مقدمة الكتاب
الحمد لله على فضله وإحسانه بزيادته لي من نوره وهداه ، وصلى الله وسلم على اكرم خلقه واقدمهم وجودا وأرفعهم شأنا في علاه نبينا محمد ، وعلى آل بيته وأصحابه الكرام ، وبعد :
قال عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ فذلك مجيء له في آخر أيام الدنيا لا بعد ما يبعث البشر من الموت جميعا كما هو باعتقاد العامة وإلا للزم منه أن الإله الحق لا يقضي بين آخر الخلق جيل الأشرار كما كانت سنته في كل أمة يبعث لها رسول لينذرهم ويبشرهم فلا يفصل فيهم بين الحق والباطل ويتركهم هملا بلا حساب ولا فصل ، مثل ما عاب على معبوداتهم الباطلة من دونه عز وجل ، أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك ولا أن تخبر بالغيب كيف يكون ، ولا أن تقضي بشيء بينهم كما هو يقدر يفعل ذلك ، فقال : ﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ .
ومن المحتوم أن يكون هذا القضاء وهم بالدنيا فآلهة الباطل لما كانت تعبد بالدنيا نسب انعدام القضاء لها لأن محل ذلك وهم في الدنيا ، وإلا بعد نهاية الدنيا فليس هناك مكان ولا زمان المقارنة بالقضاء ما بين الإله الحق وآلهة الباطل جميعها من يقدر يفعل ذلك ، فهناك له الانفراد بذلك المطلق ، أما قبل وهم في الدنيا فلا بد من اثبات عجزها في ذلك وانتفاء نصرتها لهم في ذلك القضاء ، وأن ينظروا ويتيقنوا هل ستخلصهم من يد الله القوية عز وجل التي ستمتد فيهم ﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ ، وفي سورة الروم يقول فيهم على التعيين : ﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ... وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ ويقول : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ، وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ . قيدها بالأرض اشارة لتحقق التأويل الذي سأقرره في هذا الكتاب والخروج نسبة للنداء باسم المهدي لإعلان الفصل والكشف عن ارادته عز وجل : ﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ ، كذلك الصحبة للتأكيد على أن زمان تحقق ذلك وهم بالدنيا ، فلن يصحبه إلا من كان له وليا فيقربه لذاك الضباب فوق المدينة المنورة من أعلى جبل أحد المقدس الذي سيحل عليه كما قال النبي ارميا عليه الصلاة والسلام في ذلك : ﴿ وَيَكُونُ قَائِدُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَخْرُجُ حَاكِمُهُمْ مِنْ وَسَطِهِمْ فَأَسْتَدْنِيهِ فَيَدْنُو مِنِّي ، إِذْ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى الاقْتِرَابِ مِنِّي مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً ﴾ . وفي زبور داود عليه الصلاة والسلام قال: ﴿ وليفرح جميع المعتصمين بك وليرنموا إلى الأبد وأنت مُظللهم وليبتهج بك الذين يحبون اسمك ﴾ ، وهذا مطابق لقوله عز وجل : ﴿ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ﴾ ، وإذا تواطأ القرآن والزبور على معنى فإلى ذلك المنتهى ، فكيف وتواتر النبوءات يدل على ذلك كما سيمر معنا بطول هذا الكتاب وعرضه ، كقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ رُقَبَاؤُكِ قَدْ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ مَعاً وَشَدَوْا بِفَرَحٍ ، لأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عِيَاناً رُجُوعَ الرَّبِّ ﴾ ، أو قول النبي زكريا صلى الله عليه وسلم : ﴿ وَيُرَى الرَّبُّ فَوْقَهُمْ ... وَيُخَلِّصُهُمُ الرَّبُّ إِلهُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَقَطِيعٍ شَعْبَهُ ، بَلْ كَحِجَارَةِ التَّاجِ مَرْفُوعَةً عَلَى أَرْضِهِ ﴾ ، وفي الزبور : ﴿ أَعْلَنَ الرَّبُّ خَلاَصَهُ ، لِعُيُونِ الأُمَمِ كَشَفَ بِرَّهُ ... رَأَتْ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ خَلاَصَ إِلهِنَا ﴾ ، وعلى لسان النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ وَأَتَجَلَّى بِقَدَاسَتِي بَيْنَكُمْ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الأُمَمِ ﴾ ، وكل هذا مما يدل ويؤكد على تحقق التأويل أنه آخر الزمان لخلاص المؤمنين به كما وعد بذلك ، صورة مكبرة على مستوى العالم والكون كله شبه ما كان عليه المشهد أيام موسى وبني اسرائيل ، فكان خلاص اعجازي وسيكون نظيره وأقوى على مشهد ومرأى من العالم أجمع ، وصدق من أقسم بأن ما كان في بني اسرائيل إلا وهو كائن مثله في هذه الأمة .
قال عز وجل : ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ، ﴿ قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ .
وقال على لسان نبيه اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ أسمعونا المستقبلات ، بينوا ما سيأتي فيما بعد فنعلم أنكم آلهة ﴾ .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ، وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ﴾ ، ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ ، الآية الأخيرة روى جماعة من أهل الحديث ما يفيد أن تأويلها حين يقف الخلائق بين يدي الله عز وجل وقيل يؤتى هناك بملك الموت فيذبح أمامهم وحينها تكون الحسرة ، وهذا كذب وخلط نقلوا به التأويل من أن يكون وهم بالدنيا فرحلوه لذاك الوقت خوضا على كلام الله تعالى ومواعيده بالكذب والجهل ، وأبين الكذب في ذلك يتضح من نص كلام الله عز وجل بتلك الآية لقوله ( وهم في غفلة ) و ( وهم لا يؤمنون ) وفي ذاك الموقف تنتفي عنهم الغفلة بالكلية ويمتنع عدم الإيمان بالمرة ، ولما كان ما قيل في ذلك منهم محض كذب وافتراء لزم على قولهم كل هذا التناقض والاضطراب ، وهذا من حيث كلام الله تعالى نفسه ، أما من حيث ما يدعونه على نبيه صلى الله عليه وسلم فيكفي الوقوف على اضطراب ذلك ممن نسبه لرسول الله أيضا ففي تبويب البخاري رحمه الله تعالى في التفسير باب : ( وأنذرهم يوم الحسرة ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت وياأهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة . وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا ، وهم لا يؤمنون . رواه عن ابي سعيد رضي الله تعالى عنه .
وفي صحيح مسلم : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون . وأشار بيده إلى الدنيا . ثم قال مسلم : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قيل يا أهل الجنة . ثم ذكر بمعنى حديث أبي معاوية غير أنه قال : فذلك قوله عز وجل ولم يقل ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أيضا وأشار بيده إلى الدنيا اهـ . أي هذا تفسيرا من أحد الرواة ولو كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ، هذا معنى ما قاله مسلم تعليقا هنا ، وهذا يقع منهم كثيرا يخلطون تفاسيرهم واسقاطهم لبعض الأخبار على آيات من كتاب الله تعالى ، ثم يأتي من يجمع كل ذلك ويجعله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان كذبا .
