اقتباس الكذبة نبوءة قِدَم خلق محمد صلى الله عليه وسلم
على الخلق وجعلها في يسوع المسيح
والآن آن الأوان لتقرير الكلام حول أعظم خبر وأجل منزلة للمصطفى صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى ، أعني خلقه قبل العالم ببهاء سماوي بآلاف السنين على ما نص على ذلك يسوع المسيح في إنجيله الصحيح ضمن بشارته العظيمة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم خليل الله وزكيه الأكبر ، بل نص على أن لو ما قضاءه بمحمدٍ البار لما خلق العالم ، وهذا من أعظم ما دعا الصليبية واليهودية لرد هذا الإنجيل والحيلولة دون ظهوره للعالم ، إذ كيف يقر فيه هذا ثم يترك وهم على العزم برد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم إتباعه ، فكان لزاما عليهم وهم يكفرون به طمس هذا الإنجيل أو منع ظهوره بالكلية ، وقد فعلوا الجرمين من شدة حرصهم على عدم إتباع محمد صلى الله عليه وسلم ممن هم على ملتهم ، فطمسوه بالفعل وحرفوه ثم بعد ذلك جهدوا أنفسهم على منعه من الظهور للناس حتى لا يعرف فيهم أن هذا الإنجيل المنسوب للمسيح يسوع عليه الصلاة والسلام .
بدأ المسيح في ذكر هذه المنقبة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تسميه يهود " مسيا " في خبر قصة آدم عليه الصلاة والسلام وما رأى بعد خلقه وأول ما فتح عينيه في الجنة ، وبلاغ الله عز وجل له بأن هذا الرسول المبارك الذي خلق قبل كل شيء وأن لأجله خلق الخلق ، تلك الخاصية والإصطفاء العظيم الذي جعله الله تعالى من نصيب هذا النبي الرسول الكريم المبجل ، وكان أخذ على أرواح الأنبياء والرسل بعد ما خلقهم من ظهر أبيهم آدم قبل خلق أجسادهم الميثاق على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم وتأييده إذا ما بعث ، وما من نبي يبعث أو رسول إلا ويرى لأمره محمدا صلى الله عليه وسلم بالمنام ليشهد لهم بالنبوة والإرسال ، هكذا قطع في خبر ذلك بإنجيل المسيح عليه الصلاة والسلام ، وهو المعنى المراد من كونه " خاتم النبيين " على الصحيح ، الوصف الذي أنزل الله تعالى ذكره بالقرآن ونص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من كلامه ، فقال المسيح في شرح ذلك :
الإيمان خاتم يختم الله به مختاريه ، وهو خاتم أعطاه لرسوله الذي أخذ كل مختار الإيمان على يديه ، فالإيمان واحد كما أن الله واحد لذلك لما خلق الله قبل كل شيء رسوله وهبه قبل كل شيء الإيمان الذي هو بمثابة صورة الله وكل ما صنع الله وما قال ، فيرى المؤمن بإيمانه كل شيء أجلى من رؤيته إياه بعينيه . .
إنه بالإيمان يخلص كل مختاري الله ومن المؤكد أنه بدون إيمان لا يمكن لأحد أن يرضي الله ، لذلك لا يحاول الشيطان أن يبطل الصوم والصلاة والصدقات والحج بل هو يحرض الكافرين عليها لأنه يسر أن يرى الإنسان يشتغل بدون الحصول على أجرة ، بل يحاول جهده بجد أن يبطل الإيمان لذلك وجب بوجه أخص أن يحرص على الإيمان بجد اهـ (1) .
وقال بهذا الخصوص أيضا : رسول الله متى جاء يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم يده فيحمل خلاصا ورحمة لأمم الأرض الذين يقبلون تعليمه اهـ (2) .
ومن يؤمن بكلامه يكون مباركا اهـ (3) .
ولم يكن اختيار الله تعالى لروح نبيه من بين كل الأرواح للخلاص لوحده فقط قبل ما يخلق المخلوقات ، بل اختار معه كل من كتب له النجاة والخلاص الأبدي وهو ما كان المسيح يسوع يسميه بـ " سر الإصطفاء " ولذا سمي رسول الله محمد بالمصطفى ، فقال يسوع في ذلك : الذين اختارهم الله قبل خلق العالم لا يهلكون اهـ (4) .
ونفهم من هذا أن ذلك الاختيار والإصطفاء إنما تم لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء ثم تبع ذلك اختيار الأبرار والصديقين ، ولكل هؤلاء كتبت النجاة والخلاص الأبدي ، ومن سواهم كتب لهم الهلاك الأبدي .
هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد وعلى ذلك بني هذا الإصطفاء والإختيار وقدر ذلك والله يفعل ما يشاء ، وقد أتت الإشارة لهذا في القرآن بقوله عز وجل : ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ .
أراد الإشهاد الروحي يتبعه إشهاد آخر لما تجمع كل روح بالجسد المقدر لها ، ولما كان خلق الأرواح جملة سابق على خلق الأجساد والتي من المحال أن تخلق جملة مثل ما حصل مع الأرواح ، كان ذلك الإشهاد على التكرار واللازم منها بالحجة والمتوقف عليه النجاة والهلاك هو الإشهاد بإرسال الأنبياء والرسل ولن يكون ذلك إلا من بعد ما تجمع الأرواح مع خلق الأجساد ولذا قدر الله برحمته لذلك بعث الأنبياء والرسل بعضهم يتبع بعضاً حتى ما يفوت ذلك على بني آدم ، ولو كان الإشهاد على الأرواح هو الحجة القاطعة والملزم بالتكليف لم يقدر الله تعالى نسخ ذلك عن ذاكرة كل إنسان ، حتى أن كل إنسان لا شعور له مطلقا بذاك الإشهاد السابق ولو كان فطري ، وكل ما علمناه من ذلك وأيقناه إنما وصلنا بالوحي من الله تعالى ، ومن ذلك منقبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتشريفه بالسبق على كل الخلق ، وهذا مما لا يدرك بالعقول حتى يسع أحد تكذيبه لا من المسلمين ولا غيرهم من الصليبية الكافرة أو اليهودية الملحدة ، وقد كان من سخفاء الصليبية من جادل بوجه صحة هذا الإنجيل ومن طعوناته عليه التطرق بالإنكار لهذه الحقيقة فقال :
هذا القول غير مصدق إيمانيا لأن الكتب المقدسة لم تقل هذا وخاصة أن آدم خلق في اليوم السادس ونحن ولدنا من نسل آدم ولم تكن هناك خلائق إنسانية قبل آدم ، والعقل والعلم والدين والتأريخ لا ولم ولن يعترف بهذه الأسطورة التي تعد من أساطير ألف ليلة وليلة وبالتالي فالإنسان الأول آدم هو أول خلق الله .
كما أن الإسلام لا يؤمن بأن نبيهم خلق قبل كون العالم ، بل يؤمن بأنه مخلوق كأي مخلوق من ذكر وأنثى ولم يكن له وجود سابق قبل ميلاده ولا يعلم هو أي شيء عن نفسه قبل أن يولد ..
وعموما القول بأن محمدا موجود قبل الخليقة لا يتفق مع تعاليم القرآن (5) .
ثم ذكر ما لا مستند به لرد ذلك والآية التي ذكرت من قبل هنا تؤكد على أن الأرواح بالجملة خلقت قبل الأجساد ما يبطل زعم هذا الصليبي ويعلمنا بمدى جهله وضعف استدلاله ومدى غروره في إنكار هذه الحقيقة المقررة في كتاب الله تعالى وإنجيل يسوع المسيح الصحيح .
بل زاد المعتوه على ذلك في الضلال أن أنكر ما أقر بوجوده هو وكل صليبي على وجه الخليقة من قديم إلى يومنا هذا في أناجيلهم المحرفة لصالح يسوع المسيح والذي يؤمنون بأنه ابن لله ، تعالى الله علواً كبيراً عن باطلهم ، فاعتقدوا أنه مخلوق من القديم هو كذلك ، فأقروا بذلك في روح يسوع مع نفيهم ذلك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بشهادة يسوع نفسه له بذلك .
كذلك مما يدل على كذبه في زعمه أن المسلمين لا يؤمنون بذلك ، ما سأنقله في هذا الفصل من جملة روايات تدل على كذب هذه المزاعم ، وأن واقع أكثر المسلمين في جهلهم هذه الحقيقة لا يحيلها لباطل رغم ثبوت ما يدل عليها من روايات عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في كتب المسلمين القديمة ، وكما تقرر في أن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدم وجوده بالحقيقة ، وكل من جهل وجود هذه الحقيقة عليه الآن أن يعلمها سواء كان مسلما أو صليبيا مشركا أو أيا كان ، وأن ذلك من أدل الحقائق على صدق هذا الإنجيل وأن كاتبه تلميذا بارا وتابعا مخلصا حين حفظه وأظهره للناس من بعد رفع المسيح يسوع عليه الصلاة والسلام ، وليس هو مثل الكذبة ملفقة الأناجيل المحرفة ، إنما قال ما صدقه القرآن وأحاديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم من بعده وهكذا كتب الأنبياء يشهد بعضها لبعض .
ومن حين بعث صلوات ربي وسلامه عليه لن يدخل الجنة من لا يؤمن به ، أعلن بعثه من الله تعالى خلاصا لكل البشرية مثل ما أورد خبر ذلك في الإنجيل ، وهكذا نرى الله تعالى بقدره يدير الخلق كلهم على أمره وعلو شأنه فله المقام المحمود دنيا وآخرة ، والشفاعة العظمى من كراماته وجلالة قدره عند الله تعالى ، ويكفينا علم عظيم شأنه عند الله عز وجل بما قاله المسيح صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين .
والآن قبل ما تروا معي كيف تفاهة الإقتباس من هذا الإنجيل العظيم الذي أذهب نور تلك النبوءة منه بعد ما سرقوها وحرفوها حسدا وكراهة منهم أن يجعل الله تعالى هذه البركة على أحد أبناء إسماعيل دون أبناء إسحاق ، على ما سنه اليهود باللعنة لتوقنوا أن مؤسس الدين الصليبي الشركي ما هو إلا يهودي أراد ضرب عصفورين بحجر كما يقولون ، يطمس فضيلة محمد صلى الله عليه وسلم ابن إسماعيل ووجه الخلاص بالإيمان به ، ويسخر في ذات الوقت من هؤلاء السذج الذين طلبوا الإيمان بالمسيح عليه السلام وتيقن بشارته والتوبة على يديه ، فكان لذلك الملعون المحرف هذا النوال حتى خفت هذه البركة والنبوءة العظيمة على جماهير الملل كلها ، حتى من المسلمين من الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا نجدهم إلا مكذبين لهذه البركة مع أنها مثبتة بهذا الإنجيل المبارك ويشهد لها ما سيأتي ذكره من روايات عديدة في تراث المسلمين ، منها ما هو ثابت الصحة سنداً مثل ما هي ثابتةً معناً إلا أني وللأسف الشديد لا أجد أكثرهم إلا جاهلاً بها بل ينكرها ، حتى أني وجدت من محققيهم وهو المؤرخ المشهور " الذهبي " ينص في بعض كتبه على الطعن بكل رواية فيها ذكر هذه الفضيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم جهلا منه ، وكان شيخه أكثر توفيقا منه في ذلك .
