مقدمة الكتاب

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

 سآتي هنا على بيان المراد من قوله عز وجل " وَالصَّافَّاتِ صَفّاً " ، فماذا تكون تلك الصافات على الوجه الحق ، لا الملتبس المختلف ؟

 حتى يوقن المطلع على التعقيبات السابقة أكثر وأكثر بقوة الإتصال والعلاقة ما بين ذكر النفط في هذه السورة تلك الشجرة الملعونة في القرآن (1) ، ويعلم وجه مناسبة ذكر تلك الشجرة في هذه السورة كما ذكرت في سورة الدخان وإن كانت الصلة ظاهرة في سورة الدخان فتلك السورة هي التي انفردت بالإخبار عن ذلك الدخان صريحا حتى سميت به .

 أما في سورة الصافات فعلاقة ذلك ما سأبينه في هذا التعقيب والتفصيل إن شاء الله تعالى مما لا يعلمه الناس وهدينا لبيانه ان شاء الله تعالى ، تلك الصافات التي خالف وجه الحق في تعيين ما تكون سلف من علماء الصحابة والتابعين ومن اتبعهم حتى ساد ذلك في الأمة من بعدهم ، وكلهم على باطل في ذلك التعيين والتقول على الحكيم العليم فيما أخبر وفصل عن ذلك في بيانه بكتابه العزيز وعلى ألسنة جمهرة من النبيين والرسل قبل ذلك .

 ورحم الله تعالى الإمام البغوي حين كشف لنا في تفسيره عن العلم باختلافهم في ذلك مع أن الطبري ادعى الإتفاق على ذلك أعني معنى الصافات ، فمنهم من قطع بأن المراد بالصافات الملائكة ، ومنهم من خالف على ما ذكر البغوي بأنها طير السماء لورود الوصف عليها بالصافات كما الملائكة في كتاب الله تعالى ، وحكاه القرطبي أيضا وزاد رحمه الله تعالى في تفسيره : أنها جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد . حكاه عن القشيري . " ج 15/ص 62 "

 

وكل ما قال تعالى في صفته صافا تخيل منهم من تخيل أن المراد بسورة الصافات هو ذلك ، تقولا على كتاب الله تعالى وغيبه بالتخرص والظنون ، ولم يسعهم الوقوف دون ذلك والقول بأن الله تعالى هو أعلم بغيبه وراء ذلك ، فيسلموا من القول عليه بالكذب وعلى كتابه وما أخبر فيه عما يكون ، لأنهم كانوا أصلا يجهلون بأن ذلك من علم الغيب وأخبار النبوءات ، فاستسهلوا الكلام في ذلك على أن ذلك مجرد اخبار عن أفعال لخلق من خلقه سواء كانت الملائكة أو الطير الصافات ، وصار كتاب الله تعالى بإخباره عن غيب ذلك ومثله مشاع لهم يتقولون عليه بحسب آرائهم بحجة أنها مجرد أخبار عن خلق من مخلوقاته كما قلت .

 

بل يذهب بعضهم لأكثر من ذلك فيخبر عن الله تعالى في صفاته باطلا أثناء ذلك كما سيمر معنا من إشارة لذلك عن ابن مسعود حين نسب التعجب لله تعالى لا للمهدي المذكور في سياق تلك الآيات من سورة الصافات ، مع أنه يقينا لم يكن يعلم من أي شيء كان ذاك التعجب ، وتقلده بعضهم على ذلك واستدل له بما روي في السنة من اثبات العجب لله تعالى كما سيمر معنا لاحقا ، ويبقى اثبات ذلك صفة لله تعالى من القرآن شيء ومن السنة شيئا آخر ، لأن في ذلك الحرف من القرآن وهم لابن مسعود وغيره في قراءته وفهم معناه فلا يجوز حمل ذلك إلا على المهدي حفيد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على النبي نفسه فضلا عن القول أن مرده لله تعالى واثباته صفه بحقه سبحانه وتعالى عما يصفون ، فهذا من الباطل القول به هناك يقينا لإتفاق الزبور والقرآن على إثبات صفة العجب من وحي الله تعالى في تلك الأشراط وكشف تلك الأسرار من النبوءات للمهدي ، فيعجب حينها أشد العجب من ذلك وبالمقابل هناك من يسخر منه في ذلك ممن سيعاصر دعوته ويعتنق عداوته لأجل ذلك .

