قبح دعواه تكفير من قال وقع في المصحف لحن
في الفصل السابق الثالث جليت عن بيان مدى ضعف دعواه تكفير من قال بفوت شيء من القرآن على تلك الصحف التي اجتهدوا يجمعوا فيها القرآن كلام الله تعالى من صدور الرجال خشية أن يذهب عليهم الكثير منه بموت أولئك القراء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك الجمع خشية من ذلك في زمان الصديق ومن ثم في زمان عثمان رضوان الله تعالى عليهم .
تلك الدعوى الشنيعة الفضيعة التي أراد هذا الكافر المنافق الزاقها بالمهدي عليه الصلاة والسلام ومن آمن بدعوته ، جاهلا أو متجاهلا أن هناك الكثير من الصحابة من قال بذلك بحسب ما أثبتت الروايات المشار إليها في كتاب " الختم " وفي الفصل السابق من هذا الكتاب للرد على ذلك الضال المنافق والكشف عن مدى ضعف تلبيسه بذلك وأنه ارتكب جرما عظيما حين ألزم دينه وعقيدته بإكفار الصحابة رضوان الله عليهم ممن قال بما ذكرناه عنهم ، اسقاط شيء من القران كلام الله تعالى أو فوات شيء منه حين أرادوا جمع القرآن كلام الله تعالى بمصحف واحد .
وأحب أن أنهي هنا في ابتداء هذا الفصل الرابع المخصص للكلام على تهمته الشنيعة الفضيعة الثانية إلزام عقيدته وإيمانه ودينه اكفار من قال بحصول شيء من اللحن فيما جمعوه بين الدفتين في زمان عثمان ، ومقصده كذلك إلزاق هذا بالمهدي ومن آمن بدعوته ، جاهلا أو متجاهلا أن هناك أيضا من قال بهذا من الصحابة وعلى رأسهم عثمان رضوان الله تعالى عليه .
أحب أن أنهي هنا ما ابتدأت تفصيله في الفصل السابق عن دعواه الكاذبة تلك ومحاولة إيهامه الجهلة ممن يقرأ له طعونه في أصول دعوة الحق دعوة المهدي ، بأنا وحدنا من يزعم ذلك وأنا مخالفون بذلك إجماع الأمة ، وزيادة على مافات من بيان أن هناك بالفعل ما فاتهم وبه قال جمهرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقول :
زيادة على ما فات تقريره في هذا الخصوص أن هناك من الآيات ما التبس على مثل ابن عباس وأنس رضي الله تعالى عنهما وغيرهم ، هل هو قرآن أم لا ؟!
وهذا زيادة على ما تقرر قبل في بيان هل فات إلحاق شيء من كلام الله تعالى لما جمعوا أم لا ، فهذا ابن عباس لا يدري ما يتلى من كلام الله تعالى هو قرآن أو هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يتلوه الصحابة ومنهم أبي أثبتهم في ذلك ، كان يتلو ذلك على أنه كلاما لله عز وجل وقرآنا منزل وتحديدا من سورة البينة ، والأخبار في ذلك متواترة ، والذي ورد عن ابن عباس وفيه شكه هل هو قرآن أو هو من قول رسول الله مما اتفق عليه في البخاري ومسلم : قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ( لو أن لابن آدم ملء واد مالا ؛ لأحب أن له إليه مثله ، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) . اللفظ للبخاري .
وفيه : قال ابن عباس : فلا أدري من القرآن هو أم لا .
واتفقا على رواية معناه من حديث أنس وانفرد مسلم عن البخاري عن أنس بقوله فيه أيضا :فلا أدري أشيء أنزل أم شيء كان يقوله . (1)
ورواه البخاري من وجه آخر عن أنس قال : وقال لنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي قال : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : ( ألهاكم التكاثر ) .
وما حكاه البخاري عن أنس منفردا عن مسلم دال على تخليطهم في ذلك وشديد ارتباكهم فيه ، كيف أنه قرآن لكنه مما لم يدون بالمصحف المجموع ، والله يعلم ممن هذا التخليط الذي حكاه البخاري رحمه الله تعالى ، لأن أبي ثبت عنه خلاف تلك الإيمائة الباردة الكاذبة على نسخ تلك الآيات ، وهل تنسخ أخبار الحقائق التي يحكيها الله عز وجل ، ولا حكم شرعي عملي في ذلك لتنطلي على الناس تلك الدعوى السمجة في نسخ تلك التلاوة ، إنما هو العذر البارد لما حصل من اسقاط تلك الآيات عن جمع المصحف ، وقد ورد عن أبي خلاف هذا الزعم المروي عمن لا يدري ذلك قرآنا كان أو هو من كلام الله عز وجل المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم ، حتى روي عن صحابي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه في الصلاة ، وسيأتي إيراد هذا الخبر لاحقا إن شاء الله تعالى ، بعد ما أورد ما يثبت عن أبي أنه يراه قرآنا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر أن يتلوه عليه ، وأنه كان يزعم أن تلك الآيات مما سقط ولم يلحق بالمجموع من القرآن في زمان الصديق رضي الله تعالى عنه ، روى ذلك ابن شبة في تأريخ المدينة قال عن ابن عباس : قلت لعمر إن أبيا يزعم أنكم تركتم آية من كتاب الله لم تكتبوها ، قال : أما والله لأسألن أبيا فإن أنكر لتنكرني . فلما أصبح غدا على أبي ، فقال له : إن هذا يزعم أنك تزعم أنا تركنا آية من كتاب الله لم نكتبها . فقال : إني سمعت رسول الله يقول : ( لو أن لإبن آدم ملئ واد ذهبا ابتغى إليه مثله ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، والله يتوب على من تاب ) . قال عمر :
أفنكتبها ؟ ، قال : لا آمرك ، قال : أفندعها ؟ ، قال : لا أنهاك ، قال : كان إثباتك أولى من رسول الله ، أم قرآن منزل ؟!