والحق أن هذا القضاء وهم بالدنيا وعد الله عز وجل بأن يفعل ذلك وقد تواترت النبوءات الكثيرة على هذا المعنى وما مجيء الأشهاد وقيامهم في ذلك إلا وهم بالدنيا ، وهناك سيكون الأمر على الكفرة حسرة عظيمة وخسرانهم المبين أكيد ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ ، وعلى لسان نبيه اشعيا عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ لاَ يُحَالِفُ التَّوْفِيقُ أَيَّ سِلاَحٍ صُنِعَ لِمُهَاجَمَتِكِ ، وَكُلُّ لِسَانٍ يَتَّهِمُكِ أَمَامَ الْقَضَاءِ تُفْحِمِينَهُ ، لأَنَّ هَذَا هُوَ مِيرَاثُ عَبِيدِ الرَّبِّ ، وَبِرُّهُمُ الَّذِي أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ ﴾ ، ويقول أيضا : ﴿ أَمَّا مَنْ يَلُوذُ بِي فَإِنَّهُ يَرِثُ الأَرْضَ وَيَمْلِكُ جَبَلَ قُدْسِي ﴾ .
وكما قدر الله عز وجل ارثا للمؤمنين كذلك قدر ارثا للكافرين كما قال أيوب عليه الصلاة والسلام : ﴿ تَفْنَى مُدَّخَرَاتُ بَيْتِهِ وَتحْتَرِقُ فِي يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ ، هَذَا هُوَ الْمَصِيرُ الَّذِي يُعِدُّهُ اللهُ للأَشْرَارِ ، وَالْمِيرَاثُ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ لَهُمْ ﴾ . والأحمق هو الذي يعتقد أن الله تعالى لن يفصل بمجاميع الأشرار آخر الزمان وأنه سيتركهم هملا إلى انقضاء الدنيا ثم لا يحاسبهم إلا لما يبعثوا من موتهم ، أما قبل ذلك فلن يفصل بينهم ولن يوقف شرورهم كما كان يفعل ذلك مع كل أمثالهم من قبل ، وهذا كذب من الاعتقاد وباطل يناقض حكمة الله تعالى ومقدرته على كل المجرمين وبكل الأجيال ، وما صنفت هذا الكتاب إلا لنقض تلك الفرية على الله عز وجل وابطال هذا الاعتقاد الزائف الكاذب ونفيه من ديوان المسلمين .
وسأذكر هنا جملة من النبوءات عن أنبياء بني اسرائيل تحدد متى يكون وقت هذا القضاء ليتضح معنى تأويل ذلك لكل من كان يجهله :
النبي ملاخي عليه الصلاة والسلام : ﴿ انْظُرُوا ، هَا يَوْمُ الْقَضَاءِ مُقْبِلٌ ، لاَهِبٌ كَتَنُّورٍ يَكُونُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَفَاعِلِي الإِثْمِ عُصَافَةً ، فَيُحْرِقُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلاً وَلاَ فَرْعاً ، يَقُولُ الرَّبُّ الْقَدِيرُ . أَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي فَتُشْرِقُ عَلَيْكُمْ شَمْسُ الْبِرِّ حَامِلَةً فِي أَجْنِحَتِهَا الشِّفَاءَ فَتَنْطَلِقُونَ مُتَوَاثِبِينَ كَعُجُولِ الْمَعْلَفِ ، وَتَطَأُونَ الأَشْرَارَ ، إِذْ يَكُونُونَ رَمَاداً تَحْتَ بُطُونِ أَقْدَامِكُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُجْرِي فِيهِ أَعْمَالِي ، يَقُولُ الرَّبُّ الْقَدِيرُ ﴾ .
ويقول فيه صفنيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ اجْتَمِعِي ، احْتَشِدِي أَيَّتُهَا الأُمَّةُ الْوَقِحَةُ . قَبْلَ أَنْ يَحِينَ الْقَضَاءُ ، فَيُطَوِّحُ بِكِ كَالْعُصَافَةِ أَمَامَ الرِّيحِ ، قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِكِ غَضَبُ الرَّبِّ الْمَاحِقُ ، قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ عَلَيْكِ سَخَطُ الرَّبِّ . الْتَمِسُوا الرَّبَّ يَا وُدَعَاءَ الأَرْضِ الرَّاضِخِينَ لِحُكْمِهِ ، اطْلُبُوا الْبِرَّ وَالتَّوَاضُعَ لَعَلَّكُمْ تَجِدُونَ مَلاَذاً فِي يَوْمِ سَخَطِ الرَّبِّ . وَيْلٌ لَكُمْ يَاأَهْلَ سَاحِلِ الْبَحْرِ ، أُمَّةَ الْكِرِيتِيِّينَ ، إِنَّ قَضَاءَ الرَّبِّ مُنْصَبٌّ عَلَيْكُمْ ﴾ .
وكان لما أرى نبيه دانيال عليه الصلاة والسلام عن تلميحات في هذا القضاء ، فقال النبي : ﴿ سمعت ولم أفهم فقلت : يا سيدي ما آخر هذه ؟ فقال : اذهب يا دانيال فإن الأقوال مُغلقةٌ ومختومةٌ إلى وقت الانقضاء ﴾ . ولو كان ذلك من الأمر ما بعد الحياة الدنيا لما قال النبي ذلك ولما اجيب بأنه أمر مختوم ، لأن ذلك من أمر الله عز وجل بالدنيا لهذا هو مختوم مكنون ولا يأتيهم إلا بغتة وهم في غفلة وهم لا يؤمنون .
وقد سبق لي من كتابي الأول ( وجوب الاعتزال ) أن قررت هذا المعنى وقلت هناك : قال سبحانه : ﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون . فتول عنهم حتى حين . وأبصرهم فسوف يبصرون . أفبعذابنا يستعجلون . فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المُنذَرين . وتول عنهم حتى حين . وأبصر فسوف يبصرون ﴾ سبقت لإدريس وإلياس وعيسى وغيرهم من أوليائه الصالحين ، وإن غداً لناظره لقريب ، الغد الذي يكشف فيه الكذب وينتهي عنده التلاعب بالنبوءات وإفساد معناها ، وهذا اليوم سمي بالقضاء في قوله تعالى : ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ وقوله : ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ﴾ .
