الفصل الرابع
التعليق على الحديث الثالث والرابع ضمن تبويب صاحب السنة المذكور
هما حديثان عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه مرفوعان ، الأول ولفظه : " إن الله ليعجب من الشاب ليس له صبوة " . والحديث الثاني سيأتي ذكر متنه وسنده والتعليق عليه بعد ما أنهي الكلام على الحديث الأول إن شاء الله تعالى .
فأقول بالنسبة للحديث الأول : رواه عن هشام بن عمار قال : كتب إلينا ابن لهيعة قال حدثنا أبو عشانة قال : سمعت عقبة بن عامر يحدث عن النبي . وهو اللفظ الذي اختاره ابن أبي عاصم ليثبته في الباب المذكور من كتابه السنة .
قال ابن عدي : هذا الحديث لا أعلم يرويه غير ابن لهيعة اهـ . يريد طبعا المرفوع وإلا روي من غير ابن لهيعة إلا أنه موقوف رواه ابن المبارك رحمه الله تعالى في كتابه الزهد عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن أبي عشانة عن عقبة قوله : يعجب ربك تعالى للشاب ليست له صبوة . ورجح أبو حاتم وقف الخبر على عقبة من طريق هشام بن عمار وسيأتي التنبيه على ذلك.
وأيضا روي من وجه آخر مرفوعا عن ابن لهيعة قال ثنا أبو عشانة عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظه قريب من لفظ الموقوف عند ابن المبارك من طريق عمرو بن الحارث قال : عجبّ ربُنا من شاب ليست له صبوة . أخرجه ابن عدي في كتابه الكامل في ضعفاء الرجال وأبو يعلى في مسنده عن كامل بن طلحة عن ابن لهيعة قال : حدثنا أبو عشانة . ولفظه عند أبي يعلى : عجب ربنا من الشاب الذي ليست له صبوة .
ورواه ابن الأعرابي من طريق سعيد بن شرحبيل عن ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة رفعه لكن بلفظ : يُعجب ربك من الشاب ليست له صبوة .
وهذه الألفاظ للحديث تجنب إيراد أيا منها صاحب السنة إبن أبي عاصم واختار الذي ذكره عن هشام وهو لم يفعل ذلك اعتباطا ولا عشوائية كما سأبين وجه سبب ذلك قريبا إن شاء الله تعالى .
وحديث ابن لهيعة بلفظه المذكور عند إبن أبي عاصم حكم عليه الألباني بضعف سنده من أجل ابن لهيعة وكذلك جزم بضعفه في سلسلته الضعيفة ، وقبله قال بضعف هذا الخبر ابن حجر رحمه الله تعالى حكاه عنه تلميذه السخاوي ، وقد خالف بذلك تحسين شيخه الهيثمي للحديث ووافقه على تضعيفه تلميذه البوصيري في " اتحاف الخيرة المهرة " .
وتراجع عن تضعيف الحديث الألباني كما في سلسلته الصحيحة ، ولم يأت بشيء هناك بل على العكس أورد ما يزيد الخبر وهنا على وهن ، وحسب في ذلك تصويبا لتراجعه عن تضعيف الحديث والصحيح أن ذلك يزيد في قوة من رجح ضعف الخبر عن ابن لهيعة وبغض النظر عن الإختلاف على متنه قد خالف في سنده من طريق عبدالله بن وهب التي فرح بها الألباني ، فقال : أخبرنا ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة . ورفعه .
واعتبر الألباني مشرح وأبو عشانة شخصان مختلفان وزعم ان لا مشكلة بتحول الرواية من شخص لشخص ولم يعد ذلك اضطرابا يوهن من ثبوت السند ، والصحيح أن هذا اضطراب واختلاف في سنده يضعف الرواية لا يقويها ، وكونه يرد عن ابن وهب عنه فهو تأكيد على إضطراب ابن لهيعة فيه وليس ذلك كما زعم الألباني بأنه من التنوع المشروع بل من الإضطراب والإختلاف والخلط وعدم الحفظ .
