غفلة التويجري وسذاجة اعتقاده في تعيين المهدي
قال رحمه الله تعالى في هذا الخصوص : أما المهدي الحق ليس هو الذي يسمي نفسه بالمهدي وإنما يسميه الناس بذلك إذا رأوا أعماله الصالحة وعمله بالسنة ونشره للقسط والعدل وإزالته للجور والظلم .. ولا تكون دعوته سياسية اهـ .
وقال في موضع آخر من كتابه ( الإحتجاج بالأثر ) : ذكرت في عدة مواضع أن المهدي لا يطلب الأمر لنفسه ابتداء مدعيا أنه المهدي كما يفعل ذلك المدعون للمهدية كذبا وزورا ، وإنما يأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه ثم يسميه الناس بعد ذلك بالمهدي لما يرونه من صلاحه وعدله وازالته للجور والظلم اهـ . ــ ص 302 ــ
أقول : هذا الإعتقاد في تعيين المهدي فضلا على أنه ساذج لأبعد الحدود ، هو دعوى صريحة موافقة لمبدأ العلمانية اللادينية القائلة : لا دخل ولا علاقة للدين في السياسة ! .
بل زاد معتقد هذا الشيخ الساذج على مبدأ العلمانية هذا بالقول بتهميش أكبر قادة العالم الاستثنائيين بتوليهم لحكم العالم كله وليس بلدا دون غيره ، بل سيحكم العالم كله ، ومع هذا يعتقد هؤلاء السذج بوجوب تهميشه عن السياسة ، بل تقرر في اعتقادهم أنه لا يعي من أمره شيء ما يدل على انعدام تلك الأهلية التي ترشحه لحكم العالم ، حتى يفرض عليه التعيين من حفنة مشائخ هم أجهل خلق الله بالسياسة وشؤون الحكم ، هكذا يريدون الأمر ، فالناظر اليوم لأكرم شيخ فيهم لن يجد أعلمهم إلا أحمرهم بهذا الشأن ، فما بالكم بمن هو دونه .
ويعتقدون بأنه يجبر على أخذ البيعة مخاطرين بروحه وأرواحهم إذ يدفعونه للخروج ما بين الركن والمقام ، مثل ما فعل جهيمان في فتنة الحرم ــ ومع هذا يقول التويجري ليس ذلك سياسة ـــ ، وهو الفعل عينه الذي أنكره هذا الشيخ التويجري وغيره على جهيمان العتيبي ومهديه الأبله ، حين قهره على وفق أصل معتقد هذا الشيخ الساذج في تعيين المهدي ، وألزمه الخروج بين الركن والمقام لطلب البيعة من العامة ، بعد ما تم تعيينه من جهيمان وزمرته وذلك على وفق أصل معتقد هذا الشيخ وغيره ، أن بعض الناس يلهم ويوفق لتعيينه فيقهره على البيعة بين الركن والمقام ، وما كان من طاغوت الجزيرة في تلك الفتنة إلا أن تكتم على الأمر وعزم القضاء عليه في مهده ، حتى قبل انتظار بعث الشام ورؤية هل لذلك نصيب من التأويل أم لا ، والمشائخ لم يعارضوا في ذلك ويستنكرون ، بل سلموا لنظر الساسة الحكام في جزيرتهم من غير أي اعتبار لما يتشدقون به من إيمان وتصديق في أن المهدي يخرج مكرها للبيعة بين الركن والمقام ، وبالطبع اليقين لم يأتهم على بطلان أمر مهدي جهيمان إلا لاحقا لما تيقنوا موته ، أما قبل ذلك فأنى لهم اليقين وهذا اعتقادهم ؟!
إنها سذاجة بالفعل منقطعة النظير في الإعتقاد ، هي التي بذرت لفتنة جهيمان ومهديه وأنبتت تلك الكذبة العتيبية ، وما زالت ولو ماتت ثمرة جهيمان وإخوانه تلك البذرة حية في أذهان هؤلاء السذج تنتظر من يسقيها لتثمر من جديد ، مثل ما أثمرت مع جهيمان ومهديه الجاهل ، فمنطلق مثل هذه الفتن هذا الإعتقاد الساذج الذي عليه هذا الشيخ وغيره من بلهاء السنة .