نص على ذلك في ترجمة عبدالله بن مسلم الفهري في " ميزان الاعتدال" بقوله : روى خبرا باطلا فيه : ( يا آدم لولا محمد ما خلقتك ) اهـ (6) .
والخبر مروي في مستدرك الحاكم عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال الله تعالى : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك .
فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ، ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك ) .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب .
وتعقبه الذهبي بقوله : هذا موضوع وعبدالرحمن واه ، رواه عنه عبدالله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا عن إسماعيل بن سلمة عنه اهـ (7) .
قلت يشهد له ما رواه صاحب " السراج " أبي العباس محمد بن إسحاق الثقفي بإسناده عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لما خلق الله آدم خُبِر بَنِيه فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض ، فقال : فرأى نورا ساطعا في أسفلهم فقال : يا رب من هذا ؟ ، قال الله عز وجل : هذا ابنك أحمد هو الأول وهو الآخر ، وهو أول شافع ) (8) .
وقوله : " هو الأول " . يريد بالخلق و " هو الآخر " يريد بالبعث ، فما وجه النكارة في ذلك ؟ وقد ثبت هذا الحديث بقوة مكانة رواته مع ما يشهد له في الإنجيل الصحيح ، كذلك يشهد لمعناه أكثر من رواية في الصحيح غير ما هو خارج الصحيح في تراث المسلمين ، فكلها توافقت على تأكيد هذا المعنى على ما ألمح لذلك شيخ الذهبي الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، لتلك الشواهد كلها التي رويت عن أكثر من صحابي منهم عمر بن الخطاب وأبي هريرة والعرباض وميسرة رضي الله عنهم أجمعين ، وآخر موقوف على عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وروايته مما لا تقال بالرأي فلها حكم الرفع ، وسيأتي تفصيل ذلك وذكره لاحقا إن شاء الله تعالى .
وبهذا كله سيتضح ضعف رأي الذهبي الذي لا مدخل له بمثل هذه الحقائق والمباحث ، وقبل ذلك هو نبوءة إنجيلية ورد الكلام حولها صريحا في إنجيل المسيح الصحيح دون سائر ما زعم لها أنها أناجيل ما يدل على صدقه وكذبها كلها .
وسنراه يعود لتكذيب هذه العقيدة بكتابه ( الميزان ) مرة أخرى لكن هذه المرة بما روي عن ابن عباس في هذا الخصوص وقد اتهم به الراوي " جندل بن والق " ، وأورد ما استنكره من الخبر وهو قوله : ( أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد فلولاه ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار ) .
وقال : أتى بخبر منكر أخرجه الحاكم في مستدركه ، وأظنه موضوعا من طريق جندل اهـ (9) .
قلت : رواه في المستدرك من طريق سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال : ( أوحى الله إلى عيسى عليه السلام : يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن ) . صححه الحاكم وتعقبه الذهبي هناك بقوله : أظنه موضوعا على سعيد بن المسيب (10) .
وبحسبنا هنا أن الذهبي ظن فيه الوضع والظن لا يغني من الحق شيئا ، وقد ورد بالإنجيل الصحيح ما يشهد له ويؤيده ما دون قوله : ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول فسكن .
ومن جوز على العرش الاضطراب لموت " سعد بن معاذ " لا يستقيم له اتهام هذا بالوضع والاضطراب من أجل إظهار فضيلة محمد صلى الله عليه وسلم للعالم ، مع أنا لا نجد هذا المعنى بالإنجيل الصحيح حرفيا ، فقد ذكرت الكتابة بإسمه عليه الصلاة والسلام في الإنجيل بموضعين :
الأول : في السماء في قوله عليه الصلاة والسلام : فلما انتصب آدم على قدميه رأى في الهـواء كتابة تتألق كالشمس نصها " لا إله إلا الله ومحمد رسـول الله " .
والثاني : حين طرد آدم من الجنة بعد الخطيئة وفيه : فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب ـ باب الجنة ـ " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
ولما يضم هذا لما وجدت في روايات المسلمين عن نبيهم وفيه ذكر كتابة اسم الله العظيم ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مقرونان في أول ما رأى آدم عليه السلام ، إلا أن في رواية ابن عباس وميسرة أن محل الكتابة قائمة من قوائم العرش ، وهي الرواية التي يصح القول فيها أنها أكثر صراحة في الشهادة لما ورد في الإنجيل ، فهناك تقول الرواية في الإنجيل :
فلما انتصب آدم على قدميه رأي في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصها " لا إله إلا الله ومحمد رسول الله " ففتح حينئذ آدم فاه وقال :
أشكرك أيها الرب إلهي لأنك تفضلت فخلقتني ولكن أضرع إليك أن تنبأني ما معنى هذه الكلمات " محمد رسول الله " .
فأجاب الله : " مرحبا بك يا عبدي آدم وإني أقول لك أنك أول إنسان خلقت وهذا الذي رأيته إنما هو ابنك الذي سيأتي إلى العالم بعد الآن بسنين عديدة وسيكون رسولي الذي لأجله خلقت كل الأشياء الذي متى جاء سيعطي نورا للعالم الذي كانت نفسه موضوعة في بهاء سماوي ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئا " .
فضرع آدم إلى الله قائلا : يا رب هبني هذه الكتابة على أظفار أصابع يدي اهـ (11) .
وهنا نرى مدى التوافق على هذا المعنى ما بين ما روي عند المسلمين كما في رواية ابن عباس وميسرة وسيأتي ذكرها ، وما ورد بالإنجيل الصحيح لهذا البهاء العظيم الخاص برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، والذي فيه أن الله تعالى خلق العالم لأجله ولإظهار مجده ، وأنه حين خلق آدم والد البشر أراه أول ما أراه تلك الكتابة فيها اسم الله تعالى مقرونا بإسم نبيه محمد الرسول ، نبوءة أولى لأبي البشر والأنبياء والرسل كلهم ، إلا أن لفظ النبوءة بالإنجيل أنها تتألق في السماء كالشمس ، وعند المسلمين على قائمة من قوائم العرش ، ويمكن التوفيق بين ذلك بأن ما رأى بحسب الإنجيل إنما هو على قائمة العرش لكن وصفها كما ورد من غير زيادة في التفصيل ، وإلا هي على قائمة العرش تتلألأ في السماء بحسب رؤية آدم لها عليه السلام ، والجمع هنا ممكن خصوصا إذا عرفنا ما قرره المسيح نفسه عليه السلام بحسب ما ورد في الإنجيل الصحيح وفيه ما معناه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبعث سيزيد في إيضاح أخبار من سبقه من الأنبياء وأنهم سيتكلمون بظلمة وهو يأتي يغشي نورا على كلام الأنبياء قبله بكلامه . مثل ما زاد في وصف الدجال وأنه قال فيه قولا لم يقله نبيٌ قبله .
وفوق هذا كله في الشهادة ما وجدت في مرويات المسلمين وهي الأقرب في إثبات صفة قِدَم خلق نبي الله المصطفى صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق ، وهي الرواية الأٌقوى سندا مما لا يمكن للذهبي ولا غيره أن يقدح برجالها وينسبها للوضع مثل ما فعل بغيرها ، فرواتها ثقات وبعضهم روي له في الصحيحين ، أعني رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لما خلق الله آدم خُبِر بَنِيه فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض ، قال : فرأى نوراً ساطعاً في أسفلهم ، فقال : يا رب من هذا ؟ قال : هذا ابنك أحمد هو " الأول " وهو الآخر وهو أول شافع ) .
وفي هذا كامل التصديق لما جاء بالإنجيل في خبر هذه المنقبة والفضيلة الكبرى لنبينا صلى الله عيه وسلم ، أنه " أول الخلق " .
فشيخ أبي العباس محمد بن إسحاق المشهور بالسرَّاج راوي هذا الخبر ، هو يحيى بن محمد بن السكن وثقه النسائي ، وقال عنه صالح جزرة : لا بأس به . وذكره ابن حبان في الثقات وروى عنه البخاري وغيره .
وأما حبان بن هلال " فثقة ثبت " قال عنه ابن حنبل: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة . ووثقه ابن معين والترمذي والنسائي. وقال ابن سعد فيه : ثقة ثبت حجة .
وأما مبارك بن فضالة فقد وثقه ابن حبان .
وعبيدالله بن عمر ثقة ثبت هو الآخر .
وخبيب بن عبد الرحمان وثقه ابن معين والنسائي .
وحفص بن عاصم وثقه النسائي وابن حبان وأبو زرعة وغيرهم .
وبقي أبو هريرة وهو غني عن توثيق أي أحد ، وهو الحافظ الثبت من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعليه يسلم هذا الخبر من إرتجالات المحققين للأسانيد الطاعنين بها لنكارة خبر ما يجدونه بالمتن ، مثل ما استنكر الذهبي كما مر معنا في أن يقال : أن الله خلق العالم من أجل محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تكذيب من غير بينة ومحض رأي أكذبه الإنجيل الصحيح ، وهذه الروايات الشاهدة لصحة ما ورد فيه ، وقد كان المسيح عليه الصلاة والسلام صريحا في هذا مؤمناً به مقراً له أنه من وحي الله تعالى له .
ويشهد لهذا المعنى الذي قلت في رواية السرَّاج عن أبي هريرة ، ما رواه ابن سعد في كتابه الطبقات عن قتادة مرسلاً : ( كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث ) . وروي موصولاً من طريق سعيد بن بشير قال حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة في تفسير قوله تعالى : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ .. ﴾ . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ) ( 12) .
قال ابنُ عدي عن سعيد بن بشير هذا : لا أرى بما يروي بأسا ، ولعله يَهِمُ ويغلط . ذكره عنه في ميزان الإعتدال في ترجمة سعيد وهو صاحب لقتادة ، ويقينا هذا ليس من أوهامه فله شواهد عدة وهو مما أثبت في الإنجيل على ما ترون (13) .
قال صاحب فيض القدير الشيخ المناوي في شرحه للجامع الصغير للسيوطي تعليقاً على مجموعة أحاديث في هذا المعنى كان أوردها السيوطي في كتابه : الله جعل لهذا حقيقة تقصر عقولنا عن معرفتها ، وأفاض عليها ـ يريد روح المصطفى ـ وصف النبوة من ذلك الوقت ، ثم لما انتهى الزمان بالاسم الباطن في حقه إلى وجود جسمه وارتباط الروح به ، انتقل حكم الزمان إلى الإسم الظاهر ، فظهر بكليته جسما وروحا .
وأما قول " الحجة " : المراد بالخلق التقدير لا الإيجاد ، فإنه قبل ولادته لم يكن موجودا اهـ . تعقبه " السبكي " بأنه لو كان كذلك لم يختص .
انتهى كلام المناوي تعقيبا على معنى الخبر ، ثم تعقب بعد ذلك صاحب الجامع الصغير من حيث السند ، فقال :
ظاهر صنيع المصنف أنه لم يره مسند لأحد ، وهو غفول فقد خرجه أبو نعيم في الدلائل وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن لال والديلمي ، كلهم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً اهـ (14) .
قلت : هو شاهد لما فات ذكره ، يقوي ذلك بعضه البعض في هذا المعنى الكبير العظيم في مقام نبينا صلى الله عليه وسلم ، جهله من جهله ، وعلمه من علمه .