ولما كان على قولهم أضبط شيء فيه العبادلة فإبن وهب هنا أكد على اضطرابه في روايته عن رجل خلاف ما هو عند غيره ، كذلك ابن المبارك رحمه الله تعالى رواه من وجه آخر موقوف عن رشدين ولم يروه من طريق ابن لهيعة لإضطرابه في ذلك لهذا اختار روايته عن رشدين موقوفا واعتمد وقفه أبو حاتم وأن رفعه لا يصح وهو ما رجحه ابن المبارك واختار أنه موقوف على عقبة بن عامر وليس مرفوعا ولم يلتفت االألباني لكل ذلك لفهمه أن كل ما رواه عنه ابن وهب صحيح وهذا خطأ إنما يريدون تصحيح الأسانيد عنه من طريق العبادلة لصحة نظرهم في أصول ابن لهيعة واختيار الأسانيد المستقيمة عنه ولا يعني بحال ذلك تصحيحا لما يروونه عنه مطلقا إنما يعنون اختيار ما صح من أسانيد عن طريقهم لأنه كان مخلط في فترته الأخيرة ويسوي بعض الأسانيد ويتساهل بالإملاء ويعبث من حوله في ذلك ، فكان رواية العبادلة عنه لتجويدهم ولإنتقائهم ما بين كل تلك التخليطات ومعرفتهم بما يصح من أسانيده عنه وما لا يصح ولا يعني ذلك بحال تصحيح روايته كما فهم هذا الألباني جهلا منه ، وعليه لما كان من تقدم يدرك هذه الحقيقة مثل أبو حاتم وسأله ابنه عن حديثه إذا كان من يروي عنه مثل ابن المبارك فإبن لهيعة يحتج به ؟ قال : لا . ذكره صاحب التهذيب . وعليه يدرك أن تزكية رواية مثل ابن المبارك عنه إنما لتجاوز تدليسه وتسويته للإسناد وتحديثه بما لقن ، لا أن كل ما روى عنه أولئك تصحيحا لما رواه ، هذا لا يفهمه على هذا النحو إلا جاهل بعلم الحديث والرجال على الصحيح ولو كانت دعواه عن نفسه عريضة .
وهذا مما يؤكد على ضعف هذا الحديث عنه ، وإذا كان المعتبر ما يرويه عنه العبادلة لأنهم أجادوا بتتبع أصوله فقد بان من صنيع بعضهم في هذا الخبر أنه متهاوي عن ابن لهيعة وإلا ما اختلف عليه من هم أوثق من يروي عنه وأضبط وأحفظ لأصوله فإبن المبارك عزف مثلا عن رواية هذا الخبر من طريقه واختار عليه رشدين بن سعد على ضعفه وكان من طريقه موقوفا لا مرفوعا وهو ما اختار وقفه عن ابن لهيعة أبو حاتم أيضا حكاه عنه ابنه في كتاب العلل ، وإذا كان مال لذلك ابن المبارك وأبو حاتم فلم لم يعول على ذلك محقق ألبانيا ولم يذكر ذلك بتحقيقه لكتاب السنة أصلا ؟!
فهو لم يذكر بتحقيقه أسانيد تلك الأحاديث في حاشيته على كتاب السنة لإبن أبي عاصم ، ولم يبين أن ابن أبي حاتم حكى عن والده ترجيحه وقف هذا الحديث ولم يصحح رفعه ، ولا يعني هذا صحة سند الموقوف عنده لكن أراد بيان ما الراجح من حيث السند لهذا الخبر ، المرفوع أو الموقوف .
وحين لم يعتبر الألباني للخلاف على متنه ولا سنده ، وكان مضطربا عليه ومتقلب النظر في الحكم على سنده فتارة يضعفه وأخرى يدعي صحته لما أورد وليس كذلك على الصحيح ، ويبقى اعتباره محدود في ذلك وتلاعبه وتحكمه ظاهر .
وأنا أزيد على كل ذلك بتحقيقي وسأعتبر وأهتم للمخالفة في معناه أكثر من اهتمامي بالخلاف على سنده ، لأنه إذا بان ضعف ما ذهبوا إليه من حيث المعنى فسيكفينا تعالى في ذلك مؤنة الجهد في إضعاف ذلك من حيث السند وهو الباب الواسع الذي يمكن لأي أحد الولوج منه ، ولو كان أبلد من حمار .