 

وتقرير الكلام في اثبات ذلك صفة لله تعالى من القرآن شيء ومن السنة شيئا آخر كما قلت ، وما نحن فيه هنا مختلف بالكلية عما ذهبوا إليه وأخطأوا فيه من كلا الوجهين والسبيلين ، وسيمر معنا لاحقا إن شاء الله تعالى مزيد تفصيل حول ذلك .

 

قال البغوي رحمه الله تعالى : والصافات صفا . قال ابن عباس والحسن وقتادة : هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة اهـ .

 

وقال القرطبي في تفسيره : هو قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة . وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يامرها الله بما يريد . وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفا .

 

وقيل : هي الطير ، دليله قوله تعالى : ﴿ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ﴾. والصافات جمع الجمع يقال : جماعة صافة ثم يجمع صافات اهـ .

 

وحكاه الطبري في تفسيره عن : السدي وعنه عن ابن مسعود ، وعن قتادة وقال : بإجماع من أهل التاويل اهـ . وسبق ذكر ما يخالفه عن القرطبي والبغوي فعن بعضهم أنها الطير الصافات في السماء أو صفوف جماعة المؤمنين في الصلاة ، وهذا يدل على حصول الخلاف في تعيين الصافات ما تكون لا كما زعم الطبري الإتفاق على ذلك .

 

وهذا جملة ما قاله أهل التفسير من قبل في معنى تأويل تلك الآيات من سورة الصافات ، وهو مبلغ علمهم لهذا لم يحسنوا الجواب عن السبب الذي لأجله تعالى يورد بسياق تلك الآيات أنه رب المشارق ولم يذكر المغارب هناك ، مع أنه تعالى في أكثر من موضع في القرآن ما يذكر المشارق بالجمع أو التثنية إلا ويذكر قرينه المغرب إلا في ذلك الموضع من سورة الصافات لم يذكر إلا المشارق هكذا بتلك الصيغة وليس المشرق على الإفراد بل بالجمع ، كما جمع الصافات على قولهم هي جمع الجمع ( صافة - صافات ) نظيره ( مشرقة - مشرقات ومشارق ) .

 

ولم يكن تعالى يعني بذلك ما ذهبوا إليه توهما بل مراده عز وجل تلك النيران العلامة وتلك أعمدة الدخان المنصوص عليها بالذكر ، ولهذا السبب ولتلك الحكمة لم يورد ذكر المغارب هناك على خلاف سائر تلك المواضع من القرآن حين قرن بالذكر ما بين المشرق والمغرب ونظيره ، لأنه لم يكن يخبر عن الناحية حصرا ومراده مشرق الشمس ، بل عن تلك النيران وأعمدة الأدخنة تلك المنصوص على ذكرها بسورة الدخان ونارها التي ستشرق بضوءها معلنة عن تحقق أهم واكبر أشراط الساعة والتي تؤذن ببعث المهدي خليفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .

 

ولما كان تعالى يخبر بكتابه عن ذلك تحديدا لم يورد ذكر المغرب أو المغارب قرينا لتلك المشارق ، وكان اغفال ذلك سرٌ لله تعالى مستودع بذلك السياق ، فهل كل أحد يُكشف له أسرار القرآن ؟!

 

لهذا خبطوا عشواء وقالوا بالرأي فرقاء كل يأتي بها ليغلب من سبقه في الإبداع ومن ذلك ما روي عن صحابي وقيل تابعي : أن عددها - لما حسب المراد مشرق الشمس - ثلاثمائة كوة من كل كوة للشمس مشرق لا ترجع إليه إلا بالعام المقبل اهـ . ذكره البغوي وغيره .