أقول : فضلا على سذاجة هذا الإعتقاد ، فالدافع لتقريره من التويجري رحمه الله تعالى في كتابه ، فتنة جهيمان نفسه ومهديه ، إذ من المعلوم أن كتاب التويجري الثاني إنما خرج بعد حصول تلك الفتنة فأراد الشيخ رفع المعرة عنه والريبة بالدفع في معتقد جهيمان في التعيين والتبرؤ منه ، فألف كتابه ذلك بحجة الرد على القطري وهذا هو المبرر المعلن ، لكن الهدف الأساس تفنيد فعلة جهيمان في فتنته وتقييد التملص من تبعاتها ، خصوصا أن جهيمان نسبه البعض للتأثر بكتاب الشيخ التويجري المشهور ( اتحاف الجماعة ) وأنه كان المرجع الروحي لتلك الأفكار من قبل تلك الجماعة ، ما دعى الشيخ لتصنيف كتابه ( الإحتجاج بالأثر ) وهو فرع على كتابه الكبير الأول ، ليبرأ من اعتقاد جهيمان في التعيين ، لكنه وفي نفس الأمر يقول بعين اعتقاده الساذج أن المهدي إنما يجبر على البيعة جبرا من قبل بعض ــ ولا ندري ما اهلية هؤلاء البعض ــ الناس الذي يفترض فيهم أصحاب هذا الإعتقاد الساذج أنهم علماء ، ومن المعلوم أن من يعتقد فيهم أنهم علماء اليوم هم أقرب الناس للسلاطين ، بل هم أشد الموالين لهم ، وهذا حكم على هذا المعتقد مع سذاجته باستحالة تحققه ، لأنه جمع لنقيضين في معتقد واحد ، فالمشائخ اليوم يرون خروج المهدي لو خرج نكثا للبيعة الشرعية ـــ وهو قول هذا الشيخ نفسه وقد صرح به الضال ابن باز أيضا ، قالوا ذلك ردا على فتنة جهيمان ـــ ، وفي هذا قمة المكر والتلبيس على حقيقة أمر المهدي بهذه الأفكار الشيطانية القاضية على استحالة تحقق ذلك عمليا ، مع مجانبته للصواب إيمانيا ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، هو يحفظ مواعيده سبحانه بما يشاء ، ويبطل كيد الكائدين جميعهم .
وقد اتحدت اقوال هؤلاء المشائخ الضلال على هذا المعتقد الساذج في التعيين ، وعلاوة على ما سبق في بيان تهافت قولهم هذا أزيد بالقول : أن معتمد قولهم على آثار منها ما هو غير صحيح ـــ الجبر على البيعة ـــ ، ومنها ما هو غير صريح بل يعد قولهم فيها تحميلا لمعنى النص بما لا يدل عليه لفظه بحال ــ أنه لا يعرف نفسه ولا يعين إلا بعد حكمه للأرض ــ ، وهذا كله من التخرص والجهل على أمر المهدي .
ومن أظهر تناقضهم في هذا المعتقد الساذج دعواهم ضلال وخطأ من قال بالتعيين قبل أن يحكم الأرض وتظهر بذلك العلامة الأكيدة وهي تطبيقه ونشره للعدل وعمله على زوال الظلم ، مع تصويبهم اعتقاد جبره على البيعة من فئة قليلة بغير عتاد ، لا حول لهم ولا قوة إلا التصديق والحدس المحتمل للصواب والخطأ ، وبهذا جوزوا التعيين لهذه الفئة قبل نشره للعدل وحكمه للأرض وهذا مناقض لما قرره التويجري بكتابه الثاني وأفتى به ابن باز الضال بعد فتنة جهيمان مباشرة ، مع أنهم يقولون بمنعه في ذات الوقت على وفق اعتقادهم العام المعلن الذي أشار له التويجري في كلامه المنقول عنه آنفا .
وكل ذلك على حسب اعتقادهم الساذج مراهنة بتحقق بعث الشام وخسف البيداء ، وهو عين ما راهن عليه جهيمان العتيبي ومهديه الكذاب ، فمنعه هؤلاء تحكما ومزايدة على جهيمان العتيبي فأصله وأصلهم في ذلك سواء .