ولا أنسى أن أؤكد على أن : ابن وهب لما كشف اختلافه على شيخ ابن لهيعة في الحديث فتارة يقول فلان وتارة يقول فلان ، أنه كشف بذلك ضعف الخبر عن ابن لهيعة ولم يعدل روايته بذلك كما ظن ذلك الألباني فرجح صحة الخبر على وفق ذلك .
وإن كان هؤلاء في حديثه بهذه المنزلة وهم الأعلم بأصوله والمتقنين في الإختيار من ذلك فما بالكم بغيرهم ؟!
وكما رأيتم الإختلاف على إسناد هذا الخبر عن ابن لهيعة من قديم مشائخ مع تلاميذ كالهيثمي مع ابن حجر ، والمناوي مع السيوطي ، وحتى الألباني اضطرب فيه فتارة يضعفه ويستدرك عليه آخرون ، وأخرى يصححه على زعمه للشواهد ولم يأت بشيء على الصحيح .
أما منهجي أنا في التحقيق على ما ورد في هذا الحديث فهو النظر كما قلت للمعنى أكثر من النظر في سلسلة رجال رواته وما تعلق بذكرهم من علل ، ولو أنه ليس بالمستصعب علي هذا السبيل والإعتبار به وسأتناول من أطرافه بعض الحقائق الهامة لكن سيبقى تركيز اهتمامي على المعنى أكثر من غيره لأن المعنى إذا اختل لن تبقى فائدة وراء النظر في مدى ثبوت رواته في مثل هذا المبحث ، وما أصدق كلمة الذهبي فيه إذ قال :
لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية .. ولكن تهاون بالإتقان وروى مناكير فانحط عن رتبة الإحتجاج به عندهم . وبعض الحفاظ يروي حديثه ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم لا في الأصول اهـ . " سير أعلام النبلاء "
قلت : فما بالكم بالعقيدة وأشرف أبواب العلم فيها ، صفات الباري عز وجل فهل يناسب يؤخذ فيها عن مثل هذا الشيخ الذي حكى الطبري عنه أن : عقله اختلط في آخر عمره اهـ . " تهذيب الآثار "
وقال الجوزجاني : لا نور على حديثه ولا ينبغي أن يحتج به ، ولا أن يعتد به اهـ .
وكما يقال نقصر ونختصر من البداية ولا حاجة لكثرة الكلام الذي لن يكون من وراء سرده طائل بقدر ما يكون الكلام مفيد جدا في إبراز وجه الخلاف على لفظ متنه بما ينقلب به المعنى رأسا على عقب على من يريد الإستدلال به في مباحث الصفات للباري عز وجل ، وما يليق لجلاله وما لا يليق بحال .
وأبدأ بالقول : ما هو الفرق في لفظه على وجه الرفع وقد ورد من أكثر من طريق عن ابن لهيعة ، وعلى الوجه الموقوف عن غيره ، القول : " يُعجبُ ربك " أو " إن الله ليَعجبُ " الأول بضم المعجمة والثاني بفتحها كما في حديث هشام ابن عمار ؟
واللفظ الأخير هو الذي حرص صاحب ذاك الباب في سنته التقاطه دون غيره وليس ذلك منه كما أشرت قبل اعتباطا أوعشوائية وإنما أراد به تدعيم ما بوب له في إثبات تلك الصفة والتي لن يفلح في إثباتها حتى مع خبري عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه للإختلاف كما سترون على لفظه .