ثم علق البيضاوي ثانية بالقول في معنى الخبر بما يلي : وقوله " آدم بين الروح والجسد " . يعني أنه تعالى أخبره بمرتبته وهو روح قبل إيجاد الأجسام الإنسانية كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاد أجسامهم اهـ .
حكاه عن ابن عربي ، وقد نص إنجيل المسيح عليه الصلاة والسلام على أن الله تعالى خاطب روح نبيه وذكر له عظيم فضله على سائر الخلق ، قبل ما يخلق كل شيء .
وحين نتوسع بالتحقيق نجد ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو شيخ الذهبي وأكثر منه رسوخا بعلم العقائد والخبريات وفهم تفاسيرها ولا شك ، قد ناقش بعض هذه المرويات ولم يضعفها أو يكذبها فضلا عن أن يحكم بوضعها رغم ما ورد فيها مما استنكره الذهبي تلميذه ، بل أراه صحح معناها وعد أن بعضها يشهد لبعض ، فقال تعليقا على سؤال أحدهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم : متى كنت نبيا ؟ ، قال : ( وآدم بين الروح والجسد ) .
وفي لفظ عن العرباض بن سارية : ( إني عبدالله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته . وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى (15) .
وعنده عن جابر عن عامر قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام : متى استنبئت ؟ فقال : ( وآدم بين الروح والجسد حين أُخذ مني الميثاق ) .
وبشارة عيسى يعني ما نحن بصدد شرحه وتصديقه وتوثيقه ، وهو ما قام به المسيح عليه السلام كما أمره الله تعالى ومن ذلك إخباره بقصة آدم عليه السلام محل تعليقي هنا ، وقد صدقها رسولنا صلى الله عليه وسلم أيما تصديق بخبر العرباض بن سارية هذا وبحديث آخر على منواله لكنه أكثر تفصيلا وأوفق لما ذكره المسيح في إنجيله عليه الصلاة والسلام أفادنيه محقق الملة شيخ الشيوخ الحكماء ابن تيمية عليه الرحمة والغفران ، قال :
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر ، وقد روي من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم بإسناده إلى ميسرة قال : قلت يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟
قال : ( لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش كتب على ساق العرش : " محمد رسول الله خاتم الأنبياء " ، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء ، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد ، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك ، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا بإسمي إليه ) .
ثم قال رحمه الله تعالى وجاعل الفردوس له نزلا :
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. اهـ .
فذكر الخبر الفائت ذكره عن عمر رضي الله عنه وقال معلقا :
فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة (16) .
وأقول هنا بأن : لفظ خبر ميسرة يشهد ويفسر ما ورد بإنجيل المسيح عليه السلام بكتابة تلميذه البار برنابا من حيث إخباره عن رؤية آدم عليه السلام لهذه الكتابة في السماء وعلى باب العرش ، بل تؤيد كذلك المعنى اللطيف الذي من أجله طلب آدم كتابة تلك الكتابة على أظفار يديه الشريفتين وما ذلك إلا لما رأى من كتابة الله تعالى هذه الكلمات المقدسة على ما ورد في الخبر المذكور عن ميسرة أنه قال : ( وكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد ) .
ولأجل ذلك طلب آدم من الله عز وجل كتابة اسمه واسم نبيه على أظفاره وهذا فيه مصداق وتوافق تام ما بين خبر الإنجيل وخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم هنا في هذه القصة ، وهي تلك القصة الإنجيلية العجيبة في منقبة النبي صلى الله عليه وسلم التي أوردها الكاتب " منكر ثبوت صحة هذا الإنجيل " في بداية مقالته والتي هي محل اعتراضي في هذا الكتاب ، تلك القصة التي أوردها للقدح والطعن بالإنجيل تبعا لمترجم الإنجيل من الإنجليزية للعربية " سعادة " وتقليدا له في التشكيك ودفع الإيمان ، لا التوثيق والتأييد للـ( برهان ) .
وها أنا أوثق لذلك وأرد كيدهم ذلك بما أثبتُهُ هنا في أنه لا يمكن لمسلم أن يكتب ذلك بإنجيل المسيح على مثل هذا التوافق العجيب والتواطؤ الأكيد مع عدم توفر التلاقي ما بين المصدرين على طوال التأريخ من عصر ما بعد المسيح وكاتب الإنجيل إلى زمان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأتباع أتباعهم إلى سلسلات البشرية من بعدهم والتي تخللها علماء محققين ومطلعين أكفاء على تأريخ الملل والنحل من ناقدي تراث اليهود والنصارى ، من المجتهدين الباذلين وسعهم للوقوف على كل مصادرهم ، فلا نجد أحدا أشار لهذا الإنجيل أو اقتبس منه منهم ، ولم نر من ربط مثل هذا الربط وأقام مثل هذه الشهادة لله ولكتابه ، على صدق هذا الإنجيل بتوافقه مع ما أخبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لمثل ذلك وجود فليدلنا هذا المنكر وغيره أين ذلك في تراث المسلمين ؟ ، ولن يجدوا والله أبدا لذلك سبيلا ، والحمد لله الناصر الفاتح الهادي ، ولتحسب هذه من علائم هداية الله تعالى الخاصة لي .
ولا يمكن لأي أحد أن يجمع ما بين المكتوب في هذا الإنجيل من بشارة على هذا النحو من التفصيل ، ثم يجمع لذلك الجهل بأن ذلك مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على التفصيل وفاقد الشيء لا يعطيه ، بل لا أبالغ إن قلت :
لعل التفصيل المنقول عن محمد صلى الله عليه وسلم في هذه القصة يعد أزيد وأبلغ مما ورد بالإنجيل نفسه لكن يبقى مصدقا له وخير شاهد على التقاء كل ذلك من هذين النبيين من غير تواطؤ إلا التواطؤ على أن كل ذلك إنما صدر من وحي الله تعالى لكليهما من غير اتفاق ولا تعاصر .
ثم يقولون بعد ذلك كاتبه يهودي أسلم أو نصراني أسلم ثم قام بكتابة هذا الإنجيل كيف ؟! وجمهور المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإنجيل ليتسنى لهم الربط بينه وبين ما روي عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص ، بل كان الجميع في هذه الملة الإسلامية يجهلون أمر الإنجيل وأغلبهم لا علم له بهذه المرويات لا في الأندلس ولا تركيا ، لا في غابر الأزمان ولا زماننا هذا ، ومع هذا كان هذا التوافق والمطابقة العجيبة ما بين هذين المصدرين ما يدل ويثبت بكل جلاء أن ذلك مما أوحى الله لرسله وأن الله تعالى مصدر كل هذه الأخبار ، على عكس ما أثاره النصراني المنافق (17) .
حين طعن بتحقق مثل هذا التواطؤ ، شبهة يرددها مع سائر شبهه ليحط من مصداقية كتاب من كتب الله تعالى لمعارضته لأسس عقيدته الشركية ، مع أن هذه الموافقات تعد عند كل منصف من آكد التوثيقات على اتحاد مرجعية ما أخبر به إنجيل المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم لإنتفاء تحقق التواطؤ عن قصد ونية مسبقة .
وقد أيقن العارفون بأمر هذا الإنجيل من المحققين اشتهار نبأه من عصور بعيدة القدم ، وأن رؤوس الكفر اجتهدت على طمسه وإخفائه عن أعين الخلق حتى أنه لما طبع للإنجليزية في العصور المتأخرة لأول مرة أخذوا يعملون على إخفاء تلك النسخ بطرق غامضة ، ثم ما لبثت تلك الطبعة أن اختفت من الأسواق البتة ، فهناك جهة بابوية أو تلمودية يهودية " تزعم المشيخية والحكمة الدينية " لها مصلحة ملحة بإندراس هذا الإنجيل واختفائه بالمرة ، وهو ديدنهم من العصر الأول اليهودي الذي اجتهد لحرب المسيح ومنع كلمته من الإنتشار .
ولما كانت الحال على ما بينت هنا عرف كذب مزاعم مثل مترجمه للعربية " خليل سعادة " الذي افترض حتمية تسرب هذا الإنجيل مع كونه مزور برأيه للعرب المسلمين مع أنه يستشهد بأن لو كان ذلك حقا لسرت اقتباسات منه لكتب ناقدي النصرانية من محققي المسلمين ، وعدد أسماء بعضهم ممن تطرقوا لنقد العقيدة الشركية في النصرانية ونقد كتبهم الزائفة ، لكن لم يرد البتة ذكر عندهم لإنجيل برنابا ولو كانوا قد حصلوا عليه لصاحوا به أو اقتبسوا منه .
أقول : وهذه حقيقة تجعل مما ذكرته آنفا من آثار إسلامية مواطئة لعقيدة هي بالأصل مما خفى على الكثير من المسلمين ومن محققيهم من كذبها أصلا ، وفي ذلك شهادة بالغة على سلامة تحقق التواطؤ ما بين الإنجيل وأخبار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من غير نية مبيتة وفبركة كيدية من أحد ما .
وهناك شواهد عدة زيادة على ما تقرر سابقا وسيأتي قريبا التصريح بذكرها ، وفي كل ذلك شهادة ولا شك وبرهان أكبر على أن ما ورد في ذلك الإنجيل إنما هو من وحي الله تعالى ولو كان هذا الإنجيل منحولا بإسم المسيح كما يزعم الكفار من الصليبية المشركين ، لما جاء التأييد لما ورد فيه من قصة رؤية آدم عليه السلام على هذا النحو من أخبار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم والحق يشهد بعضه لبعض ، وشهادة الكذب بعضه لبعض لا تتأتى إلا عن تواطؤ مقصود وهو مما ثبت انتفائه هنا .
وهل يفترض عاقل أو يصدق مدرك إمكانية تحقق التواطؤ عن قصد هنا ؟، ولا يغركم هراء النصارى المكذبين ومن قلدهم من جهلة بأن الإنجيل برمته من وضع مسلم سواء أعجمي أو عربي ، فهذا من الكذب البين المستحيل على وجود مصداقية له ، وما أكثر الشواهد على سقوط هذه الدعوى وأقواها برأيي إغفال كاتب الإنجيل لقصة " المائدة " والتي صرح القرآن بنزولها من السماء على المعنى الحرفي ومع ذلك لا نجد كاتب الإنجيل إلا معرضاً صفحاً عن ذكر تلك الحادثة الآية بحسب ظاهر القرآن ، وإلا هي مما نص كاتب الإنجيل على ذكرها لكن ليس بالمعنى الذي ورد خبره بالقرآن بل المعنوي ، ولو أنه في حقيقة الأمر لم يخرج عن نطاق كونه من آياته الله تعالى ، قال عز وجل كما في سورة المائدة : ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ . قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ .
وفي ذلك أبلغ برهان على نفي كذبة الصليبية بأن الإنجيل إنما هو موضوع خصوصا في نسبة ذلك الوضع لمسلم ، كما ينفي دعوى عدم صحته كذلك بغض النظر عن نسبة وضعه لمسلم ففي كل الأحوال هذا الكذب منفي عنه ولو اتفقت الصليبية كلها على ذلك ، فالحق بين في ذلك لما ذكر هنا وفي غير هذا الكتاب ممن ناقش هذا الأمر وأبان عن تهافت باطل الصليبية عموما في أناجيلهم المنحولة حقا على المسيح عليه الصلاة والسلام .