قال ابن باز في معنى ما قاله التويجري : لا يجوز الجزم بأن فلانا المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما اهـ . ( جريدة عكاظ 18 محرم 1400 هـ )
وكان قبل ذلك قال : لا يجوز لأي مسلم الجزم بذلك ، لأن ذلك قول على الله وعلى رسوله بغير علم ، ودعوى لأمر قد استأثر الله به حتى تتوافر العلامات والأمارات التي اوضحها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها وصف المهدي ، وأهمها وأوضحها أن تستقيم ولايته على الشريعة وأن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا .. .
إلى قوله : وبعد توفر هذه الأمور كلها يمكن المسلم أن يقول أن من هذه صفته هو المهدي اهـ . ( مجلة البحوث الإسلامية عدد ــ 5 ــ عام 1400 هـ )
يفهم من هذا الكيد الشيطاني عدم اعتبار الخسف آكد العلامات ، مع أنها على معتقدهم الساذج آية أكيده في تعيينه لكن ومع هذا لا يعتد بها في التعيين ، وهذا افتراء محض وقول كاذب يراد منه رمي معتقد تعيين المهدي عليه السلام في بحر المجهول ، وجعل من الإستحاله القطع به وتعيينه ، إذ لا يعقل المنع من الجزم به حتى تتوفر كل هذه العلامات ، فبذلك كما هو صريح المعقول اللازم لمعتقدهم الساذج يتم تفويت فضيلة النصرة والتصديق والسبق لتأييده والنجاة من شر الإبتلاء بمخالفته ، فيقال للناس : لا تجزموا . للتعطيل بلازم عدم الجزم تصديقه ونصرته والسبق للنجاة معه ، فيترك الناس بهذا حتى يهلكوا مع من هلك أو يتبعوا الدجال .
وهذا الكذاب المفتون إنما قوله هذا وهو المشهور عنه المبثوث في جملة فتاوى له ، بل من أتباعه الجهلة من قيده في موقعه الرسمي مستأنسين به على أنه الحق الذي لا محيد عنه ، مبناه على قول أخذ يتناقله الجهلة الضلال في أيامنا الأخيرة لسفيان الثوري المشهور عنه ما معناه : لو مر على بابك المهدي لا تتبعه حتى تجتمع عليه الأمة اهـ .
وهذا قول ضال وجهل بأمر المهدي مطبق ، وكذب زعمهم أن الثوري وقاف أثري ، بل بقت عليه بقية من أصحاب الرأي اعملها بعناد في أمر علي رضي الله عنه وولده المهدي عليه السلام ، وليس هذا أوان مناقشة الثوري فيما ذهب إليه وإبطاله ، ويكفي في رد قوله وبيان سطحية اعتقاده في المهدي عليه السلام ، أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على أمره وغير أمره ، بل الخلاف فيهم فطري وهو بازدياد ، وآكد ما يكون وأثبته خبرا آخر الزمان عند حلول الفتن وكثرة الهرج ، ولا يطلب منهم الإجتماع حين ذاك على أمر المهدي إلا ساذج لا يعي من أخبار الإختلاف شيء .
وعلى دربه وتساهله بأمر المهدي سار هؤلاء المفتونين ، وابن باز من أبرزهم ومن دونهم جميعا ، لا يستغرب من قول ما قاله سابقا في تعيين المهدي ، وذلك إذا علم أن مما يقطع به تأكيدا على رميه أمر المهدي للمجهول ، أن المهدي لا يخرج وهناك ولاية قائمة على حد زعمه وتقوله على غيب الله تعالى بقوله : إن المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر ... فكيف يجوز له الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية ، فيشق عصاها ويفرق جمعها وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صحّ عنه : " من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان " ــ رواه مسلم ــ . ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بايعهم أن لا ينازعوا الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان . وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج .. اهـ . ( المرجع السابق )
وفي هذا جهل مبين وضلال مكين ، إذ كيف يعتبر في هؤلاء مانعا لخروج المهدي ، ويلزم في بيعته لهم على ضلال خروج المهدي لو خرج عليهم ، وفي هذا أبين شيء على نفاق هذا المرتزق وأنه شديد التقول على غيب الله تعالى ، وهذا منه فوق ضلاله على تأكيد الشرعية لولايتهم مع التغاضي عن ثبوت ردتهم ، إن الهالك المرتزق ما مات إلا وهو مطموس البصر والبصيرة والعياذ بالله تعالى .