وكان ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى من أجرأ من تقدم من العلماء على ذلك حتى بوب للمعنى المختار بابا في كتابه السنة ومثله أبو يعلى الفراء بكتابه " التأويلات " ، وهما بذلك على خلاف ما فعل مثلا الآجري رحمه الله تعالى في كتابه الشريعة حين بوب هناك للضحك وليس التعجب مع أنه ساق جملة من الأحاديث فيها ورود ذكر التعجب على ما فيها من تخاليط كذلك هناك ، لكنه لم يبوب مثل ما فعل ابن أبي عاصم وأبو يعلى ، وسرد الأخبار هناك مقرون ذكر الضحك الذي هو علامة على الرضا والإعجاب مع ذكر التعجب ما يقوي من دلالة صفة على صفة ، لأن الضحك من الرحمان عز وجل أوفق لوصفه بالإعجاب من عمل ما ، عكس التعجب حين يقترن به الضحك فهو مما لا يليق بحق نسبته لله عز وجل لأن ذلك من الصفات البشرية خالصة لهم ، مثل ما كان يحصل ذلك كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم من مثل اقتران ذلك منه بإستغباء الفعل أو القول من صاحبه كما في قصة متبنى أبي حذيفة لما قال صلى الله عليه وسلم لسهله امرأته : أرضعيه ، فقالت : إنه كبير - وفي لفظ : أنه ذو لحية - . فتبسم عليه الصلاة والسلام ، وقال : أليس أعلم أنه رجل ؟ .
وهذا مما لم يلتفت لمعناه الكثير حتى خلطوا عن اليهود الجهلة الكذبة فأدخلوا بجهل منهم للإعتقاد في المسلمين صفات باطلة لا يصح نسبتها لله عز وجل ، رغم أن جوابه عليه الصلاة والسلام كان هناك مثل ما أجاب سهلة بالضحك ، حصل ذلك مع اليهودي صاحب الشجر والحجر ، ومع الآخر صاحب الأرض تكون خبزة وإيدامها معها كبد الحوت طعاما لأهل الجنة ، وفي كلا الحالين كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه من شدة غباء أولئك الجهلة الكذبة المعترضين المتشدقة ، لكن للأسف لم يدرك ذلك من قرر تلك صفات وأخبار ومخرجها على الجهل والكذب .
فانظروا لهذا وبالمقابل لضحك ربنا عز وجل من آخر أهل الجنة دخولا لها حين رحمه الله تعالى وقدر له الخروج من النار والدخول للجنة ثم رزقه بما اندهش له هبة من الكريم المنان ، فتفوه بكلام كفر لذلك لكن ضحك الله تعالى له متجاوزا عما قاله من اعتقاده أن الله تعالى يسخر منه لكن الله تعالى نفى عن نفسه ذلك وتجاوز عنه لما أخطأ فقال : أنت عبدي وأنا ربك . لما ألم به وكان ضحكه تبارك وتعالى دليلا على غفرانه وعذره له ورحمته به .
ولا يصح بطبيعة الحال أن يقال بأنه تعالى إنما ضحك للداخل للجنة تعجبا مما قاله ، بل كان ذلك رحمة مجردة منه عز وجل تجاوز بها عنه ولو قال بالكفر على ما قاله عقبة بن عامر نفسه رضي الله تعالى عنه : " لن نعدم من رب يضحك " .
وكل خبر يقترن به الضحك من الله تعالى فهو على ما قلته هنا ، وإذا أعجبَ ربكم عمل عبد من عباده جاز وصفه هناك بالضحك عن النبي صلى الله عليه وسلم لرضاه عن ذلك ، أما أن يكون ذلك دليلا على تعجبه منه فهذا يقوله من يجهل في باب الصفات ويخلط ولا شك ولا يميز ما يليق لله تعالى وما لا يليق مما يصلح ينسب للبشر ولا ينسب للإله الحق عالم الغيب والشهادة ، مثل ضحكه من آخر داخل للجنة فذلك رحمة منه والضحك دليل عليها .
وبذلك ندرك أن صفة الضحك من الله عز وجل صفة كمال لا نقص كما التعجب الذي يريده أولئك أن يكون صفة له تعالى مع ما يعتري ذلك من نقص لا تليق نسبته للمولى عز وجل ، أما الضحك فعلى العكس هو علامة للرضا من الخالق لمخلوقه فلهذا نرى كيف تدور كل تلك الأخبار على الضحك باستثناء خبر عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه والذي لا يجوز حمل معناه إلا على ما تقرر هنا ولو أنه لم ينقل في نصه صفة الضحك لكن يكفي ورود ذلك في غيره قرينا لإعجابه تعالى ببعض أعمال عباده فنعلم بذلك أن إعجابه من بعض أعمال عباده صفة ثابتة له وعلامة على ذلك ضحكه تبارك وتعالى ، تقرر ذلك كما قلت في أكثر من خبر ويكون في كلها علامة على رضاه عز وجل ضحكه وحتى خبر عقبة رضي الله تعالى عنه الذي وقع عليه خلط من بعض رواته أغلب من رواه رواه على لفظ اعجاب المولى من ذلك الذي قلت بأن قرينه الضحك علامة على رضاه عز وجل .
