لا شك ان القول بانحباس يأجوج ومأجوج خلف السد أبد الدهر إلى أن يأتي زمان عيسى عليه السلام ثم يتمكنوا من نقب السد ويخرجوا للناس ، ما هو إلا اعتقاد ساذج لأبعد الحدود ومناف لحقيقة وطبيعة البشر الذين دائما يحتاجون لموارد بشرية طبيعية خصوصا لمن كان بالكثرة مثل يأجوج ومأجوج فهؤلاء حاجتهم آكد للموارد الطبيعية ، ولو لم يكن في هذا الخصوص إلا حاجتهم للماء لكفى في هذا تعريفا للعقلاء بسذاجة معتقد التويجري وغيره في أمر يأجوج ومأجوج ، فمن أين لهم وهم بهذه الحاجة والكثرة ، للماء مثلا لتسد حاجتهم وهم خلف السد ؟!

ولو قيل باكتفائهم الذاتي من الموارد ، فسيقال حينها : أي ماء هذا الذي سيغنيهم وهم بهذه الكثرة والاستهلاك الرهيب لذلك المورد على ما جاء فيه الخبر ــ بحيرة طبرية ــ ، ومجاري الأنهار كلها معلومة ؟

أم سيقولون بأن هناك نهر ثالث من الأنهر الرئيسية ، وهو عظيم لحد بقائه لآخر الزمان ، فسنقول حينها : أكذلك هو خفي عن أنظار البشر مثل يأجوج ومأجوج ؟!

الحاصل أقول : بأن زعم البعض أن كل ما نقله التويجري صحيح في ذلك فيه نظر ، فإن نحينا جانبا حديث مسلم الذي لا علاقة له في إثبات سذاجة اعتقاد التويجري وغيره ، فهو حديث يثبت خروج يأجوج ومأجوج آخر الزمان على عيسى صلى الله عليه وسلم ومن معه وهو حق ، لكن الكلام في الحجز والحجب عن الأنظار الذي لم يتطرق له هذا الخبر ، وعليه يترك لفظ حديث مسلم ولا يصح ادراج لفظ حديث ابي هريرة معه في محل الاختلاف هنا .

وقبل الكلام على لفظ الحديث المنسوب لأبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه ما يوهم صحة اعتقاد التويجري وغيره ولفظه : " .... حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فسنحفره غدا إن شاء الله واستثنوا فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع عليهم بالدم فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ".

احب العودة للتأكيد على : أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا بشرًا مثلنا ، لهم نزاعات سابقة في قديم الأزمان مع مجاوريهم من الشعوب الأخرى ، وتدل قصة ذي القرنين أنهم أشرار كفار معتدين ولذا انتصر ذو القرنين لمخالفيهم وضرب دونهم السد ليكف شرهم عن الناس ، لكن ذلك لحين .

والسذاجة إنما في ظن أن هذه العقوبة تأبيدية لما بعد انقراض أمر ذي القرنين ، وأمر اعداء يأجوج ومأجوج ، على مدى القرون الطويلة المتتالية ! ، وفي هذا منافاة لعدل الرحمن القائل : ﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾.

ومن المعلوم أن جيل يأجوج ومأجوج الأول المدرك للسد إن كان هو المعتدي ، فما ذنب أجيالهم اللاحقة لتأبيد العقوبة عليهم ، فهل هم أكفر وأعدى من أشر الكفار والمعتدين من سواهم من بين البشر حتى يعاقبوا هذه العقوبة المؤبدة ؟! ، ومن هنا أتى القول بسذاجة هذا الإعتقاد في يأجوج ومأجوج ، وما الملجىء له إلا فهما خاطئا لخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، في رؤيا منام ذكر رموزها عن يأجوج ومأجوج ، لا يريد ظاهرها الخيالي ، وإنما هي أمثال ضربت له في المنام للإخبار عما يكون من أمر يأجوج ومأجوج لا أكثر ، مثل ما ضربت له الأمثال عن غيرهم والمخالفة فيه لظاهر الأمر صريحة ، مثال ذلك قصة رؤيا الدجال في منام المصطفى صلى الله عليه وسلم حين رآه يطوف بالكعبة ، والكعبة في الظاهر محرمٌ على الدجال دخولها ، فهلا حملوا ذلك على الحقيقة لما صرفوا الظاهر في مثال هذه الرؤيا عن الواقع .

فإن قالوا : لثبوت النص بالمنع من الدخول .

سنقول حينها : والنص أثبت في منع يأجوج ومأجوج من اختراق السد والقدرة على تجاوزه بحولهم وقدرتهم ، وذلك في كتاب الله تعالى العزيز ويكفي في هذا المنع أنه قرءاني من كلام ربنا عز وجل .

قال في ذلك سبحانه : ﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ﴾ .

قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقتضي هذا أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته اهـ .

وشكك رحمه الله تعالى بالخبر ذاك فقال : متنه فيه نكاره ــ يريد لمخالفته ظاهر الآية ــ لكن هذا روي عن كعب الأحبار ، فقد يكون أخذه عن أبي هريرة ، وتوهم بعض الرواة فرفعه اهـ . (التفسير 3/105)

قلت : الحمل فيه على أبي هريرة فيه نظر ، بل الصحيح أن مصيبة هذا السرد القصصي من قتادة رحمه الله تعالى ، فهذه عادة له مثل ما فعل مع خبر جيش الخسف رواية أم سلمة رضي الله عنها ، فقد أتى هناك بزيادات منكرة على ما جاء في الصحيح على عادة القصاص الذين يلطشون عن كعب وغيره ثم يزيدون من عندهم ما يزيدون ، ويخلفهم من دونهم فيرفع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير خوف ولا حياء .​​​​​​​​​​​​​​