وكل من نظر بعين الإنصاف والفطنة لما في مسألة نزول المائدة ما بين القرآن والإنجيل من فروق بالذكر ، سيكون بلا شك مقتنعا بأن هذا من أظهر الأدلة على نفي كون هذا الإنجيل كتب من قبل مسلم ليضاد ويحارب النصرانية الزائفة المدعاة كذباً وزوراً على يسوع المسيح .
ولو كان حقا ما زعموا هنا لما كان بوسع ذلك الكاتب الوضاع الإعراض عن ذكر قصة المائدة بذلك الإنجيل على النحو الذي قصه القرآن ، لكنا نرى الإعراض التام عن تلك القصة القرآنية والمفصلة فيه غاية التفصيل وعلى السبيل الحرفي ، أما في الإنجيل فذكر خبرها بطرف من الواقعية لكن بمعنى إعجازي خفي لا ظاهري كما ورد بالقرآن على السبيل القصصي الحرفي بما يناسب الحكاية الموجزة المناسبة للسرد القرآني كالعادة في حصول الإجمال في كلام الرحمان ، وقد أتفق وأجمع كل أهل الإسلام على المعنى الذي ورد بخبرها في القرآن لا يعرفون غيره ، حتى خيل لجميع المسلمين أن وقوعها كان بالمعنى الحرفي للقرآن أي أن السماء انشقت ونزلت منها المائدة عيانا والناس ينظرون ، فهلا دلنا أحدهم أين ذكر هذا في إنجيل برنابا ؟!، لم تذكر تلك القصة في الإنجيل بتاتا على هذا النحو ولو كان الكاتب لهذا الإنجيل مسلما كما زعم بعضهم ومنهم مترجمه للعربية لما أمكنه إغفال ذلك مع قولهم أن شواهد التوافق ما بين بعض ما ورد في إنجيل برنابا والقرآن كثيرة جداً يريدون الغمز هنا بأن كاتبه مسلم ! .
ولو كان مسلماً ما وسعه ذكرها إلا على ما تقرر بكتاب الله تعالى القرآن ، والأمر في هذا الوجه بين لا خفاء فيه .
وهذا تأكيد إضافي ينفي مزاعم الصليبية بالوضع على يد أحد من أسلم من اليهود وأراد بقصد سيئ التشكيك في عقائدهم .
حتى أن المسلمين اختلفوا فيما بينهم على معنى تلك الآيات وكان ذلك في جيلهم الأول ، فمنهم من حمل ذلك المطلب من الحواريين ليسوع المسيح على سبيل الكفر والعياذ بالله تعالى والشك منهم في قدرة الله تعالى وعليه للأسف رسم المصحف الذي جمع في زمان عثمان ، ومنهم من رفض ذلك بشدة وصحح لهم حمل ذلك على سبيل الطلب من يسوع نفسه لا على وجه الكفر بقدرة الله تعالى ، وقد أصاب الحق صاحب القول الأخير فيما أخطأ خطأً فادحا من قال بالأول من علماء السلف سواء من الصحابة ، وهم من أثبت حرف القرآن على آخر ما استقر عليه أمرهم بالمصحف ، أو من دونهم ممن قلدهم من التابعين وغيرهم إلى يومنا هذا .
وقولوا مثل ذلك في قصة تكليم المسيح الناس وهو بالمهد ، فبينما هي مفصلة بالقرآن نجد كاتب الإنجيل الصحيح يغفلها بالمرة ولا يأتي على ذكرها ، فهل لو كان الكاتب حقا مثل ما يزعم الصليبية أن يسعه إغفال ذكر هذا الأمر العظيم ؟ .
ما أحسب عاقل يفترض هذا ويسوغه بتاتا ، لكن لما كان كاتب الإنجيل التلميذ البار برنابا رضي الله عنه ممن لحق بيسوع عليه السلام إبان فترة دعوته النبوية الرسولية ، وكان جل تركيزه على ذكر ما شهده وكتبه من فم يسوع المسيح عن مجد الله تعالى وفضله ، وما نص على ذكره يسوع من تأريخ ابتداء أمر أمه عليها السلام وكيف كانت قصتها مع الملاك جبريل عليه السلام ، وكان أن أغفل ذكر تكليم المسيح للناس في المهد ، إما لأن يسوع لم يذكر له ذلك واقتصر على تدوين ما ذكره له وهذا هو المرجح لدي ، لأن الكاتب برنابا لما اعتذر ليسوع عن عدم مقدرته على تدوين ما حصل ليهوذا الخائن من تعذيب وصلب ، فقال له يسوع أن من شهد الواقعة من التلاميذ سيخبرك وعليك تدوين ذلك ، وبالفعل دون لاحقاً كل ذلك وقصة للناس في بيان تأريخ دعوة يسوع وما حصل له وما قاله وآخر ذلك لما عاد لأمه وتلاميذه بعد رفعه ، وأيضا ما حصل ليهوذا الإسخريوطي .
ولو كان هذا الكاتب للإنجيل وضاعاً وله إلمام بالقرآن كونه مسلم أو ممن أسلم من اليهودية أو الصليبية ، لما وسعه أبداً إغفال تلك القصة والنبأ العظيم المنصوص عليه من كلام ربنا الرحمان عز وجل عن سيرة يسوع المسيح ، فهو أحوج ما يكون لتلفيق تلك النسخة بزعمه أنها الإنجيل الصحيح من القرآن نفسه بما أنه مسلم على قولهم .
وهنا أعود لمزيد من الروايات الشاهدة لصدق ما ذكر في الإنجيل من مشاهدات آدم عليه السلام لإسمي الله عز وجل ونبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكن تلك الروايات من المواطآت وجنس التواتر على ذكر الحق ؟ ما أدري ما التواتر والمواطأة على الحق والإخبار بالصدق ؟ .
وكما هو معلوم بأن إنجيل برنابا الصديق رضي الله عنه إنفرد بهذا الخبر في ذكر قصة آدم ورؤيته اسم المصطفى صلى الله عليه وسلم في السماء أول ما رفع رأسه دون سائر الأناجيل ، وما منع أناجيل الكذب أن تنقل ذلك عنه إلا لما في هذه القصة من تزكية في ذكر اسم نبينا صلى الله عليه وسلم الخاتم ، ولو ما ذلك لنقلوها ودونوها نقلا عن برنابا مثل ما نقلوا عنه الكثير وحرفوا كيفما شاؤوا ، لكن هذه ما كان لهم نقلوها للمانع الذي قلت ، فانفرد لذلك هذا الإنجيل بذكر هذا المنقبة لنبينا ليجري الله تعالى بعد ذلك هذه الشهادة .
ومن تلك الروايات ما روي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها " من يومه ! " إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم عليه السلام ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ .
قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينيه ، فقال : أي رب من هذا ؟ فقال من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود ، فقال :
أي رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة ، قال :
أي رب زده من عمري أربعين سنة ، قال :
فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت فقال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ .
قال : أو لم تعط ابنك داود . فجحد فجحدت ذريته ، ونسي فنسيت ذريتهُ ) (18) .
وهذا فيه إثبات مشاهدة لآدم زائدة عما سبق ذكره ، عاين فيها أرواح ذريته كلها حتى عين له أحدهم وهو داود عليه الصلاة والسلام ، فما الذي يمنع تعيين المصطفى صلى الله عليه وسلم له على السبيل المبين بتلك الروايات والإنجيل ، مع إثبات السبق له في الخلق والفضل صلوات ربي وسلامه عليه ؟.
والله تعالى فعّال لما يريد ، يفضل بعض خلقه على بعض : ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ .
وحديث أبي هريرة الأخير هذا رواه جماعة منهم أبو زرعة الملقب بشيخ الشباب رواه مختصرا ، وفي أمالي المحدث عبدالملك بن بشران زاد : ( ثم رأى آخراً ساطعاً نورُه ليس مع أحد من الأنبياء من الأتباع مثل ما معه فقال آدم : من هذا أي ربّ ؟ قال : ابنك محمدٌ وهو أول من يدخل الجنةَ ) ( 19) .
أوري آدم أرواح كل ذريته من الأنبياء والرسل هم وأتباعهم ، وقد شهد القرآن لذلك في ذكره آيات الإشهاد فقال تعالى : ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ . وقال عز وجل : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ .
وكان كلمهم مشهداً عليهم أنفسهم قبلا كما ورد بذلك الخبر عن ابن عباس رفعه : ( أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم عليه السلام ، فلما أخرج من صلبه كل ذرية ذرأها نثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) ( 20) .
وكان يسوع عليه السلام قال : ( رأى كل نبي ـ يعني المصطفى ـ روحه نبوءة ) . أي بالمنام وقد يكون هذا من ذاك ، كله من خلال المنام ، ورؤيا الأنبياء حق .
وهذا أمر مشهود له في كل كتب الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين ، حتى موسى عليه السلام رآه بالمنام محمولاً على ذراعي إسماعيل ، وإسماعيل محمولا على ذراعي إبراهيم ، ويقابلهم إسحاق حاملاً بين ذراعيه طفلا ـ وهو يسوع نفسه عليه السلام ـ يشير بيده للمصطفى صلى الله عليه وسلم قائلا : ( هذا هو الذي لأجله خلق الله كل شيء ) (21) .
ومن تلك المرويات أيضا في كتابة اسم نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم على إحدى قوائم العرش ، أذكرها ولو كان فيها مطعن وفي بعض طرقها زيادات منكرة ليدرك الصليبية أن هذا ليس كما زعم أحدهم ، أنه مما لم يذكر قط في تراث المسلمين ومراجعهم ، بل ذكر وأكثر مما ذكر بالإنجيل وفي كل ما نقلته قبل من روايات في ذلك تكفي وتغني في إثبات هذه الحقيقة نقلا عن بعض مصادر المسلمين الموثوقة .
من ذلك ما رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي عاصم في السنة عن أنس رفعه : ( يا موسى نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد لمحمد أدخلته النار ولو كان إبراهيم خليلي وموسى كليمي . فقال : من أحمد ؟ فقال : يا موسى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منه ، كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض والشمس والقمر بألفي ألف سنة ، وعزتي وجلالي إن الجنة لمحرمة على جميع خلقي حتى يدخلها محمد وأمته ... ) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يا علي في العرش مكتوب أنا الله ، محمد رسولي ) ( 22 ) .
وفي الباب عن سهل بن سعد (23) , وعن أبي الحمراء (24) .
وكل هذا كما أسلفت يؤكد على مصداقية ما ذكر بالإنجيل وأن كاتبه نقله عن يسوع المسيح بحق ، ويسوع نقله من وحي الله تعالى له ، فكان حقا على المسلمين الإيمان بهذا وتيقنه لتحقق التواطؤ على ذكر هذه المنقبة العظيمة والفضيلة الجليلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكفى بكتاب من كتب الله تعالى ينص على هذا لنعتقد أنه حق ، فكيف وقد أكد ذلك بمجموع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكرت قبل ، ولا عبرة بتشكيك من شكك بذلك وجهله ، أو اعتقد كذبه ممن لم يقف على نص هذا الإنجيل المبارك ، أو وقف عليه ولم يؤمن به ، فكل هؤلاء ممن خرف أو سفه عقله حتى لم يصب الحق في ذلك يصححون بأدنى درجة من الأخبار عن كتاب من كتب الله تعالى ، ونحن أحق بالتوثيق والتعديل والتصحيح بمجموع هذه الطرق والألفاظ التي شهد لها كتاب يسوع المسيح المنزل على قلبه من لدن الرحمان عز وجل .
