جوابات على إشكالات علي الخضير

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :

إن من الواجب الآن على أولي الألباب إمعان الفكر والتدبر في أحوال خلق الله تعالى في عصرنا هذا وبالأخص ما يحصل فيه من أحداث عظيمة ليعرف العاقل هل جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم شيء من الذكر يصرح أو يشير لما تحقق في زماننا من ذلك ، فإنه من الواجب تصديق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما ورد عنهما من أخبار عما يقع في آخر الزمان ، وإنه لمن المعلوم أن الله تعالى حفظ الذكر وتعهد ببيانه حين يحل أجله وتستحكم من الوجود أركانه فقال : ﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ﴾ .

وقال سبحانه : ﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ .

وقال : ﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ﴾ .

أي حتى يأتيهم ما يقطع شبههم ويكشف زيف وكذب أديانهم الباطلة ما يوجب عليهم ترك ما هم فيه من دين باطل وادِّعاء صحة الانتساب لطريق الله تعالى .

وليعلم كل مسلم عاقل أنه من المحمود التفكر وتدبر ما يجري من أحداث جسام في عصرنا طلبا للتصديق وتحقيق الإيمان المفروض ، وإنه لمن المذموم الإعراض عن هذا والجهل به فإن في ذلك عثرة للقلوب ونقص في الإيمان والتصديق .

وقد عرف العقلاء من المسلمين أن الله عز وجل أنزل هذا الإيمان والتصديق في كتابه العزيز أعظم منزلة فأثبته في أول كتابه إذ قال : ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾ . وهذه أحمد صفة للمؤمن يفتتح الله عز وجل بتقريرها سورة البقرة تعظيما لهذا التصديق .

ومما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن هذا التفكر والتدبر الذي هو مقدمةٌ للإيمان والتصديق بما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم محمود ومطلوب ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر الدجال أنه قال : " ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم فتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا " . وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغيبات المتعلقة بأشراط الساعة تأتي على ضربين منها :

ما هو صريح :  وهو ما تدرك حقيقته بمجرد تحققه في عالم المشاهدة وهذا الضرب من الأخبار يدخل فيه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطاول الأعراب بالبنيان ، وخروج حدثاء الأسنان في آخر الزمان ، وكثرة الفتن والزلازل والأمراء ، وما شابه ذلك من علامات نص على خبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كائنة آخـر الزمان من أشراط الساعة ، ومثل هذا يدرك ويعرف تحققه بمجرد وقوعه في عالم المشاهدة على وجه استثنائي عما سبقه مما يوافقه بالصفة ، وهذا القسم من الأشراط لا يمكن بحال اعتبار صحة تعيينه مما يدخل بالاجتهاد نفيا وإثباتا فهو مـن الأمـور الخبرية التوقيفية التي لا تعلق للاجتهاد بهـا لا توصيفا ولا تعيينا ، ألا ترى أن القرطـبي وابن حجـر رحمهما الله تعالى حـين قطعوا بأن التطاول بالبنيان قـد تحقق في زمانهم ماذا سيكون قولهم لو أدركوا ارتفاع البنيان في زماننا ( 6 )  ، قطعا سيدركون أنهم جانبوا الصواب في هذا التعيين المبني على الاجتهاد ، ومثله قول ابن كثير في النساء العاريات المائلات المميلات : قد عم البلاء بهن في زماننا هذا ، ومن قبله أيضا ، وهذا من أكبر دلالات النبوة إذ وقع الأمر في الخارج طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام  اهـ ( 7 ) .

أقول : لو أدرك ابن كثير ما حصل من الكثير من النساء في عصرنا لعلم أنه أخطأ في هذا التعيين ولا شك إذ أن العري على حقيقته اليوم ، وهذا كله مما يدل على عدم جواز التعيين بالاجتهاد المجرد من دلالات الواقع المطابق للخبر مطابقة تامة من كل وجه .

وأما الضرب الثاني من أخبار الأشراط فيأتي على وجهين :

الوجه الأول : قد يخفى معناه وإدراك حقيقته على الكثير من الناس ، وقد يدركه بعضهم لمزية يختص بها من قوة إدراك وحسن تصور واعتبار فاحص بين أوجه مطابقة دلالة ظاهر الخبر وواقعة الحال العينية المرادة بهذا الخبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يحدث أحدكم شراك نعله وعذبة سوطه ويخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده " .

فمثل هذا قد يخفى معناه على بعضهم ، بل قد يذهب ببعضهم الجهل للحد الذي يعتقد جواز تحقق نطق أعضاء الجسد البشري في الدنيا ، وهذا من الجهل إذ أن هذا على حقيقته لا يقع إلا بين يدي الله تعالى آية يجريها الله على المنافق والكافر حين ينكر يوم الحساب ذنوبه فينطق الله جوارحه شاهدة عليه ، وأما في الدنيا فلا يقع هذا أبدا وإنما المعنى على غير ظاهر اللفظ ، والمعتبر لأحوال الناس اليوم بنظرة فاحصة يجد أن أكثر الناس يحدث عذبة السوط وشراك النعل على الحقيقة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا محقق بهذه الوسائل التكنولوجية المتطورة في الاتصالات اليوم ما يسمى باللاسلكي والهاتف الجوال وحتى هواتف المنازل المتصلة بما يشبه شراك النعل ، فكل هذا يتم خلاله معرفة المرء لما يحدث في بيته وهو على مراحل عنه بل لعله يكون في أقصى الأرض من الطرف الآخر للكرة الأرضية ، ومن الملاحظ أن مـا يسمى الهاتف الجوال وجهاز ( البيجر ) المنقول الغالب على الناس وضعه في جيب ( الدراعه ) وموضعه يكون على الفخذ فذكر كل هذا بالفخذ بحكم المجاورة وهذا جائز ذكره بلسان العرب فهم يسمون الشيء بإسم الشيء إذا كان منه بسبب .

الوجه الثاني : فهو غيب محض لا يمكن بأي حال من الأحوال إدراكه ابتداءً إذ أن الله تعالى اختص نفسه بعلم تأويله فلا يقع إدراك مثله والعلم به تحت طائلة الاجتهاد وقوة الذكاء ، ومن هذا الوجه تعيين المهدي ابتداءً وبعض ما ورد في ذكره من أخبار مما لا يمكن أن يعرف بالاجتهاد حتى يقال فيها نفيا وإثباتا ، ومن اعتقد أن تعيين المهدي ابتداءً مرجعه للاجتهاد والفهم فهو من أبعد الناس عن إدراك حقيقة أمر المهدي وبعثه ، وأما بعد استحكام أمره واستواء شأنه فهو على العكس من الابتداء إذ أنه حينها لا يخطئه من استطاع التمكن من العلم به إلا من طمست بصيرته وقد يكون مثل هذا ممن حيل بينه وبين الدخول مع أهل الفلاح والنجاح إذ أن أمره عندها سيكون ظاهرا على غير ما يتوقعه الكثير من الخلق فهو من أمر الله تعالى المباغت ، وهذا لا يناقض كون أمره سيكون ظاهرا إذ أن الله سبحانه جعل لميقاته علامات وأشراط دالة على تحقق بعثه ولو فات الكثير إدراك هذه الحقيقة فسبحان الذي يحول بين المرء وقلبه ، فهل من اليسير الآن إدراك أن من علامـات تحقق بعثه الزلازل والفتن والدخان ، فإنه من أعقل الناس اليوم من يقول أن هذه الزلازل والفتن وهذا الدخان مما يدخل القول في تعيينها نفيا وإثباتا باب الاجتهاد مع ما نص عليه الكتاب والسنة في ذكرها .

ومن الأمثلة على أخبار هذا الوجه الثاني الذي هو غيب محض وله تعلق بأمر المهدي المنتظر قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الأمـر في قريش ما بقي منهم اثنان - وحـرك إصبعيه يلويهما هكذا – " ورد أنه لوى الوسطى على السبابة .

وقوله كما في حـديث أبي سعيد رضي الله عنه في خبر المهدي رفعه : ( يعيش هكذا - وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهـام وعقد ثلاثة - ) . ومثله ما ورد عن علي رضي الله عنه حين سأله رجل عن المهدي فقال : هيهات ، ثم عقد بيده سبعا ، فقال : ذلك يخرج في آخر الزمان .

وهذا كله من المرموز الذي لا يراد له أن ينكشف ألا ترى أن أبا هريرة حين روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر هذه السبع أنه كان يروي عنها من غير أن يعلم حقيقة معناها كما في حديث أبي يعلى (12/19) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل مـن أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق " قال : قلت : وكم يكون ؟ قال : " خمس واثنتين " . قلت : وما خمس واثنتين ؟ قال : لا أدري .

