، فكلهم على السواء في الجهل بحقائق الإيمان ومعرفة سبل الرحمان عز وجل ، وهم عن ذلك الحق بمعزل مشاهدة وسماع .
واعتبروا كذلك على وفق هذا التأويل الحق كيف يتبين ضعف الإنسان ومدى شدة جهله بربه عز وجل وما خلق تعالى العظيم ، وأنهم كل ما ازدادوا معرفة بظاهر من الحياة الدنيا قربوا لمعرفة مدى شديد جهلهم بربهم وقدرته العظيمة وسعة احاطته بالكون ، وأنهم كل ما كبر بنظرهم الكون ليوقنوا أن الله تعالى أكبر من ذلك حتى ما يسعه شيء كما قال المسيح عليه الصلاة والسلام بإنجيله الحق : ﴿ سماء السماوات لا تسعه لأن إلهنا غير محدود ﴾ .
وأختم هذه الفصل بالكلام على معنى هذه الآية بإيجاز للعلاقة : ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ . فالسبع هنا هي التي تقدم الشرح في بيان ما هيتها ، وقد توهم في هذا السياق ابن عباس رضي الله تعالى عنه فحمل المعنى على الانفصال الكلي التام لذكر السماوات السبع فأتى بتخليط بسبب ذلك لحمله الفصــــــل على الأرض أيضا فألزم نفسه على وفق ذلك تقرير أن بكل أرض آدم كآدمنا ومصطفى كمحمد عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ذلك من شبه الهذيان ، والحق الصحيح أنها طباق أو دركات تتنزل كما طباق السماء فوق ، كل دركة تختلف في طبيعتها عن التي أسفل منها إلى سبع دركات كما السماوات فوق وجه الأرض سبع طباق ، وهذا ما يريده تعالى بخبره في تلك الآية لا أن الأرض تتعدد لتكون سبع منفصلة ، بل الأرض ذاتها تتكون من دركات .
ومما يثبت بطلان ما تصوره ابن عباس على قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ من القرآن ذاته كما في قوله عز وجل : ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ، أفرد الأرض مع جمع السماوات ، ولو كانت الأرض على ما تصور ابن عباس ومن قلده لجمعت هنا كما السماوات ، وهذا دال على الحق الذي تقرر هنا بأنها تلك الدركات وعددها سبع كما أخبر تعالى لا أنها أراضين سبع منفصلة انفصالا تاما كاملا وإلا لم يصح هنا افراد اسمها مع الجمع لاسم السماوات إلا للغاية التي تقرر هنا ولهذا قال عز وجل : ﴿ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ ﴾ ، أي كلها بجميع دركاتها السبع .
وأزيد بالبيان أن تلك الطباق للأرض ما هي إلا أدوارا لجهنم لكل دور منها باب يدخل منه لذلك الدور من الكفرة من قضي عليه يحل بذلك الدور ، لقوله عز وجل في ذلك : ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ .
وقال تبارك وتعالى : ﴿ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ، ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ ، ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ ، فتلك هي حقيقة طباق الأرض أو دركاتها ، كما أن لأبواب السماوات حقيقة هي الأخرى ، فمثل ما لجهنم دركات وأبواب يدخل منها الكفرة أعداء الله تعالى ورسله ، كذلك هي الجنة طبقات يعلو بعضها بعضا ولها أبواب كما قال عز وجل عن ذلك : ﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ، فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ، سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ، لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ، هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ ، تبدل السماوات لتكون الجنة درجات ومن خلالها يعلوا بعضهم بعضا حتى يتراءوا من خلالها ويتزاورون ويعلوا من يرفعه تعالى فوق غيره حتى يرى كالنجم في السماء ، ومن دونه كالكوكب من السماء بالنسبة لمن دونه ، وهكذا ، وهذا مما لن يكون إلا بارتفاع بعضهم فوق بعض من خلال تلك السماوات التي ترونها الآن يتزاورون الأعلى ينزل للأسفل والعكس ممنوع ، لهذا سيبدلها الله تعالى ويكشف عن أعين الخلق حتى ترى ويدخل كل درجة منها من يستحقها ، ومثل ذلك بالنسبة لجهنم أعاذنا الله تعالى من دخولها ومكابدة شرورها إنه هو السميع العليم الرحيم .