 

أقول : وقليل من فطن لذلك فاورده ليجيب عليه ، وقد فعل هذا البغوي والقرطبي والطبري أيضا وكان جواب كل منهم على النحو التالي :

 

البغوي قال : ورب المشارق ، أي مطالع الشمس . فإن قيل : قد قال في موضع ( رب المشارق والمغارب ) وفي موضع ( رب المشرقين ورب المغربين ) وفي موضع ( رب المشرق والمغرب ) فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات ؟

 

قيل : أما قوله ( رب المشرق والمغرب ) أراد به جهة المشرق وجهة المغرب ، وقوله ( رب المشرقين ورب المغربين ) أراد مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، وأراد بالمغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف ، وقوله ( برب المشارق والمغارب ) أراد الله تعالى أنه خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق وثلاثمائة وستين في المغرب على عدد أيام السنة تطلع الشمس كل يوم من كوة منها ، وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع الشمس منها من ذلك اليوم إلى العام المقبل ، فهي المشارق والمغارب . وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب ، كأنه أراد ربّ جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت اهـ .

 

أقول : ذكر تعدد المشارق والمغارب ابن أبي زمنين في تفسيره وهو مختصر لتفسير يحيى بن سلام ، ذكره عن قتادة والقرطبي عن ابن عباس .

 

ولم يجب البغوي ولو أورد كل ذلك ، عن الحكمة الربانية من إغفال ذكر المغارب هناك في سورة الصافات إذ كان المعنى على ما فسر ، ويتعين الجواب على ذلك لأنه بذاك الموضع فقط من القرآن اغفل ذكر المغارب لم يقرن ذكرها مع المشارق .

 

أما القرطبي رحمه الله تعالى ففطن لذلك تحديدا وجاء جوابه على ذلك بالنص فقال :

 

دل بذكر المطالع على المغارب ، لهذا لم يذكر المغارب وهو كقوله ( سرابيل تقيكم الحر ) وخص المشارق بالذكر لأن الشروق قبل الغروب اهـ .

 

قلت : لا يكون هذا المرجح لتعدد المواضع التي ذكر بها المشارق والمشرق مقرونا بذكر المغارب والمغرب إلا في هذا الموضع الفرد ، فلا بد لمرجح أدى لترك ذكر ذلك ما في المواضع الأخرى كلها وسبب ذلك حتما أكثر مما ذكره القرطبي مجتهدا في تفسيره السبب لذلك الإغفال ، ونحن لا نتحدث هنا عن اتقاء الحر ليكفي ذكر ذلك عن البرد ، بل الحديث هنا عن ربوبية الخالق عز وجل فلم تذكر في كل موضع وتغفل في ذاك الموضع من سورة الصافات على الخصوص دون غيره رغم ذلك التعدد ؟!

 

والجواب الحق الفصل هو ما أوردته هنا بأن المراد الإخبار عن تلك المشارق مشارق مخصوصة لم يرد بها قط مشرق الشمس أو مشارقها ليذكر معها مغاربها ، وبكل ما أقسم به تعالى من صفها وزجرها وتلاوتها للذكر مراده بذلك شيئا تعلقت به أخباره وذكره ونبوءاته لا كما فهمته الأمة كافة ، وأنه رب كل ذلك ومبدئه والمخبر عنه بالصدق والعدل والرحمة .

 

ومن كشف له سر تلك المشارق سيكشف له معنى صفها وزجرها وتلاوتها للذكر مثل ما نص على المرسلات أنهن الأخريات تاليات للذكر فقال عز وجل في ذلك : ﴿ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفا . فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً . وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً . فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً . فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً . عُذْراً أَوْ نُذْراً . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ .

 

فانظروا من مكن من ذلك سوى مهدي الله تعالى وخليفته ورسوله ، ليوقن العاقل أن بمثل هذا يعرف المهدي ويصح تعيينه وبغير ذلك لا يمكن بحال قول الحق في تعيين شخصه عليه الصلاة والسلام ، والحق له نور لا ترى ظلمات الجهل والكذب ما لم يتقابل ذلك مع نور العلم الرباني وبراهين الحق المبين .