وهذه الأخبار والوقائع لا يمكن معرفة حقيقة تأويلها بالاجتهاد فضلا عن أن يمكن القول بنفي تحققها بالاجتهاد وإنما تعرف بطريق خاص عند تحققها في حينها ومن خلال من يعنيه الأمر بإذن الله تعالى ، ومن ادَّعى أن معرفة مثل هذا ممكن بالاجتهاد نفيا وإثباتا فقد أخطأ ولاشك .

هذا وقد كنت جمعت في أشراط الساعة وبيان تحقق الفتن المنتظرة وبعث المهدي كتابا أسميته : ( بيان وجوب الاعتزال في آخر الزمان إلى أن يمكن المهدي خليفة الرحمن ) أوردت فيه ما تيسر من الأخبار عن كتاب الله وسنة رسوله الكريم ، ثم كان من بعض الأفاضل حفظهم الله تعالى من أورد بعض الإشكالات التي يرى أنها واردة على بعض ما جاء في ذلك الكتاب وقام بإرسالها لي مشكورا طالبا الرد عليها فأجبت طلبه بتقرير هذه العجالة سائلا الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه ، فإن من أهم المطالب تحقيقنا للتصديق الذي نزعمه لكل ما أخبر عنه الله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته والله ولي التوفيق .

قال في الإشكال الأول ما معناه :  أن ما ورد في خبر الجساسة وسؤال الدجال عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما ورد عن ابن صياد قوله في الدجال : إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو . وقوله : أرى عرشا على المـاء . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له : " ترى عرش إبليس على البحر " . قال الأخ الفاضل : هـذه الأخبار تشكل مع ما جاء في (ص28) من أن ابن صياد هو إبليس وهو الدجال ، ففي حديث الجساسة أن الدجال يستخبر عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يرى عرش إبليس ويعرف أين هو  اهـ .

فأقول : ما ذكرته في الكتاب أقرب إلى المعقول في التحقيق فضلا عن أن هناك ما يشهد لصحته في النقل ، وقد عرف استشكال الكثير من أهل العلم ما ورد في ابن صياد والدجال وكثرة اختلافهم في فهم ما ورد في بعض الأخبار ، وظهر لي أن الأخ الفاضل استشكل كون ابن صياد هو إبليس ، وقد فهمت من كلامه أن ابن صياد هو الدجال علما قد عرف الاختلاف بين الصحابة وغيرهم في هذا الأمر ، وعلى اعتبار اختيار أن ابن صياد هو الدجال فعندها يقال له : يرد عليك في هذا الاختيار ما هو أشكل مما أوردته على قولي ولا أدري فطنت لهذا أم لا .

فمن قال أن ابن صياد هو الدجال يقال له من هو الدجال إذن الذي تبدى لتميم في الجزيرة في وقت عرف ابن صياد طفلا بالمدينة ، وهذا الإشكال بعينه ما دفع الكثيرين للقطع بأن ابن صياد ليس هو الدجال . ومما ورد في الصحيحين عن أبي سعيد أن ابن صياد قال له في أمر الدجال : إني لأعلم الناس به وأين مكانه ، ولو عرض علي أن أكون إياه لما كرهت ذلك .

فقول ابن صياد هنا أنه يعلم أين مكانه مع كون تميم الداري قد وقع عليه بالجزيرة ، وكل هذا يفيد أن الدجال موجود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم للحد الذي دعى بعض الصحابة لاعتقاد أن من يقتله الدجال عمر رضي الله عنه ، ومع هذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خروجه إنما يكون آخر الزمان ، فكيف يستقيم هذا على قول من اعتقد أن الدجال بشر وليس هو إبليس اللعين .

وأما من قال أن الدجال هو إبليس لذا أمكنه فعل هذا التجلي على الجزيرة فإن من اليسير عليه أن يتلبس ابن صياد متى شاء إذ أنه مما ظهر أنه من أوليائه ألا تراه يقول عن الدجال : لو عرض علي أن أكون إياه لما كرهت ذلك .

وأيضا علمه وهو مازال طفلا بأمر الدخان حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخسأ فلن تعدو قَدَرك ". من القدرِ وليس المنزلة ، أي ما كتب الله عليك من أجل وتقدير الخزي على يد المسيح عليه السلام حتى أنه إذا رآه يذوب كالملح في الماء ، وهذه ليست صفة بشرية .

