قول ابن تيمية بدوام وجود الطائفة المنصورة وظهورها بالسنان مأثور عن بعض الصحابة

 

لقد توهم ابن تيمية رحمه الله تعالى في القول بتأويل خبر الطائفة المنصورة وظنه أن وجودها على الدوام ، مثل ما توهم في ذلك قبله بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الأصل فقالوا على وفق ذلك بالظن على أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائفة المنصورة بأقوال غير صحيحة .

وعلى رأس هؤلاء الفاروق رضي الله عنه حين بلغه إخبار عبدالله بن عمرو بظهور العجم على العرب فأكبر ذلك وعارضه بخبر الطائفة المنصورة ! ، وخطب في ذلك من على المنبر .

روي ذلك عن أبي الأسود الديلي ، قال : انطلقت أنا وزرعة بن ضمرة مع الأشعري إلى عمر بن الخطاب ، فلقينا عبد الله بن عمرو ، فجلست عن يمينه وجلس زرعة عن يساره ، فقال عبد الله بن عمرو :

يوشك ألا يبقى في أرض العجم من العرب إلا قتيل ، أو أسير يحكم في دمه . فقال له زرعة بن ضمرة :

أيظهر المشركون على أهل الإسلام ؟ قال : ممن أنت ؟ قال : أنا من بني عامر بن صعصعة .

قال : لا تقوم الساعة حتى تتدافع مناكب نساء بني عامر بن صعصعة على ذي الخلصة . فذكرنا لعمر بن الخطاب قول عبد الله بن عمرو فقال عمر بن الخطاب ثلاث مرار : عبد الله أعلم بما يقول .

قال فخطب عمر بن الخطاب يوم جمعة ، فقال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله ) . قال فذكرنا لعبد الله بن عمرو قول عمر فقال : صدق نبي الله ، إذا جاء ذاك كان الذي قلت . ( رواه الطبري في تهذيب الآثار )

ولفظه عند الحاكم في المستدرك في كتاب الفتن أن ابن عمرو قال : يوشك ألا يبقى في أرض العجم من العرب إلا قتيل ، أو أسير يحكم في دمه . فقال زرعة : أيظهر المشركون على أهل الإسلام ؟ قال : ممن أنت ؟ قال : أنا من بني عامر بن صعصعة .

فقال : لا تقوم الساعة حتى تتدافع نساء بني عامر على ذي الخلصة .

قال : فذكرنا لعمر بن الخطاب قول عبد الله بن عمرو فقال عمر بن الخطاب ثلاث مرار : عبد الله أعلم بما يقول ، فخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله ) ، قال : فذكرنا لعبد الله بن عمرو قول عمر فقال : صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جاء ذاك كان الذي قلت .

ونظيره إنكار عقبة على ابن عمرو إخباره أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق ، فعارض عند سماعه هذا بخبر الطائفة المنصورة أيضا ، يريد دوام وجودها ! .

رواه مسلم رحمه الله تعالى بإسناده عن عبدالرحمن بن شُمَاسة المهري قال :   كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبدالله بن عمرو بن العاص . فقـال عبدالله:

لا تقوم الساعةُ إلا على شرار الخلق . هم شرٌّ من اهلِ الجاهلية . لا يدعون الله بشيءٍ إلا ردَّهُ عليهم .

فبينما هم على ذلك إذ أقبل عقبة بنُ عامِرٍ . فقال له مسلمةُ : يا عُقبَةُ ! اسمع ما يقولُ عبدُ اللهِ . فقال عقبة : هو أعلَمُ . وأما انا فسمعِتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزال عصابة من أمتي يُقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تأتيهم الساعَةُ ، وهم على ذلك ) .

فقال عبدالله : أجل . ثم يبعث الله ريحا كريحِ المِسْكِ . مسها مس الحرير . فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبةٍ من الإيمان إلا قبضته .

ثم يبقى شرارُ الناس ، عليهم تقوم الساعة .

ومثله أيضا إنكار عمرو بن العاص على المستورد بن شداد إخباره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن : الساعة تقوم والروم أكثر الناس .   

رواه مسلم رحمه الله باختصار مخل ورواية احمد وغيره أتم .( راجع وجوب الاعتزال 1/183)

وكل هذا جار على ما تأصل عندهم في بقاء وحتمية ظهور الطائفة المنصورة بالسنان والحرب إلى قيام الساعة فهما بالخطأ على أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم في الطائفة المنصورة ، واعتبارهم خلاف ذلك إنما يعارض أصل من أصول الإسلام " وهو تكفل الله تعالى بإظهار الدين على سائر الأديان " وعلى وفقه افترض ابن تيمية لذلك المستحيل حين زعم أن هذا لن يكون ــــ أي ظهور النصارى على كافة المسلمين ، وسبق وتقرر ذلك عنه ــــ إلا والمسلمين على الكفر ، والنصارى على الإيمان ! .