وفي رواية عند ابن أبي شبة نفسه قال أبي : قد كان هذا فيما يقرأ ، قال عمر : أكتبها في المصحف ؟ قال : لا أنهاك ، قال : أتركها ؟ قال : لا آمرك اهـ . والراجح هذا هو الصحيح من السؤال وبجوابات أبي هنا يستقيم الكلام ، بما أن أبي رضي الله تعالى عنه يرى أنه قرآن ، فهو لم يمانع من كتابة كلام الله تعالى هذا بالمصحف لأنه كلام الله تعالى وهو متيقن من ذلك ، وكونه لا يأمره بكتابته حسب الرواية السابقة الركيكة في نقل نص جواب أبي مثل ما ثبت بالرواية التالية ، لعله قاله لأنه لا يرى في ذلك إلا عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا ما يعتذر به لأبي في ذلك الجواب وقد اكتفى بتثبيت ذلك عنده وعند غيره ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا في الصلاة كما سيمر معنا إن شاء الله تعالى ، فكان جوابه لأمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه معناه : إن فعلت فلا أنهاك عن ذلك بما أنه كلام لله تعالى وقد جمعتم ما جمعتم منه ، فما يمكني نهيك عن خصوص هذا الذي بلغك مؤخرا أن تلحقه لما سبق وجمعتم ، وإن أبيت وشككت كما شككت بغيره مما لدي فشأنك ، فهذا معنى جواب أبي لعمر بخصوص تلك الآيات .
وقوله إن ترك الحاقها للمصحف عمر واختار ذلك : لا آمرك . دليل على يقين أبي أن تلك الآيات من كلام الله عز وجل ، لأنه تورع رضي الله تعالى عنه من أن يؤيد ذلك لأنه منكر لتضمنه انكار أنه من كلام الله تبارك وتعالى ، وهذا لا يمكن يقدم على التفوه به فيأثم عند نفسه أقلها .
ولم ينفرد أبي رضي الله تعالى عنه بقوله أن تلك الآيات من كلام الله عز وجل فقد روى مسلم رحمه الله تعالى عن أبي موسى الأِشعري رضي الله تعالى عنه قال : إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها : ( لو كان لإبن آدم واديان من مال لإبتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) .
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني قد حفظت منها : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة ) .( ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن )
أقول : ولا يمكن يصحح هذا اختيار عمر رضي الله تعالى عنه ضد أبي في قوله : أقضانا علي وأقرأنا أبي وإنا لندع كثيرا !! من لحن أبي ، وإنه يقول : أخذته من في رسول الله ولا أدع شيئا سمعته من رسول الله ، والله يقول : ﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ﴾ . ( رواه المستغفري في فضائل القرآن 1/340 وابن شبة في تأريخ المدينة 347 )
قلت : هذا والقرآن يتنزل ، أما أن ينسخه نسيان الناس فلا ، لا ناسخ ولا منسوخ إلا بوحي من الله عز وجل ولا وسيط في ذلك غيره صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا ما كان يقرأها ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو الحق في معناه ومفهومه : ﴿ ما ننسك من آية أو ننسخها ﴾ (2) . فهو خاص بالوسيط لا سواه .
وهذا المذهب هو الذي جر عليهم ما جر في تخلف شيء من كلام الله تعالى لم يلحق بالمجموع ويكفي ما ثبت دليلا وبالتواتر أن هناك ما فاتهم إلحاقه للمجموع ، ومن ذلك شهادة عمر رضي الله تعالى عنه بقوله : ( وإنا لندع كثيرا مما يقول أبي ) . فهذا يكفي وباعتراف الفاروق رضوان الله تعالى عليه أن ترك الكثير من ذلك ، وهذا عن أبي فقط فكيف بغيره ؟!!
تارة بدعوى اللحن كما مر معنا قريبا ذكر ذلك عن عمر في أبي ، وتارة بدعوى أنه منسوخ مثل ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه في قراءة : ( فاسعوا ) فيختار ( فامضوا) ، ويقول : أبي كان أقرأنا للمنسوخ . ( رواه ابن سلام في كتابه وابن شبة في تأريخ المدينة 1/377 ) .
ووافق عمر ابن مسعود على ذلك الحرف ، فما المثبت في رسم المصحف ؟!
المثبت ما استنكره عمر وادعى عليه أنه منسوخ ، فهذا هو المثبت في رسم المصحف لليوم وقد سبق تقرير الكلام في ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب .
وما سبق وروي عن عمر في قراءة أبي وأن منها منسوخ ولحن روي عند ابن أبي شيبة في مصنفه ( 7/183 ) بلفظ يفيد ذلك لكن بعبارة أخرى فقال : علي أقضانا وأبي أقرأنا ، وإنا لنترك أشياء مما يقرأ أبي وإن أبيا يقول سمعت رسول الله ولا أترك قول رسول الله شيء ، وقد نزل بعد أبي كتاب اهـ . أي هناك قرآنا مما فات أبي ، ثم يقول ويدعي ذلك الكافر المنافق العاوي الضال العطاوي أنهم لم يتركوا شيئا من القرآن وأن من قال بذلك من الكفار ، قاتل الله تعالى الكذب والتلبيس والدجل ، وهذا عمر يزعم على أبي أن هناك ما فاته من القرآن وهو مستمسك بما لديه .
وعن زر بن حبيش عن أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أقرأ عليك القرآن ، فقرأ علي : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ، وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، إن ذات الدين عند الله الحنيفية غير المشرك ولا المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره ) .
قال شعبة : ثم قرأ آيات بعدها ، ثم قرأ : ( لو أن لإبن آدم واديين مالا لسأل واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) . قال : ثم ختم ما بقي منها اهـ . ( أخرجه المستغفري في فضائل القرآن 1/325 والترمذي )
قلت : تلى عليه آيات من سورة البينة ولعلها التي قصد أبو موسى الأشعري بكلامه المنقول من صحيح مسلم قبل : إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها : ( لو كان لإبن آدم واديان من مال لإبتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) .
فانظروا لأبي موسى كيف يصفها مشبها إياها بالطول بسورة براءة ، وسورة براءة التي كان قال عنها حذيفة أنهم ما يقرأون منها إلا ربعها !!
ومع هذا يقول المنافق الدجال العطاوي لم يفتهم شيء من آيات القرآن كلام الله عز وجل ، وأين ذهب بتلك الروايات المتواترة ، وكأن تراث المسلمين ليس تراثهم ، نعم ، فتراث الحمقى والدجالين الضلال الجهلة مات مع موت قلوبهم وعقولهم .