قال ابن تيمية في كتابه " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " من بعد ما تطرق لحديث عمر رضي الله عنه وفيه : ( أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي . . . ) . وفي الحديث أيضا : ( لولا محمد ما خلقتك ) .
قال ابن تيمية معلقا على هذا الخبر بكتابه المذكور : رواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه اهـ .
وأخذ رحمه الله تعالى بالتوسع بالحط على راوي خبر عمر رضي الله عنه السابق " عبدالرحمان بن زيد بن أسلم " وتصحيح الحاكم بالعموم .
ومن قوله في ذلك : وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر ، كما ذكر القاضي عياض قال : وحكى المكي أبو محمد وأبو الليث السمرقندي وغيرهما : ( أن آدم عند معصيته قال : اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي ـ قال ويروى تقبل توبتي ـ فقال الله له : من أين عرفت محمدا ؟ قال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه أكرم خلق عليك . فتاب عليه وغفر له ) .
ومثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين ، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا نعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين ،فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين ، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه ، واضطرب عليه فيها اضطرابا يعرف به أنه لم يحفظ ذلك ولا ينقل ذلك ولا ما يشبه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على نقلهم . . اهـ ( 25 ) .
وللرد على هذا أقول : قد سبق لي نقل كلامه رحمه الله تعالى والتعليق عليه على معنى حديث ميسرة في سؤال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( متى كنت نبيا ؟ ) ، وأعيد هنا قوله بتمامه ومداخلتي عليه ، المذكور سابقا ليتبين للقارئ وجه ردي التالي عليه :
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر ، وقد روي من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم بإسناده إلى ميسرة قال : قلت يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟ .
قال : ( لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش كتب على ساق العرش : " محمد رسول الله خاتم الأنبياء " ، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء ، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد ، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك ، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا بإسمي إليه ) .
ثم قال رحمه الله تعالى وجاعل الفردوس له نزلا :
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. !! اهـ .
فذكر الخبر الفائت ذكره عن عمر رضي الله عنه وقال معلقا :
فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة ( 26 ) .
فجعل حديث عمر من طريق عبدالرحمان بن زيد بن أسلم وحديث ميسرة هذا المطول لفظه بمنزلة الشاهد والشارح لما في الأحاديث الصحيحة ، ولم ينكر قط ما مر فيه من الاستشفاع والتوسل بإسم النبي المبارك صلوات ربي وسلامه عليه ، وما كان يليق أن يفوت ما لا يجوز أن يكون ديناً ويترك التعليق عليه ، وصمته هناك إقرار لما ورد وعدم استشكال ، ثم لما استشكل في قاعدته بالتوسل قرر ما قرر وطول التضعيف بل لمح للوضع ! ، ضاربا صفحا عن رواية ميسرة والتي تشهد لما روي عن عبدالرحمان بن زيد ولم تدع مجالاً ليختص عبدالرحمان بن زيد بذكر ذاك المعنى ، فهل كل ذلك من الإسرائيليات ؟ .
إن هذا محض تحكم وتصرف يفتقد المصداقية ، فتارة يجاز اللفظ ، وتارة أخرى يجتهد لإسقاطه ، ويفند تفنيدا ! ، يوماً هذا الخبر يصلح للدين ، ويوما لا يصلح مطلقا جملةً وتفصيلاً .
وهنا يأتي الرد على تخريج ابن تيمية بالقاعدة تلك بما قرره في إحدى فتاويه بحسب ما قررت هنا .
أما ردي من الناحية الشرعية على ما قاله بتلك القاعدة ، فأقول وبالله التوفيق :
قال تعالى : ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ . فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ .
لم يعلم أي أحد غير الأنبياء والرسل بنص الكلمات التي تلقاها آدم من ربه حين تاب عليه ، وهذا نصها : ( أخرجا من الجنة وجاهدا أبدانكما ولا يضعف رجاؤكما لأني أرسل ابنكما على كيفية يمكن بها لذريتكما أن ترفع سلطة الشيطان عن الجنس البشري ، لأني سأعطي رسولي الذي سيؤتى كل شيء . فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس .
فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، فبكى عند ذلك وقال : " أيها الابن عسى الله أن يريد أن تأتي سريعا وتخلصنا من هذا الشقاء ) (27) .
فهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم أول نبوءة له من الله تعالى فيها ذكر نبيه محمد المختار صلوات ربي وسلامه عليهما ، وهو الهدى الذي نصت عليها آيات الكتاب من سورة البقرة .
وبهذا يتضح التطابق والشهادة لما في الإنجيل من القرآن كلام ربنا المنزل على قلب محمد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، وأيضا بما روي عن طريق عبدالرحمان بن زيد وميسرة الفجر في هذا الأمر الجلل العظيم ، فكان القرآن مهيمناً على ما سبقه ، وكان رسولنا يزيد على ما فصل الأنبياء قبله بالبيان ، ولا أن يكون ما ذكر عند بني إسرائيل مثل السبة ، بل هم يشهدون لبعض ، اللاحق يزيد على بيان السابق .
وقد نص إنجيل يسوع المسيح الصحيح على جواز جنس هذا التوسل بحق الصالحين فكيف بحق محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعنى حقه هنا منزلته عند الله تعالى وقدره ، فقال عليه الصلاة والسلام لما توسل بذلك لشفاء احد المرضى بين يديه بعد أن تنهد :
أيها الرب الإله القدير لأجل محبة أنبيائك الأطهار أبرئ هذا العليل ( 28) .
أي محبتك يا الله لهم .
وفي موضع آخر قال : أيها الرب الإله القدير الرحيم ، ارحم وأصخ السمع إلى كلمات عبدك ارحم رجاء هؤلاء الرجال ، وامنحهم صحة لأجل محبة إبراهيم أبينا وعهدك المقدس (29) .
وهذا كله من جنس التوسل بالمنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، ومن قال بمنعها بدعاء الطلب عليه الدليل الصريح بالمنع ، وكيف يمنع والمسؤول المولى عز وجل ، إما يقبل أو يمنع ، ويكون المنع إن منع لا بسبب منزلة المتوسل به ، بل بالسائل المانع ، ويجري من ذلك ما يجري على عموم الأدعية والمسألة .
وننتهي بهذا لا إلى خصوص دلالة حديث عمر وميسرة بل للإنجيل نفسه كذلك وهو من كتب الله تعالى التي لم يقف على نصها ابن تيمية يقينا وإلا لكان له كلاما مختلفا عما قاله هنا ، وهو أرفع منزلة وأثبت شرعية في هذا الخصوص من تلك الأخبار لضعف سندها على ما قرروا ويعتمد عليه ، ما لم يأت نص صريح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بتحريم ذلك ، وكما أن النافي عليه الدليل على نفي حكم معين ، كذلك المثبت عليه الدليل على ذلك ، ولا أحسب رجلا بعقل رشيد يقوى على إنكار هذا الإنجيل وهو كتاب من كتب الله تعالى قد أتى مؤلفي هذا بإثبات المصداقية له بما لم يسبق له نظير ولن يأت بعده نظير ، وهو الدين الذي نعتقده وسنلقى الله تعالى به ، أن هذا إنجيل يسوع المسيح الصحيح الحق الذي أنزله الله تعالى على قلبه ، وعلى كل من قلد ابن تيمية أن يأتي بما ينقض ما ورد فيه وما ورد بتلك الأحاديث التي نصت على توسل آدم باسم ابنه محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا دين ولا يكفي نقض ذلك بعد ما شهد الإنجيل لما في تلك الأحاديث بمجرد الرأي سواء كان رأيا لإبن تيمية أو لمن هو أكبر منه أو أصغر .
ورغم ذلك أذكر أنه رحمه الله تعالى مع ما قرر في القدح بخصوص الحديث المروي عن عمر رضي الله عنه من طريق عبد الرحمان بن زيد ، إلا أنه قرر في تأصيله الخلاف على " السؤال به " ولم يقل به بالمنع على سبيل القطع ، بل حكى تجويز طائفة لجنس هذا الدعاء والطلب ، وأنه منقول عن بعض السلف ، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع . وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة ، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول :
( أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ) . وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ، فإنه صريح في انه إنما توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وهو طلب من النبي الدعاء اهـ ( 30) .
وهذا محض تحكم في حكم مشروعية هذا الجنس من الدعاء ، وابن تيمية ما أحوجه لتجويز ذلك بحياته دون مماته أو قبل خلقه للدليل ، فمدار الإجابة على مكانة نبيه عنده وسؤاله بتلك المنزلة سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم بالحياة أو لم يكن ، فهذا قيد زاده ابن تيمية من كيسه ، وبرأيي مدار مذهب ابن تيمية في هذا كله على ما روي عن عمر رضي الله عنه وهو مما ليس في هذا الأمر ولم يُرِده عمر رضي الله عنه ، فقوله : " كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا " .
فهذا مما لم يفقه معناه شيخ الإسلام وقد أخطأ بربط هذا بذاك ، وهما جنسان مختلفان في الدعاء والعبادة ، فمراد عمر رضي الله عنه أنا كنا نستسقي ونطلبك المطر بحياة نبيك بنبيك ، ولما قبضته فإنا سنفعل ذلك بوسيلة عمه ، وهي عبادة مشروعة جماعية لا تفعل إلا على هذا النحو ، ومن خلط ما بينها حكما وبين دعاء الفرد وسؤاله الله تعالى بما هو مشروع بالأصل ولم يدل دليل على المنع منه ، بل دلت جملة من الأخبار على جوازه ، فمن خلط ما بين هذا وهذا فقد أخطأ وجانبه الصواب .
وأجهل وأضل من اعترض على هذا الأمر في زماننا مفتي الضلالة الألباني ، وعلى عادته في التشدق والإستزاده على من سبقه والخوض بما يجهل ، زاد على إنكار من أنكر حديث عبد الرحمان بن زيد المذكور ما ورد فيه بخصوص سبق خلق النبي صلى الله عليه وسلم خلق آدم وكل المخلوقات ، وهو مما لم يتطرق إليه ابن تيمية بل وافقه بخصوص سبق خلق آدم بحجة أن هذا معنى ما روي في الصحيح لما سأل أحدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم : " متى كنت نبيا ؟ " .
وتشدق الألباني على ذلك متذرعا بما ورد بحديث عمر : ولولا محمد ما خلقتك . أنه مصادم لقوله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
وليس في هذا أي مصادمة إلا ما تصوره عقل الألباني ، فهو لم يفرق ما بين حقيقة وحكمة الغاية ، وبين حقيقة وحكمة السبب ، فكل شيء خلقه الله تعالى بقدر ، وقد قدر الله عز وجل لهذا الوجود سبق خلق محمد صلى الله عليه وسلم فكان ذلك سببا ، وفرض عبادته سبحانه وتوحيده وترك الإشراك به لمن خلق ، وهذه هي الغاية ، ومن خلط ما بين هذا وهذا فمن سفه عقله وضعف إدراكه أتى ذلك ، لكن أن يتشدق هذا المأفون وهو بهذه المثابة فهي من طوام هذا المنافق المرتزق ، ويكفيه ردي هنا أن وافق معتقد غلاة الصليبية في موافقتهم على إنكار سبق خلق محمد صلى الله عليه وسلم والذي أتى في تأكيده إنجيل يسوع المسيح عليه الصلاة والسلام ، وجملة من أحاديث رويت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فأبى هذا المنكوب إلا أن يجانب ذلك كله صرفا عن هذا الحق العظيم وإبعاداً عن التوفيق نعوذ بالله من مصيره .