ومثله توهم عائشة رضي الله عنها في ظهور الإسلام وأنه على التأبيد ما دامت عين تطرف على وجه الأرض ، نقل ذلك عنها في خبر استنكارها عودة الناس لعبادة الأصنام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ) . فقالت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أن ذلك تام ، فقال : ( إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ، ثم يبعث الله ريحا طيبة تتوفى من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم ) . ( راجع رفع الإلتباس ص 21 الفصل الأول )

وهكذا مثل ما هناك من منع من ظهور النصارى على العرب بحجة بقاء الطائفة المنصورة ، وكذلك ظهور العجم على العرب بحجة ايضا بقاء هذه الطائفة ، هناك كذلك من منع واستشكل عودة الناس للشرك بحجة بقاء الطائفة المنصورة .

بل هناك من استشكل قبض المصطفى صلى الله عليه وسلم نفسه بذات الحجة ، ولأن دينه لم يظهر بعد فكيف يقبض والأمر على أوله ؟! ، وتلك كانت حجة كل الصحابة الذين عارضوا القول بأنه توفي فعلا ومنعوا من دفنه لأجل ذلك .

وهكذا كان الأمر عند الأولين إعتقاد حتمية بقاء الطائفة المنصورة وظهور الدين بها وبالعرب حتى ما يظهر عليهم نصارى ولا عجم ولا مشركين إلى قيام الساعة ، وعلى مثله بقى مقلدة المتأخرين غباء منهم وبلادة إذ لم يلحظوا واقعهم المعاش وتحقق ظهور النصارى عليهم ظهورا عاما ، وكذلك العجم ، بل باتوا شراذم متفرقين لم يرى مثل هوانهم على الناس قط على مر الأزمان مثل ما هو متحقق الآن .

وهكذا استحق كل من عاش بلا عصبة ولا رأس ولا شوكة تحمي دينهم وجمعهم ، أن يذهب الله ريحهم ويشتد هوانهم بين الناس ، وهم كذلك اليوم.

كذلك لم يلحظوا بعين البصيرة الحكمة من وراء أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم باعتزال المؤمن الناس والفتن آخر الزمان ، مع تأكيده وبشده على أمر فتن آخر الزمان وكثرة الهرج حين ذاك واختلاف الناس ، وكل عاقل يدرك ان الأمر بالاعتزال مناف للأمر بالإجتماع وناقض لحكم قتال الجهاد ومع هذا أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم أمرا لا يفيد غير الوجوب ، ومن شدة ضلال هؤلاء وجهلهم عجزوا عن التوفيق بين هذا وذاك حين وقوع الفتن وكثرة الإختلاف ، وإلا حمل أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل ذلك وإخباره على التناقض والإضطراب وحاشاه عليه الصلاة والسلام ، بل لم يخبر ويأمر إلا بالحق لكن أكثر الناس يجهلون ، ولذا نراهم لما لم يوفقوا لحكم الشرع في ذلك ما زالوا في تخبط واضطراب شديد في دينهم وعلمهم وعقيدتهم حتى نبذهم الناس وركبهم العباد وسلط عليهم القتل أو الحبس أو الطرد والتشريد ، وباتوا فوق ذلك أذلة مستضعفين في كل مكان .

وحقيقة الأمر ومداره على ما قررت هنا وفي غير هذا الكتاب ، أنه حين وقوع الفتن واشتداد اختلاف الناس آخر الزمان ليس للمؤمن إلا ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بما يرضي الله وأعرف بما يكون والخير أين يأول ، يوم يكون المؤمنون قليل مستضعفون ، لا طائفة ظاهرة لهم ولا شوكة ، ولا قوة تحميهم يقيمون بها دينهم ويذودون بها عنه ، وهناك فقط أمروا بالاعتزال وكف اليد واللسان أيضا ، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم بهذا اكثر من صحابي حين استأمروه بما عليهم فعله إن أدركوا ذلك فكان يأمرهم بما قلت ، وكل من حمل الامر على غير هذا النحو فقد افترى وزعم ما لا علم له به ، بل ناقض وخالف ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخبر .

وعلى وفق هذه المنقولات عن بعض الصحابة في تأويل أخبار الطائفة المنصورة وظنهم حتمية وجودها الدائم ، جرى ابن تيمية وغيره من أئمة السنة رحمهم الله تعالى حتى يومنا هذا على ما قلت تقليدا ، وإلا لو أمعن النظر من هو مثله وجمع ما بين دلالة الأخبار وتحرى المخرج الممكن الصحيح للجمع بين كل ذلك علم حينها يقينا استحالة تحقق ما فهموا من تلك الأخبار ، ولو لم يكن إلا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يناقضها من أحاديث الفتن والإفتراق وأمره بالإعتزال لكفى هذا في بطلان فهمهم لتلك الأخبار ، فما بالكم في وقتنا وما آلت إليه أمور هؤلاء الرعاع من حثالات البشر ؟ ، من ذل وهوان على الأمم حتى بات دينهم وشريعتهم هباء بين أديان الأمم وشرائع مللهم الباطلة ، إنه الغرور وجهل أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم .

وأغرب شيء وأعجبه في هذا الباب هو اعتقاد الكثير قديما وحديثا أن الطائفة المنصورة ما هم إلا المدعين أنهم من أهل الحديث ! ، مع أن هؤلاء ليسوا من أهل الحرب ولا لهم في شأنه نواة ولا قطمير ، ومع هذا صدَّق من صدَّق أنهم معنيين بهذا الخبر .

والمؤسف هنا أن ابن تيمية على هذا الظن فيهم حتى قال مقولته المتطرفة المتهورة في ذلك : لم يجتمع أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة ! ، والحق لا يخرج عنهم قط ! ، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول ، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع ، فإنما يخالف رسول الله ! ، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفا للسنة الثابتة !! اهـ . ( المنهاج 5/166)

بل قالوا بالباطل في أخص ما عندهم وأعزه باب صفات المولى عز وجل ( 3 ) ، فما بالك بسواه وما هم إلا كسائر الناس لا يجوز الغلو فيهم ، وهذا قولي في المتأخرين فما بالك بالمدعين أنهم منهم وليسوا منهم ، أولئك الكذبة من المنافقين ممن تعلق بأهداب دولة الكفر والردة والنفاق آل الطرطور وغيرهم وما أكثر طراطيرهم ، زمرة المرتزقة الدجالين الذين هم آكد في مخالفة الحق في الكثير من أمور الدين سواء في أبواب الأسماء والصفات من أبواب العلم ، أو في معتقد التوحيد وأبواب العقيدة من الولاء والبراء ووجوب عداوة الكفار والمنافقين ، فهؤلاء هم اليوم من أشر الخلق في مخالفتهم للحق في ذلك .

كذلك وهمه رحمه الله وغيره بحملهم دلالة خبر الطائفة المنصورة وبقائها على معاوية ومن معه ضد علي ومن معه على ما ذكر قبل ، فانقلب عليهم بذلك الأمر وبات ابن تيمية رحمه الله تعالى بعلمه الراجح وقوته المميزة مترنحا بين ذلك لا يهتدي لسبيل الحق ، بل يغلو ويقول الشطط .

وكل ذلك من الإضطراب الشديد في هذا الأصل لوهمهم المتوارث حتمية بقاء الطائفة المنصورة .

وهذا يعد عندي والذي مر ذكره قريبا في حسبانهم أنهم أهل الحديث ، من أنكر الأقوال ولا أدل على بطلان إطلاقه خطأهم كلهم في تعيين من تكون الطائفة المنصورة ، وليس صحيحا أن قولهم في ذلك هو عين ما يريد المصطفى صلى الله عليه وسلم في أخبار الطائفة المنصورة وهذا بخصوص تعيين الطائفة المنصورة ، فما بالكم بسوى ذلك من القول الباطل ؟.

مثل قول ابن تيمية ومن قلده أن أهل الشام كانوا هم الطائفة المنصورة الفرقة الناجية ( 4 ) ، ولا يحمل هذا عليهم إلا غافل وإلا للزم من ذلك تضليل علي ومن معه والحكم عليهم بالهلاك ، ولن ينجو من شر ذلك الخلاف إلا معاوية وأهل الشام كونهم هم الطائفة المنصورة ، ويتبعهم بالهلاك كل من لم يكن من أهل الحديث على مر الأزمان من عهد الصحابة بعد التنازع ليومنا هذا !! ، فكلها باتت فرق وأحزاب ، وهذا لا يقوله عاقل بعد تصور شناعته .

 

--------

( 3 ) إذ أنهم في الضلال ويحسبون أنهم مهتدون فمذاهبهم حائرة في ذلك ما بين التعطيل والتشبيه ! .

( 4 ) راجع كتاب وجوب الاعتزال (2/165) وانظر ترجيحي هناك من تكون الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.