وأعظم ما يرد على القول بأن الدجـال بشر وليس هو إبليس قوله تعالى : ﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت أفهم الخالدون ﴾ . وما كان لبشر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلد بعد هذه الآية ولا مزيد .

وعلى هذا فمن اعتقد أن ابن صياد هو الدجال لن ينفك من اعتقاد أنه إبليس ومن قال بهذا سهل عليه صحة تصور واعتقاد أن ابن صياد ما هو إلا إبليس اللعين ، سواءٌ قيل أنه تلبسه أو تمثل بصورته ، وذلك ما دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاورته تلك المحاورة الثقيلة التي لا يمكن إلا أن تقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم والشيطان ، وليس بينه ومجرد طفل يهودي لم يبلغ مرتبة الحاخامات العارفين ليتسنى له معرفة أمر الدخان وغيره ، وهي من الأمور التي كانت عند الأحبار والحاخامات في سر مكتوم .

وقال في الإشكال الثاني : أن من المشكل اعتقاد أن يأجوج ومأجوج هم الروم الذين تحقق زحفهم في حادثة تحرير أرض الكويت من سلطة صدام العراق ، ونقل عن السفاريني عن ابن عبدالبر الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام وأن يافث أبو الترك والصقالبة اهـ .

فأقول : أما نقل الإجماع على أنهم من الترك والصقالبة فلا يعتمد وهو من الإجماعات المظنونة كما أنه لا مدخل للإجماع في تعيين جنس هؤلاء البشر أبدا .

ومن الغريب حقا أن الأخ الفاضل مورد هذا الإشكال على ما تقرر في كتاب وجوب الاعتزال قد قلد السفاريني والكثير من أهل العلم في قولهم أنهم من الترك ، وقد نقل السفاريني في عقيدته : أن خروجهم من وراء السد على الناس حق ثابت لوروده في الذكر ولم يحله عقل فوجب اعتقاده اهـ .

هكذا قال ويعلم الله تعالى أنه محالٌ عقلا وواقعا وشرعا خصوصا في عصرنا هذا . ومن أبرز المعاصرين الذين قالوا بهذا الذي ذكره السفاريني ، الشنقيطي والتويجري رحمهما الله تعالى ، وهو قول كما ذكرت مبني على الظن والتقليد ولا مبرر للمضي في تصديقه إلى وقتنا هذا لمنافاته للواقع المشاهد والإشكالية الواردة على تصديقه في الحقيقة إنما ترد على عقل المصدق به كما أشرت إلى هذا في كتابي المذكور سابقا .

ولله در الشيخ السعدي رحمه الله حين دفع هذا الاعتقاد عنه لما رآه مخالفا للحقائق والحس وصرح بأنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم إلا أنه رجع عن هذا في ظاهر الأمر لضغوط مورست عليه من مقلدة الحنابلة المعاصرين له ، واستعدوا عليه بالسلطان وليس بالحجة والبرهان .

قال تعالى : ﴿ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . .﴾ . ولا يخرج هؤلاء من عموم هذه الآية بأفهام قاصرة . والذي أوقع هؤلاء بهذا المشكل المتعلق بخبر يأجوج ومأجوج عدم إدراكهم للفرق بين سد يأجوج المذكور في خبر ذي القرنين وبين السد المذكور على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يكون من أمر يأجوج ومأجوج ، إذ أن السد المذكور في خبر ذي القرنين على الحقيقة والسد الذي ذكره رسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مثال في المنام أوريه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوري الدجال طائفا بالحرم وما شابه هذا ، فكل هذا من باب ضرب الأمثال لا على الحقيقة فليتنبه لهذا ليزول الإشكال ويعرف الفرق ، فإنه مما لا يناسب العاقل البقاء على هذا المعتقد المفترض صحة وجود يأجوج ومأجوج خلف السد إلى يوم الوعد وهم بمعزل عن سائر خلق الله تعالى .

