من أدلة البعث بالـمـُلك في القرآن

لقد ثبت في القرآن الدليل على تحقق البعث الشرعي في بني إسرائيل على الرغم أن ذلك لم يكن في ( معلَّم ) محدث مكلم ، ومع هذا وصف ذلك الرحمن في كتابه العزيز بأنه بعث منه بإضافته إلى نفسه العظيمة إضافة تشريف ، وللأمة في هذا الخصوص زيادة مزية على بني إسرائيل إذ تحقق بعث الملك الشرعي فيها بـ( معَلَّم) محدث مكلم ، وأيضا باصطفاء مجرد عن كل تمني وطلب من البشر ، خلاف ما حصل في بني إسرائيل إذ هم من طلب ذلك من نبيهم بعد أن كانوا يحكمون بالأنبياء ، ولما أرادوا مشابهة حال الأمم والشعوب من حولهم طلبوا حين ذاك من نبي لهم أن يجعل فيهم ملكا كما الأمم الأخرى ، فاستجيب طلبهم وكان من قصصهم ما ذُكر في كتاب الله العزيز .

وخير تفصيل لهذه الحقيقة الشرعية ما أورده المهدي عليه السلام في كتابه النافع ( نثر الدرر في جواب إشكالات على أمر المنتظر ) ينقل هنا بتمامه لفائدته العزيزة ، قال عليه السلام :

قال تعالى : ﴿  فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾ (2)  وقال تعالى : ﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) (3) 

فالمخبر بالإرسال مع ثبوته هو الذي جاء بالصدق وصدق به ، والمكذب بالإرسال مع ثبوته بالبراهين هو الذي كذب بالحق لما جاءه .

وهنا أقول : لكل من يخالف في عدم ثبوت صحة القول ببعث وإرسال المهدي من الله تعالى آخر الزمان أن ينظروا جميعا بإخلاص ما يناسب مـن يثبت صحة هذا الادعاء وينفيه كما فعلوا ، فكلا الوصفين الذين حتما لزم حكمهما أحدنا إما الكَذِب أو التكذيب ، وكلاهما ترتب عليه الوعيد بدخول جهنم والعياذ بالله تعالى في حال ثبوت موجبه وشرطه .

فمن صَدَقَ بدعوى الإرسال لزم مكذبه ثبوت الشرط واستحقاق الوعيد بإدخاله جهنم ، ومن كَذَبَ بدعواه الإرسال ثبت بحقه الشرط الموجب لدخول النار .

أما عني أنا فقد نظرت في الأمر فما وجدت إلا عامة من يلقب بأهل السنة وخاصتهم من المعاصرين جهلة جهلا مطبقا مركبا في أمر المهدي عموما، وفي كونه يبعث ويرسل من الله تعالى خصوصا ، ما لا يوثق معه بترجيحاتهم وتصوراتهم ، إذ أن أفهامهم الكليلة المتبلدة إلى حد الجمود في هذا الباب تمنع من ذلك ، حتى أنهم لم يتمكنوا من بلوغ إدراك دلالة الكثير من النصوص في شأنه على الرغم من انطباقها انطباقا تاما مع واقع تحقق التأويل ، وهؤلاء وهم بهذه المنزلة لا يتخذهم قدوة وحكما في هذا الأمر إلا من هو أجهل منهم وأضل ، ولن يكون في هذه الضلالة العمياء إلا راداً على الله حكمه ومكذبا للمهدي في صدقه والعياذ بالله .

 ومن أظهر ما يدل على جهلهم في هذا الخصوص وجرأتهم في التكذيب على الله تعالى مخالفتهم في عدم تصديق وعد الله تعالى أنه سيملك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خليفة كما فعل قبل في بني إسرائيل في قصة طالوت ، قال تعالى : ﴿   ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله . . ﴾ (4) وقال  : ﴿  وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتَ  سعة من المال  قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم  والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم . وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم . . ﴾ (5) .

فهذا في قصة أول تمليك في بني إسرائيل وقد صارت لهم سنة أن يكون من الله تعالى التمليك فيهم ولذا سماه سبحانه وتعالى بعثا ، وهو بعث شرعي وإرسال من المولى تعالى  ، إلا أنه بعث وإرسال في الملوكية والحكم لا النبوة المطلقة والإرسال المطلق ، وهو مع ذلك من جنس بعث وإرسال الأنبياء والرسل الذي لا يكون إلا من الله تعالى ، قال تعالى : ﴿    كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. ﴾ (6)  مع قوله في طالوت : ﴿  وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . . ﴾ فسمى تمليكه عليهم بعثا لاشتراكه في أصل النبوة والإرسال وهـو الوحي !! ، ولذا عده الله تعالى من أعظم النعم على بني إسرائيل إذ ذكره قرينا للنبوة والكتاب في الذكر ، قال تعالى : ﴿  ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة . . ﴾ (7)   و قال تعالى : ﴿  أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . . ﴾ (8) .

ولبيان منزلته العظيمة عنده وتوثيقا لهم في أن مرده له وحده سبحانه من دون غيره حتى أنبياءه ، جعل لهذا الاختيار والاجتباء للملك في بني إسرائيل آية وهو التابوت فيه سكينة لهم ! .

ونظيره في المهدي عليه السلام جعل له آية تواتر الزلازل ، وهي لا تقل بالمنزلة من جلب التابوت تحمله الملائكة ، فالزلازل كذلك من فعل ملائكة الله تعالى ليس للبشر ولا الشياطين مقدور عليها ليلتبس الأمر ! ، بل قد يدخل اللبس بحملة التابوت ، فالشياطين تحمل أثقل من ذلك ، أما الزلازل فليس بمقدور أيا كان من المخلوقات فعلها على الإطلاق ، أمرها قدري بحت كالخسف وما شابهه من جنس الآيات العظيمة .