ولو كان بهم ذرة من عقل وايمان هؤلاء الكفرة لذهبوا يبحثون عن المسيح عليه الصلاة والسلام في السماء الثالثة فقد رفع إلى هناك ، بدلا من بحثهم الضائع الآن عن الحياة في طبقات الكون العليا ، ولن يجدوا شيئا ولن يسمعوا شيئا ، ومن يضلل الله تعالى فما له من هاد .
وحتى من لم يكن على ملة هؤلاء لو بهم تعقل لأدركوا أن الله عز وجل وصف الجنات بما يوافقه هذا المعتقد والتقرير في هذا المقال ، فقد وصف ذلك تعالى وصفا ربانيا متفق على التمام فقال عز وجل : ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ، وهذا عين ما تقرر هنا ولا مزيد ، إلا أنه يتعين التنبيه على أمر هام في هذا الخصوص وهو أن ما ورد في عرض الجنة بعرض السماوات والأرض أو كعرض السماوات والأرض كما في قوله عز وجل هذا من سورة أل عمران ، ورد ما يخالفه في سورة الحديد وهو خطأ من ناسخ المصحف فأفرد في سورة الحديد خلاف ما ورد في سورة آل عمران بالجمع والمراد عدد طباق السماوات ، ولا يمكن أن يكون الخطأ في ذلك إلا من الناسخ فالله عز وجل منزه عن الخطأ في ذلك ، فتارة الجنة عرضها كعرض السماوات هكذا بالجمع ، وتارة السماء فقط ، ولا يحتمل الأمر هنا التأويل والتحريف للجمع فالمسافة بعيدة جدا والكلام كله عن العرض ، فتعين التنبيه على ذلك والتأكيد عليه حتى ما تقرأ بالخطأ على ما وقع به الناسخ ([1]) وهو ظاهر لا لبس في بيان وجهه ويجب القراءة في ذلك كما في سورة آل عمران ([2]) .
ومما يدل على المجاورة بين أهل الجنات وأهل الدركات في الجحيم ، كالمجاورة ما بين السماوات والأرض اليوم وغدا حين تبدل السماوات لتكون درجات للجنان ، ودركات جهنم في الأرض لتكون مثوى للظالمين ، قوله عز وجل التالي : ﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ، فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ ، بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ، لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ، قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ، قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ ، قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ، أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُهَا كَأَنَّــــــهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ . تتصل الجنة بدرجتها الأولى بأول دركات النار من أسفل ، بحكم كون الجحيم بباطن الأرض ودرجات الجنة مما يعلوها ويحيط بها ،
ولهذا ورد الخبر كما قرأتم قبل بما يفيد التجاور والمعاينة من أفراد من الجنة ، لأفراد من أهل النار والعياذ بالله من مصيرهم .
والاطلاع هنا كائن ممن هو فوق لمن هو أسفل منه ، قال في مختار الصحاح : الاطلاع ، من اشرافٍ إلى انحدار اهـ . وبهذا أبين دلالة من قوله تعالى قبل أن الجحيم أسفل من الجنة حتى يطلع أهلها على أهل النار ولو لم تكن بهذه المجاورة والقرب لما أمكنهم ذلك ، وأبلغ من هذا التعيين في قوله تعالى أين سيجد المرء تعيينا لمكان الجنة بالنسبة للنار ؟
وعلى وفقه سيتم العلم واليقين بأن وجود وتعيين الجنة إنما يترتب على تعيين مكان جهنم وعلى وفقه يتم تعيين مكان الجنة ، فان كان الصحيح بالتعيين للجحيم باطن الارض وغلب المؤمن بذلك التعيين بالحجة يتعين أن يغلب أيضا بتعيين مكان الجنة على الصحيح وأنها فوق الارض تصعد درجاتها للأعلى ، وهكذا هي حقيقة مسألة تعيين الجنة والنار التي حارت بها العقول وطاشت في تعيينها الأفهام والأفئدة .
والمتمعن بأصل اعتقاد المهدي هنا في تعيين مكان الجنة والنار سيرى لا محالة تآلف معاني البراهين كلها على وفقه ومتحدةٌ معه ، عكس ما عليه جماهير الناس فهناك كل الاضطراب والتناقض وعدم العلم واليقين.