قال أحدهم : السد حق ثابت ، ولا ينفتح ليأجوج ومأجوج إلا قرب الساعة ولا يضرنا عدم علمنا بموقع السد على وجه اليقين ، ولكننا نؤمن بوجوده حقيقة تصديقا لخبر الله عز وجل اهـ . وقال غيره : لا يلزم من عدم رؤيتهم عدم وجودهم لإمكانية صرف الله الخلق عن رؤيتهم كما حصل لبني إسرائيل في التيه ولم يطلع عليهم الناس ، لأنهم لو اجتمعوا في الناس لبينوا لهم الطريق اهـ .

وهذا كله قولٌ التكلف فيه ظاهر ومخالفته للحقائق متيقنة ، وهو اعتقاد مبني على الوهم ، والحق إن شاء الله تعالى ما قررته في كتابي وجوب الاعتزال وهو أن يأجوج ومأجوج ليس هو اسم لجنس مخصوص من البشر ، وينقسمون إلى مجموعات مختلفة من بني آدم ، فمنهم من وقع أمره في زمن ذي القرنين ومنهم من وقع أمره في فتنة السرى فتنة الخليج وصدام العراق ، وآخرهم من يخرج على روح الله تعالى عيسى عليه السلام .

والقول بأن يأجوج ومأجوج هم التحالف الغربي من الروم وغيرهم على العراق بسبب تلك الفتنة واجتماعهم لطرد صدام وجيشه من أرض الكويت ليس هو من باب الرأي ، بل هو اعتقاد وتصديق دل عليه الكتاب العزيز وأخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وممـا جاء في ذكرهم ما ورد في سورة الروم قوله تعالى : ﴿ غَلَبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيُغلَبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ﴾ إلى قوله : ﴿ وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.

مع قوله في خبر يأجوج ومأجوج : ﴿ حتى فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق ﴾ . والوعد في سورة الروم هو بعينه الوعد المذكور في سورة الأنبياء المنصوص على اقتراب وقوعه عند انفتاح أمر يأجوج ومأجوج ، وقد نصت سورة الروم على أن انهزام الروم هو نصر الله وهو الوعد ، ومن قال بغير هذا احتاج إلى نص منفصل يثبت أن الوعد المذكور في سورة الروم ليس هو الوعد المذكور في سورة الأنبياء ، وما قررته في كتابي هو أخذ بظاهر الآيات مع ما يشهد له مما أوردته من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في خبر الروم وانهزامهم مع قيام الساعة وخبر الصلح معهم ضد العراق وغيره .

وقال في الإشكال الثالث : الموقف من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم واجتهادات بعض التابعين والتكلم عليهم بهذه الاجتهادات بكلام غيره أحسن منه أمثال ما جاء في ابن عمر وابن مسعود وأحمد والبخاري وسعد واعتبر أن هذا من جنس الكلام السيء مع العلماء اهـ .

فأقول : قد تقرر عند العلماء أن الكلام في القول أنه أخطأ فلان أو أنه لم يصب الحق في كذا أو مثل القول أن مذهب فلان في كذا مضطرب أو أنه وهم في كذا أو أن تأويله في كذا فاسد وهو تحريف ، فكل هذا وما قاربه من الجائز قوله خصوصا إذا تطلب المقام مثل هذا القول لتقرير حق ودفع لبس في أمر من المهم جدا تقريره بيانا للحق ودفعا للجهل ولا يناف ذكر مثل هذا القول في مذاهب الخلق إذا تبين خطأ تلك الأقوال إجلالهم وتعظيم شأنهم وتوقيرهم في القلب إذ قد يتطلب بيان الحق ودفع الباطل مثل هذا مع توقير المردود عليه وحفظ مكانته والإقرار بعظم منزلته في الدين ، وما ورد في الكتاب من كلامي في قول لابن عمر رضي الله عنه وأحمد والبخاري وغيرهم ممن نحب ونجل قد جرى به قلمي بحكم بيان الحق ودفع ما يضاده مع إقراري بعظيم منزلة هؤلاء واعتقادي بأن الطاعن بهم لينتقص من مكانتهم تقواهم هو الناقص البعيد إذ هؤلاء أئمة في الدين ومصابيح هداية يقتدى بهم ولكن الأمر كما قال أحدهم : كل راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر .

ومع هذا فإني لا أدفع عن نفسي تهمة الحدة التي غالبا ما تعتريني في مباحث الاعتقاد وأحكام الشرع وما أنا إلا عبد ضعيف شابه الكثير من النقص أسأل الله تعالى المغفرة ، وقد كنت قريبا أن أقر بأنها حدة مذمومة الأولى الإقلاع عنها إلى أن وقفت على أنها مما كان يعتري شيخ الإسلام رحمه الله في مباحثه قال في هذا محمد بن عبد الهادي الحنبلي : ( وله حدة قوية تعتريه في البحث ، حتى كأنه ليث حرب( 8 ) .

وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى يقول عن نفسه : أنا فيَّ بعض الحدة . وقال أيضا : يعيب بعضهم علي بعض الحدة حدة لا تحيل الباطل حقا ولا الحق باطلا .

وتعليقا على ما رواه الإمام البخاري في الصحيح عن أبي هريرة رفعه :" احتج آدم وموسى فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا ، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة " . قال الحافظ : فيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار طلب الحق وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى إظهار الحجة ( 9 ) .

ولعل أشد ما أنكره الأخ الفاضل تعليقي على ما نقل عن أحمد في قول معاذ : أنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة ، ولن تروا من الأئمة إلا غلظة ، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضره بعده ما هو أشد منه ، وأكثر أمير وشـر تأمير . فقال أحمد تعليقا على هذا : اللهم رضينا . قلت : هذه شنيعة كبيرة أسأل الله تعالى أن يغفرها له (10) .

قلت هذا لأن الرضى بولاية ولاة الشر غير صحيح وإن وقع قدرا فهو من المذموم شرعا وأمرهم وإن كان من جنس المصائب فهو ليس من البلاء الحاصل قدرا من غير إرادة حتى يسلم بها المسلم ويرضى تسليما للقدر ، بل هو من جنس سائر الذنوب كالزنا وشرب الخمر وما شابه فلا يليق الرضا به وإن وقع قدرا ، وكيف يستقيم هذا والرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ من بعض ممن يكون بعده من ولاة الشر ومن صدقهم وأعانهم وشايعهم وغشى أبوابهم ، بل أمر بجهادهم عند القدرة ومن أجل هذا الذي قرره أحمد هنا أنكر حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأمر بالضرب عليهما ، لا بل قال في حديث أبي هريرة في ولاة الشر واعتزالهم : هو حديث رديء .

وعلى هذا جاء ردي على هذا القول وفيه شدة تطلبها المقام لا غير لتعلقه بهذا الحكم المهم جدا خصوصا وأنه مما وقع به في عصرنا الكثير من الخلق الجهلة من حنابلة آخر الزمان هؤلاء المقلدة الذين جعل بعضهم ( 11 ) جهلا منه أن وجود مثل هؤلاء الولاة الظلمة أكبر مانع لتحقق بعث المهدي المنتظر وأنه يلزم من وجودهم اعتبار خروج المهدي من جنس خروج الخوارج المذموم ، ويكفي هذا مثالا سيئا على ما بلغه هؤلاء في باب أحكام الولاة واعتقاد حقهم بالطاعة ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله ، ولا تؤتون إلا من قبل أمرائكم وبئس عبد الله أنا إن كذبت ( 12 ) .

وقال في الإشكال الرابع : ما سماه ( مفردات الاعتزال ) . ولم أعرف مراده إلا مما ذكره لي بعض الأخوة بأن مراده الاشتراك بأداء بعض العبادات مع الناس سواء اشتراك زماني ومكاني أو زماني وأن هذا مما ينافي الاعتزال ، ويعني بالعبادات هنا الحج والصيام ، إن صح أن هذا مراده فهو قول غريب يلزم منه عدم القدرة على العمل بحكم العزلة المطلقة مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها عند وقوع الفتن .

والحج ليس من شروط صحته الاجتماع والإئتمام بإمام بل هذا كله في تمام الحج فما تخلف منه لا يبطل الحج وكان قديما يجتمع في الموسم أكثر من إمام ولم يقل أحد ببطلان حج الناس يومها كما حصل هذا في زمن ابن الزبير فقد كان في الموسم راية لابن الزبير وأخرى للخوارج وأخـرى لبني أمية وراية محمد بن الحنفية وكل منهم كان ينفر لوحده .

وأما القول بأن الصيام مع الناس منافٍ للاعتزال فهو قول غريب حقا ولو كان هذا صحيحا لكان العمل بالعزلة غير ممكن على الإطلاق ومحال أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يمكن العمل به بحال .

وقال في الإشكال الخامس : ( تحديد الوقائع محل اجتهاد ) .