وعلى وفقه أقول : لا وجه لإنكار من أنكر على مثل الخطابي والنووي وابن حجر وغيرهم تأويلهم بعض تلك الأحاديث على هذا المعنى ، وقد تناكد ابن الفراء وأنكر ذلك على مثل ابن منده رحمه الله تعالى وهو كما تعلمون من أئمة الأثر ومثبتة الصفات وله مصنفات في ذلك ولم يخرج بما قاله عما قاله الطبري والبغوي رحمهم الله جميعا في ذلك الحرف من سورة الصافات ، ومع هذا أورد تأويله أبو يعلى وأنكر ما قاله ، وقد قال رحمه الله تعالى في كتابه الإبانة :
التعجب على ضربين : أحدهما المحبة بتعظيم قدر الطاعة ، والسخط بتعظيم قدر الذنب ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عجب ربك من شاب ليست له صبوة " . أي أن الله مُحبٌ له راضٍ عنه .
والتعجب على معنى الإستنكار للشيء ويتعالى عن ذلك ، لأن الإستنكار - يصدر من - الجاهلُ الذي لا يعرف فلما عرفه استنكره وعجب منه اهـ .
فرد أبو يعلى بالقول : الطريق الصحيح ما ذكرنا من حمله على ظاهره ، وهو الأشبه بأصول أحمد في نظائر من الأخبار لما بينا ، وهو أنه ليس في ذلك ما يحيل صفاته ، وما ذكروه من التأويل لا يصح ، لأن الله تعالى راض بذلك قبل وجود هذه الأفعال منهم ، ومعظم لها قبل وجودها ، فرضاه وتعظيمه لا يختص ما ذكر في الأخبار ، فلم يصح حملها عليه ، لأنه حملٌ على ما لا يفيد اهـ . " إبطال التأويلات "
أقول : وجه التخصيص بمطلق الإرادة الربانية للإخبار عن فضيلة هذا العمل أو ذاك ترغيبا به وحثا على فضيلته ، فهذا وجه التخصيص بالذكر للحث والترغيب والتمييز ، ويبقى كون ذلك على ما قالوه الغلاة المثبتين للصفات يحتاج للسلامة من الإختلاف والحاجة لثبوت النص فيه ، ووصفه تعالى متعجبا لا يصلح لما بينت بنقضي هذا كله ، فلا الأخبار ثابتة فيه متفقة عليه ، ولا تلك الصفة مما يصلح لها دعوى الكمال لما عرف كونها صفة بشرية تعتري المتعجب بسبب جهله في الشيء فيتعجب منه ، وهذا لا يليق إثباته صفة لله تعالى وهذه حقيقته في البشر فينزه عنه خالق البشر ، لكن هؤلاء وبإصرارهم على هذه الجهالة يصيحون على أنفسهم بأنهم جهلة في بعض إثباتهم للصفات ، وغلاة كذلك جرهم غلوهم وجهلهم ليقعوا في التشبيه ، خصوصا من كان مثل الفراء هذا وحتى ابن أبي عاصم ، فقد أثبتوا للرب صفة الإستلقاء ووضع ساق على ساق ، واعتقد صاحب إبطال التأويلات أن لله تعالى عن جهلهم وضلال عقولهم ومداركهم لهاة وأضراس ، يتهافتون في ذلك معتمدون على مجرد تقليد أعمى لزيغة من حكيم الله أعلم من ابتدئ ذلك منهم ، لكن ما أيقنته أن كثيرا منهم تورط في ذلك والله المستعان .