وإن تعجب أيها القارئ من جهل هذا المنافق بما قال هنا ، فتمعن لما هو أعجب من ذلك حين افترض على كلمات الله تعالى التي تلقاها آدم بعد ما أذنب وبها تاب الله تعالى عليه والتي سبق مني قريباً الإشارة لها ، استناداً على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وفيه : ( أرأيت إن تبتُ وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال بلى ، قال : فهو قوله ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ ) .
ثم قال الألباني : له حكم الرفع من وجهين :
الأول : أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي .
الثاني : أنه ورد في تفسير آية ومثل هذا له حكم الرفع اهـ (31) .
وأي غيب هذا وهو قول غبي فإن آدم طرد وهو يوقن أنه طرد طردا قطعيا لا رجعة فيه ، وهو موقن أن ذلك مقدر عليه كما ثبت هذا عنه في محاججته لموسى عليه الصلاة والسلام ، فقد أيقن أن لا رجعة ولو تاب بل هو بالفعل تاب وتاب الله تعالى عليه بنص القرآن ، أما إن أصلح وهو صالح ، فقد أذنب وتاب لله تعالى وتاب الله تعالى عليه ، فأي صلاح سيطلب آدم بعد ذلك ليرجع للجنة ؟! .
وقد كان الإخراج له إن عصى وعيدٌ من قبل ونبوءة بلغه الله إياها ولما خالف تحقق الوعيد وتم طرده وكان آدم من أفقه الناس لهذه الحقيقة ، قال عز وجل : ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ .
ولما خرج قال تعالى مخاطبا آدم : ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى . قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ﴾ . لا يدرك من هذا آدم إلا تقدير المولى عز وجل عليه وعلى ذريته هذا الأمر وأن كل ذلك بقدر ، فأي رجعة يطمع بها آدم ، هذا من تخرصات ابن عباس في التفسير وقوله بجهل على مواعيد الله تعالى وأخباره .
مثل تفسيره الخطأ لقوله تعالى : ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ . التزم قراءة أبي ( موتهم ) فقال : ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى عليه السلام . فقيل له : أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهوى .
فقيل له : أرأيت إن ضُرب عنق أحدهم ؟ ، قال : يتلجلَجُ بها (32) .
فهل يعقل يكون هذا بحكم المرفوع لكونه تفسير آية ؟ ، كذاب الألباني ، فقد يأتي عنهم أكثر من تفسير بأكثر من معنى وبعضها يخالف بعض ، فهل كل ما فسره صحابي كان له حكم الرفع ، لكن هو التشدق وهراء رؤوس الجهل والنفاق .
وما يهمني هنا تقريره في هذا الفصل وبيانه أكثر من غيره ، هو كذبة المقتبسة من الإنجيل الصحيح وتحريفهم لهذه الكرامة العظيمة والمنقبة الربانية لحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ونسبتها ليسوع المسيح عليه السلام ، وكان هو من ابتدأ على التفصيل تقريرها بكتابه المبارك الإنجيل ، فتعالوا معي لنرى جريمتهم هذه وكيف حرفوا وقلبوا المعنى عن رسول الله المصطفى مع إنكارهم عليه ذلك ، ليثبتوه لأخيه يسوع المسيح على لسان يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام ، زورا وبهتانا فزعموا في ( إنجيل يوحنا ) القول :
والكلمة صار جسدا وحل فينا وقد أبصرنا مجده مجد وحيد من الأب مملوءا نعمة وحقا ويوحنا شهد له وصرخ قائلا هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي قد جعل قبلي لأنه أقدم مني ! .
إلى أن قال هذا الكاذب :
وهذه شهادة يوحنا إذ أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت فاعترف ولم ينكر واعترف إني لست المسيح فسألوه إذا ماذا ، إيليا أنت ؟ ، فقال :
لست إياه . النبي أنت ؟ أجاب : كلا ..
فقالوا له : فمن أنت لنرد الجواب على الذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك ؟.
فقال : أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال إشعيا النبي .
فسألوه وقالوا له : فلم تعمد إن كنت لست المسيح ولا إليا ولا النبي ؟ أجابهم يوحنا وقال :
أنا اعمد بالماء ولكن بينكم من لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي وقد جعل قبلي الذي لا أستحق أن أحل سير حذائه اهـ .
وقال أيضا المحرف المزيف من بعد ما وقف على ما قاله برنابا بهذا الخصوص ، وكم كان تلاعبه مكشوفا بنص تلك النبوءة ، ولذا نراهم يصرون على إقصاء الإنجيل الصحيح حتى ينفق على بهائمهم الضالة هذا الكذب والزيف السخيف ، وإلا كل عاقل إذا جمع ما بين ما قاله المسيح في الإنجيل الصحيح وبين هذا الهراء الذي زعموه أيقن بأن هذا كذب غير خاف والتصنع عليه بائن بالتكرير والتأكيد المتوالي ، فالكذاب لا يكذب إلا وهو يحب أن يصدق فلذا لا تجد في كذبه إلا التصنع وبذل الوسع لتغطية الحقيقة بمثل هذا التكرير وكذلك الإنفعالات المبالغ فيها في التعابير ، ومن لؤم هذا الكاذب هنا نجده شديد الحرص على تصديق كذبه فنرى المبالغة بالتكرير والتكرير لإيهام من يقرأ له أن ما يقوله صدق حتى كأنه ماثل أمام كل من يقرأه فيرى كم هو كاذب وجهه كذلك .
وقال أيضا ضمن هذا السياق للتأكيد على مـا زعم ولزيادة عليه بقوله :
وكان ذلك في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمده ، وفي الغد رأى يوحنا يسوع مقبلا إليه فقال هوذا حملُ الله الذي يرفع خطيئة العالم ، هذا هو الذي قلت عنه إنه يأتي بعدي رجلٌ قد جعل قبلي لأنه أقدم مني (33) .
وحتى هذه رفع الخطيئة هي الأخرى مبنية على اقتباس آخر من الإنجيل الصحيح وعليها قوام الملة الصليبية الكاذبة ، أخذوها من رفع العذاب عن أهل جهنم بحسب ما قص لنا يسوع في إنجيله حين يحضرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتم إخراج من دخل الجحيم من أهل التوحيد ، حين ذاك يوقف الله تعالى أثر جهنم على من كان فيها من بركة رسوله محمد وإظهاراً لفضله ، فسرقت هذه المنقبة هي الأخرى وركب عليها ركن من أركان الصليبية الباطل فجعلت في يسوع المسيح ليتحمل فيها بجسده وروحه خطيئة كل من يؤمن به مهما فعل ذاك الخاطئ ، فصارت تلك المنقبة بعد تزييفها بابا لكل شر وفجور وفحش والصليب معلق على الرقاب لا يخشون بشرهم الله عز وجل لعقيدة الفداء الكاذبة الباطلة هذه ، وهكذا الكذب يجر للشر ولا يهدي إلا للفجور .
وحين يراجع إنجيل المسيح عليه السلام يجد المطلع أن البشارة بالنبي الرسول الآتي والتمهيد لقدومه كما هو مقرر في نبوءة إشعيا عليه السلام ، إنما هي وبإقرار من المسيح نفسه بإنجيله بحق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أسمى مهمة له عليه السلام في خدمة هذا الرسول المكرم من الله تعالى غاية التكريم والتبجيل ، حتى أن كاتبا يهوديا مخلصا كان يخشى الله تعالى وهو بين يدي المسيح صرح له بحسب ما دون في إنجيله ، أنه اطلع في مكتبة رئيس كهنة اليهود على كتاب يؤكد هذا المعنى عن موسى عليه الصلاة والسلام نفسه ، وأن فيه دونت نبوءة في هذا الخصوص ، وقال له رئيس المجرمين حين علم تصفحه لذلك الكتيب وكان ذلك الكتيب ضمن مكتبة هذا الكاهن الطاغية : لا عليك من هذا الكتيب إنما كتبه إسماعيلي ! .
وهكذا هي أكاذيبهم متشابهة يغيبون الحق كما قال تعالى في سيرتهم ويظهرون الكذب بدلا منه سياسة إبليسية لطمس الحق في جيلهم والحرص على ذلك حتى إذا كان عهد من يخلفهم من أهل الشر والكفر على شاكلتهم ممن ستقوم لهم أكاذيبهم وتزييفاتهم براهين وتصديقات من بعد ما اخفوا واندرس ما يخالف ذلك ، ثم إذا ظهر شيء مما يخالفهم مما كان يوما من الأيام حقا محارب من أسلافهم من هنا أو هناك قالوا إنما صنعه إسماعيلي ، ثم لا يقتصرون على ذلك بل يجتهدون ليخفوه ثانية مثل ما حصل بالطبعة الإنجليزية الأولى للإنجيل ، وهكذا هو ديدنهم على الدوام ، وعلى طريقتهم سار مترجم الإنجيل النصراني المتعصب لباطلهم والمتمظهر بزي المحققين المنصفين وهو أكذب الكذابين ومقلده هذا الكاتب الكذاب الملبس مدعي الشبهة يقين لا يتطرق إليها أدنى شك مع أنها من الباطل وكل البراهين ضدها على ما بينت قبل ، فالمستعمر لليهودية زمن المسيح وقبل زمنه الرومان والنسخة التي تعلق في التشكيك بمصداقية الإنجيل بسبب أنها " ايطالية " وهي لغة لا يدري هذا الأبله أنها عبارة عن ترجمة عن نص هو وغيره يجهل مصدره ولا يتأتى الحكم على الفرع ممن يجهل حقيقة أصله ، وأصل تلك اللغة من الثابت تعاطي " بولص " لها وحتى برنابا بما بينته في الفصل الأول بإسهاب فليراجع هناك ، وبأي سبيل انتقل الإنجيل لأصل تلك اللغة الفرع إنما كان بطريق سالم ومن ثم تم نقله من تلك اللغة الأصل لما يقولون لغة حديثة ، سواء قلنا بانتقاله للأصل بالترجمة أو عن طريق الإعجاز والآيات ، فكل ذلك لا يدل إلا على التوثيق والأمانة في المرجعية للغة الرومانية الأصلية وهي كانت لغة المستعمر لليهودية التي أتقنها التلاميذ بحسب المنقول والتحقيق من مراسلات بعض التلاميذ .