وبالعودة للرد على التويجري أقول : ليس صحيحا أن المهدي لا يعرف إلا بتلك العلامات التي نص عليها واشترطها في تعيينه ، بل الصحيح أن المهدي أمره أكبر مما تصوره التويجري وكل أصحاب المعتقد الساذج في المهدي عليه السلام ، إذ أنه رسول مبين ومعلَّمٌ حكيم ، آتاه الله تعالى من البينات والآيات ما يقطع على كل من خالفها في تعيينه بالضلال والجهل والنفاق ، ولم يجعل الله تعالى تعيينه لهؤلاء الحمقى والسفهاء الموالين لأشر السلاطين ، بل جعل تعيينه لنفسه جل وعلا بما نص على ذلك في كتابه العظيم فقال عز من قائل في أظهر أماراته : ﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون . أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ﴾ .
ومما جهله هؤلاء الحمقى أن المذكور في هذه الآيات هو المهدي عليه السلام وليس نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوصفه بالـ( معلَّــم ) والمعلَّم يقينا ليس هو رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا المهدي من نص على خبره المولى عز وجل في هذه الآيات ، وعليه تكون آية الدخان علامة ( 1 ) دالة على زمنه وعينه لا ينكرها إلا مكذب للقرآن العظيم .
يدل على ذلك ما روى ابن سعد في طبقاته عن عبدالرحمن ابن أبي الزناد قال : سمعت ابن أبي عتيق يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي إلا في أمته معلَّم أو معلَّمان ، وإن يكن في أمتي أحد فابن الخطاب، إن الحق على لسان عمر وقلبه".ــ ( 2 )
قلت في كتابي ( رفع الالتباس ) تعليقا على هذا الحديث : والمُعلَّم هو الذي يعلمه الله ويلهمه ويلقي في روعه ما يشاء من الحق كحال عمر رضي الله عنه ، وعلى هذا لو كان المراد بآيات سورة الدخان محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكر المُعَلَّم في وصف ذاك الرسول ، لأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأجل من المهدي وعمر ، ومنزلته في النبوة أرفع بكثير من منزلة المُعَلَّم . وجاء في أول رواية عبدالرحمن بن أبي الزناد عن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يقول إذا خطب عمر رضي الله عنه : أشهد أنك معلَّم اهـ . ( ص 47 )
وقلت في كتابي ( كشف اللثام ) أنقله هنا بتمامه لأهميته : والناس اليوم في بعث المهدي وتحقق إرساله من الله عز وجل ممن بلغه نبأ البعث على فريقين .
الأول : آمن وصدق في أمره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : كفر به وكذب بأمره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء توعدهم الله عز وجل لإعراضهم وتكذيبهم وتكبرهم على آياته والصد عنها بالصرف عن الإيمان بها وإحباط أعمالهم وإحقاق العذاب بهم ، وإدخالهم جهنم وبئس المصير ، قال الله تعالى في خبر الفريقين : ﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معجزين أولئك أصحاب الجحيم . وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي .. ﴾ . فالذين آمنوا وعدهم بالمغفرة ، والمكذبين وعدوا بالجحيم .
وزاد ابن عباس وأبي بن كعب رضي الله عنهما في قراءة هذه الآيات : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ﴾ . ( 3 )
ومناسبة ذكر إرسال المحدث في سياق الآيات هنا أن كل ذلك مما يكون تأويله آخر الزمان فناسب ذكره هنا .
ومحدث هذه الأمة الذي سيرسل هو المهدي قطعا فآيات سورة الدخان صريحة فيه ، وما قُرأ : بـ( محدَّث ) هنا إلا لبيان جواز إرسال المهدي في هذه الأمة كما أرسل أمثاله في السابقين ولولا هذا وحاجة الأمة له لما ناسب ذكر إرسال المحدَّث هنا ، فليتنبه لهذه الفائدة فهي عزيزة .