وجاء هذا المعنى مصرحاً به على لسان اشعيا فقال : ﴿ مخبر منذ البدء بالأخير ومنذ القديم بما لم يفعل قـائلاً : رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي . داع من المشرق الكاسر . من أرض بعيدة رجل مشورتي ، قد تكلمت فأجريه قضيت فأفعله ﴾ . فانظر كيف نص على أن بعثه من المشرق هو الكلمة والقضاء ، ونص على أنه أخبر بهذا منذ البدء ، واعداً بأن يفعل هذا وواصفاً بأن في ذلك مسرته ، فافرحي يا أمة الرحمة وأبشري برب الرسل ، والله لن تضيع كلمة الله ولن يُخزى عباده اهـ .
ويقول حزقيال عليه الصلاة والسلام : ﴿ فَتُصْرَعُ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ ، لأَنِّي قَضَيْتُ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ ، وَأَصُبُّ نَاراً عَلَى مَاجُوجَ وَعَلَى حُلَفَائِهِ السَّاكِنِينَ بِأَمَانٍ فِي الأَرْضِ السَّاحِلِيَّةِ ، فَيُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ﴾ .
ولما كان هذا من شأنهم وهم بالدنيا وعظ نبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يشك فيه ، ولو كان هذا من شأن الله عز وجل معهم بعد انقضاء الحياة الدنيا لما قال له ما قال وحذره من الشك فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن ينهى عن الشك في ذلك بمعنى يضيق صدره منه ، لكن بخصوص رجعته ليشهد عليهم ووعد الله تعالى أن يريه بعض ما وعدهم في ذلك فنعم قد يكون من ذلك لهذا وعظه تعالى بأن لا يشك في ذلك ولا يرتاب ، فقال له تبارك وتعالى في هذا الخصوص التالي : ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ . إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾.
﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ ، فالرب تعالى بالدنيا إنما يأتي بالغمام ويحل بالمكان الذي يشاء ليثبت وجوده من خلال الغمام كما فعل ذلك في زمان موسى صلوات ربي وسلامه عليه وبني اسرائيل بعد اخراجهم من مصر لجزيرة العرب ، وكما حصل مع سليمان صلى الله عليه وسلم لما بنى الهيكل وأدخل تابوت عهد الرب هناك ، لهذا ترونه في كتابه المجيد لا يذكر الغمام في مجيئه لما يكون ذلك خارج حدود الحياة الدنيا : ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ ، وهكذا لما يكون المجيئ في الآخرة بعد الحياة الدنيا لا يذكر أن مجيئه بظلل من الغمام ، بل يأتي مع الملائكة متمثلا بصورته التي خلق آدم على شبهها ، مثل ما يراه الإنسان بمنامه فهناك سيتمكنون من رؤية مثاله وكأنهم بمنام لا حقيقة ، لكنهم في واقع الأمر هم بالحقيقة في حضرة الإله الحق وبغير هذا لا يمكنهم مشاهدته قط ، والبشر عند الله تعالى سواءٌ مناما أو يقظه فيكلمهم متى شاء وكيف يشاء ، وأما في الحياة الدنيا فلا يأتي أي جمع إلا بستر من الغمام كما فعل بزمان موسى والنبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، وبالفصول التالية سيأتي مزيد ذكر أدلة هذا الاعتقاد العظيم إن شاء الله عز وجل ، وسأنقل هناك بعضا من تلك النصوص الدالة على ذلك الغشيان للغمام فوقهم غير ما نقلت قبل ، لكن هنا سأستوفي شيئا من النقل عن الأنبياء في تعيين القضاء وذكر بعضا من أبرز علامات تحققه غير ما ذكرت قبل .
قال سليمان عليه الصلاة والسلام : ﴿ الناس الأشرار لا يفطنون للقضاء والذين يلتمسون الرب يفطنون لكل شيء ﴾ . وقال : ﴿ فيتعقبهم القضاء وروح مقدرتك يذريهم ، لكن رتبت كل شيء بمقدار وعدد ووزن ﴾ .
ويقول اشعيا عليه الصلاة والسلام في ذلك : ﴿ في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدا ، وأنقيهم بروح القضاء وبروح الإحراق ﴾ .
وفي الزبور على لسان داود عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ من السماء أسمعت الحكم ففزعت الأرض وصمتت عندما قام الله للقضاء ليخلص ودعاء الأرض ﴾ .
وعند أيوب عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ من جهة القوة يقول هاأنذا ومن جهة القضاء يقول من يحاكمني ﴾ .
أما حزقيال النبي فيقول عليه الصلاة والسلام : ﴿ هُوَذَا شَرٌّ قَدْ أَقْبَلَ ، شَرٌّ لاَ مَثِيلَ لَهُ . قَدْ أَزِفَتِ النَّهَايَةُ قَدْ أَزِفَتِ النَّهَايَةُ . انْتَبَهَتْ لَكِ ، وَهَا هِيَ مُقْبِلَةٌ . قَدْ حَلَّ بِكَ الْقَضَاءُ يَا سَاكِنَ الأَرْضِ وَأَزِفَ الْمَوْعِدُ ، اقْتَرَبَ يَوْمُ الاضْطِرَابِ .. هَا هُوَ الْيَوْمُ قَدْ أَقْبَلَ قَدْ أَزِفَ الْقَضَاءُ وَأَزْهَرَ الظُّلْمُ وَأَفْرَخَتِ الْكِبْرِيَاءُ ، انْتَصَبَ الْجَوْرُ وَصَارَ عَصاً لِلشَّرِّ ، لِذَلِكَ يَفْنَى الظَّالِمُونَ وَتَفْنَى ثَرْوَتُهُمْ وَضَجِيجُهُمْ وَلاَ مَنْ يَنُوحُ عَلَيْهِمْ .
قَدْ حَانَ الْمَوْعِدُ وَاقْتَرَبَ الْيَوْمُ ، فَلاَ يَفْرَحَنَّ الْمُشْتَرِي وَلاَ يَحْزَنَنَّ الْبَائِعُ ، لأَنَّ الْغَضَبَ مُنْصَبٌّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ بِأَسْرِهِ ، فَالْبَائِعُ لَنْ يَسْتَرِدَّ مَا بَاعَهُ مَهْمَا طَالَ بِهِ الْعُمْرُ لأَنَّ قَضَاءَ اللهِ يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ جُمْهُورِهِمْ وَلَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الشِّرِّيرِ أَنْ يَحْتَفِظَ بِحَيَاتِهِ . قَدْ نَفَخُوا فِي الْبُوقِ وَأَعَدُّوا كُلَّ شَيْءٍ ، وَلَكِنْ لَيْسَ مَنْ يَذْهَبُ لِخَوْضِ الْقِتَالِ ، لأَنَّ غَضَبِي مُنْصَبٌّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ ﴾ .