إذا هما متلازمتان بالوجود متصلتان بالمكان لا محالة وبغير هذا الاعتقاد والتصور ستضطرب الأفهام بتناقض الأدلة ومعانيها في التعيين والجمع بين كل تلك النصوص ، ولا يمكن يطلع أهل الجنة على أهل النار بغير هذا التعيين ، ومثله بالمناداة كما الاطلاع ذلك في قوله عز وجل : ﴿ ضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، يطلعون وينادون وأولئك يسمعون وهذا لن يكون قط الا على أصلنا في إثبات وجود الجحيم والجنة متجاورتان ، فالسور وجه الارض ولها باب من خلاله الجحيم ومن خارجه الجنة ، بغير هذا الأصل والجمع لا اتفاق ولا صحة لتحقق الاطلاع والمشاهدة والإسماع والسماع كذلك ، فهم قريب يسمعونهم للتجاور ، وهناك قال اطلع فرآه وكل ذلك لتحقق التجاور بالمكان الذي يسمح منه المشاهدة والسماع ، ولا يمكن اثبات التجاور بالمكان إلا على هذا الأصل في الدعوة المهدية المباركة في إثبات التجاور بالوجود للجنة والنار والتعيين لهما بذلك على ما بين هنا.
نسألك ربنا الكريم المنان أن تجعلنا من أهل الجنة السالمين من النار سلاما كاملا محرزا من كل شر من شرورها ([3]) .
﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ، هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ، قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ، قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ . وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ، قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ ، ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ .
وقال تعالى على لسان نبيه داود عليه الصلاة والسلام في كتابه الزبور : ﴿ الرَّبُّ الإِلَهُ الْقَدِيرُ تَكَلَّمَ ، وَدَعَا الأَرْضَ لِلْمُحَاكَمَةِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ، أَشْرَقَ مَجْدُ اللهِ ، يَأْتِي إِلَهُنَا وَلاَ يَصْمُتُ ، تُحِيطُ بِهِ النَّارُ الآكِلَةُ وَالْعَوَاصِفُ الثَّائِرَةُ ، يُنَادِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْعُلَى ، وَالأَرْضَ أَيْضاً مِنْ تَحْتُ لِكَيْ يَدِينَ ، فَتُذِيعُ السَّمَاوَاتُ عَدْلَهُ لأَنَّ اللهَ هُوَ الدَّيَّانُ ﴾ . فتلك هي السماوات كما الأرض معنية كما البشر بتلك الحسابات والعذابات ، أما سماء تلك السماوات فبعيدة جــدا
عما نحن بصدد الحديث عنه صدقوني ، هذا ولما كانتا بتلك المنزلة من القرب للبشر قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك " ([4]) . يعرض بذلك عن مدى قربهما والإضافة لشراك النعل امعانا منه بالوصف وقد قارب أن يكشــــــف عـــن السر لكن هيهات علمهم بذلك ولم يشأ الله تعالى أن يهديهم لسرها ، فالشراك للمداس وهو الأقرب لباطن الأرض منهم مستقر جهنم ، ومثلها الجنة فأول درجاتها من على سطح الأرض وهم يدوسون عليه قبل وقتها ، وجهنم تحت أقدامهم ولا شعور لهم بذلك .
وكل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في تفاصيل الحشر والحساب مما سيجري يوم القيامة بعد أن يبعث البشر من موتهم ليدين الله عز وجل الكل على ما عملوا ، كل ذلك إنما يثبت ما تقرر لبيان هذا الأصل في تعيين مكان الجنة والنار وأن نقطة الفصل تتم من على وجه الأرض فما فوق الجنان وما سفل عنها دركات الجحيم ، حتى أن الخبر عن ضرب الصراط فيوضع على متن جهنم وهي أسفل منه فاغرة فمها وذلك بابها الأول ، ولو لم يكن مبدأ دركاتها من على وجه الأرض والناس فوقها لما صح الخبر بتساقطهم فيها يوم الحساب بعد الحشر ، أفاده الخبر المشهور الصحيح التالي لفظه :
" ويضرب جسر جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ، ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم " .
ثم الخبر بالإذن للمؤمنين ليخرجوا من سقط في جهنم من المسلمين حتى يطرحونهم على باب الجنة فينبتون على طرف نهر من أنهارها كما ينبت حب الزرع .
كذلك قصة آخر جهنمي ممن سيدخل الجنة ، وكل ذلك يثبت اتصال المكان بطرفي الجنة والنار ، ومن راجع مجموع تلك الأخبار سيوقن ذلك وأنه لا فصل بينهما لا يسع البشر تجاوزه ، حتى يسير آخر جهنمي ليدخل الجنة وللتو هو مصروفا من لهيب النار ودخانها فيطلب يقف عند باب الجنة ثم لا يزال يسأل ربه من قربها ويدنيه حتى يدخلها .
هذا وقبل ذلك بعد ما يجوز الناس الصراط ويسلم منهم من يسلم من السقوط ببطن الجحيم ، يحبسون بعد ذلك للحساب فيما بينهم بالحقوق وهم لا زالوا دون الجنة تجاوزوا النار ، وقد يرجع لها منهم من علق به حق لم يستوفى منه ، وكل ذلك ما قلت دال على اشتراكهما بالمكان والاتصال به اتصالا طبيعيا للبشر وليس اعجازي كالانتقال بالطيران او كانتقال الأرواح من دون الأجساد ويدل عليه قوله عز وجل :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ﴾ ، ولم يذكر الانتقال هنا إلا بشكل طبيعي لا اعجازي كانتقال الروح . ونظيره ما مر قبل قوله صلى الله عليه وسلم اثناء عبورهم الجسر من على متن جهنم قال : " فأكون أنا وأمتي أول من يجيز " . قال الأصمعي : جاز الوادي مشى فيه وأجازه قطعه .
وقال النووي : المعنى أكون أنا وأمتي أول من يمضي على الصراط ويقطعه يقول جاز الوادي وأجازه إذا قطعه وخلفه اهـ . وهكذا دل ذلك على انتقال طبيعي للبشر وأجسادهم وليس اعجازيا كما انتقال الروح على ما ذكرت ، ويكون المكان مشترك يتصل به طرفي الجنة والنار ، والانتقال مما هو طبيعي بالنسبة للبشر ، ومجمل الأدلة أفاد معناها على كون ذلك مما يحصل على وجه الأرض يوم تبدل الأرض لغير الأرض التي يعهدها البشر اليوم ، فتكون أكبر حجما مما هي عليه الآن منبسطة لا اعوجاج فيها لكنها تبقى بالأصل هي ذات الأرض التي تحيط بها طباق السماوات السبع والتي ستبدل هي الأخرى لتصبح على خلاف ما هي عليه الآن ، فتتحول تلك لجنان والأرض لنيران بدركاتها السبع والعياذ بالله تعالى من دخولها . ومن الآيات في القرآن الدالة على تعيين مكان الجحيم أنها في الأرض قوله عز وجل في آل فرعون : ﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعةُ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ . قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى : لم يُرد أن ذلك يكون في الآخرة وإنما أراد أنهم يعرضون عليها بعد مماتهم في القبور اهـ ([5]) . ومن المعلوم أن قبورهم ليست إلا في باطن الأرض ومنها يتم عرض أرواحهم على جهنم ما يدل على أن مستقر أرواح الكفار في باطن الأرض ، على مقربة من جهنم . هذا والله وحده ولي التوفيق ولا مهدي إلا من هداه الله تعالى .
* توسعت في شرح دلالة الرؤية هنا في فصل ( أين التسونامي في القرآن العزيز ؟! ) من كتابي في التفسير يراجع هناك .
* يراجع : الفصل تحت العنوان التالي : " أقسم بالله العظيم أن المخاطب هنا بالقرآن المهدي ومن أدركهم " . من كتابي في التفسير .
([1] ) يراجع فصل : " ويحكم أقرأوها هكذا ( وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْلَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ .. ) " و فصل : " اثبات بطلان رسم المصحف بخلطهم ما بين معنى كلمة رجز ورجس " كامثلة على خطأ نساخ المصحف ، من كتابي في التفسير .
([2] ) ولمزيد تفصيل حول ذلك يراجع فصل ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ ﴾ من كتابي في التفسير