وتلك الآية رواها جماعة من أئمة الحديث بعضهم لم يشر إلى أنها قرآن مثل ابن حبان في صحيحه رواها كذلك عن ابن عباس وعن جابر وأنس ، إلا أنه ختم تراجمه على هذا الخبر بحديث ابن عباس وقصته مع عمر وذهابهم لأبي رضي الله تعالى عنهم جميعا . ومما أورد عن جابر وهم من طريق الأعمش عن جابر بدل قوله : واد من مال ، لواد من نخل . واشار ابن حبان لتفرد الأعمش بذلك . ( صحيح ابن حبان8/26 ورواه أحمد وأبو يعلى الموصلي )
وروي مثله أيضا عن ابن الزبير كما في البخاري وأبي واقد عند أحمد وابن سلام وزيد بن أرقم ، وعن أبي سعيد عند البزار ، وعن سعد بن أبي وقاص عند الطبراني في الصغير والأوسط ، وعن أبي أمامة رواه الطبراني .
وروى البزار في مسنده عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة : ( لو أن لإبن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا ولو أعطي ثانيا لابتغى إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) .
وقال البزار بعد روايته : هذا مما كان يقرأ فنسخ اهـ .
قلت : بل هي مما نسي وسقط ولم يلحق للمجموع ، ودعوى النسخ عليه كذب ، إنما تنسخ الأحكام بعد ثبوت الدليل على ذلك ، أما الأخبار فلا .
وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الكلام في الصلاة دليل على أنه كلام الله تعالى من القرآن ، لا كلام قدسي عنه ولا هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وادعوا مثله على ما لدى أبي نطق بذلك عمر رضي الله تعالى عنه ، وكل ذلك غير صحيح مجرد عن البرهان .
وممن خاض برأيه محاولا تدعيم أن هذا ليس من كلام الله عز وجل ابن حجر في الفتح قال هناك تعليقا على ما علقه البخاري في صحيحه عن أنس عن أبي قوله : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت ( ألهاكم التكاثر )
قال ابن حجر : ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك ولا بد لكل أحد منه ، فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي ، قد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت ( ألهاكم التكاثر) فاستمرت تلاوتها فكانت ناسخة لتلاوة ذلك ، وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم ، والأول أولى ، وليس ذلك من النسخ في شيء . قلت - القائل هنا ابن حجر - : يؤيد ما رده مما أخرجه الترمذي من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب أن رسول الله قال له : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ) قال وقرأ فيها : ( إن الدين عند الله الحنيفية السمحة ) وفيه : وقرأ عليه : ( لو أن لإبن آدم واديا من مال ) الحديث وفيه : ( ويتوب الله على من تاب ) . وسنده جيد . والجمع بينه وبين حديث أنس عن أبي المذكور آنفا أنه يحتمل أن يكون أبي لما قرأ عليه النبي ( لم يكن ) وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبي احتمل عنده أن يكون بقية السورة واحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتهيأ له أن يستفصل النبي عن ذلك حتى نزلت ( ألهاكم التكاثر ) فلم ينتف الإحتمال .
ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في " فضائل القرآن " من حديث أبي واقد الليثي قال :كنا نأتي النبي إذا نزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم : ( إن الله قال إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وايتاء الزكاة ولو كان لإبن آدم واد لأحب أن يكون له ثان ) . الحديث بتمامه ، وهذا يحتمل أن يكون النبي أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية والله أعلم وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما وإن كان حكمه مستمرا ويؤيد هذا الإحتمال ما أخرج أبو عبيد في " فضائل القرآن " من حديث أبي موسى قال : قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها ( ولو أن لإبن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ) . الحديث ، ومن حديث جابر : كنا نقرأ ( لو أن لإبن آدم ملء واد مالا لأحبه إليه مثله ) الحديث اهـ .
وأقول للرد على ما قاله الحافظ ابن حجر وقرره على تلك الآيات لينفي أنها من كلام الله عز وجل أو أنها منسوخة التلاوة كما قال : أن تعليق البخاري لسند تلك الرواية من أجل أن متنها ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه ، وهو أظهر في كونه لم يسقها مساق الاحتجاج من هذه الصيغة المذكورة هنا اهـ .
قلت : وصنيع البخاري رغم ذلك بإيراده لفظ تلك الرواية للتشويش على حقيقة أن تلك الآيات من كلام الله عز وجل لأنه مستمسك هنا بما روي عن ابن عباس قوله : لا يدري أن هذا الكلام قرآنا أم لا . وابن عباس له قصة مع عمر رجته ودعته لذلك التشكيك ، ذعر من عمر لما سمع منه هذا الكلام فخرجت منه للأبد ، حين قال لعمر رضي الله تعالى عنه أن أبي يزعم أن تلك الآيات مما فاتكم إلحاقها للقرآن الذي جمعتم ، ففزع من عمر لما تعهد يأخذه لأبي وإن بان أنه يكذب عليه أنه سيفعل به ما ينكره ، فبات عند أمه تلك الليلة بأشر حال .
ولما ذهبوا لأبي في الصباح ودار بينهم ما دار ، ومن تلك القصة أرى ابن عباس لزمته ترويعة لم تفارقه حتى أوصل لهم أحد المشوشين تلك الكذبة على أبي رضي الله تعالى عنه وأبي بريئ من هذا الكذب والتلفيق بما قاله صريحا لعمر أنه قرآن وليس عنده أدنى شك في ذلك مثل ما حاول يزعم عليه ابن حجر في كذبته الملحقة المزركشة بزراكيش العلم ، وهي ليست من العلم في شيء ، فالعلم بحق لا يجافي الصدق بالقول ومن الصدق على أبي أنه يرى ذلك قرآنا ولم يشك في ذلك ولم يمانع كتابته في المصحف لو اقتنع عمر ، بل كان يقول أنه مما فاتهم في ذلك الجمع فلم يلحقوه لكتاب الله تعالى الذي جمعوا ، وقائل هذا الكلام لا يقبل عليه دعوى أنه يراه قد نسخ .
ثم إن أبي كما تقرر قبل لم ينفرد بذلك بل قال غيره من الصحابة أنه من القرآن كما مر معنا عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه بل أكد بريدة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي يتلو ذلك في صلاته ، فكيف تصح دعواههم بذلك على أبي .
نعم روي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه كان من القرآن وأنه نسخ لكن لم يأت عنها أي مستند على صحة ذلك الإدعاء ، وهو من الأساس غير معقول شرعا ، فالنسخ لا يقع على الأخبار بل الأحكام ولا يقبل على الأحكام إلا ببينة ، أما ادعاء نسخ تلاوة شيء من آيات القرآن فلا يقبل ذلك من أي كان إلا بدليل ولا دليل هنا ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم من حبه لكلام الله تعالى ذاك كان يردده يقول به كل ما دخل بيته حسب الرواية عن عائشة نفسها رضي الله عنها كما في الحديث المروي عند أحمد وأبي يعلى الموصلي من طريق مسروق قال : سألت عائشة هل كان رسول الله يتمثل ؟ ، قالت : كان يقول إذا دخل بيته يتمثل : (لو كان لإبن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ، إنما جعل المال لتقضى به الصلاة وتؤتى به الزكاة ) . قالت : فكنا نرى أنه مما نسخ من القرآن .