وجهلا منهم قد فهموا من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لما قاله النبي حزقيال هنا عليهما الصلاة والسلام في معنى القضاء بأن لا يفرح المشتري ويحزن البائع ، وأن لن يسترد البائع ما باعه ، فيما قال : " ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها". رواه البخاري رحمه الله تعالى
فظنوا أن ذلك لموت يقع بهم وليس كذلك بل للذهول من قيام الساعة حتى ينصرف كل امرئ عن الشأن الذي كان فيه ، فلا يأكل الإنسان لقيمته التي رفعها ولا يشرب لبنه الذي نوى يشربه ، وأصرح ما فيه قوله : ( فلا يتبايعانه ولا يطويانه ) . دليل على الذهول الشديد جراء ذلك وعدم الفائدة من اتمام تلك الصفقات حين ذاك لما وقع من أمر كل لا يدري ما مصيره وانشغلوا جدا بما حصل ، وهو ما تفيده نبوءة حزقيال عليه الصلاة والسلام المذكورة ، ويوافقهم على ذلك النبي اشعيا كذلك عليه الصلاة والسلام فيقول : ﴿ هُوَذَا الرَّبُّ يُخْلِي الأَرْضَ وَيُفْرِغُهَا وَيَقْلِبُ وَجْهَهَا وَيُبَدِّدُ سُكَّانَهَا وَكَمَا يَكُونُ الشَّعْبُ هكَذَا الْكَاهِنُ كَمَا الْعَبْدُ هكَذَا سَيِّدُهُ كَمَا الأَمَةُ هكَذَا سَيِّدَتُهَا كَمَا الشَّارِي هكَذَا الْبَائِعُ كَمَا الْمُقْرِضُ هكَذَا الْمُقْتَرِضُ وَكَمَا الدَّائِنُ هكَذَا الْمَدْيُونُ . تُفْرَغُ الأَرْضُ إِفْرَاغًا وَتُنْهَبُ نَهْبًا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ بِهذَا الْقَوْلِ . نَاحَتْ ذَبُلَتِ الأَرْضُ حَزِنَتْ ذَبُلَتِ الْمَسْكُونَةُ حَزِنَ مُرْتَفِعُو شَعْبِ الأَرْضِ وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ ، نَكَثُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ لِذلِكَ لَعْنَةٌ أَكَلَتِ الأَرْضَ وَعُوقِبَ السَّاكِنُونَ فِيهَا لِذلِكَ احْتَرَقَ سُكَّانُ الأَرْضِ وَبَقِيَ أُنَاسٌ قَلاَئِلُ . نَاحَ الْمِسْطَارُ ، ذَبُلَتِ الْكَرْمَةُ ، أَنَّ كُلُّ مَسْرُورِي الْقُلُوبِ بَطَلَ فَرَحُ الدُّفُوفِ انْقَطَعَ ضَجِيجُ الْمُبْتَهِجِينَ ، بَطَلَ فَرَحُ الْعُودِ ، لاَ يَشْرَبُونَ خَمْرًا بِالْغِنَاءِ. يَكُونُ الْمُسْكِرُ مُرًّا لِشَارِبِيهِ دمِّرَتْ قَرْيَةُ الْخَرَابِ صُرَاخٌ عَلَى الْخَمْرِ فِي الأَزِقَّةِ غَرَبَ كُلُّ فَرَحٍ انْتَفَى سُرُورُ الأَرْضِ اَلْبَاقِي فِي الْمَدِينَةِ خَرَابٌ ، وَضُرِبَ الْبَابُ رَدْمًا.
إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فِي وَسَطِ الأَرْضِ بَيْنَ الشُّعُوبِ كَنُفَاضَةِ زَيْتُونَةٍ، كَالْخُصَاصَةِ إِذِ انْتَهَى الْقِطَافُ . هُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَيَتَرَنَّمُونَ لأَجْلِ عَظَمَةِ الرَّبِّ يُصَوِّتُونَ مِنَ الْبَحْرِ ، لِذلِكَ فِي الْمَشَارِقِ مَجِّدُوا الرَّبَّ فِي جَزَائِرِ الْبَحْرِ مَجِّدُوا اسْمَ الرَّبِّ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ سَمِعْنَا تَرْنِيمَةً : « مَجْدًا لِلْبَارِّ ».
عَلَيْكَ رُعْبٌ وَحُفْرَةٌ وَفَخٌّ يَا سَاكِنَ الأَرْضِ وَيَكُونُ أَنَّ الْهَارِبَ مِنْ صَوْتِ الرُّعْبِ يَسْقُطُ فِي الْحُفْرَةِ ، وَالصَّاعِدَ مِنْ وَسَطِ الْحُفْرَةِ يُؤْخَذُ بِالْفَخِّ ، لأَنَّ مَيَازِيبَ مِنَ الْعَلاَءِ انْفَتَحَتْ ، وَأُسُسَ الأَرْضِ تَزَلْزَلَتْ ، اِنْسَحَقَتِ الأَرْضُ انْسِحَاقًا تَشَقَّقَتِ الأَرْضُ تَشَقُّقًا ، تَزَعْزَعَتِ الأَرْضُ تَزَعْزُعًا ، تَرَنَّحَتِ الأَرْضُ تَرَنُّحًا كَالسَّكْرَانِ ، وَتَدَلْدَلَتْ كَالْعِرْزَالِ ، وَثَقُلَ عَلَيْهَا ذَنْبُهَا، فَسَقَطَتْ وَلاَ تَعُودُ تَقُومُ .
وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الرَّبَّ يُطَالِبُ جُنْدَ الْعَلاَءِ فِي الْعَلاَءِ ، وَمُلُوكَ الأَرْضِ عَلَى الأَرْضِ وَيُجْمَعُونَ جَمْعًا كَأَسَارَى فِي سِجْنٍ ، وَيُغْلَقُ عَلَيْهِمْ فِي حَبْسٍ .. وَيَخْجَلُ الْقَمَرُ وَتُخْزَى الشَّمْسُ ، لأَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ مَلَكَ فِي جَبَلِه فِي أُورُشَلِيمَ ، وَقُدَّامَ شُيُوخِهِ مَجْدٌ ﴾ . وجند العلاء هنا يعني به أقمار أولئك الكفرة ، فعند قيامه ليحاسب الأرض وينزل ليحل بالمدينة المقدسة ينزل الله عز وجل تلك الأقمار ، لأنه الأعلى ومن الباطل أن تعلو غمامته أي مصنوعات بشرية ، بل حتى الشمس والقمر بالمكان الذي سيحل عليه تبارك وتعالى بالمدينة لن يكون هناك حاجة للشمس ولا القمر ، لأن مجد الله يتجلى فوقهم وهناك يرى ، فما حاجتهم للشمس والقمر والرب حاضر وسطهم هناك ؟!
