ورود صفة  الإرسال في القرآن على الوجه الشرعي والقدري

 

وردت لفظة الإرسال في القرآن عامة وخاصة ، مقيدة وغير مقيدة ، مضافة وغير مضافة ، على اعتبار المعنى الشرعي أو القدري ، حتى بلغ الأمر من بيانه سبحانه أن قال في الإرسال : ﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ﴾ .

وقال سبحانه :﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ﴾ . وفي إجماع الأمة أن هؤلاء المبعوثين كفارا وليسوا بمسلمين ! .

فإن كان الوصف بالإرسال قد يقع مضافا للشياطين والكفار؟! ، فكيف يجوز بعد هذا لمجرد ذكره إنكاره على أمر المهدي ومنعه بغير بينة وبرهان في مقابل ما دل على جوازه وأنه من هدي القرآن والسنة والفرقان ؟! ، ناهيك عن التكفير بذلك وادعاء الخروج به من الملة والحنيفية الغراء .

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن الله يرسل الكذاب كإرسال الشياطين في قوله تعالى : ﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين ﴾ . ويبعثهم كما في قوله تعالى : ﴿ بعثنا عليكم عبادا لنا .. ﴾ . لكن هذا لا يكون إلا مقرونا بما يبين كذبهم .

ولفظ الإرسال يتناول إرسـال الرياح وإرسـال الشياطـين وغير ذلك اهـ (1)

يريد رحمه الله تعالى في ذكره ارسال الرياح قول الله عز وجل : ﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته .. ﴾ . وهذا والذي قبله من الإرسال في معناه القدري ، وبعث المهدي وإرساله داخل في معنى الإرسال العام بمعناه الشرعي الديني كونه من المعلَّمين المحدَّثين الذين دل القرآن دلالة صريحة على جواز إرسالهم من المولى عز وجل وذلك في قوله تعالى : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته .. ﴾ .

وهذه الآية دالة على جواز إرسال المعلَّم من الله تعالى ، والمعَلَّم قد صرح القرآن بإرساله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم  بعده وذلك في قوله تعالى : ﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون . أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون ﴾ .

وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالا للشك أن المراد بالمعلَّم هنا غير النبي فيما رواه ابن سعد في كتابه الطبقات عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال : سمعت ابن أبي عتيق يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي إلا في أمته معلَّم أو معلَّمان ، وإن يكن في أمتي أحد فابن الخطاب ، إن الحق على لسان عمر وقلبه ) .

فهل يسع مسلم يخاف الله تعالى ويوجب على نفسه بدينه تصديق الله تعالى ورسوله أن يُنكِرَ هذا ؟ ، اللهم لا ، ناهيك عن من كفر مؤمنا إذا صدق بهذا وأيقنه ! ، ولا شك أن من يقدم على هذا المنكر العظيم ويظن اعتقاد تكفير من قال بهذا وصدقه ، أنه هو الكافر الملعون المطرود من رحمة الله تعالى سيدخله نار جهنم خالدا فيها فبئس المصير ، وذلك لتكذيبه هذا القرآن وهذا الخبر النبوي المصدق للقرآن .

والمهدي اللحيدي عليه السلام حين قال عن نفسه بالتأويل إنما قاله عن تصديق ويقين لما قدر المولى تعالى من أمره وبعثه من خلال رؤيا مثال المصطفى صلى الله عليه وسلم في مبشرات النبوة ، ولَمَّا أيقن ذلك وعرف أنه دين وحق ، ما تركه الله تعالى إلا وقرن بدعواه دليل صدقه وبراهين أحقيته بهذا الأمر ، وما زال الله تعالى يظهره بالحجج البينة ، ويثبته ببرد اليقين وسلطان العلم والبراهين النيرة ، وليس وراء ذلك إلا الكفر والتكذيب والنفاق .