وهذا الجنس من الحكم المضاف للرحمن تعالى ، حكمٌ خاص يؤتى به العبد من لدن العلي العظيم كما يؤتي عباده الكتاب والنبوة ، قال  تعالى في ذلك:   ﴿  ما كان  لبشر أن  يؤتيه  الله  الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله . . ﴾ (9) .

وهذا الاستخلاف في الحكم سيكون مثله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام كما كان في بني إسرائيل ، وكل من قال سيكون له ولغيره في الأمة يعد كاذبا على الله تعالى ، كما أن من يقول لن يكون مثله في أمر المهدي يعد كاذبا كذلك على الله تعالى ، وهو استخلاف خاص لا يكون إلا بوحي من الله تعالى وكاذب ملعون كل من ينكر هذا لرده كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام في إثبات ما أقرره هنا ، وعلى هذا النحو استحق مهدي الله تعالى إضافة التشريف لله على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال في صفته : ( خليفة الله تعالى ) (10)  . وهي إضافة خاصة تفيد التشريف والتكريم مثل : بيت الله ، روح الله ، ناقة الله .

قال تعالى : ﴿  وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا.. ﴾ (11) أتى هنا بالكاف للتشبيه ، وهي تقتضي المشابهة في الصفة ، وهو مما لم يقع من قبل في هذه الأمة والأمر كما قلت أمر خاص بالاستخلاف ولن يكون في هذه الأمة إلا لمهدي الله تعالى كما لن يكون إلا بوحي من الله كما كان في بني إسرائيل ، وكل مكذب لهذا إنما هو مكذب لكتاب الله في إخباره وراد عليه كاف التشبيه المذكورة في الآية .

 وعلى وفق هذا الأصل خرج لفظ حديث من أحاديث المهدي كما روي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى يستخلف رجل من أهل البيت ) (12) . ومن المعلوم أن المهدي غير مسبوق بالخلافة حتى يستخلف ممن سبق ، وإنما المستخلف له في أمره سيكون الله تعالى على مثال من سبقه في بني إسرائيل ، ومن هنا جاءت إضافته إلى المولى تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : ( خليفة الله ) . أي هو الذي يستخلفه ، ولا يمكن بحال تصور حصول ذلك من غير وحي من الله تعالى ، فليتنبه لذلك لأهميته !! .

 ويجدر هنا أيضا التنبيه على ما ورد في آية الاستخلاف المذكورة في سورة النور من ذكر الخوف ، وهو الوصف المطابق لحال عباد الله الصالحين اليوم في جميع أصقاع الأرض ما يصح اعتباره من أمارات قرب تحقق التمكين في الأرض للمهدي لمطابقة إخبار الآية واقع حال هؤلاء الصالحين الذين نسأل الله تعالى القادر على كل شيء أن يكون فرجهم قريبا وليس بعيدا .

هذا ما في كتاب الله تعالى من دون تفصيل الكلام على ما ورد في سورة الدخان وبيان مدى تعلقها ببعث المهدي طلبا للاختصار ، وقد فُصل في بيان دلالة الآيات في سورة الدخان على بعثه في كتابي ( وجوب الاعتزال ) .

كما  لا يفوتني هنا التنبيه في وجه النفاة على ما يؤكد تحقق هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عموم نصوص أخرى ، منها ما ورد عن المستورد بن شداد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تترك هذه الأمـة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه ) . ومن السنن كما قلت قبل ، سنة الاستخلاف وهي ستكون في هذه الأمة مثل ما كانت في بني إسرائيل سواء بسواء ، وعلى هذا نص كتاب ربنا صدَّق من صدَّق ، وكذَّب من كذَّب ، ومن أراد بالجدال إبطال صحة ثبوت وجواز وقوع هذا في الأمة المرحومة أسوة بمن سبق فقد طالب بالمحال !.

قـال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن في بني إسرائيل شـيء إلا وهـو فيكم كائن !! (13) وعن ابن عمرو رضي الله عنه : لتركبن سنة من قبلكم حلوها ومرها !! (14) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ! ببني إسرائيل تتبعون آثارهم ! حذو القذة بالقذة حتى لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله !! (15) ومثله عن عبادة رضي الله عنه : إنما هي السنن تتبع بعضها بعضا، إنه والله !! ما من شيء فيمن كان قبلكم إلا وسيكون فيكم (16) اهـ  ( نثر الدرر ص 47 )

...........

(2) سورة الزمر (32) .

(3) سورة الزمر (33) .

(4) سورة البقرة (246 ) .

(5) سورة البقرة (247-248) .

(6) سورة البقرة (213) .

(7) سورة الجاثية (16) .

(8) سورة الأنعام (39) .

(9) سورة آل عمران (79) .

(10) وهذا  اللفظ ورد عن ثوبان وحذيفة  رضي الله عنهما .

(11) سورة النور (55) .

(12) أخرجه  أبو نعيم في أخبار أصبهان بهذا اللفظ (1/84) .

(13) نعيم ( 1/38) والسنة للمروزي (ص 25) .

(14) المروزي في السنة (ص 25) وقال في الفتح رواه الشافعي بسند صحيح (13/301) .

(15) المروزي (ص 25) .

(16) المروزي (ص33) .