قال النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ مِنْ أَجْلِها لاَ أَسْكُتُ ، ولاَ أَهْدَأُ حَتَّى يَخْرُجَ بِرُّهَا كَضِيَاءٍ وَخَلاَصُهَا كَمِصْبَاحٍ يَتَّقِدُ فَتَرَى الأُمَمُ بِرَّكِ ، وَكُلُّ الْمُلُوكِ مَجْدَكِ ، وَتُسَمَّيْنَ بِاسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ الرَّبِّ وَتَكُونِينَ إِكْلِيلَ جَمَال بِيَدِ الرَّبِّ ، وَتَاجًا مَلِكِيًّا بِكَفِّ إِلهِكِ لاَ يُقَالُ بَعْدُ لَكِ : مَهْجُورَةٌ وَلاَ يُقَالُ بَعْدُ لأَرْضِكِ : «مُوحَشَةٌ» لأَنَّ الرَّبَّ يُسَرُّ بِكِ ، وَأَرْضُكِ تَصِيرُ ذَاتِ بَعْلٍ . لأَنَّهُ كَمَا يَتَزَوَّجُ الشَّابُّ عَذْرَاءَ ، يَتَزَوَّجُكِ بَنُوكِ وَكَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلهُكِ ، عَلَى أَسْوَارِكِ أَقَمْتُ حُرَّاسًا لاَ يَسْكُتُونَ كُلَّ النَّهَارِ وَكُلَّ اللَّيْلِ عَلَى الدَّوَامِ . يَا ذَاكِرِي الرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا ، وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَها تَسْبِيحَةً فِي الأَرْضِ . اُعْبُرُوا ، اعْبُرُوا بِالأَبْوَابِ هَيِّئُوا طَرِيقَ الشَّعْبِ أَعِدُّوا أَعِدُّوا السَّبِيلَ نَقُّوهُ مِنَ الْحِجَارَةِ ، ارْفَعُوا الرَّايَةَ لِلشَّعْبِ هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ أَخْبَرَ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ ، قُولُوا : هُوَذَا مُخَلِّصُكِ آتٍ هَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَجِزَاؤُهُ أَمَامَهُ وَيُسَمُّونَهُمْ : شَعْبًا مُقَدَّسًا ، مَفْدِيِّي الرَّبِّ وَأَنْتِ تُسَمَّيْنَ : الْمَطْلُوبَةَ ، الْمَدِينَةَ غَيْرَ الْمَهْجُورَةِ ﴾ .
وقال في مجدها عليه الصلاة والسلام : ﴿ قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ لأَنَّهُ هَا هِيَ الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ .. وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِمًا نَهَارًا وَلَيْلاً لاَ تُغْلَقُ . لِيُؤْتَى إِلَيْكِ بِغِنَى الأُمَمِ وَتُقَادَ مُلُوكُهُمْ لأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُكِ تَبِيدُ وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ . لاَ يُسْمَعُ بَعْدُ ظُلْمٌ فِي أَرْضِكِ ، وَلاَ خَرَابٌ أَوْ سَحْقٌ فِي تُخُومِكِ ، بَلْ تُسَمِّينَ أَسْوَارَكِ : خَلاَصًا وَأَبْوَابَكِ : تَسْبِيحًا . لاَ تَكُونُ لَكِ بَعْدُ الشَّمْسُ نُورًا فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ يُنِيرُ لَكِ مُضِيئًا ، بَلِ الرَّبُّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا وَإِلهُكِ زِينَتَكِ لاَ تَغِيبُ بَعْدُ شَمْسُكِ ، وَقَمَرُكِ لاَ يَنْقُصُ ، لأَنَّ الرَّبَّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا ، وَتُكْمَلُ أَيَّامُ نَوْحِكِ وَشَعْبُكِ كُلُّهُمْ أَبْرَارٌ إِلَى الأَبَدِ يَرِثُونَ الأَرْضَ ، غُصْنُ غَرْسِي عَمَلُ يَدَيَّ لأَتَمَجَّدَ اَلصَّغِيرُ يَصِيرُ أَلْفًا وَالْحَقِيرُ أُمَّةً قَوِيَّةً أَنَا الرَّبُّ فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ ﴾ .
وقال في مجدها عند زكريا : ﴿ وَأَنَا ، يَقُولُ الرَّبُّ ، أَكُونُ لَهَا سُورَ نَارٍ مِنْ حَوْلِهَا ، وَأَكُونُ مَجْدًا فِي وَسَطِهَا .. تَرَنَّمِي وَافْرَحِي لأَنِّي هأَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ يَقُولُ الرَّبُّ ﴾ .
إنه المجد العظيم حين يأتي الله عز وجل ليحاكم الأمم والشعوب : ﴿ لذلك يعرف شعبي اسمي في ذلك اليوم لأني أنا المتكلم هآءنذا حاضرٌ ﴾ . " اشعيا عليه الصلاة والسلام "
وحزقيال :﴿ وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ، ويكون مسكني فوقهم ﴾. ﴿ وَيَسْكُنُونَ فِيهَا آمِنِينَ وَيَبْنُونَ بُيُوتًا وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا ، وَيَسْكُنُونَ فِي أَمْنٍ عِنْدَمَا أُجْرِي أَحْكَامًا عَلَى جَمِيعِ مُبْغِضِيهِمْ مِنْ حَوْلِهِمْ ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمْ ﴾ .
ويقول عز وجل في ذلك : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ ، ﴿ فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ﴾ ، سمى ذلك قضاء وأن القضاء هو يوم الآزفة .
ويقول تعالى في زبور داود عليه الصلاة والسلام : ﴿ قد تورط الأمم في الهوة التي عملوها وفي الشبكة التي أخفوها نشبت أرجلهم ، قد عرف الرب وأمضى القضاء وفي عمل يديه اصطيد المنافق اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ كُلُّ الأُمَمِ النَّاسِينَ اللهَ . قُمْ يَا رَبُّ لاَ يَعْتَزَّ الإِنْسَانُ لِتُحَاكَمِ الأُمَمُ قُدَّامَكَ يَا رَبُّ اجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْبًا لِيَعْلَمَ الأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ ﴾ .
وعلى لسان سليمان عليه الصلاة والسلام بين أن ذلك لا يأتيهم إلا بغتة كما في القرآن والكثير من النبوءات ، فيقول : ﴿ لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ ، كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ ، وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ ، كَذلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرّ، إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً ﴾ . ومعلوم أن بكل القرآن الوعيد بقيام الساعة والعذاب أن ذلك لا يأتيهم إلا بغتة ، وقد اتحد الوحي على الإخبار عن ذلك .
وعلى لسان موسى صلوات ربي وسلامه عليه قال في هذا القضاء أيضا : ﴿ إذا سننت سيفي البارق وأمسكت بالقضاء يدي أرد نعمة على أضدادي وأجازي مبغضي ، أسكرُ سهامي بدم ويأكل سيفي لحما ﴾ .