فأقول : لقد ذكرت في بداية كلامي ما يرد على هذا القول وبينت كيف أن تحقق أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا يدخل تحت الكلام بالاجتهاد ، فما قرره المجتهد كان متحققا وما نفاه كان منفيا هذا من غير المعقول أبدا ( 13 ) ، إلا أنه قد يدرك تحقق الخبر وقد يفوت بعضهم إدراك حقيقة وقوعه وهذا يصح اعتباره فيما فد يخفى إلا على الحذاق من الناس إدراك حقيقته وأما ما لا يمكن أن يكون مما يخفى معناه فهذا مجرد وقوعه دال على تحققه ولو جهل ذلك من جهل فإن خبر الصادق لا يتخلف والله يهدي للإيمان والتصديق من يشاء ويصد من يشاء .

فمثلا القول بأن الدخان المنبعث من آبار البترول في الكويت على يد عسكر صدام العراق هو الدخان المذكور في سورة الدخان وأن الرسول المشار إليه هناك هو المهدي وأن الزلازل التي تجتاح العالم في عصرنا اليوم هي علامـة أكيدة على تحقق خروجه ، ليس تقرير كل هذا نفيا وإثباتا مما يقال فيه بالاجتهاد أبدا فهو أمر توقيفي نص عليه القرآن والسنة وكم يعوز النافي البرهان على صحة نفيه ، وأما من قال بتحققه فكل الشواهد معه ويكفي بأن الله وصفه بقوله : ﴿ رسول مبين ﴾ . أي ظاهر الأمر غير خاف ولا ملتبس ، ومن معاني المبين أيضا لغة الفصل وهو معنا مشعر بالعزلة والانفصال عن الخلق .

وجلاء أمره لا ينافي جهل الكثير من الخلق بحقيقة أمره إذ أن الله تعالى أقام لأمره هذه البراهين العديدة على صحته وجهل أكثر الخلق به لا يحيله إلى باطل قال تعالى : ﴿ وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ .

وكيف إذا اجتمع إلى ما سبق أن الله قدر بحكمته أن هذا الأمر لا يأتي الناس إلا بغتة فقال سبحانه : ﴿ فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ﴾ . أي أنى لهم أن يتذكروا ، وأمـر المهدي من أمـر ذكراهم ، بل نص على هذا المعنى في سورة الدخان فقال عز وجل : ﴿ أنى لهـم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون ﴾ . ففي ظاهره نفي تحقق التذكر منهم .

هون عليك فإن الأمور بكـف الإلـه مقاديرها

فليس بآتيـك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها

وفي الختام أسأل الله أن يهدي أولياءه ويقربهم إلى مرضاته ويبعد أعداءه في عصرنا هذا ويزيدهم جهلا إلى جهلهم فإن في كثرتهم غمة على قلب المؤمن وفي ذلهم وبعدهم عنه فرجة وسعة في زمن ضاقت على المؤمنين الأرض بما رحبت ، وصلي اللهم على نبيك وآله وصحبه الكرام .

 

​​​​​​​

كتبه / أبو عبدالله

الحسين بن موسى بن الحسين اللحيدي

تم مساء الخميس 22 رجب 1421 ه

الموافق 19 / 10 / 2000

 

 

....................

( 6 )  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيت الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان فانتظر الساعة " متفق عليه . وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : " إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاري . فأقول : الأمر كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن ننتظر الساعة وليس كما يزعم الجهلة واعتقدوا أن للأمر مهلة بعد فأخذهم نتيجة هذا طول الأمل وصدهم إبليس عن الإيمان والتصديق .

( 7 ) التاريخ (6/261 ) .
 

( 8 ) العقود الدرية (ص 28(.

( 9 ) الفتح (11/512) .
 

 )10 ( بيان وجوب الاعتزال (1/94 .

 ( 11 ) هو ابن باز مفتي عام الحنابلة السعوديين .

( 12 ) مصنف عبد الرزاق (3/191) .
 

( 13 ) ولو كان هذا صحيحا لأصبحت نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم ملطشة لعميان جهلة الحنابلة ومقلديهم إذ هم على أتم استعداد للدفع بنحر الأخبار ما دام في هذا سلامة ولاتهم . ألا ترى من عد خروج المهدي في عصرهم باطلا وهو من جنس خروج الخوارج .