 

ووجه خصوصية تلك المشارق بذلك الموضع لأنها هي الصافات تلك التي أشرقت على وجه الخصوصية والإستثناء فلم يشرق غيرها ليلا ونهارا قط ، فهي مشرقة كما في الليل بالنهار كذلك بسبب ما أثارت من أدخنة علم الناس وقتها ورأوا ذلك بعين اليقين حتى انقلب النهار دامسا أشد من ظلمة الليل لم يكن يمكن للناس هناك العلم بوقت الغروب فلن يذكر بالتأكيد لأنه عدم هناك أصلا ، فما كان يمكنهم إدراك الوقت بالمعاينة أبدا ، وكانت مشرقة ليلا ونهارا وهي اكثر من سبعمائة بئر نفطي ، بقت مشتعلة كذلك لقريب من سنة ، وعنها تحدث الله تعالى على لسان موسى صلوات ربي وسلامه عليه فقال :

 

﴿ إن الله تعالى من سنا تجلى ، وأشرق نوره من سعير ، واطلع من جبال فاران ، ومعه ربوات المقدسين

 

ويذكر صاحب النبي إرميا باروك عليهما الصلاة والسلام قوله في ذلك :

 

﴿ فإن الله يُظهر سناك لكل ما تحت السماء

 

بل قال نفسه ارميا النبي صلى الله عليه وسلم عنها :

 

﴿ ارْفَعُوا عَلَمَ نَارٍ ، لأَنَّ الشَّرَّ أَشْرَفَ مِنَ الشِّمَالِ وَكَسْرٌ عَظِيمٌ

 

فهذه المشارق أعمدة نار فتنتهم المشهورة أخبارها بوحي الله تعالى على أغلب رسله والتي اشعلت بفتنتهم ، ومن آخر من أخبر عنها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : " سعرت النيران وجاءت الفتن " .

 

وقال عنها كذلك : " بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر ، وهم أهلُ النار " . رواه أبو هريرة وعزاه صاحب الجامع للبخاري .

ولما سأله اليهود عن أول اشراط الساعة اجابهم عنها فقال : " نار تحشر الناس من المشرق للمغرب " .

 

وقال عنها ايضا : " إنه ستبدو آية عمودا من نار يطلع من قبل المشرق يراه أهل الأرض كلهم " .

 

ونسبها تعالى لدعوة الشيطان وحزبه فقال عز وجل : ﴿ يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ . وبخصوص ذلك يصرح نبي الله تعالى اشعيا عنها فيقول :

 

﴿ يا جميع موقدي النار المتنطقين بالشرور ادخلوا في لهيب ناركم وفي الشرر الذي أضرمتم . هذا لكم من يدي أنكم في الألم تضجعون

 

وجعلها تبارك وتعالى موعدة لهم فقال : ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾. وقال : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ . أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ . نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ ، ﴿ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.

 

وعدها فتنة لهم فقال : ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ . إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ ، ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ . ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ ، ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ ، ﴿ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ ، ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ﴾ .

 

وهي العمد كما أخبر تعالى بكتابه عنها بالآية السابقة ، وهي التي أراد عليه الصلاة والسلام فيما أخبر من أشراط للساعة كما فصلت في ذلك بكتابي " عمد النار والدخان " ومن راجع ذلك الكتاب سيعلم هناك كيف مطابقة كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عن تلك العمد مع كلام تلميذ نبي الله تعالى ارميا بأن يراها كل من تحت السماء " فإن الله يُظهر سناك لكل ما تحت السماء " .

 

وهن السعير في نبوءة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة قبل كما أنهن السعير بقوله السابق تبارك وتعالى ﴿ يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ وبسائر قوله بتلك الآيات .

 

والتجلي من سناء هنا والمراد به الطور وهو الجبل الذي ستوقد عنده تلك النيران العلامة وتشرق ، أو المراد بذلك الإسم النار ذاتها ، وأيا كان المقصود فالنسبة لها سواء كان المراد الجبل المنسوب لها للتعيين أو هي نفسها المقصودة وبكل حال هي المشارق المشارق التي أقسم بها تعالى في سورة الصافات ، وكونه ربها أي مدبرها قبل ما تكون وكيف لا وقد تقدمت منه دعوة للشيطان وحزبه ليكونوا أصحابها ، انتبه فله كامل الإحاطة ومطلق القدرة على أعدائه وعلى رأسهم الشيطان .