وعلى لسان نبيه ارميا عليه الصلاة والسلام قال : ﴿ لا يفتخرن الحكيم بحكمته ولا الجبار بجبروته ولا الغني بغناه ، بل لهذا ليفتخرن المفتخر ، بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا في الأرض ، لأني بهذه أسرُّ يقول الرب . ها أيام تأتي يقول الرب : وأعاقب كل مختون وأغلف ﴾ . وفي هذا علامة من العلامات الدالة في تعيين المهدي ، أن الله عز وجل يعرفه معنى القضاء وكيف سيفعله الله عز وجل ويفعل رحمته للمؤمنين آخر الزمان ، قال تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾ . يعلمه القضاء والرسول هنا هو المهدي ، ومن ذكر بصيغة الجمع هم تلاميذه الذين أمروا بالخروج لجزيرة العرب للبشارة والنذارة بأمره.
ويقول نبي لله تعالى اشعيا : ﴿ قريب بري قد برز خلاصي وذراعاي يقضيان للشعوب ، إياي ترجو الجزائر وتنتظر ذراعي ، خلاصي إلى الأبد يكون وبري لا ينقصُ ﴾ .
وهكذا لما كان كل عمل الله تعالى للبر كانت دعوته لمهديه ورسوله وخليفته بالبر فقال على لسان اشعيا النبي : ﴿ أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَم ﴾ وقال : ﴿ أقطري أيتها السماوات من فوق ، ولتمطر الغيومُ الصديق ، لتنفتح الأرض وليثمر الخلاص ، ولينبت البِّر ﴾ وفي الزبور قال : ﴿ أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ ، أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ ﴾ .
فهذا طريق الحق لكن الكل يجهل حقيقته : ﴿ يَجْهَلُونَ طَرِيقَ الرَّبِّ وَقَضَاءَ إِلَهِهِمْ ﴾ ، قاله النبي ارميا عليه الصلاة والسلام ، مثل ما قاله سليمان عليه الصلاة والسلام وذكرته قبل : ﴿ الناس الأشرار لا يفطنون للقضاء والذين يلتمسون الرب يفطنون لكل شيء ﴾ ، وبالفعل ها هو القضاء قد حل بهم من غير أن يفطنوا لذلك ، وماذا ينتظرون بعد ؟! ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ ، وأنا قلت هنا ماذا ينتظرون ، لكن الله تعالى قال : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ ، وهذا تأكيد على أن الأمر سينظر عيانا وهو ما أكد بالأنبياء وسيأتي نقل شيئا من ذلك.
وما أجمل وأعجب ما قاله عز وجل على لسان نبيه داود عليه الصلاة والسلام في هذا : ﴿ إن المنافق بحسب تشامُخِ أنفه وجميع أفكاره أنه لا إله ، وتنجَحُ مساعيه في كل حين ، ترتفعُ أحكامك عنه ويستخف بجميع أعدآئه . قال في قلبه إني لا أتزعزعُ ، من جيل إلى جيل لا بأس علي ، فمه مملؤٌ لعنة ومكرا وظلما وتحت لسانه ضررٌ وإثم .. قال في قلبه إن الله قد نسي ، حجب وجهه فلا ينظرُ البتة . قم أيها الرب الإله وارفع يدك ولا تنس البائسين . لماذا استهان المنافقُ بالله وقال في قلبه إنك لا تُطالب ﴾ .
إذا لا بد من القضاء وأن يحكم الله تعالى فيهم بعدله حتى يعلم الجميع بأن هناك إلها ديانا وربا يحكم بالحق والعدل ويبطل الشر ، ويبطل أحكام كل طاغوت وتذهب أحكام كل برلماناتهم للجحيم ، فلا أحكام الأفراد ولا أحكام جماعات الشعوب كذلك ، فكلهم باطل في باطل ، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ولمن الحكم والقضاء .
ويقول النبي ارميا عليه الصلاة والسلام : ﴿ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهُ مُجَازَاةٍ وَهُوَ حَتْماً يُحَاسِبُهَا ﴾ . مع قوله : ﴿ لَنْ يَرْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ الْمُحْتَدِمُ حَتَّى يُنْجِزَ وَيُنَفِّذَ مَقَاصِدَ فِكْرِهِ ، وَهَذَا مَا سَتَفْهَمُونَهُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ ﴾ . وربط ذلك بآخر الأيام مع هيجان الأنواء ، وهو الحاصل اليوم من غير أن يفهم ذلك إلا المهدي ومن آمن معه .
وقال كذلك : ﴿ لَقَدْ عَاقَبْتَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَوَجَّعُوا ، أَهْلَكْتَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا التَّقْوِيمَ صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الصَّخْرِ ، وَرَفَضُوا التَّوْبَةَ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ حَمْقَى ، يَجْهَلُونَ طَرِيقَ الرَّبِّ وَقَضَاءَ إِلَهِهِمْ ﴾ .
وقال في الزبور داود عليه الصلاة والسلام وما أكثر ما فصل عن الميراث في ذاك الزبور وعن حكم الله تعالى فيهم ونزول القضاء الذي كتب ، فيقول : ﴿ اللهم فاحكم عليهم وليسقطوا في مؤامراتهم ولكثرة معاصيهم أقصهم فإنهم قد تمردوا عليك ، وليفرح جميع المعتصمين بك وليرنموا إلى الأبد وأنت مُظللهم وليبتهج بك الذين يحبون اسمك ، فإنك أنت تبارك الصديق يا ربُّ وتكتنفُهُ برضاك مثل الترس ﴾ .
وعلى لسان مهديه وخليفته ورسوله قال في الزبور : ﴿ قم يا رب بغضبك وارتفع عند حنق مُضايقي وتنبه لي إنك أمرت بالقضاء ، فلتحط بك جماعةُ الأُمم وَعُـدْ فَوقها إلى الأَعالي . إن الرب يدين الشعوب فاحكم لي يا رب بحسب عدلي وعلى نحو سلامتي ، لينقض شر المنافقين فتُرفِـعَ الصديق ﴾ .
وهنا يرجع بنا الزبور لمعنى مجيء الرب عز وجل كما وعد بالغمام للقضاء على وفق ما ذكرت قبل من كتاب الله القرآن المجيد ، قوله : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ ، فقوله في الزبور : ﴿ وليفرح جميع المعتصمين بك وليرنموا إلى الأبد وأنت مُظللهم وليبتهج بك الذين يحبون اسمك ﴾ ، وقوله : ﴿ فلتحط بك جماعةُ الأُمم وَعُـدْ فَوقها إلى الأَعالي ﴾ .