أقول : دعوى النسخ في هذا مجرد ظن بلا برهان يثبت دعواهم على تلك الآيات ، والحقيقة أنها مما فاتهم كما فات غيرها ، وكل ما قالوه في ذلك مجرد ظن ، وكان حرص مروان بتمزيق سائر المصاحف أو غسلها حتى ما تظهر للعلن تلك المرويات المخالفة مدونة بأي مصحف آخر ، لذا عمدوا للتلبيس على ما فلتت به تلك الروايات هنا وهناك ، بفنون من الأكاذيب مثل ما فعل البخاري بإيراده تلك الرواية المنسوبة لأبي ، ومثل ما فعل ابن حجر بشرحه وغيره ، وتبقى تلك آيات من القرآن كلام الله تعالى بشهادة أولئك الصحابة رغم أنف المنافق الكافر العطاوي وغيره .
والآن حان وقت التعليق على تلك الكذبة الأخرى التي أطلقها بجهل ذلك المنافق الضال العطاوي وهو يريد الباسها بالمهدي عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه ، جاهلا أو متجاهلا أنه مما ثبتت نسبة القول بذلك لكبار من الصحابة ، وإن لمن الفضاعة الزام كما قلت المرء دينه وعقيدته اكفار من قال بذلك ، فيدخل في حكمه بالتكفير بذلك أولئك الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم ، ومن أكبرهم عمر رضي الله تعالى عنه ، وكان الفاروق كما قلت قبل أول من شار على الصديق بجمع القرآن ، فجمع وكان بذلك الصديق أول من طبق جمع القرآن بتلك الصحف ، وحين هموا بجمعه قام في الناس عمر رضي الله تعالى عنه خطيبا فقال :
من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعُسُب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان ، فقتل عمر قبل أن يجمع ذلك إليه . رواه إبن أبي شبة في تأريخ المدينة 1/374 .
وعنه رضي الله تعالى عنه لما جاءت له الأنصار وقالوا : نجمع القرآن في مصحف واحد ، فقال :إنكم أقوام في ألسنتكم لحن ، وإني أكره أن تحدثوا في القرآن لحنا ، فأبى عليهم . ( رواه ابن شبة )
وعند ابن أبي شيبة في مصنفه أن من عرض عليه ذلك زيد بن ثابت نفسه رضي الله تعالى عنه أخرجه من طريق عمر بن حمزة قال : أخبرني سالم أن زيد استشار عمر في جمع القرآن فأبى عليه وقال : أنتم قوم تلحنون ، واستشار عثمان فأذن له . ( مصنف ابن أبي شيبة 7/151 )
والآن عرضت لنا مسألة هامة جدا لا بد من الحديث حولها قبل ما ندخل في صلب التفصيل عن اللحن في القرآن ونقل الروايات عمن قال بذلك .
فكما هو ظاهر تلك الرواية أن الفاروق رضي الله تعالى عنه امتنع من الإستجابة لمطلبهم بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يدخله من ألسنتهم لحنا ، ما يدل على أن ما نقل قبل من أنه جمع ما كان جمع أبو بكر من القرآن بتلك الألواح والصحف والعسب وكان كل ذلك في مصحف واحد ، أن هذا غير صحيح ، بل ما كان جمع بعهد أبي بكر لا زال على حاله متفرقا بتلك الألواح والعسب وقطع الأكتاف ولا زال على حاله التي جمعوه عليها إلى أن توفاه الله إليه رضي الله تعالى عنه ، والذي يدل على هذا ويصدقه ما روي في قصة عمل عثمان ذلك المصحف الإمام حين أرسل إلى حفصة رضي الله تعالى عنها : أن أرسلي إلي بالصحف التي جمع فيها القرآن .(3)
ويدل عليه أيضا كلام زيد رضي الله تعالى عنه نفسه الذي كتب تلك الصحف لما قال في قصة جمع ذلك في مصحف واحد زمان عثمان : فكانت الصحف التي جمعنا فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. (4)
وهذا ظاهر بأنها صحف وليس مصحفا ، وأن عمر رضي الله تعالى عنه لا زال ينادي بجمع ما بقي من القرآن كلام الله تعالى مفرقا في الناس إلى مطالبة الأنصار بما طالبوه به من جمع كل ذلك في مصحف واحد ، وهذا هو الصحيح ، وأن القرآن كلام الله تعالى لم يجمع بمصحف واحد إلا في عهد عثمان بمشورة من حذيفة حين خشي على الناس التفرق على كتاب الله تعالى بعد ما سمع من الناس كل تلك الإختلافات على القراءات ومر معنا نقل بعض الروايات في ذلك .
وأن ما كان خشى منه الصديق لما شار عليه عمر بجمع القرآن حين كثر موت القراء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بأن كيف يفعل ما لم يفعله رسول الله أن ذلك كان في مجرد الجمع لا جمع الجمع في مصحف واحد كما فعل ذلك في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، بل كان خشي الصديق من مجرد الجمع ، لكن انشرح صدره آخرا لما شار به الفاروق ومن ثم أقنعوا زيدا ليعمل على ذلك الجمع .
وكان ما لم يفعله عمر رضي الله تعالى عنه وفعله عثمان رضي الله تعالى عنه بمشورة حذيفة ، كما يقولون اليوم خطا أحمرا وهو ما عليه كان كل ذلك النزاع والإختلاف الذي ذكرت طرفا منه ، والذي دار مع ابن مسعود وعثمان ومع ابن مسعود وتلاميذه ، حين حرقت وغسلت بعض المصاحف أو مزعت ، وكان ابن مسعود في الأخير لان موقفه مع ما صنع عثمان ، وإلا يبدو بالإبتداء كان متصلبا بموقفه كارها لذلك وبشدة ، وكل ذلك من خشيته رضي الله تعالى على القرآن وأن ذلك عملا مخالفا لروح الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن .
ومن شدته في ذلك بلغ الأمر أن دعى على حذيفة أن يدخل النار بسبب حثه عثمان أن يجمع القرآن على حرف واحد !!