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أمته معلَّمان أحدهما عمر رضي الله عنه والآخر المهدي ، فأما عمر فقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان بعدي نبي لكان عمر " ( 4 ) .
وأما المهدي فقد قطع الله تعالى في كتابه بإرساله آخر الزمان وذلك في قوله عز وجل : ﴿ أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون ﴾ . والمعلَّم والمحدَّث سواء وقد كان يرسل في السابقين وهذه الآية دليل على أنه سيرسل في آخر هذه الأمة كسنة السابقين .
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث أن المهدي سيبعثه الله تعالى في هذه الأمة ، ولا يكون البعث من الله إلا إرسالا .
وروى ابن سعد في الطبقات عـن عبد الرحمن ابن أبي الزناد قال : سمعت ابن أبي عتيق يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي إلا في أمته معلَّم أو معلَّمان ، وإن يكن في أمتي أحـد فابن الخطاب ، إن الحق على لسان عمر وقلبه " . ( سبق تخريجه )
وجاء في أول رواية عبدالرحمن بن أبي الزناد عن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يقول إذا خطب عمر رضي الله عنه : أشهد أنك معلَّم ( 5 ) وهـذا دال على أن المعلَّم غير النبي ويكون بعده ، ودلت سورة الدخان على أن المهدي معلَّم وسيرسل آخر الزمان .
ولموافقة معنى آيات سورة الحج في ذكر إرسال المحدَّث ، لإرسال المهدي آخر الزمان أوقع في سياق تلك الآيات الوعيد للكفار بقوله : ﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ﴾ .
وهذا مما لا يناسب إلا حال الجيل المدرك للساعة وهو الجيل الأخير الذي ورد إطلاق هذا الوعيد له في القرآن في أكثر من سورة اهـ . ( كشف اللثام 3 )
وفي هذا يعرف بطلان تخرصات التويجري وابن باز وغيرهما ممن قال في أمر المهدي وتعيينه بالجهل والضلال المبين ، غافلين ضالين عن أن الله تعالى ما جعل لأحد من دونه تعيينه والتعريف بحينه ، وعليه نص على أخباره في كتابه العزيز سبحانه ، وبين في ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم على أتم وجه ولو جهل ذلك من جهله .
وهذا في خصوص العلامات الدالة عليه من الكتاب العزيز ، أما السنة فقد سبق التفصيل في بيان ذلك بما يغني عن تكريره هنا ، ومن أراد الزيادة في معرفة حقيقة الأمر فليراجعه في مضانه .
والأمر لم يقتصر على ما ذكر عن هذين الشيخين ، بل تعدى في مقلدتهم إلى أزيد من ذلك ، فكذا الضلال لا حدود له ، كلما ضل جيل خلف من هو أضل منه سبيلا وأبعد قيلا .
قال أحدهم : فمن سولت له نفسه أو سول له الشيطان أن يدعي هذه الدعوى فعليه أن يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم من السماء وإلا فهو كذاب أفاك اهـ . ( موسوعة البستوي في أحاديث المهدي 1/384 ) .
وهذا الكذاب الأفاك مع أنه جمع في أحاديث المهدي وادعى أهليته لتمييز ما فيها من صحيح وضعيف وموضوع ، تراه يقول بهذا الجهل في التعيين ، متناسيا الأحمق أن التعيين دون ذلك لزاما ، وأن الخسف الذي يؤمنون به إنما أمره قبل الدجال وعيسى بن مريم عليه السلام ، لكن هكذا هي أماني المنافقين إبعاد أمره ، والتلبيس على خبره .
ولا أراهم إلا يجمعون لمثل هذا ، قوله : ومن أفضع وأسوأ ما ابتلي به المسلمون من هذه الفتن النكراء تلك التي قام بها جهيمان مع شرذمة من أصحابه ... إلى قوله : واتخذ ولاة الأمر في المملكة حرسها الله .. اهـ . ( المرجع السابق )
وهكذا يريدها المنافق لا لوجه الله تعالى ، بل لرزقة التزلف والتقوت بالماجستيرات .