يأتلف على هذا المعنى وتحقق هذا الوعد وأن حلول الرب على الأرض يجب أن يكون على مقدس تقديسا معنويا كخيمة العهد في زمان موسى ، أو في الهيكل الذي بناه سليمان النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن يكون ذلك على مكان مشرف كجبل أو تل ، كما حصل مع الخليل ابراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد الله عز وجل تكليمه ، أو كما حصل مع موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، أو المسيح وتلاميذه حين كلمهم من فوق ذاك الجبل ، أو كما سيحصل مع المهدي خليفة الله تعالى ورسوله من فوق جبل أحد ، ويتقدس ذاك المكان حتما ، وإن عدم حلوله جلا وعلا بمكان مقدس تقديسا معنويا حتما لا يكون حلول الرب إلا بمكان عال مشرف كجبل أو تلة ، وقد ورد خبر أن نزوله سيكون على مرتفع عنه صلى الله عليه وسلم أيضا فقال : إن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة جاء الرب إلى المؤمنين فوقف عليهم على كور ـــ قالوا لعقبة ما الكور ؟ ، قال : المكانُ المرتفع ـــ فيقول : هل تعرفون ربكم ؟ ، قالوا : إن عرفنا نفسه عرفناه ، فيتجلى لهم ضاحكا في وجوههم فيخرون له سجدا * .
وهذا يفسر شغف يهود اليوم لاسترجاع ما يكذبون ويدعون قدسيته تهيأة منهم لحلول الرب المرتقب كما كان الحال في زمان موسى عليه الصلاة والسلام ، فهم موقنون بتحقق تأويل ذلك ويتصنعون للتمهيد له بكل رغبة وتشوق لكن بافتراء الكذب على الله عز وجل ورسله ، وهيهات أن ينقلب الكذب لصدق والباطل لحق ، انما حلوله سيكون بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحتى جغرافيا العالم الذي خلقه الله تعالى تكذب زعم اليهودية اليوم الباطل في ذلك .
_____________________
* قال الذهبي في كتابه " العلو" حديث حسن أخرجه ابن خزيمة في كتابه " التوحيد " عن الفلاس عن الحنفي وعنده على ( كوم ) اهـ . ورواه ابن أبي عاصم والدارقطني في كتابه " الرؤية " .
أقول : ولن يكون ذلك إلا مع غشيان الضباب ، وذلك مما تواتر به النقل عن أنبياء بني إسرائيل وجاء القرآن بتصديقه والتأكيد عليه كما في الآية المذكورة قبل ، وقد تفضل الله عز وجل على بني إسرائيل بذلك الغمام
وعده من نعمه عليهم واصطفائه :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ . ولعظم شأنه ذكر مرتين في القرآن في سورة البقرة وسورة الأعراف : ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ .
وبالمثل ذكر ذلك مرتين أيضا بما يخص هذه الأمة مرة في سورة البقرة : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ ، وفي سورة الفرقان قال عنه : ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ﴾ .
ومما لا شك فيه أن هذا من المثاني التي تقشعر منها جلود الذين آمنوا ثم تلين جلودهم لذكر الله عز وجل .
فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ : ﴿ لاَ تَخَافُوا ، لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَاءَ لِكَيْ يَمْتَحِنَكُمْ ، وَلِكَيْ تَكُونَ مَخَافَتُهُ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ حَتَّى لاَ تُخْطِئُوا . فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ ، وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ ﴾ . وقال لهم أيضا : ﴿ هذِهِ الْكَلِمَاتُ كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ كُلَّ جَمَاعَتِكُمْ فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَالسَّحَابِ وَالضَّبَابِ ، وَكَتَبَهَا عَلَى لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ وَأَعْطَانِي إِيَّاهَا ﴾ .
وهذا بخصوص الماضي أما عن المستقبل فاقرأوا ماذا قالت الأنبياء ولنبدأ بالزبور ، قال هناك : ﴿ هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ ، أَعْطُوا عِزًّا للهِ . عَلَيهم جَلاَلُهُ وَقُوَّتُهُ فِي الْغَمَامِ ، مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اَللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ ﴾ ، وقال : ﴿ طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ ، وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ .. جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ حَوْلَهُ ، مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ ﴾ ، وقال أيضا فيه : ﴿ السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ ، الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ ﴾ .
أما نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام فيقول : ﴿ فَقُلْتَ: كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ ؟ هَلْ مِنْ وَرَاءِ الضَّبَابِ يَقْضِي ؟ السَّحَابُ سِتْرٌ لَهُ فَلاَ يُرَى ﴾ . وهذا يقينا أنه بالدنيا لأن على أصول أهل السنة والحديث وجوب اعتقاد مجيء الرب منظورا يوم القيامة كيف يشاء ، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام ينفي معاينته وهذا متفق مع أصل من أصول دعوتنا المباركة على ما أقرره هنا ولله الحمد .
أقول : يجب أن يكون لله عز وجل هذا المقام العظيم لأنه أولى الشهداء سيكون ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ، قبل شهادة العصا والتابوت ولوحي العهد ، نعم ستكون للتابوت وما فيه شهادة عليهم صرح بذلك لهم موسى عليه الصلاة والسلام فقال : ﴿ خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ ، لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ﴾ .
وقبل شهادة كل نبي وصديق وولي ممن اختارهم الله عز وجل لهذا المقام العظيم مقام الشهادة على كل الأمم حين يقوم الله تعالى للقضاء شاهدا على كل الناس ممن يعاصرون ذلك الموقف العظيم : ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾ ، قرن تعالى مع شهادته في ذلك شهادة من عنده علم الكتاب ويدخل في هذا المهدي وكل من كتبه الله تعالى لذلك المقام من الأنبياء وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو سيعود لتحقيق تلك الشهادة منه عليهم على ما قدر الله عز وجل ، ويقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام في هذا الخصوص:﴿ اِجْتَمِعُوا يَا كُلَّ الأُمَمِ مَعًا وَلْتَلْتَئِمِ الْقَبَائِلُ ، مَنْ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِهذَا وَيُعْلِمُنَا بِالأَوَّلِيَّاتِ ؟ لِيُقَدِّمُوا شُهُودَهُمْ وَيَتَبَرَّرُوا ، أَوْ لِيَسْمَعُوا فَيَقُولُوا : صِدْقٌ . أَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ ، وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ ﴾ وشاهده من القرآن المجيد في قوله عز وجل:﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنـوا ويتخذ منكـم شهداء والله لا يحب الظالمين ﴾ ، ومن الشهداء المهدي خليفة الله تعالى ورسوله فهو من سيبعثه الله عز وجل زمن الزلازل والفتن : ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ، إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾ ولقول النبي اشعيا : ﴿ أَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ ، وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ ﴾ ، ولقوله عز وجل أيضا : ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ ، ولقوله في زبور داود عليه الصلاة والسلام : ﴿ معه أمانتي ورحمتي وباسمي قرنهُ يرتفع ، فأجعل على البحر يده وعلى الأنهار يمينه ، يدعوني إلهي وصخرةُ خلاصي ، وأنا أجعله بكرا عليا فوق ملوك الأرض ، إلى الأبد أحفظ له رحمتي ويبقى له عهدي أكيدا .. مثل القمر يكون راسخا إلى الأبد وشاهدا في الغيوم أمينا ﴾ .