روى عنهما هذا الموقف ابن أبي داود في كتابه " المصاحف " أن عبدالله قال لحذيفة : أما إنه قد بلغني أنك صاحب هذا الحديث ، قال : أجل ، كرهت أن يقال : قراءة فلان وقراءة فلان ، فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب .
ورواه بلفظ أتم عن أبي الشعثاء قال : كنا جلوسا في المسجد وعبدالله يقرأ فجاء حذيفة فقال : قراءة ابن أم عبد ، وقراءة أبي موسى الأشعري ، والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين يعني عثمان لأمرته بجعلها قراءة واحدة . فغضب عبدالله ، فقال لحذيفة كلمة شديدة ، فسكت حذيفة .
وفي لفظ : لأمرته أن يغرقها . فرد عبدالله عليه : أما والله لإن فعلت ليغرنك الله في سقرها .
وهذا يدل على مدى شدة الخلاف بينهم في ذلك ، فإبن مسعود رضي الله تعالى عنه كان يرى الجمع على مصحف واحد مناف لمعنى الحروف السبعة فخشي أن يكون ذلك سببا لذهاب بعض من تلك الحروف ، وعمر كان يخشى من الجمع في مصحف واحد أن يداخله بسبب ذلك اللحن ، وكل من ذلك حصل ، والبهيم العطاوي لا شعور له بتلك المخاوف وغير مدرك وأمثاله أن ذلك قد حصل منه شيء بالفعل ، فمثل الحرف ( ولا محدث ) عند أبي ذهب وألغي بسبب ذلك ، واللحن الذي خشى عمر يداخل القرآن إن جمعوه في مصحف واحد ، قد حصل بالفعل وبشهادة بعض الصحابة كما سيمر معنا ، ويبقى هذا المنافق الكافر بكل بلاهة منكرا وقوع تلك التي باتت حقائق رغم كل هذه الإثباتات ، بل الملعون قال بكفر من قال بوقوع لحن في المصحف وبعض الصحابة قالوا بذلك ، فانظروا كيف الضلال درج حتى صار هدى ، والهدى صار ضلالا عند هؤلاء خلفة مطموم الشعر الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام :اعدل ، إنها قسمة لم ترد بها وجه الله.
وعمر من علمتم مقامه في هذه الأمة ، قال عنه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ما رأيته إلا وكأن بين عينيه ملكا يسدده .
وقال علي رضي الله تعالى عنه : ما كنا ننكر ونحن متوافرون أن السكينة تنطق على لسان عمر .
وقال ابنه : كان يقول القول فننظر متى يقع !!
قال البيهقي : وكيف لا يكون وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه كان في الأمم محدثون ، فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر . ( الاعتقاد 431 )
قلت : وها هو خشى من أن القرآن لو جمع في مصحف واحد أن يقع فيه لحن ، والعطاوي الشرقاوي ينكر بل يكفر من قال وقع به شيء من ذلك ، فانظروا لأعمى البصيرة كفر من قال وقع به لحن وطلع عمر كان يخاف من ذلك لو جمع ما دون بمصحف واحد ، بمعنى حُدث عمر بذلك قبل ما يقع ، فهل بربكم مر عليكم تهاوي مذهب أو اعتقاد مثل ما هوى ما عليه هذا العطاوي العاوي الجاحد الكافر من مذهب سيء واعتقاد فاسد ، كما ترون في إنكاره من قال بوقوع شيء من اللحن في القرآن ؟
الحاصل أن ابن مسعود كما قررت قبل لان لموقف عثمان بجمع الناس على مصحف واحد وآثر الإجتماع ونبذ الإختلاف في ذلك ، وكأن أبو بكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف لم يوفق حين أورد حديث عن ابن مسعود برجوعه لرأي عثمان بذلك الجمع بعد أن كان يخالف في ذلك ، وبوب في كتابه قال : باب : رضاء ابن مسعود بجمع عثمان المصاحف ، ثم سرد حديث عن ابن مسعود رواه فلفلة الجعفي وقد سبق ونقلت لفظه في الفصل السابق .
وقد تعقب ابن ابي داود الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره لذلك الأثر بقوله :هذا الذي استدل به أبو بكر على رجوع ابن مسعود عنه فيه نظر ، من جهة أنه لا يظهر من هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه . ( فضائل القرآن لإبن كثير )
وقال ابن حجر في تعقبه كذلك : لكن لم يورد ما يصرح بمطابقة ما ترجم له . ( فتح الباري 9/49 )
قلت : صدقا ، بل ما أورد من أثر يدل على النقيض مما بوب له ، لأن ابن مسعود بما حكى إنما يمنع قصر القرآن على باب واحد ، وتلك الحروف التي أنزل بها أن ترجع لحرف واحد ، وهذا ظاهر بأنه استدلال للمنع لا لتجويز ما صنع عثمان ، لكن مما نقلت ذكره في الفصل السابق عن ابن مسعود وتراجعه لعثمان وقبوله اعتذار عثمان وحجته التي كتب بها لإبن مسعود بما دعاه لجمعهم على مصحف واحد ، هو الدليل على تراجع ابن مسعود وقبوله ما صنع عثمان ، فلمح لذلك ابن أبي داود بتلك الترجمة من كتابه لعدم وجود ما يدل على ذلك ويصلح يرويه هناك تحت تلك الترجمة بالإسناد الموافق لكتابه ، والعمدة في ذلك ما سبق ونقلته في الفصل السابق واختلاف تلاميذه معه في ذلك حتى أنهم انقسموا عليه .
أقول : ويبدو أن عمر رضي الله تعالى عنه حين خشى من وقوع اللحن في القرآن بحال جمعه في مصحف واحد ، نظيره حصل لعثمان حين خشى أن يقع لحنهم عليه في حال بقي مفرقا على تلك القراءات ، بحسب الرواية التي أوردها عنه أبن أبي داود في كتابه المصاحف ، وهذا من العجب العجاب في تقلب أحوالهم مع القرآن كلام الله تعالى المنزل على سبعة أحرف ، مع أنه روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه لما ضغطوا عليه بتلك المؤاخذات التي أخذوها عليه فدافع عن نفسه أمامهم لما كان من قولهم فيه ذلك ونقمتهم عليه فيما ذكروا وعدوا من ذلك عمله بالمصحف وتحريق وغسيل ما سواه ، وكان الوسيط بينه وبين المعترضين عليه في ذلك علي رضي الله تعالى عنه ، نقل منهم ما ينقمون عليه فرجع لعثمان علي رضي الله تعالى عنه منهم ومما ذكره له أنهم نقموا عليه ومن قولهم :
أنه محا كتاب الله عز وجل . فرد عليهم رضي الله تعالى عنه : أما القرآن فمن عند الله ، إنما نهيتكم لأني خفت عليكم الإختلاف ، فاقرأوا على أي حرف شئتم اهـ . (5)
وكان مما أخافه عليهم من الإختلاف ما ذكر قبل في قصة أن حذيفة نقل له في اختلاف الناس بالقراءات وأيضا مما حصل بين الأولاد بالكتاب حسب ما روي عن أيوب عن أبي قلابة قال : لما كان في خلافة عثمان جعل المعلِّم يعلِّم قراءة الرجل ، والمعلِّم يعلِّم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون ، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين ، قال ايوب : لا أعلمه إلا قال : حتى كفَرَ بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ! ، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا ! ، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما .
قلت : يبدو اجتماع هذين السببين اقنعاه رضي الله تعالى عنه بتطبيق فكرة جمع القرآن في مصحف إمام ، ما بلغه حذيفة من اختلاف القراء وأتباع كل قراءة بالأمصار ، وما حصل بين غلمان الكتاتيب في المدينة ، فكل ذلك مما دعاه أخيرا لتطبيق فكرة جمع القرآن بمصحف يكون إماما للناس درءا لوقع الإختلاف بينهم على تلاوة كتاب الله عز وجل ، وعليه كان حرصهم بالتطبيق بحرق وغسل باقي المصاحف بعد ما نسخ مصحفا إماما ، حتى لم تسلم الصحف التي جمعت بزمان الصديق وعمر رضي الله تعالى عنهما وهو الأساس تقريبا لما دون من كتاب الله تعالى إلا ما تفرق بين أصحابه مما لم يكتب مثل ما عند أبي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم ، فقبض ما قبض ومزع أو أحرق أو غسل ، وبقي لهم المصحف الإمام .
وأهم ما يتوقف عنده من قول عثمان المذكور قبل مما يناسب موضوع هذا الفصل الرابع قوله : ( تختلفون وتلحنون ) و ( فمن نأى أشد فيه اختلافا وأشد لحنا ) اهـ .
فهل سلم قبل وبعد ما جمع في مصحف إمام من ذلك ؟!!
لا يصدق أنه سلم إلا أمثال هذا المنافق الدجال الجاحد للحقائق ، بل مع جحده هذا المنافق المفضوح المكشوف قال بتكفير من قال بذلك ، طبعا من غير تمييز وتفريق عنده ما بين ما قبل الجمع على مصحف واحد وما بعده ، فهو مختلط في كل شيء مقبلا مدبرا ملتبس عليه دينه لا يفهم ويريد أن يُفَهم غيره بما لم يمكنه أن يَفهم حقيقته ، وفاقد الشيء لا يعطيه ونحن في زمان انقلاب الموازين ، فكيف بمثل هذا الذي انقلبوا فيه من قديم وليس حديثا ، لكن اتت العمياء في الدهيماء في زمان اعجاب كل صاحب رأي برأيه أصحاب الأهواء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم ، ومن خبرهم أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية وهم يقولون بقول خير البرية ، وهذا منهم المنافق يدعي الحمية للقرآن وهو يكذب القرآن فيما أخبر تعالى فيه عن المهدي ، بل كفر به وعاداه وحاربه وهو لا شعور له ، كل شيء منقلب عليه وملتبس ، ولن يهتدي لأنه لم يسمع ويطيع ويؤمن ، بل حارب وظاهر بالعداوة والبغضاء ، ومن كان مع القرآن بصدق وحق فهو المهتدي ، ومن كان خلاف ذلك فلا محالة هو الخسران الضال الكافر المنافق .
روى ابن سلام في كتابه " فضائل القرآن " عن عكرمة قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها ، أو قال : ستعربها بألسنتها ، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف .
وروى ابن سلام وغيره ما هية تلك اللحون عن عائشة لما سألها أحدهم عن اللحن الذي أوقعوه في القرآن ، عن قوله : ( إن هذان لساحران ) وقوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) و ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) .
قالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب . (6)
ولا زال مثل هذا مشكل عند الكثير من قديم ، حتى ذهب مثل هذا الأحمق السفيه المنافق ضحية في ذلك متطرفا بإنكار حصول مثل ذلك للدرجة التي لم ينكره فقط بل غالى فكفر من قال به ولو كان قال به مثل أولئك الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم ، وهذه حال تعيسة جدا ، أما كونه يصدر نفسه ليكون فاصلا في ذلك أهلا لأن يصدر الأحكام في ذلك ، وأي أحكام أحكام التكفير واستباحة الدماء بقتل القائلين بالحق ودفنهم بمقابر غير مقابر السلمين ، ولا ندري مما يستعيذ العاقل هنا بربه ، من الجهل المبين وشديد ضلال العقل ، أو الكفر والنفاق والردة ؟
قال السيوطي في الإتقان : وهذه الآراء مشكلة جدا وكيف يظن بالصحابة أنهم أولا يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللدّ ، ثم كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه ، ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم علي الخطأ وكتابته ، ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبيههم ورجوعهم عنه ، ثم يظن بعثمان أنه ينهى عن تغييره ، ثم كيف أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ ، وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف .
هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة اهـ .
ثم نقل عن الأنباري قوله في كتاب ( الرد على من خالف مصحف عثمان ) : في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك لا تقوم بها حجة لأنها منقطعة غير متصلة ، وما يشهد عقل بأن عثمان إمام الأمة الذي هو إمام الناس في زمنه وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام فيتبين فيه خللاً ، ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه اهـ .
إلى قوله : ومن زعم أن عثمان أراد بقوله ( أرى لحنا ) أي : أرى في خطه لحنا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب فقد أبطل ولم يصب ، لأن الخط منبىء عن النطق ، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه ، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق ، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن متقنا لألفاظه موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي اهـ .
ثم أيد ما قاله بما روي عن عثمان أنه كان يرسل لأبي ببعض الآيات ليراجعها وكان أبي يجري عليها تعديل .
أقول : لا شك لهم قصة في ذلك وارتباك خصوصا في المتأخرين من أمثال هذا العطاوي المنافق ممن لا يمكن لعقولهم قبول وتصديق حصول مثل ذلك في رسم ما جمع بعهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، حتى قال محقق كتاب ابن سلام في حاشيته على تلك الآثار عند الرواية عن أبان بن عثمان قال المحقق المعلق هناك : قلت والعجب أن المعلق لم يعلق بشيء على تجهيل الكاتب وعلى قبول الأمة تلك الجهالة منه والعياذ بالله بما تستحق من الرد والرفض ولو لأنها تخالف المتواتر من القراءة اهـ .
