وفي هذا الفصل أبدأ بنقل سؤال وجه من داخل سجون آل طرطور ولاة هذا المنافق العاوي العطاوي ، متعلقه بهذا الحرف ثابت الرواية عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه بإسناد موثق متسلسل بأئمة للحديث كبار ، وقال فيه ذلك الأخ الفاضل :
السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته ارجو من الله العظيم أن تكون باحسن حال وأن يديم عليك الصحة والعافيه .
كتب لي أحد المكذبين الكلام التالي :
( نص القراءة كما أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ :( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولانبي ولامحدث ) .
وأخرج ابن ابي حاتم عن سعد بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن عوف مثله وزاد : فنسخت (محدث) قال والمحدثون صاحب يس ولقمان ، ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى ) . انتهى كلامه .
وأنا يارسول الله على يقين أن دعوى النسخ دعوى كاذبة وباطلة ، فقد أخرج سفيان بن عيينه في أواخر جامعه عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولانبي ولامحدث) .
وأخرجها عبد بن حميد من طريقه في تفسيره ، وابن الانباري كذلك ، وعلقها البخاري بصيغة الجزم في صحيحه ، وأن هذا الحرف الذي كان يقرأ به أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما وهو ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) في عهد الصحابة والتابعين ، وهذا الحرف قرآن يتلى على مسامع الصحابة رضي الله عنهم ، ونحن أتباع المهدي عليه السلام نقرأ بهذا الحرف في الصلاة وخارج الصلاة.
السؤال :- ما حقيقة هذه الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم ؟ وماصحة اسنادها ؟ علمني يارسول الله يامعلم الخير مما علمك الله ، وأنا اعلم ياحبيبي يارسول الله أن هذه الرواية التي ساقها ابن ابي حاتم وكتبها لي ذاك المكذب ماهي الا مجرد شبهة وأنا على يقين أن لها جواب وتفنيد وإبطال من المهدي صلاة ربي وسلامه عليك والله ولي التوفيق اهـ .
وكان جوابي عليه التالي (1) : عليك السلام ورحمة الله وبركاته أخي العزيز الغالي على قلبي جدا ، ومرحبا بك وكم أسعدني إمكان التواصل معك رغم كل ما يحرص عليه المنافقون للحيلولة دون ذلك ... وهو القادر على كل شيء ، وإنما يبلوكم ليرفع قدركم ويشرفكم بتدبيره لتنالوا مراتب علية مع أحب البشر إليه تعالى ، وربك فعال لما يريد .
ولا تهتم وقد اقترب الخلاص ، ولا تبالي وأفعال الله تعالى تشهد في كل أرجاء الدنيا على قرب فصله المنتظر ، واصبر أخي الكريم فقد خوطب إمامك المصطفى عليه الصلاة والسلام مأمورا بالصبر لذلك في قوله تعالى :
وقال تبارك وتعالى :
وبخصوص ما كتبت وذكرت أنه مجرد شبهة وهي والله أدنى من ذلك ولو ما كبير قدرك في نفسي لم ألتفت لذلك لكنك بما أنك كتبت فيها نقلا لي رأيت أنه يتعين اجابتك لذلك ولو أن ذلك كان مما يجب عدم الإلتفات له والتعويل عليه بتاتا ، وقد تجاوز الأمر ذلك بعيدا كبعد السماء عن الأرض .
وكما قلت أنت : أنه من الثابت عن أبي وابن عباس أخذا عنه رضي الله تعالى عنهما ولا زالا على قراءة ذلك الحرف إلى أن فارقا الدنيا ، وهما على ذلك يريانه قرآنا أنزل من لدن الرب تعالى ، ولا يقول بدعوى أن ذلك مما نسخ إلا جاهل لا يعي ، فالأخبار لا تنسخ ، ولكني أحسن الظن بذلك التابع للتابعين والذي لم يدرك أي صحابي وأحمل كلامه الذي نقل عنه بأن مراده بالنسخ أنه يقع على حرف ( محدث ) في الآية فلا يتلا ، وهو تفسيره لعدم اثباته بالمصحف المنشور بين المسلمين ، وحتى هذا لا يصح الزعم عليه بالنسخ إنما طرح خطأ ممن فعل ذلك أيا كان ، سواء على وجه الرواية المشهورة أو التي سأورد ذكرها لاحقا إن شاء الله تعالى .