والمنكر هنا لما قرره مثل أولئك العلماء كابن مندة وغيره هو المستحق للإنكار لما قرر باعتقاده أن الله تعالى يَعجب من أفعال بعض عباده لا أنه يُعجبه بعضها فيضحك من ذلك علامة منه على رضاه عن تلك الأعمال ، وليس من الظلم اعتبار أولئك المنكرين لما قاله في تلك الصفة مثل ابن مندة وأولئك العلماء ، أنهم من الغلاة في الإثبات على جهل وضلال مثل ابن أبي عاصم والفراء وكيف وهم ممن يثبت ما ذكرت قبل ، بل يزيد الفراء في إثبات ما هو أشد وأشنع كما قلت قبل ومبنى ذلك لا على رواية صحيحة بل على تخليط ووهم من بعضهم مما انقلبت مروياته عليهم أيضا حتى وقع بذلك مثل أحمد رحمه الله تعالى على جلالة قدره وعظم تثبته ، لكن الجهل في تلك الأبواب لف الجميع ولا يكاد يسلم أحد منهم منه ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى .
ولما كان ما نقله أبو يعلى الفراء عن ابن مندة ورده عليه بعيدا عن اختياري مختصا بذلك التأويل من ابن مندة وغيره لمعنى ذلك الخبر ، يبقى ما قررته هنا سالما من زعم أولئك وتأويلهم ومن أنكر عليهم ، فنحن لا نسلم لا لهؤلاء ولا لأولئك أن الله يتعجب بل يعجبه عمل بعض عباده فيضحك لذلك إعلاما منه عن رضاه ذلك العمل وإعجابه به ، ولسنا مضطرين لله الحمد للإقرار بما لبس عليهم لنحتاج للتأويل كما تأول الغير بل نخالف الجميع ونعتقد في ذلك اعجاب مولانا من عمل بعض عباده لا أنه يتعجب من ذلك وعليه أقررنا بالصفة اللائقة بجلاله تعالى واعتقدناها كما وردت بذلك الأخبار وآمنا برب يضحك ولن نعدم من فضله تعالى وتوفيقه ، وبذلك منا بفضله عز وجل ابتداء إيضاح سبيل الحق ووسطيته المنيرة على انفراد ، فلا نحن مع من تأول وترك بيان الحق لأنه جهله أصلا ولم يهد له ليعرف به غيره ، ولا نحن مع من تطرف بالإثبات وزعم فيه ما لم يثبت به نص وخالطته الأوهام والأخطاء في ذلك على ما سيمر معنا بيانه سواء بهذا التفصيل والنقض في وصفهم ربنا عز وجل بالمتعجب ، أو بكتابي الذي سيعلن لاحقا إن شاء الله تعالى " القاعدة الذهبية " وفيه سأتطرق إن شاء الله تعالى للكثير مما وصفوا به ربنا تعالى على غير هدى ولا كتاب منير ، وكل ما سينقض عليهم بتفصيل مني هو على وفق ذلك الصراط وسطية الذين أنعم عليهم ربنا تبارك وتعالى وجعل لهم نورا يمشون به في الناس اختصهم بتلك الوسطية ، فلا هم مع من غلوا بالإثبات ، ولا مع من تأول بجهالة وحرف من غير علم وبصيرة .
أقول : والفارق بين معنى اللفظين عن ابن لهيعة كالفارق بين معنى الإعجاب بالشيء والتعجب من الشيء ، وهما المعنيين المختلفين بالكلية ، فمنه ما يصح إثباته صفة لله عز وجل وهو المعنى الأول المذكور هنا لثبوت ذلك المعنى من غير هذه الأخبار تحديدا وهو اختياري واختيار الكثير من العلماء من قبلي وقد رده عليهم أولئك المدعين أنهم مثبتة للصفات من غير رشد ولا تعقل ، إنما عصبية وتحزب .
ومنه المعنى الباطل الذي جهد لإثباته فريق صاحب السنة حتى لفقوا ما لفقوا خصوصا المتأخرين منهم في سبيل إثبات ذلك صفة لله تعالى ولو بجهل ولو بتقليد المهم يبقى تعزيز التحزب والتفرق قائم مؤيد بجهالاتهم على الدوام .