قلت : انظروا للمكابرة كيف تكون ، يريد السفيه يؤاخذ ابن سلام صاحب ذلك الكتاب حين روى تلك الروايات لم لم يعقب ويرد ما خطأه بينا ، وما فطن الجاهل لمَّا بوب المؤلف ابن سلام بعد ذلك قال : باب الزوائد من الحروف التي خولف بها الخط في القرآن . ثم سرد ابن سلام تلك الحروف المخالفة لما ثبت بالمصحف الإمام من وجه آخر مخالف وبعضها مخالفة تناقض ولو لم يخالف في حقيقة الحكم هناك كالقراءة عند ابن مسعود وبها قرأ ابن عباس وقيل هي قراءة أبي رضي الله عنهم : ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) ، وهي خلاف ما في المصحف .
بل روى في الباب ذاك ، ما فاتهم لم يدونوه بالمصحف كما ادعى مسلمة بن مخلد الأنصاري ، وكذلك ما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه ، ولم يعلق ابن سلام هناك ولم يتعقبه المحقق الجاهل ، وهذا أكبر مما فات واستدركه على ابن سلام قبل .
عن مسلم بن مخلد قال : أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف ؟ ، فلم يخبروه فقال : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم الا أبشروا وأنتم المفلحون ، والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك ما تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءٌ بما كانوا يعملون ) .
وعن أبي سلمة بن عبدالرحمان يقرأ هذه الآية : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) إلى قوله : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ، وما أهلكناهم إلا بذنوب أهلها ) . قال : هكذا قرأها أبي بن كعب .
وقد ذكر ابن سلام وغيره مثل هذا كثير لعل يأتي لذكره مجال لاحقا إن شاء الله تعالى .
ومما ذكر رحمه الله تعالى أنه خطأ وقع من نساخ المصحف ما روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان يقرأوها : ( حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ) ، وقال : ( تستأنسوا ) وهم من الكتاب . (7)
وتوسع ابن أبي داود في كتابه المصاحف في ذكر ذلك مفصلا فروى فيه عن ابن عباس رضي الله تعالى من طريق سعيد بن جبير عنه قال : في القرآن أربعة أحرف لحن : ( الصابئون ) ، (والمقيمين ) ، ( فأصدق وأكن من الصالحين ) ، ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) .
قال القرطبي في تفسيره رحم الله تعالى تعليقا على رسمها في المصحف هكذا : قَرَأَ أَبُو عَمْر" إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ " . وَرُوِيَتْ عَنْ عُثْمَان وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّحَابَة ; وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَغَيْرهمْ مِنْ التَّابِعِينَ ; وَمِنْ الْقُرَّاء عِيسَى بْن عُمَر وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ ; فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاس . وَهَذِهِ الْقِرَاءَة مُوَافِقَة لِلإِعْرَابِ مُخَالِفَة لِلْمُصْحَفِ .
ثم حكى قراءة ابن مسعود : ( إِنْ هَذَانِ إِلا سَاحِرَانِ ) ، حكاها عن الكسائي .
وقراءة أبي : (إِنْ ذَان إِلا سَاحِرَانِ ) ، حكاه عن الفراء .
ثم قال : فَهَذِهِ ثَلاث قِرَاءَات أُخْرَى تُحْمَل عَلَى التَّفْسِير لا أَنَّهَا جَائِز أَنْ يَقْرَأ بِهَا لِمُخَالَفَتِهَا الْمُصْحَف اهـ . (8)
قلت : وهذا مما يدل على تحقق مخالفة الكثير لما كتب في المصحف الموحد ، لا ينكر ذلك من لديه عقل وعلم ، ومن المكابرة جدا إنكار ذلك ، أما القول بتكفير من زعم حصول شيء من ذلك كما هو ثابت عن العطاوي المنافق في اعتراضه أصول دعوة المهدي المباركة ، فهذا لا يقول به من به ذرة من عقل وبصيرة ، وليس هو ممن يصح فيه مظنة رفع القلم عنه ، لأنه مباحث ومجادل ويزعم أنه من أهل المعرفة والعلم وهو كما ترون أبعد ما يكون عن ذلك ، بل كذاب أشر عمد للصدق فزعم عليه أنه كذب ، وللكذب يزعم أنه إيمان وصدق ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ ،﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ .
وما ذلك إلا لأن هذا المنافق في حماسة شيطانية ليصد عن الذكر ويلبس على ارتباطه بواقعهم التعيس اليوم ، ليقطع اتصاله بزمان الناس اليوم زاعما على الله ومفتريا عليه أنه لم يحدث من الذكر ما كان يخبر عنه بكتبه سابقا عنهم وأوحى للأنبياء فيهم ، ، وها أنا سأنقل لكم من الذكر في هؤلاء الذين تباكى عليهم المنافق الكافر العطاوي العاوي زاعما أنهم ولاة للمسلمين وأن المهدي ظالما لهم طاعنا بسيرتهم بغير وجه حق ، سأنقل ما هو باقرار عمر وابن عباس أنه من القرآن لكنا لا نجده مدونا اليوم في المصحف الموحد ، ثم يزعم هذا الكافر على أن من قال بفوت شيء من القرآن لم يدون في المصحف أنه كافر ، وهذا عمر الفاروق وابن عباس يزعمان بما كفر قائله هذا الكافر الملعون :
روى ابن سلام في كتابه فضائل القرآن عن عكرمة عن ابن عباس : أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل عن قول الله لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) هل كانت جاهلية غير واحدة ؟
فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين أوما سمعت أولى إلا لها آخرة ؟
فقال : هات من كتاب الله ما يصدق ذلك ، فقال ابن عباس : إن الله يقول : ( جاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة ) (9)
ونصها في المصحف من سورة الحج :
فأين هي من ذلك الرسم ؟! ، لا توجد سقطت وهذا عمر وابن عباس يقران وكانا يريان أنها من القرآن ، أو لعل سيدعي عليها بالنسخ ، فهل يجوز تنسخ الأخبار ؟!
لكنها سقطت بالفعل ، أو شنشنة الأخزم " الأثر فيها لا يصح سنده " ، ومثل ابن سلام يرويه ويثبته في كتابه .