ومما ذكر المهدي عليه السلام في رده على أحد مكذبي أمره وحسن ذكره هنا ، هذا الكلام النفيس في تقرير هذا المعنى وذلك قوله : لا ينكر صحة القول بإرسال ( المعلَّم ) في هذه الأمة إلا جاهل ضال كالحميد هذا ، وقد جـاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحقاق ( المعلَّم ) للنبوة وذلك في خبر عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ) . فإذا كان عمر في كونه من المعلَّمين استحق أن يكون نبيا لولا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الذي يمنع أن يكون المهدي المعلَّم الثاني في هذه الأمة مستحقا لوصف الإرسال كما استحق عمر رضي الله عنه لوصف النبوة إلا أن المانع لذلك كان تحقق بعث رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جـاء القرآن مصرحـا في إطلاق وصف الإرسال على المهدي مـا علم به انتفاء المانع الذي ثبت بحق عمر اهـ . ( فتح المنان 97 )

وتعليقا على قوله تعالى : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدَّث ﴾ . قال عليه السلام :

إن جاز فيمن سبق إرسال من هو محدّث مع كثرة بعث وإرسال الرسل والأنبياء قبل هذه الأمة وفي بني إسرائيل على الخصوص فما المانع من أن يكون بعث وخروج المهدي إرسالا من المولى تعالى وليس في هذه الأمة إلا نبيا واحدا وهو سيدي وإمامي عليه السلام ، إكراما لهذه الأمـة ورحمة بها ، وهذا وفق النظر السليم ، فكيف إذا ثبت صحة تحقق هذا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما بينته سابقا ، ولا شك أن إنكار هذا بعد هذا يعدّ تكذيبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهل يريد الحميد أبي حصان ترك بشرى الرحمن لمحدثات أفكاره وسقطات هذيانه ؟! .

وأنا لا أشك هنا أن الحميد وغيره من ضلال هذه الأمة انقدحت عندهم شبهة تلازم الإرسال والتشريع ، وأنه لا يكون الرسول رسولا إلا بتشريع جديد وهذا باطل من الاعتقاد ووهم وقع به الكثير .

 

قال الحميد في رده : ومن زعم أن الله يرسل رسولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم سواء المهدي أو غيره فهو كافر ، حتى عيسى عليه السلام حين نزوله من السماء لا يقال : إنه مرسل إلينا حيث إنه تابع لمحمد يحكم بشرعه اهـ .

وهذه منه بلية عظيمة ، ولغو أخرق ، فعيسى رفع رسولا وسيعود رسولا عظيما هو ومن معه ، بل جاء عن نبينا أنه يضع الجزية وهذا ليس من تشريع محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينافي هذا لا الختم بمحمد عليه الصلاة والسلام ولا بكون عيسى رسولا لله ، ولا معنى هنا أبدا لما قرر الحميد بعدم إرساله إلينا ، والضمير في إلينا إنما يعود للحميد وكل أخرق أرعن مثله ، وهؤلاء ما بعث عيسى ومحمد والمهدي إلا لفضح أحوالهم وإبطال أقوالهم التي زيفوا بها دين الله الحق وأذهبوا نور كلماته .

وعودة رسل الله ومعهم محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا إتماما وختما لجميع رسالات رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم ، وهكذا اقتضت إرادة المولى تعالى أن يشهد على كل أمة رسولها ، وعيسى حينما يرجع رسولا لله شاهدا على بني إسرائيل وخراف النصارى ومن اللغو البارد القول هو رسول لهم لا رسول لنا ، والحق أنه رسول الله ويعمل بأمر الله لا ينسخ شريعة الله المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم بل هو متبع يعود في غير زمان تكليف ، والمهدي مثله تابع لرسول الله عامل بشريعته ولا ينافي أبدا هذا كونه يرسل من الله تعالى ، إلا عند الحميد الجاهل وأمثاله .

يوضحه الآتي : أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قوله : ( لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ) . وفي لفظ : ( قد كان فيمن مضى من الأمم محدّثون ) . وكون هؤلاء غير أنبياء مع هذا التكليم والتحديث ، ومع هذا جاز على بعضهم الإرسال بنص قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وفي هذا أبلغ رد وإبطال لمعتقد الحميد الزائف في جعل النبوة لازمة للإرسال ، ليتوصل الخبيث بهذا إلى زعم إبطال اعتقادي إرسال المهدي ومن ثم تكفيري بهذا اللازم في معتقده وكل هذا الباطل المبني على باطل ، ظلمات متراكمة في قلب هذا الزنيم اهـ . ( المرجع السابق ص 43)

 

............

(1) ( المنهاج 3/226 ) .