فالإعجاب والتعجب من الشيء بينهما فرق ما بين الباطل والحق بالنسبة للإضافة للمولى عز وجل ، ولا يجوز بتاتا تفويت النظر في الفرق ما بينهما كما لا يجوز تفويت الاختلاف في تلك الألفاظ مما يدور تارة على هذا المعنى وتارة منها على ذاك المعنى ، وعليه أرجع لأقول ليس على مثل هذا يبنى إثبات صفة لله تعالى ما لم يكن الإتفاق على ذلك المعنى وصحة الرواية فيه للنبي صلى الله عليه وسلم من الثابت ، أما على مثل ما سترون فلا وألف لا ولو كان القائل بذلك من يكون وبأي درجة كان مبلغه من الإجتهاد ، فصفات الله تعالى من الباطل ترك إثباتها لإجتهادات من يكون ، إنما مصدر ذلك ثبوت الوحي عن الله تعالى ورسوله ، والقائل بغير هذا مبطل ولا شك لا ينبغي يلتفت لمخالفته عاقل .
أقول : وعندنا طريقان على هذا بل ثلاثة وكليهما مرويان عن ابن لهيعة اثنان مرفوعان وآخر موقوف عند ابن المبارك على ما بينت قبل ، أحد المرفوعان من طريق كامل عن ابن لهيعة ولفظه : عَجبْ ربنا . رواه أبو يعلي في مسنده وابن عدي في الكامل .
وحتى هذا اللفظ مما يصح نطقه بالعربية على سبيل الإعجاب لا التعجب كما هو ظاهر ، مثل ما أن حتى اللفظ الذي اختاره ابن أبي عاصم في تبويبه ذاك عن عقبة ابن عمر " إن الله ليعجب من الشاب ليس له صبوة " ، هو أيضا مما يجوز نطقه بالعربية على سبيل الإعجاب لا التعجب إذا ما نطقت المعجمة من كلمة " ليُعجب " بالضم ، لكني أفترض بأن اختيار المصنف هناك التعجب صفة لله تعالى ولو أنه لم يشر لقراءة من قرأ ذاك الحرف من سورة الصافات على الضم ، وعليه كان النقض على ذلك ولو أنه لم يذكر ذلك الحرف ضمن ترجمته ، ويدل عليه ما جمع من ألفاظ تلك الأحاديث أنه اختياره وعنوانه الباب جاء صريحا في ذلك .
والطريق الثاني من حديث عقبة رضي الله تعالى عنه عن يحيى بن يحيى عنه لكن بلفظ : يُعجبُ ربك . رواه البيهقي في كتابه في الصفات ، وقال محقق الكتاب اليمني عبدالله بن محمد الحاشدي والذي قدم لتحقيقه على كتاب البيهقي مقبل بن هادي الوادعي : في مخطوطة الحرم المكي ( يُعجب ربك من الشاب ) اهـ .
وأثبت في المتن المحقق ( يعجب ربك للشاب ليس له صبوة ) . والفرق مابين اللفظين لا يخفى ولو أن أحدهما أقرب للمعنى الذي لا يساعد على ما اختاره صاحب السنة ، فقوله هنا : ( يُعجب من الشاب ) بضم المعجمة على التمام في المخالفة لما رموا لإثباته لأن رسم ذلك اللفظ كما ترون يؤيد صفة الإعجاب لا التعجب ، وكل التبديلات والإضافات على غير ذلك لتفيد معنى التعجب حتى تكون باعتقادهم صفة للباري عز وجل ، لكن الحق أثبت وصوته لا يخفت ورسمه لن يندرس ولو كان التبديل والتحريف ممن يكون ، فلا بد يعلو ونوره يسطع .
وأنبه على أن المثبت في النسخة المطبوعة من مسند أبي يعلى خرج على هذا الوجه ( من الشاب ) على ما ذكر اليمني عن مخطوطة الحرم المكي لكتاب البيهقي في الصفات ، ولو أن المثبت في مسند أبي يعلي ( عجب ) وفي البيهقي ( يُعجب ) وبالموقوف عند ابن المبارك ( يُعجب ) ، وهذا كله مما يفيد بأن حصول الإختلاف بالألفاظ منهم جراء روايتهم بالمعنى وتجويزه من الكثير من المحدثين من غير اعتبار وتدقيق لفرق ما بين معاني بعض الألفاظ مثل ما نحن بصدد التحقيق فيه هنا .
ملاحظة : الكتاب لم يكتمل