 

نعم : هي نار العلامة ومصدرها الهاوية مستقر الجحيم ، تلفح وجوههم بالدنيا حامية ، ثم يرجعون لها للخلود ، ومثل ما أكلوا منها بالدنيا وملأوا منها بطونهم ، سيأكلون منها في باطن الجحيم ، حكمة من الله تعالى وعدل بميزانه سبحانه .

 

وأقول هنا لزاما علي للعلاقة بأن أذكر بـ : النمرة التي أمر بإبعادها عنه لما صلى بها عليه الصلاة والسلام ، فقال :

 

" اشغلتني آنفا وخشيت تفتني عن صلاتي "

 

أتدرون ما السر في ذلك وهو سيد لكل من خشع لله تعالى فكيف تشغله نمرة وتفتنه عن صلاته ؟!

 

أشغلته لأنه كان عليها علما أحمرا فذكره ذلك بأمر الحسين حفيده المهول ، هذا الذي أشغل ذهنه وخشي يفتنه لاحقا عن صلاته من شدة انجذابه لذلك الذكر .

 

والذي يدل على أن النمرة ذاتها لم تشغله أنه لاحقا استبدلها بنمرة أخرى لأحد أصحابه قص ذلك عبدالله بن سَرجس فقال : أن نبي الله صلى يوما وعليه نَمِرةً له ، فقال لرجل من أصحابه : " أعطني نمرتك وخُذ نمرتي " . قال : يا رسول الله نمرتك أجود من نمرتي . قال له : " أجل ، ولكن فيها خيطٌ أحمر فخشيتُ أن أنظر إليه فتفتنِّي عن صلاتي أو تلفتني " - الشك من مسلم بن أبي مريم راويه عن سرجس - . " رواه الطبراني في الاوسط وعبدالملك بن بشران في آماليه "

 

وهذه من أسرار ما كان يقوله وتلك من أسرار ما كان يقوله الرب تعالى ، والناس يخشى على أكثرهم أن قد سلك بقلوبهم ذلك الذكر ، فلا يؤمنون به.

 

وأيضا أذكر : بقميص أم خالد بنت سعيد بن العاص لما قال لها بعد ما لبسته وهو يشير بيده للعلامة الحمراء على قميصها الأسود : " هذا سنا يا أم خالد " . وجرت هناك آية لذلك القميص . وكان القميص بلون أسود - كناية عن الدخان - وعليه علم أحمر - كناية عن النار العلامة - . وقالوا : سنا أي حسن بلسان الحبشة .

 

قال بعضهم : خاطبها بذلك لأنها ممن قدم من الحبشة . وأقول أنا : خاطبها بذلك اشارة منه لأمر حفيده والنار العلامة والدخان لأمره . وكونه حسن إشارة لسبيل الله تعالى في ذلك من الحسنى ولإسم حفيده الحسين وهو تصغير استظراف من اسم الحسن .

 

والأهم أن قسم الله تعالى في سورة التين خرج بذكر ذلك الجبل جبل النار العلامة والذي قال فيه على لسان موسى نبيه ما قاله وذكرته قبل : ﴿ ان الله تعالى من سناء تجلى ، وأشرق نوره من سعير . فالإشراق نسبة لتلك النيران وهنا تطابقت التسمية في التوراة مع ما ورد في القرآن .

 

والتجلي نسبة لكشف سره ببعث المهدي عليه الصلاة والسلام وتعيينه وبعث الرسل يبشرون بأمره ، وهي تلك الأمنية التي تلهف لها نبيكم عليه الصلاة والسلام فقال فيها :

 

" ليت شعري متى تخرج نار من جبل الرواق فتضيء لها أعناق الإبل ببصرة سرجا كضوء النهار "

 

فالجبل هنا جبل سعير أو سينا أو سنا لتختاروا ما تشاؤون من تلك الأسماء ، والنار نار العلامة والتي علمتم آخرا أن أصلها من الهاوية مستقر الجحيم (2) ، فسبحان الذي جعلها فتنة لهم بالدنيا ومستقرهم في الأخير .

 

ولتعلم أخي القارئ أن الله تعالى لما أراد يعذب قوم لوط لشديد كفرهم عذبهم بالحمم البركانية فقال تبارك وتعالى : ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ . فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾

 

﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ . مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ .

وبينما يعتقد البعض أن سجيل السماء وأن تلك الحجارة والطين أرسلت عليهم من السماء ، لكن الحق خلاف ذلك والسماء أنزلت عليهم تلك الحجارة الطينية من فوهة بركان جبل على مشارفه كانت تلك القرى ، ألم يروا لقوله تعالى ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ، أي مع إشراقة نار البركان ونفثه تلك الحمم في السماء فتنزل على رؤوسهم وتسيل مع الأرض منضودة يركب بعضها بعضا ، وحسبوا أن نسبة الإشراق هناك للشمس والصبح أولى بالتخصيص من ظهور الشمس مثل ما خص بذكره عذاب أصحاب الحجر كما ذكر ذلك بسورة الحجر بعد ذكره قوم لوط ثم أصحاب الحجر فقال تعالى ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾ ، فخص أصحاب الحجر بذكر الصبح لكن قوم لوط قبلهم نص على الإشراق ويريد إشراق نار البركان لا الشمس الذي يأتي بعد الصبح ، وهذا السر بالمغايرة في التوقيت والوصف ما بين قوم لوط وأصحاب الحجر ، وهو لم يرد تأخر عذاب قوم لوط لما بعد الصبح فيوقفه عنهم لحين تشرق الشمس ، إنما أراد إشراق نار البركان المختص بتلك الحجارة والحمم ، والذي يدل على هذا ويؤكد على أن المراد ليس إشراق الشمس بل اشراق نار البركان قوله تعالى في سورة هود نفسها قبل آية وهو التالي :

 

﴿ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

 

فمن عد الإشراق المقصود به إشراق الشمس فقد ضرب القرآن بعضه ببعض ، فهنا كما تقرأون موعدهم للعذاب الصبح أي من دخوله يحل عليهم العذاب والمعلوم أن الصبح يسبق اشراق الشمس يقينا ، لهذا في اعتقادنا إن نسبة الإشراق هناك لنار البركان لا الشمس ، لكن ماذا نقول بمن كان يعتقد أن سجيل السماء وأن تلك الحجارة من الطين سقطت عليهم من سماء الدنيا التي اسمها سجيل !!

 

وهكذا في عذاب الله تعالى المنتظر على الظالمين قد أضاعه من عاصرنا فلا علم لهم به ، كما أضاع من سبقهم عذاب قوم لوط ونسبوه للسماء وحقيقته من الهاوية ذلك النفط الذي يخرج حمما من فوهة البراكين من باطن الأرض ، نارا موقدة وطين أحمر يزحف بعضه على بعض .

 

وهكذا لما اشتد عذاب الله تعالى وسخطه على أصحاب الفيل بماذا عذبهم؟!

 

عذبهم من جنس تلك الحجارة لكن لما كانت منقوله ومن خلال جند مطيع لله تعالى وهي الطير الأبابيل ، كانت باردة تستطيع حملها تلك الطيور فقال عز وجل : ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴾ .

 

بل ماذا يقول مهدي الله تعالى وخليفته ورسوله ، حتى في المطففين توعد تعالى بذات العذاب لكن ناسخ المصحف وكاتب " سينين " على طريقة قوافي الشعر ، هو قلب " سجيل " في سورة المطففين لـ " سجين " ، وإلا هو هو عذاب قوم لوط عليه الصلاة والسلام وعذاب أصحاب الفيل من " سجيل " ، وهكذا مثل ما اندرس القرآن رسما في عقول السابقين ، كذلك اندرس معناه في عقول الناس اليوم وأضاعوه مثل ما ضيعت التوراة والإنجيل ، إما بتحريف حرفه أو تحريف معناه حذو النعل بالنعل والعياذ بالله .

 

ويقول في هذا الخصوص صاحب كتاب " المعرب " أبو منصور الجواليقي نقلا عن تهذيب اللغة للأزهري : وسجيل في معنى سجين والمعنى أنها حجارة مما كتب الله أنه يعذبهم بها اهـ .

 

أقول : بل حرفت بالخطأ من سجيل لسجين ، كما حرفت كلمة سينا لسينين حتى رفضها عمر رضي الله تعالى عنه ولم يقرأها إلا بسينا .