وما دام ثبت لهؤلاء المبشرين اتصال مع أهل روما فمن أين لهذا المكذب اليقين بأنه لم تنفذ نسخة من الإنجيل لأهل روما بلغتهم القديمة ثم تبقى قرون طويلة إلى أن نقل للغة الحديثة نسخة منه ؟ فالكل معترف بصحة هذه النسخة ومقر أنها إنجيل المسيح ومحققيهم لا يشكون بثبوت الأصل من حيث الترجمة والنسخ ، إنما يقول بعضهم لمن يرجع هذا الكتاب ؟ ، والأقدمون لم ينسبوه لعربي بيقين حتى مترجمه للعربية لم يسعه للأمانة يعني ! نسبة هذا الكتاب لعربي بل أبعد ما أمكنه الوصول له بالتشكيك والفرية أنه يرجع ليهودي أندلسي مطلع على الإسلام فكتبه ، وهذا محض تخرص لا برهان عليه ولو لم يكن إلا اقتباسات وأكاذيب أناجيلهم السخيفة عن برنابا لكفى في دحض هذه الفرية ، فمطابقة تلك الإقتباسات الكاذبة مع ما ورد في ذلك الإنجيل المنسوب عندهم لوضاع مع كل هذه المطابقة إنما يشكك في مصداقية أناجيلهم دون إنجيل يسوع بقلم تلميذه البار برنابا رضي الله عنه ، وكيف يكون منها كل هذا التتبع لكلمات تلك الإقتباسات وما فيها من معانٍ عنه ثم لا يكون هو الأصل وهي الفرع عليه ، فالنقص يلحق نصوصها دونه ، والصدق عهد عليه وعليها بان الكذب مكشوفا للغاية والدليل على ذلك موضوع هذا "الفصل الرابع " نبأ قدم خلق المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وكذلك مما يدل على أصالة مصدر هذا الإنجيل ولغته الأساسية وهي لغة المسيح نفسه ، إقرارهم بأن أناجيلهم المحرفة موثوقة بالنقل والترجمة ، فما الذي يمنع إنجيل برنابا رضي الله عنه وهو الصحيح الحق أن يكون موثق المصدر في مرجعيته هو كذلك ، بل هو أولى بذلك فالكل يقتبس منه ، وإن كان فقد مصادرها من اللغة الأم لم يمنع الثقة بمرجعيتها فمن باب أولى أن يكون ذلك لهذا الإنجيل ، ويبقى الحكم على المتاح منها لفظاً ومعناً ولإنجيل برنابا السبق بذلك ، حرفاً ومعناً بلا شك .
ثم إنه لا يخفى ثبوت قصد برنابا وبولس للرومان بموطنهم الأصلي بالدعوة ، وهذا مما ثبت تأريخيا لا يسع الجدال في ثبوت هذه الحقيقة ، وهو مما لم يثبت لغيرهم مثل ما ثبت لهم ، ما يحتم بديهة وصول نسخة من الإنجيل لهم وهو أصل للدعوة ولا شك خصوصاً مع العلم بالتزام بولص لكاتب الإنجيل في ذلك المجهود الدعوي .
ومن المؤكد سيكون ذلك الإنتقال بلغة المسيح ، أو ليكون باللغة اللاتينية أو السريانية أو أي لسان المهم أنها استقرت هناك إلى أن أظهرها الله تعالى حتى وصلت إلينا من بعد تلك القرون الطويلة ، فهل أتيح النقل لأحد الأناجيل مثل ما أتيح لهذا الإنجيل .
أعود لأقول : كذلك حين يراجع الإنجيل الصحيح نجد المسيح وهو يثني على سيده النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم حتى أنه يقول فيه تلك العبارة " مع أني لا أستحق أن أحل سير حذائه " والتي اقتبست كذباً وحرفت من المسيح لمحمد ، لتكون من يحيى المعمدان للمسيح نفسه ، حسداً وتحريفاً للكلم من بعد مواضعه مثل ما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية فقال في وصفهم : ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ .
وحتى هذه التساؤلات التي اقتبسوها من الإنجيل الصحيح للمسيح كانت من كهنة اليهود بحق المسيح نفسه حرفت وقلب معناها لتصبح سؤالات بحق المعمدان يحيى عن المسيح نفسه ، قلب يراد أن يكون للإنجيل الصحيح بالكمال والتمام في كل شيء وزيادة على ذلك دس معتقدات الكفر والشرك بين كل هذه الأكاذيب والإقتباسات الملعونة ، وكل معتقد باطل ملعون جعلوا له عماد وأسس من اقتباساتهم من ذلك الإنجيل ما ينم عن حقد دفين للفاعل مبذول له جهد كبير الغاية منه تدنيس الحق الذي جاء وبشر به يسوع المسيح عليه الصلاة والسلام مثل ما تنبأ هو نفسه عن ذلك بالتمام ، والعمل على عكس أهداف بشارته ودعوته عليه الصلاة والسلام ، ومن أخص ذلك نبوءة رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم وإجلاسه على يمين عرش الرحمان تلك النبوءة الزبورية المؤكدة بإنجيل المسيح الصحيح والتي على تحريف معناها قوام الملة الصليبية الشركية هي أيضا ، وسيأتي معنا لاحقاً في " الفصل الخامس " إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام حولها وشرح كيف كان اقتباسهم الكاذب من تلك النبوءة من الإنجيل الصحيح للمسيح وما وجه التحريف الذي قاموا به .
وانظروا معي هنا كيف تصنع المقتبس الكذاب لتحريف تلك النبوءة في قدم خلق محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل ذلك في يسوع المسيح عليه السلام : " فاعترف و ( لم ينكر ) و ( اعترف ) " انظروا فهذا نصه بهذا التكرير المكشوف الدال على الكذب والتصنع بكل جلاء ، حتى أنه يقوم على عبارات كاملة يكررها من مثل قوله :
( هو الذي يأتي بعدي وقد جعل قبلي ) = ( هذا هو الذي قلت عنه إنه يأتي بعدي رجلٌ قد جعل قبلي لأنه أقدم مني ) اهـ .
وأبين شيء وأكبره في الكذب تحريفاته العبثية لنبوءة إشعيا عليه السلام وذلك في قوله : أنا صوت صارخ في البرية قوموا ( إشعيا : أعدوا ) طريق الرب كما قال إشعيا النبي (34) .
والآن نراجع نص هذه النبوءة بحسب ما ذكر في إنجيل المسيح عليه الصلاة والسلام وذلك بعد ما قص خبر آدم ورؤيته تلك الكتابة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فوق باب الجنة :
فإن رؤساء الكهنة تشاوروا فيما بينهم ليتسقطوه بكلامه لذلك أرسلوا اللاويين وبعض الكتبة يسألونه قائلين :
من أنت ؟ فاعترف يسوع وقال :
الحق أني لست مسيا . فقالوا : أأنت إليا أو ارميا أو أحد الأنبياء القدماء ؟
أجاب يسوع : كلا .
حينئذ قالوا : من أنت قل لنشهد للذين أرسلونا ؟
فقال حينئذ يسوع :
أنا صوت صارخ في اليهودية كلها . يصرخ : " أعدوا طريق رسول الرب " : كما هو مكتوب في إشعيا .
قالوا : إذا لم تكن المسيح ولا إيليا أو نبيا ما فلماذا تبشر بتعليم جديد وتجعل نفسك أعظم شأنا من مسيا ؟!
أجاب يسوع : " إن الآيات التي يفعلها الله علي يدي تظهر أني أتكلم بما يريد الله ولست أحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه ، لأني لست أهلا أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمونه مسيا الذي خلق قبلي وسيأتي بعدي وسيأتي بكلام الحق ولا يكون لدينه نهاية " .
فانصرف اللاويون والكتبة بالخيبة وقصوا كل شيء على رؤساء الكهنة الذين قالوا :
إن الشيطان على ظهره وهو يتلو كل شيء عليه اهـ (35) .
فهذا النص الذي اقتبس منه الكذاب ما ذكر قبل وعلى طريقتهم التي أخبر المولى عز وجل بكتابه العزيز تم تحريف هذا الكلم من بعد مواضعه فحذفت كلمة " رسول " من نبوءة إشعيا التي نزع لها مستدلاً مسيح الله تعالى لتبقى كلمة " الرب " فيكون ذلك عندهم لعنهم الله تعالى " يحيى المعمدان " هو من يمهد الطريق " للرب " لا لرسول الرب ، وعلى هذا ركب الإعتقاد الباطل والذي نفاه المسيح بحياته عن نفسه ، وقال بأنه من قول الشيطان ليخدع الناس ويوقعهم بالكفر واستحقاق سخط الله ولعنته بكل امتياز ، وهو عين ما فعله هؤلاء المقتبسة .
وبنظرات فاحصة لهذا النص الرباني المدون بإنجيل المسيح الصحيح والذي عبثت به الأيدي الشيطانية وحرفته من بعد مواضعه المثبتة بالحق ، فإن التحريف والتبديل جرى عليه مثل ما يرى الفطن بالمقارنة ، لكن ما يهم هنا تقريره أكثر هو تفصيل الصدق لصالح من يكون ، ومن الذي اقتبس من الآخر ، فالمقتبس لا محالة هو الكاذب إذ أنه أنقص من النص وقدم وأخر عبثا يحاول إثبات الباطل محل الحق المبين .
ولا يمكن للباحث عن الحق هنا أن يتجاهل إن كان منصفاً متجرداً قول المسيح نبوءة بهذا النص ما يلي :
أولا : أن ما يدل على أنه يقول الحق بهذه النبوءة وغيرها عن مقام المسيا ومن يكون وما علاماته ، أن الله تعالى أجرى على يديه تأييدا منه ليسوع تلك الآيات الباهرات التي لا زال يراها بنو إسرائيل وغيرهم مدة دعوته عليه السلام فيهم إلى أن رفعه الله تعالى وطهره من دنسهم .
ثانيا : أن مسيا كما كانوا يسمونه سيأتي بعده وهو خلق قبله وقبل كل شيء وأنه لن يكون لدينه نهاية ، وسيأتي بكلام الحق .
وهذا عين ما تحقق بعد المسيح وإعلان إنجيله بقرون عديدة ، فقد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان اسمه المبارك محمد صلوات ربي وسلامه عليه وعلى المسيح المبشر به ، وبالفعل وبالحق أنزل الله تعالى عليه كلامه المقدس وأعلنه للخلق مثل ما أعلن المسيح إنجيله وبلغ الدنيا كلها ، كلاماً ربانياً من ذات الإله تعالى لا يمكن أن يأتي بشر بمثله وعصمه الله تعالى من تسلط أتباع الشيطان من أن يحرفوه ويبدلونه من بعد مواضعه مثل ما حصل ذلك بحق كتب الأنبياء في بني إسرائيل ، وكما حصل من تدنيس لإنجيل المسيح الصحيح عليه السلام إلى أن شاء الله تعالى وأعلن من جديد وسيبقى سالماً بحمد الله تعالى ظاهرا بين يدي نزوله المبارك صلوات ربي وسلامه عليه وسيشهد له بالصحة مثل ما تشهد له الآن هذه الشواهد التي أسطرها هنا بفتح الله تعالى وتوفيقه .
والآن أقول : بكيد الشياطين ذاته جعل الله تعالى شهادة للإنجيل الصحيح ، إذ هم لم ينقلوا كامل نص ذلك الحديث ليحرفوه كله ، بل اقتصروا منه على غايتهم فقط ومبلغ باطلهم ومكرهم ، وتركوا جهلا منهم أبين شهادة لصحة ما نقلوا منه وحرفوا عليه ومن ثم نفوه مكذبين صحته .
فمن يقدر يزعم أن هذا الكلام آنف الذكر ليس فيه هذه النبوءة العظيمة في وصف أظهر علامات " المسيا " :
يأتي بكلام الحق ( أي كلام الله تعالى القرآن ) .
