من ترجيحات ابن تيمية الباطلة على أصل قوله في تعيين الطائفة المنصورة

 

قوله بدوام العلم مع دوام وجود الطائفة المنصورة وأنه لا يقبض إلا بعد أن تقبض الريح أرواح المؤمنين آخر الزمان ، وفي هذا ما فيه من الخلط والإضطراب ومخالفة مقتضيات بعض الأخبار ، وسيأتي التنبيه على ذلك في سياق هذا الفصل .

وقد رام رحمه الله تعالى التوفيق قدر الإمكان بين كل ذلك لكنه لم يوفق لفساد الأصل الذي اعتمده وهو قوله ببقاء الطائفة أبدا إلى أن تقبض أرواح المؤمنين ، ما يلزم منه عنده وعند غيره بقاء العلم ببقاء الطائفة المنصورة ولذا قالوا بقبضه بعد الريح ، ومن قوله في ذلك :  وأَما قوله صَلَّى اللَّهُ عليهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ) .. َهُوَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الأمَّةَ لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضلالة ولا تَرْتَدُّ جَمِيعُهَا بَلْ لا بُدَّ أن يُبْقِيَ اللَّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هُوَ ظَاهِرٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ! ، فَإِذَا مَاتَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ جَاءَتْ السَّاعَةُ .

وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْعِلْمِ : ( إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ) . وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : يَسْرِي عَلَى الْقُرْآنِ فَلا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ آيَةٌ وَلا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ . وَهَذَا يُنَاقِضُ هَذَا . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّ قَبْضَ الْعِلْمِ لَيْسَ قَبْضَ الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الآخَرِ : ( هَذَا أَوَانٌ يُقْبَضُ الْعِلْمُ . فَقَالَ بَعْضُ الأنصارِ : وَكَيْفَ يُقْبَضُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَأَقْرَأْنَاهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك إنْ كُنْت لأحْسِبُك لَمِنْ أَفقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ لَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؟ فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ ؟ ) . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ بَقَاءِ حِفْظِ الْكِتَابِ لا يُوجِبُ هَذَا الْعِلْمَ لا سِيَّمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَقْرَؤُهُ الْمُنَافِقُ وَالْمُؤْمِنُ وَيَقْرَؤُهُ الأمِّيُّ الَّذِي لا يَعْلَمُ الْكِتَابَ إلا أَمَانِيَّ .

فَإِذَا قَبَضَ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ بَقِيَ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِلا عِلْمٍ فَيَسْرِي عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَاحِفِ والصُّدُورِ  اهـ .

قلت : هذا منه صريح في أن العلم لا يقبض بقبض العلماء إلا بعد الريح !

 بعد قبض أرواح جميع المؤمنين ، وهو قول غير صحيح وترجيح باطل مبني على ما قلت تأصيلهم أن الطائفة باقية ما بقي مؤمنين ، وبقبض أرواحهم يقبض العلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا قال بقبض العلماء ولم يقل بقبض المؤمنين العلماء ، والفرق هنا لا يخفى على مثله لو ما غفلته في هذا الباب والتزامه على أصله وهو فاسد بقاء الطائفة ما بقي مؤمن ، وبقاء الطائفة يلزم منه عنده بقاء العلماء !

وكما أن المؤمن لا يلزم أن يكون عالما ، كذلك الرؤوس الجهال لا يلزم من وجودهم عدم وجود مؤمن أو عالم ، بل قد يكون وجودهم مع وجود العلماء العاملين والمؤمنين المخلصين ، لكن لكثرة الجهل ولقلة التقوى في الناس اتخذ الناس مثل هؤلاء واتخذهم الطواغيت أعوان على باطلهم لنفاقهم ، وبهذا صاروا رؤوسا للناس ومرجعا في طلب العلم ، فضلوا لذلك وابتعدوا عن طريق الحق ، ولا يعني ذلك بالضرورة انعدام وجود عالم في الدنيا على الإطلاق ، بل الناس تجنب العلماء واتخذوا الجهلة بعد أن ظنوهم علماء مرجعا بإنزالهم المنزلة التي ليست لهم ، وهم بالفعل اليوم السبب الرئيسي لضلال العامة دون خاصة المؤمنين ، فالمؤمنين مازالوا يتجنبون هؤلاء ولا يثقون بهم في دين الله تعالى .

كذلك المؤمنون قد يستضعفون ولا ينفي عجزهم إيمانهم ، كما لا يلزم من وجودهم ظهورهم على غيرهم ، لكن لما اعتمد ابن تيمية وغيره أصلا فاسد في هذه المباحث ، وتقولوا على غيب الله تعالى في دوام بقاء الطائفة قوية ظاهرة ، واشترطوا بقاء العلم ودوام الظهور بدوام الطائفة ووجود المؤمنين ، للوازم باطلة لا يقتضيها على الوجوب بقاء المؤمنين أو العارفين العالمين بدين الله تعالى ، لما بينته من أن المؤمن ليس لزاما أن يكون عالما ، كما أن عجزه لا ينفي إيمانه ولا وجوده ، كما أن العالم الذي لا يسمع له ويطاع بالحق لا يعني هذا انتفاء علمه وانعدام وجوده ، وكذلك وجود الرؤوس الجهال لا ينفي وجود المؤمنين والعلماء ، إنما يثبت الجهل على من اتخذه الناس رأسا في زمان الفتن والهرج ، ما يؤكد قبض العلم بقبض العمل به لامتناع الناس عنه ، وقد افادت بعض روايات البخاري هذا المعنى وورد فيها بدلا من قوله بــ :

( قبض العلم ) . قال بـ : ( قبض العمل ) .

وعليه يصح القول بوجود المؤمنين مع قبض العلم وانتفاء ظهورهم ، وكل ذلك سيكون حاصلا والريح بعد لم تقبض أرواحهم ! ، لوقوع الفتن وانتشار الباطل واعراض الناس عن الإستماع لأهل الحق وبدلا من ذلك انقيادهم لأهل النفاق المتشبهين بالعلماء فيحسبون بالفعل علماء فيضلوا بسبب ذلك عامة الناس ضلالا بعيدا لاتخاذهم هؤلاء رؤوسا يقودونهم للهاوية بدلا من مفازة النجاة ، ومن ثم يعقب ذلك تمكين المؤمنين ونصرتهم وقد وردت الأخبار بأن المهدي يعقب أمره كثرة الجهل والفتن والهرج ، وبعده يكون أمر المسيح عليه السلام ، ثم تأتي الريح أخيرا مؤذنة بقرب النهاية بقبض أرواح المؤمنين حتى لا يبقى إلا شرار الخلق ، ثم يسرى على المصاحف ويرفع القرآن ، وبعد ذلك تكون النهاية الأبدية .

وعلى هذا ائتلاف الأدلة وجماعة الأخبار ، وليس ورائه إلا التناقض والتقول على غيب الله تعالى بالكذب والجهل ، كترجيحهم لحزب معاوية على من مع علي رضي الله تعالى عنه أن المنتصر كانوا هم الطائفة المنصورة ، وكذبوا ورب الكعبة وضلالهم باعتقاد ذلك ترتب على ضلالهم في تعيين الطائفة المنصورة ، وكان بنفسي الاطالة بتفنيد ذلك ومن أجله تم تأخير اعلان هذا الكتاب رسميا ، لكن ترجح لي الاعراض عن ذلك فخير الكلام ما قل ودل .