 

ثم يقول الجواليقي : انتهت عبارة التهذيب وإني أميل إلى هذا الرأي الأخير . قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ترميهم بحجارة من سجيل . سجيل : كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما إن سجينا علم لديوان أعمالهم ، كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون اهـ . " المعرب ص 366 "

 

قال تعالى : ﴿ كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّيل . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّيل . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ . وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ . كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ﴾ .

 

مرقوم بخبر عذابهم بالسجيل كما قوم لوط وأصحاب الفيل ، فكل هؤلاء مرجع عذابهم لأصل الجحيم تلك الحمم البركانية ونفطه المشتعل بالنار وحجارة الطين ، وهذا نظير قوله تعالى في أول سورة الطور حين أقسم هناك بقوله عز وجل : ﴿ وَالطُّورِ . وكِتَابٍ مَّسْطُورٍ . فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴾ . فنص على الكتاب المسطور كما نص في سورة المطففين على الكتاب المرقوم ، والمسطور والمرقوم هو الكتاب الذي ثبت تعالى فيه ذكر كل ذلك ومنه يستنسخ برق وبواقع هؤلاء جميعا ، ولهذا قابل ذكر الطور بذكر الكتاب المسطور ، وذكر الفجار وعذابهم الذي سيكون بالكتاب المرقوم ، ولم يفطن الناس أن الطور ما هو إلا جبل سينا نار العلامة التي أصلها في الجحيم بالهاوية ، وأن سجيل من هناك ، لهذا جمع الكتاب ذكر كل ذلك .

 

واعتقدت الأمة بالحجب هنا يوم الحساب الأكبر ما بعد البعث من الموت وهذا خلاف الحق ، بل هو حجب عن جنب الله تعالى بالدنيا ونيل شرف مجاورته والقرب منه ومصاحبته بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما صاحبه اليهود من قبل في زمان موسى صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، يفيده التالي :

 

ولمقابلة الكتاب الذي به وعيد المجرمين بالسجيل ، أورد تعالى ذكر كتاب الأبرار وما به من وعد الخير فماذا قال تبارك وتعالى بخصوص ذلك ؟!

 

قال : ﴿ كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ . يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ . وجعل بعد ذلك لهؤلاء الجنة والخلود فيها ، مثل ما جعل لأولئك بعد ذلك النار خالدين فيها .

 

ويبقى تقرير الكلام في ذكر الشهود المقربين من يكون هؤلاء ؟!

 

إنهم الأنبياء والرسل الذين أقت لهم تعالى موعدا الإشهاد ومن شهادتهم حضور تزكية الله تعالى ونصرته لعباده المفديين آخر الزمان فيعودون للشهادة على الكل ، من كل أمة شهود على أقوامهم ، والكل سيشهد لصالح الأبرار وما كتب تعالى في كتابه عن مناقبهم وحسن الثناء عليهم ، وسيأتي حتى نوح عليه الصلاة والسلام ليشهد لهم ويثني عليهم بثناء الله تعالى عليهم .

 

وأيضا داود عليه الصلاة والسلام وحزقيال ودانيال وجمهرة من الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم جميعا سيأتون للشهادة على كتاب الأبرار أنه حق وصدق ، ويكون يومها الفجار نصيبهم السجيل يعذبهم تعالى به معزولين لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وعذابهم شديد مقيم ملازم .

 

والآن سأريكم حتى ما أطيل عليكم رأي العين المشرقات الصافات ، ولعل أكثر الجاهلين الكافرين سيضحكون ويسخرون من هذا التعيين والكشف ، وهذا مما يرضينا من تأويل الأمر بما أن الجليل العليم حكاه عنهم بسياق ذمهم وإثبات عظيم منزلة صاحبهم بأنه يؤتى علما عظيما وفتحا مبينا تكشف له بها الأسرار فيعجب لذلك أشد العجب ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ، وبالمقابل الجهلة الكفرة لا ينالون ذلك بإدراكهم وما أكثرهم اليوم إلا يجهلون كل ذلك ثم كذبوه ثم هم يسخرون منه ، وكل ذلك منصوص عليه وأكثر

 

صور للصافات المشرقات ليلا ونهارا

 

 

 

 

 

 