لا يكون لدينه نهاية .
وهذا عين ما حصل ، كلام الله بلغ كل الشعوب على وجه الأرض ، وثبت أنه كلام الله تعالى من أوجه كثيرة إعجازية وأتى الله تعالى لتصديق نبوءاته بتأويل الكثير والكثير لا يسعني هنا التطرق لذكرها عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ، المهم أن تلك العلامتين تحققتا من الله تعالى لنبيه كما نبأ الخلق المسيح عليه السلام في إنجيله .
فدين المسيا عليه الصلاة والسلام لا نهاية له ، لم ينسخ من الله تعالى ولم يجعل الله تعالى في خلفه نبي بل أخبر أنه خاتم النبيين أي لا دين بعده ولا شريعة بعده ، وهنا صدق الله تعالى ونبيه المسيا ما ذكر المسيح من قبل بإنجيله الصحيح .
وبثبوت هذا بإنجيل برنابا وبتصديق الله تعالى لكل ذلك بما لا ينكره عاقل ، بل هو أمر ضروري التصديق حتمي اليقين مثل ما أنه لا يمكن لأحد إنكار وجود الشمس فوق رؤوس الخلائق ، كذلك تصديق هذا لنبوءات الإنجيل عن مسيا وما سيكون عليه لا يمكن لأحد إنكاره إلا من الجهلة الكفرة أتباع الشياطين .
وعليه نعلم ضرورة أن إنجيل برنابا هو من اقتبس منه أولئك الكذبة الفجرة ليحرفوه ويفسدوه ، ليطمسوا نبوءاته الحقة تحريفا للكلم من بعد مواضعه ، قال عز وجل : ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً . مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾ .
ومواضعه هنا المراد بها إنجيل المسيح وكتب الأنبياء مثل ما رأينا بنبوءة " إشعيا " عليه السلام عن المسيح ومهمته التبشيرية فيمن سيأتي بعده وما هي علاماته وما هو اسمه المبارك .
فقد تتبعوا كل ذلك إلا ما قدر الله تعالى عليهم فوته لتقوم بذلك الشهادة للإنجيل ، تتبعوا كل ذلك تحريفا من بعد ما وضعه الله تعالى على ألسنة أنبيائه في كتبهم التي دونوها بأنفسهم أو أمروا من يدونها من أتباعهم .
وجزاءً لهم على ذلك إن أصروا ولم ينتهوا أنه سيلعنهم كما لعن أهل السبت ومسخوا قردة وخنازير ، وهذا وعيد لازم وسترون بإذن الله تعالى قسس وحاخامات العصر قردة وخنازير .
وقال عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ .
وهذا تأكيد للوعيد السابق وأن الله أعد لهم في الدنيا خزي وهو المسخ والهزيمة النكراء على أيدي أتباع محمد الرسول المجتبى قبل أن يخلق الخلق كله ، وسيكون ذلك بقيادة حفيده ولي الله تعالى ورسوله المهدي عليهما الصلاة والسلام .
وهنا أفادت الآية الكريمة وكشفت الغطاء عن مقصدهم بذاك الإقتباس والتحريف والطمس والإخفاء ، وهو أنهم بعد عملهم هذا وتكريسهم بذلك ما يريدون من باطل لعل الخلق يقبلون ما فعلوا من غير تمحيص ولا تفنيد ، أو أن الله تعالى يدعهم وما يمكرون لا يكشف زيفهم ويفضح مخططاتهم ، فيصرون بعد ذلك لعل الله تعالى يسلم لهم واقعهم هذا ويتقبل أمرهم الذي فرضوه وأرادوا له أن يكون واقعاً مقضياً ، تعالى الله الحق عن سفاهة عقولهم وهوان مكرهم ﴿ إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ ميثاق فرض الواقع من خلال تسلسل التحريفات وطمس النبوءات طوال القرون الماضية وإلى أن يطمس الله وجوههم جراء عملهم السيئ هذا ويمسخهم قردة وخنازير مثل ما مسخوا آيات أنبيائه وشوهوا نبوءاتهم وحرفوها عن حقيقتها النورانية لظلمات إبليسهم .
وأقول هنا : بنفي أن المقتبس هنا برنابا لأن الله تعالى صدق زياداته على ما أنقص الملاعين باقتباساتهم الكاذبة وبترهم البين لما دوّن بالإنجيل ، وأكدها بالواقع أيما تأكيد والحق لا يصدق إلا الحق مثله وكذلك الكذب إنما يشهد للكذب من جنسه ، وتصديق الله تعالى لما نجده مدونا فيما كتب الصديق برنابا إنما يدل على أن نص برنابا هو الأصل الأساس وأن تلك التي بترت من نصوصه وأغفلت من الكذبة الفجرة أصلية منه ضرورية في سياق أخباره هناك ، وعليه علمنا يقينا بأن نصه صحيح مثبت بالحق وأن من عبث به ونقله لكتاب آخر وزعم أنه الإنجيل الحق كاذب ليس إلا ولم يقم الله له شهادة حق ولا تصديق من برهان كما أقام لما ذكر في برنابا وقال بأنه إنجيل المسيح عليه الصلاة والسلام .
ولا يضير نص الإنجيل الصحيح بعد ذلك تشكيك كل أحد ولو لم يعلم يقينا من أي لسان نقل نصه لـ " النسخة الإيطالية " وهي الشبهة التي لا زال يرددها قسس النصارى من أعلن هذا الإنجيل قبل عشرات السنين إلى وقتنا هذا بدعوى أن هذه اللغة الإيطالية كانت حديثة ، وحديثة كانت أو قديمة فكل هذا لا يفيد بشيء أمام تأييد الله تعالى لما ورد به من نبوءات حق صدقها الله تعالى بأصول عظيمة من أصول دين محمد صلى الله عليه وسلم وتأريخ دعوته ودعوة أمته من بعده إلى أن بلغ الإنجيل نهايات نبوءاته بما أخبر عن حفيد المسيا " المهدي الرسول هو كذلك " فإن اسم " أحمد " المذكور في القرآن الكريم والمنصوص على أنه بشارة عيسى من قبل في إنجيله ، إنما يراد بذلك البشارة بكل منهما المسيا وحفيده المهدي عليهما الصلاة والسلام وكان اسم " أحمد " يدل على هذا المعنى ، لذلك يرى القارئ لهذا الإنجيل التصريح بهذا الاسم " محمد المبارك " ولم يقل ( أحمد ) !! ليستفاد من هذه النكتة أبين الرد على من كذب ولبس بأن يكون واضع الإنجيل يهوديا أسلم أو نصرانيا فكتب الإنجيل ونسبه للمسيح ، إذ لو كان هذا صحيحا لم يقع كاتب الإنجيل بهذا الخطأ الفاضح ويخالف القرآن فيما أثبت بنص بشارة المسيح فذكر ( أحمد ) ولم يذكر ( محمد ) كما هو المثبت في نص الإنجيل الصحيح ، ما يدل على نفي فرية الصليبية بأن واضع هذا الإنجيل من زعموا وهو هنا يتجاهل المثبت في القرآن في ذكر اسم النبي المسيا بعد يسوع المسيح بـ ( محمد ) لا ( أحمد ) وهل بعد هذا برهانا يطلب في تحقيق الصدق من الكذب في هذه الأناجيل وأيها هو إنجيل يسوع بن مريم الصحيح .
وهذه وربي من أبين البراهين على أن مدون الإنجيل تلميذ المسيح عيسى عليه السلام ، وأنه الكتاب الحق الذي نزله الله تعالى على قلب مسيحه يسوع ، كتبه رجلٌ لم يقف على القرآن وإلا ما خالفه ، فأشد اجتهاد الكذاب أن لا يكشف كذبة ومن قدر على وضع مثل هذا المتن كاملا بما وصف من حسن تعبيره واطلاعه الواسع لا يمكن أن يكون ساذجا غافلا لهذا الحد حتى أنه يخالف ا لقرآن وهو بصدد تمجيد محمد صلى الله عليه وسلم بذكر اسمه على خلاف ما تقرر في القرآن العزيز وهذا أبين برهان على أن كاتب هذا الإنجيل صادق لم يحرف ولم يطمس شيء ، وإلا ما تأيد من لدن الله تعالى بهذا الذي تقرر هنا .
----------
(1) الإنجيل الصحيح ( الفصل 90 ص 151 ) .
(2) الإنجيل الصحيح ( الفصل 43 ص 94 ) .
(3) الإنجيل الصحيح ( الفصل 96 ص 160 ) .
(4) الإنجيل الصحيح ( الفصل 19 ص 60 ) .
(5) الرد على الكتاب المسمى إنجيل برنابا : سامح كمال ص 30 .
(6) ميزان الاعتدال ( 4/199 ) .
(7) المستدرك ( 4/1583 ) .
(8) مسند السراج ( 3/236 ) .
(9) ميزان الاعتدال ( 5/299 ) .
(10) مستدرك الحاكم ( 4/1583 ) .
(11) الإنجيل الصحيح ( الفصل 39 ص 53 ) .
(12) رواه أبو القاسم تمام في فوائده عن سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة .
(13) راجع فوائد تمام ( 2/15 ) وأبو نعيم في الحلية وابن أبي حاتم في تفسيره وطبقات ابن سعد ( 1/119 ) وميزان الاعتدال للذهبي ( 3/191 ) .
(14) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ( 5/53 ) .
(15) رواه جماعة منهم ابن سعد ( 1/118 ) .
(16) مجموع الفتاوى ( 1/353 ) .
(17) قال محمد قطب : ومن عجبٍ أن المترجم " سعادة " يرى في هذا التوافق دليلا على ان مُحررَ إنجيل " برنابا " إنما هو مسلم ـ نصراني الأصل أو يهودي الأصل ـ ! فهو يميل بالدليل إلى غير وجهته وحقيقته ، والأولى أن يقول بوحدة المصدر اهـ . " نظرات في انجيل برنابا ص 85 " .
(18) الفوائد المعللة لعبدالرحمان بن عمرو المشهور بأبي زرعة شيخ الشباب ( 177 ) .
(19) الأمالي لعبد الملك بن محمد بن بشران ( 1/289 ) .
(20) رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ( 2/149 ) .
(21) الإنجيل الصحيح ( الفصل 191 ص 286 ) .
(22) فوائد محمد بن أحمد الصواف انتقاء الدارقطني ( 75 ) .
(23) ذكره السيوطي في الدر المنثور وعزاه لابن عساكر .
(24) عزاه صاحب الدر المنثور لإبن قانع والطبراني وابن مردويه .
(25) قاعدة جليلة في التوسل ( ص 101 ) .
(26) مجموع الفتاوى ( 1/353 ) .
(27) الإنجيل الصحيح ( الفصل 41 ص 91 ) .
(28) الإنجيل الصحيح ( الفصل 11 ص 16 ) .
(29) الإنجيل الصحيح ( الفصل 19 ص 28 ) .
(30) حديث الأعمى رواه الترمذي وابن ماجة صححه غير واحد من العلماء .
(31) التوسل والوسيلة ( ص 113 ) .
(32) سنن سعيد بن منصور ( 4/1427 ) .
(33) يوحنا الفصل الأول .
(34) إشعيا ( 40/3 ) إنجيل يوحنا ( 1/23 ) .
(35) الإنجيل الصحيح ( الفصل 42 ص 3 ) .