أقول : وله شاهد رواه ابن مندة في كتابه الفوائد وبتلك القراءة التصريح أن المقصود بذلك زمان أولئك الكفرة الظلمة أولياء هذا الكافر العطاوي العاوي المنافق ، هكذا ذكر ذلك صريحا هناك وأن المقصود زمان هؤلاء الكفرة آخر الزمان ، قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمان بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ : ( جاهدوا إلى الله حق جهاده آخر الزمان كما جاهدتم في أوله) ، فقال عبد الرحمان : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كان بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء . (10)
وقد علمتم ما روي في بني أمية وفتنتهم آخر الزمان مثل خبر الأخنس يفر للروم فيأتي بهم وتلك أول الملاحم ، وبالفعل وقعت فتنتهم تلك وفر أخنسهم وأتى بالتحالف الغربي والعربي ليثار تأويل كل تلك الأخبار .
أو خبر ذاك الرجل من ذرية الحكم بن العاص وهو ابن عم الأخنس ، الذي جاء الخبر بأن يبلغ من فتنته دخانها السماء ، وحقا حصل ذلك وثارت تلك عمد النار والدخان حتى بلغ ذلك الدخان عنان السماء ، وهذا من ذاك ، لكن من كان يتصور أن ذلك وردت الإشارة له في القرآن وأنه أزيل مع ما أزيل وعلى يد من ؟!
قد يكون على يد بني أمية ، ولقد كان لبعض كبارهم جهدا متحمسا لطمس المصاحف .
وأختم هذا الفصل بقول التالي :
خلاصة القول فيما ذكر في الفصل السابق الثالث وهنا في الفصل الرابع أن الخلاف على ذلك الجمع في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه وحتى قبل زمانه ، كان على أشده ما بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم حتى بلغ التكفير والدعاء بدخول النار ، وبلغ التكذيب والقول الشديد كما حصل ما بين ابن مسعود وحذيفة ، وبين عمر وأبي رضوان الله تعالى عليهم ، هذا والمنافق العطاوي كمن اختار دس رأسه عن كل ذلك بالتراب لينكره ، ومن ثم يكفر أهل الحق بما هو في الحقيقة واقع تأريخي جرت أحداثه بين أولئك الأصحاب في تأريخ هذه الأمة وهذا الدين العظيم ، وتلك حقيقة يجهلها أو اختار يتجاهلها ذلك المنافق ، أو يتجاوزها وكأنها لم تحصل في واقع أولئك ، لكن هيهات ولن يسقط إلا نفسه فالحقائق تبقى كذلك ، وأوهام الناس هي التي تذهب وجهالاتهم تندرس ، فالتأريخ يكتب ولن ينسى وتلك النزاعات تبقى مادامت سطرت في كتب الأولين لا يمكن يمحوها مثل هذا السفيه نفيخة الشيطان .
عن عاصم الأحول عن أبي مجلز أن أبيا قرأ : ( من الذين استحق عليهم الأوليان ) فقال عمر : كذبت ، فرد أبي عليه : بل أنت أكذب . قال له رجل : أتكذب أمير المؤمنين ؟ قال أبي : أنا أشد تعظيما لأمير المؤمنين منكم ولكني أكذبه في تصديق الله ، ولا أصدقه في تكذيب كتاب الله . (11)
وعن الحسن قرأ عمر : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان ) فقال أبي : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) فقال عمر : أشهد أن الله أنزلها هكذا ، فقال أبي : : أشهد أن الله أنزلها هكذا ولم يؤامر فيه الخطاب ولا ابنه . ( المصدر السابق )
مع أن ما قرأ أبي من هذه الآية والتي قبلها كل ذلك وفق رسم المصحف ، مثل تماما ما أنكره عمر على أبي ووافق فيه ابن مسعود وخالف أبيا ، أعني في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ، خالف هنا أبي مع قوله عليه عندها : إن أبيا كان أقرأنا للمنسوخ ، اقرأها : (فامضوا إلى ذكر الله ) . ( رواه ابن شبة في تأريخ المدينة 1/377 ) .
فهل يعي معنى هذا ، هذا المنافق العطاوي العاوي ؟!
هل هم يقرأون في رسم المصحف الآن شيئا من المنسوخ بحسب اختيار الفاروق رضي الله تعالى عنه ؟!
وعن عمرو بن دينار عن بجالة قال : مر عمر بغلام معه مصحف وهو يقرأ : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) ، فقال عمر : يا غلام حُكها ، فقال : هذا مصحف أبي ، فذهب إلى أبي فقال : ما هذا ؟ فنادى أبي بأعلى صوته : أن كان يشغلني القرآن وكان يشغلك الصفق بالأسواق ، فمضى عمر . ( المصدر السابق )
وغير هذا كثير سيطول بنا الكلام لو استقصيته لكن بما نقل كفاية للتعريف بحقيقة هذه المسألة وأن الخلاف على كتاب الله تعالى وما أنزل فيه من الحق وتلك الإرادة في جمعه في مصحف واحد كان شديد بين كبار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وما لبس به هذا المنافق على ذلك إلا في ضلال ، وما انكاره وأمثاله لتلك الحقيقة إلا تكذيب لحقائق ووقائع كتب في نقلها الكثير من الأسفار ، وخلاصة ذلك أن القائل لم يفتهم شيء أو أنهم لم يغلطوا في شيئ من الآيات التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هو إلا كذاب ، أما من يكفر القائل بذلك فهذا هو الكافر لأنه اعتقد بدينه تكفير أولئك الصحابة .
..............
(1) ورواه الدارمي في سننه 3/1828 بلفظ : فلا أدري أشيء أنزل عليه أم شيء يقوله .
(2) ذكرها ابن أبي داود في كتابه المصاحف 1/307 .
(3) رواه ابن أبي داود في المصحاف 1/200 .
(4) رواه ابن أبي داود في المصحاف 1/202 .
(5) رواه ابن أبي داود في المصحاف 1/244 .
(6) فضائل القرآن لإبي عبيد القاسم بن سلام ص 160 .
(7) فضائل القرآن لإبي عبيد القاسم بن سلام ص 179 .
(8) القرطبي تفسير سورة طه الآية 63 ، وتوسع هناك في ايراد أقوال من صحح ما في رسم المصحف بخصوص هذين الحرفين في سورة طه .
(9) فضائل القرآن لإبي عبيد القاسم بن سلام ص 178 .
(10) فوائد ابن مندة 2/236 .
(11) ابن شبة تأريخ المدينة 1/375 .