وتلك لفتة واحدة من الإيمان العجب الذي كان يخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم وبكل فخر واعتزاز يخبر عن ذلك وهو يحدث أصحابه بالخبر المشهور ويسأل فيقول : " أخبروني من أعجب الناس إيمانا ؟ " . الخبر بطوله يراجع من الفصل الرابع لكتاب الامام عليه الصلاة والسلام " وجوب الاعتزال " لتدركوا أن من إيمان الخلق إيمانا عجبا ذكر صفات من هم أهله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، لكن من الزبور سأنقل لكم طرفا من ذلك لتوقنوا من صاحبه على وجه التخصيص ولكل متبع له مؤمن بما آمن به نصيب من ذلك بالتبعية ، فهل أنتم مدركون ؟

 

﴿ اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ ، فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ ، وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي ، دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ ، قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَاسْتَجَبْتَ لِي ، عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ ، طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي ، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ .

 

هذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي ، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي ، الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى الْغَايَةِ ، رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ ، مُتَّقُوكَ يَرَوْنَنِي فَيَفْرَحُونَ ، لأَنِّي انْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ.

 

قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي ، فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي ، حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ.

 

عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ ، لِذلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي ، فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ . وَرِثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي ، مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي ، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ ، عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا ، أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ ؟

 

وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي ، لأَنَّهَا إِلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي .

 

أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا ، عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذلِكَ يَقِينًا . مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللهُ عِنْدِي مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا ، إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ

 

فهذا هو وجه العجب من قوله تعالى ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ لا ما زعم على قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وعد بعضهم ذلك صفة لله تعالى - وادعى يحيى الفراء في تفسيره بأن قرأها بالضم أيضا علي وابن عباس رضي الله عنهما - ، وبذلك قرأ عامة قراء الكوفة .

 

ولما كان الأمر هنا يتعلق بصفات الباري عز وجل وما يصح به إثبات الصفة لله تعالى وما لا يصح به ذلك ، قررت بسط الكلام حول هذه المسألة الهامة جدا في مباحث الصفات وما يروى فيها من أخبار وبيان علاقة ذلك بهذه القراءة المأثورة عن إبن مسعود وغيره ومدى صحة قول من ربطها بما ورد من أحاديث تروى وفيها نسبة العجب لله عز وجل ومن قال بذلك من المتقدمين والمتأخرين ، وبما أن النية توجهت لتقرير العلم في باب الصفات للباري عز وجل وهنا جرنا لهذا الكلام في تفسير معنى الصافات ورود تلك الآية في العجب وتحتم الحسم في ذلك والرد على من خالف الحق في قوله عن ذلك انه صفة لله تعالى ، فكان تقرير الكلام في معنى الصافات جرنا للحديث في باب الصفات لله تعالى تقديرا منه وترتيبا للكلام في ابواب العلم على ما يجر له الأمر طبيعيا من غير تكلف في ذلك ولا تصنع ومباهاة ، لأن ذلك مما نهي عنه .

 

وبسبب ذلك أعلن عن الكشف عن كتاب آخر في مباحث الصفات لله عز وجل والذي أسميته بـ " المقدمة الذهبية لتقويم اعتقاد أهل الحديث وبيان أنهم ليسوا على السبل المهدية " (3) ، ليكون الكتابان خاصان في باب الصفات والرد على من ينتسب للحديث وفقهه قديما وحديثا بما يبطل أنهم على السبل المرضية كما يحسبون وأن خير رد عليهم سيأتي من قبل الدعوة المهدية وبضدها تتبين الحقائق وتدرك موارد العلم ومصادره الصحيحة ويكشف عن اصوله المتينة الراسخة .

 

( 1 ) تم نشر تلك التعقيبات في كتاب جديد سيصدر قريبا ان شاء الله تعالى اذا يسر وقدر ذلك ربنا المتعال ، والكتاب باسم ( التفسيرات المهدية لبعض آيات من القرآن المجيد الخبرية ‏) تحت الفصل رقم (23) بعنوان : وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ . وقد سبق ونشرت بمنتدى التفسير في موقعنا المبارك ، وقد بسطت تحت كل الفصول اللاحقة للفصل المذكور .