ومثله قول العباد حين هب مثلهم لإنكار فتنة جهيمان : ومن ذلك ما امتن الله به على حكومة البلاد المقدسة من التوفيق لتحكيم الشريعة وتعميم المحاكم الشرعية في مدن المملكة وقراها ، يتحاكم الناس فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه على وجه لا نظير له في سائر أنحاء الأرض فيما نعلم ، فيرجم الزاني المحصن .. اهـ . ( عقيدة أهل السنة والأثر ص66 )
وكذب هذا المنافق الذي ما حاضر إلا لهذه تكسبا وتزلفا على عادة منافقي القراء في زمانهم هذا ، وإلا من رأى أو سمع برجم زاني محصن ، وما أكثر الزناة في بلادهم ؟! . ولا يغرنا بالمقارنة إذا عدمت من مؤمنين حاكمين ، إذا لم يكن إلا ولاته المنافقين ، فليهنأ بهم لوحده ، إنما العبرة بمقارنتهم بإمام العدل لا غيره لكن هذا ابتغى التلبيس وقد أدركه عليه لعنة الله تعالى والناس أجمعين .
وليس بعيدا عنه التويجري نفسه إذ قال في هذا بعد فتنة جهيمان متزلفا لهؤلاء الملاعين : وكذلك الفئة التي نكثت البيعة وشقت العصا .. اهـ ( الإحتجاج بالأثر ص 36 )
فجعل لهؤلاء الولاية الشرعية ما يدل على أنه مات وفي عنقه بيعة لهم ، وحمل الوعيد الشديد على من لا يرى ولايتهم منه ظلم عظيم وجرم وخيم ، وهذا من انقلاب البصائر أن يضل مثله في هذا الباب ويضطر في تأكيده للتصنيف ، عائذين بالله من الجهل والجاهلين .
بل زاد في الغي والضلال أن ادعى في ( اتحاف جماعته ) على دولة آل سعود بأنها الطائفة المنصورة فقال : وصارت الطائفة المنصورة دولة عظيمة ذات شوكة قوية وبأس شديد بعدما كانوا قليلاً مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، فآواهم الله وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات لعلهم يشكرون اهـ .
بالطبع لبس هنا وجعل الكلام عام في كل دول آل سعود المتعاقبة لخاطر ذكر الشيخ ( محمد بن عبدالوهاب ) ، وضمنا تدخل دولتهم المرتدة الأخيرة لقرينة رزقهم بالطيبات ، وهذا آكد ما حصل في المتأخرين .
ولا يسعني هنا إلا القول بكذب هذا الدجال الملبس وليسمح لي القارئ أن اطرح هنا أي تقدير واحترام لهذا السخيف على ما دسه هنا من ضلال وكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن يجعل آل سعود وكلابهم من قراء السوء حنابلة السفه الطائفة المنصورة لا كرامة له عندي ولو كان من كان .
وأقول أيضا : كم تخرص في قوله بــ: أن المهدي لا يخرج في حين اجتماع المسلمين على إمام واحد ، وإنما يخرج في حين تفرق المسلمين واختلافهم فيجتمع المسلمون عليه .. اهـ ( المرجع السابق )
وهذا عين قول ابن باز السابق ، وهو ضلال ونفاق وجهل مبين ، إذ لا يقول بهذا عاقل راشد لظهور حالهم السيئة وجلاء ردتهم البينة ، أما من يعد وجودهم مانعا لخروج المهدي ولو ثبتت بينات الله تعالى ورسوله في تعيين المهدي مثل الدخان وغيره ، فهذا لا أقول بأنه ساذج فقط ، بل منافق جاهل ، بل متكسب بالباطل أحقر .
------------------
( 1 ) الغريب أن التويجري في كتابه ( إتحاف الجماعة 3/188 ) عد هذه العلامة ــ الدخان ــ من أشراط الساعة آخر الزمان ولم ينتصر لقول ابن مسعود في ذلك ! .
( 2 ) الطبقات لابن سعد (2/255) .
( 3 ) ذكرها البخاري في الصحيح عن ابن عباس معلقة بصيغة الجزم ، وقال الحافظ ابن حجر : إسناده صحيح . الفتح (7/42 و 51 ) ، وقراءة أبي بن كعب الاعتقاد للبيهقي (315) .
( 4 ) رواه أحمد في المسند (28/624) ، والترمذي وحسنه (5/578) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
( 5 ) الطبقات لابن سعد (2/255) .