وقوله : ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ ، ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ ، ﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ . لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لِيَوْمِ الْفَصْلِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ، ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ . فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ، جمعهم والأشهاد من الأنبياء والصديقين والأولياء .
وقال عز وجل : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾ ، ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ﴾ ، ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء ﴾ ، ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ .
وهو المقام الذي طلبه تلاميذ المسيح عليهم الصلاة والسلام قال عنهم في ذلك الله عز وجل : ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ . وحين سأل أحد تلاميذ المسيح بقوله : تركنا كل شيء لنتبعك فما مصيرنا ؟ ، قال : إنكم لتجلسون يوم الدينونة بجانبي لتشهدوا على أسباط اسرائيل الاثني عشر اهـ .
وقال في ذلك صريحا ما يلي : ثم رفع يديه إلى الرب وصلى قائلا : ﴿ أيها الرب إلهنا إله إبراهيم وإله إسماعيل وإسحاق إله آبائنا ، ارحم من أعطيتني وخلصهم من العالم لا أقول خذهم من العالم لأنه من الضروري أن يشهدوا على الذين يفسدون انجيلي ولكن أضرع إليك أن تحفظهم من الشرير حتى يحضروا معي يوم الدينونة يشهدوا على العالم وعلى بيت إسرائيل الذي أفسد عهدك .. إيها الرب الإله إلعن إلى الأبد كل من يفسد انجيلي الذي أعطيتني عندما يكتبون أني ابنك ، لأني أنا الطين والتراب خادم خدمك ولم أحسب نفسي قط خادما صالحا لك . أيها الرب الجواد والغني في الرحمة امنح خادمك أن يكون بين أمة رسولك يوم الدين ﴾ .
وهنا أيضا يتأكد على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام أن مكان وزمان تحقيق الشهادة هنا في العالم في الدنيا لأن النبي يقول بكل صراحة ( لا أقول خذهم من العالم ) ، ولو كان الإشهاد المراد به هنا بعد البعث من الموت للخلق كافة لما قال النبي هذا القول ، ومع قوله تعالى : ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ، يتضح الأمر على التمام إذ بان أنهم في جملة شهود وليسوا لوحدهم ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ، ﴿ ويتخذ منكـم شهداء والله لا يحب الظالمين ﴾ ، فالمقام كما ترون واسع وليس هو مقصورٌ على تلاميذ المسيح عليه الصلاة والسلام وسيمر معنا عن المسيح اختيار الله عز وجل ليهودي فريسي ليس بنبي أنه اختير ليكون من الشهداء ، مثل ما تم اختيار النبي دانيال عليه الصلاة والسلام ليكون من الشهداء قال له ذلك ملاك بمنامه : ﴿ وأنت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قُرعتك إلى انقضاء الأيام ﴾ ، ونظيره ما كتب على نبي الله تعالى ايليا عليه الصلاة والسلام إذ يقول كاتب الاسفار وتأريخ بني اسرائيل عن هذا النبي ما يلي : " وقد اكتتبه الرب لأقضية تجري في أوقاتها " .
وهذا دليل على أنهم في بني إسرائيل مدركون لهذه الحقيقة جيدا وهي مما كتموا عن الناس ، أو حرفوه ، بل يذهب هذا الكاتب للزعم على بعث اثني عشر نبيا فيقول حين سرد مناقب الأنبياء وبلغ ذكر نبي الله تعالى حزقيال عليه الصلاة والسلام فقال : " ورأى حزقيال رؤيا المجد التي أراه إياها بمركبة الكروبين ، أنذر الاعداء بالمطر ووعد المستقيمين في طرقهم بالإحسان ، لتزهر عظام الأنبياء الاثني عشر من مكانها فإنهم عزو وافتدوا بإيمان الرجاء " . وقد فضحهم الله عز وجل في هذا حين قال : ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ ، وإلا من أين علم بذلك هذا الكاتب ممن اتخذوا شهداء ؟
ومما قاله النبي دانيال عليه الصلاة والسلام في هذا الخصوص أيضا : ﴿ وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ ، الْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ ﴾ .
تمعنوا بأن لو كان الأمر عام لكل البشر لما اقتصره على ( كثيرون ) و ( الفاهمون ) ، ويريد بالفاهمون من اعلمه الله تعالى بحقيقة هذا الوعد والوعيد قطعا ، والكلام خاص هنا وليس هو من باب العام وليس مجاله ، ووقعت قرعة للنبي نفسه في ذلك الرجوع كما هو ثابت من كلامه نفسه عما رأى في منامه ، وسيأتي مزيد تفصيل لكل ما مر ذكره في هذه المقدمة بالفصول التالية إن شاء الله تعالى .
وكل نبي اكتتب لهذه الشهادة أخذ الله عز وجل عليه إن جائه نبي الله تعالى المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ينصره ، وهذا أيضا فيه ما يفيد أن هذا المقام الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له هو مما يكون في الدنيا لا بعد انقضائها ، فهي محل النصرة والتأييد وتحقيق المواعيد ، وما بعد الموت والبعث العام للبشر فليس هو مقاما للنصرة ولا التأييد ، بل هناك الحساب والعذاب الأبدي ، أما في الدنيا فمقام الشهادة ومقام النصرة هناك وذلك الذي عناه تعالى بقوله : ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ، اقامهم شهودا على ذلك وسيكون شاهدا عليهم هو بنفسه تبارك وتعالى ، وكان رده تعالى على من اعتقد امتناع بعث هؤلاء الأشهاد بقوله : ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ .
فهل ترون مقام الحشر وجمع الناس كافة بين يدي الله عز وجل مقام تبيين ؟!
أو أنكم ترون بعث الموتى مما يخفى على الكثير من الناس ؟!
ونظيره في قوله تبارك وتعالى : ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ، فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ .
أو ترون مقامهم يوم ذاك بين يديه حفاة عراة يمكنهم فيه كيده ؟!
والله ما يمكن يطلب منهم هذا حينئذ ، لكنهم لما لا زالوا بدنياهم ولعلهم يطمعون بذلك فوبخهم بهذا القول وكبتهم بإثبات عجزهم بعد أن يطلب منهم كيده بحال اخفى أحد منهم ذلك في صدره اماني .
وقوله عز وجل : ﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ ، ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ﴾ .
وقوله تبارك وتعالى : ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾. وهو وعد ضربه الله عز وجل للأنبياء المنتخبين لهذا المقام الرفيع في قوله : ﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ، قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ، وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ، وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ .. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .. وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ .
كتبــــــــه / أبو عبداللـــــــــــه
الحســــين بن موسى اللحيدي
الجمعة 23 شعبان 1433 هـ
المـــــــــــوافق 13/7/2012
Powered by Backdrop CMS