والأمر لم يكن مقصورا على ذلك فقط بل وقع الخلاف كثيرا في غيره بين الصحابة ، ما بين منكر لذلك وبين مدع نكران عدم ذكر ذلك فيما دون في المصحف ، ولربما كان تابع التابعين سعد بن ابراهيم هذا إنما يجيب بما روي عنه من قول على عدم ذكر ذلك الحرف بالمصحف فادعى عليه النسخ خطأ كما قلت ، وخطأه في ذلك مركبا ومع هذا تعلق به جهلة كثير في عصرنا وطريقهم في ذلك لا زال مبني على الجهل والكذب ، وكون هذا الرجل ليس هو ممن يؤخذ قوله في ذلك مسلما فاصلا هذا من الثابت عند أهل العلم بحق فليس ذلك مما يرجع لحكمه لمثله اللهم إلا ممن لا ادراك له بل لا يكون إلا جاهلا مقلدا ، ومع هذا فالنقل عنه لذاك القول لا يثبت بإسناد يعتمد وحتى لو ثبت فهو مجرد قول من تابع للتابعين لا يمكن يعده فاصلا قاطعا على حرف من حروف القرآن إلا ممن هو أضل من حمار أوأطيش من عقل دجاجة ، ومع هذا لتتحداهم أخي العزيز أن يثبتوا سندا صحيحا عن ذلك الرجل فيما قاله أو غير صحيح ، وسيرتدون على أدبارهم خاسرين مقرين بجهلهم وأنهم لا شيء بالنظر ولا وعي لهم بل هم مجرد مقلدة يرددون كلاما لا يدركون معانيه ولا يمكنهم تيقن مستندا له عمن قال به ممن يرونه من الأئمة الثقات ولا ثقة هنا فيما هو دون ذلك فقد كان البعض يتجنب الرواية أصلا في الحديث عن سعد هذا ومثل مالك لم يرو عنه بل قيل لم يكن روى بالمدينة ليأخذ عنه مالك رحمه الله تعالى ولا غيره ، وهذا في رواية الحديث فكيف في مثل ما نحن فيه ، وزد على ذلك لم يصح النقل عنه في ذلك ، مع عدم صحة زعمه النسخ لا في خصوص ذلك الحرف أنه طرح من المصحف ، ولا على معنى نسخه كحكم شرعي وحقيقة أصولية إيمانية ، لأن معنى ذلك الحرف على الخبر والأخبار لا تنسخ كما هو معلوم لدى كل عاقل فاهم مدرك لتلك المباحث الأصولية العلمية ، وسيأتي مزيد تفصيل لاحقا إن شاء الله تعالى في بيان عدم حتمية اسقاط آية من المصحف لظنهم أنها منسوخة كآية سورة الفرقان قوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ، إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ، قال زيد وهو من جمع المصحف لعثمان : نسخت في قوله تعالى في سورة النساء : ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾ (2) ، مع أنها مدونة في المصحف ، وهذا يعني أن النسخ لا يقتضي الإلغاء من المصحف وهذا عن كاتب المصحف نفسه .
أو وهمهم على آية أنها منسوخة وليست كذلك ويكون ذلك ربما السبب لعدم كتابتها في المصحف كآية الرجم من سورة الأحزاب ، وذلك الحرف عند أبي رضي الله تعالى عنه (ولا محدث ) ، وسيأتي لاحقا إن شاء الله مزيد تفصيل على ذلك عند الكلام على تصحيف من صحف اسم عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله تعالى عنه كما في مسند أحمد رحمه الله تعالى ، حين استكتب النبي آية الرجم ولم يوافقه على ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وأقول : إنما معتمد الجهلة المقلدة على مقولة ذلك الرجل فيما ذكره السيوطي في الدر المنثور يحيله لإبن أبي حاتم في تفسيره قولا من السيوطي لسعد هكذا بانقطاع لا وصل لتلك البتراء إلا من السيوطي لسعد ولا سعدا لهم ، فابن أبي حاتم برأ الله تفسيره من تلك الكذبة لأنه رجل صاحب أسانيد وإنما هي خطفة لذاك المصري الصعيدي الله أعلم من أين جاء بها ليلصقها بابن أبي حاتم رحمه الله تعالى ، فتلقفها عنه أولئك العميان السفهاء (3) يحسبونها شيئا وما أدركوا أن سافلها كذب وعاليها هواء تهوي بهم في ظلمات الجهل والتكذيب لله عز وجل ورسله وكتبه ، فجرمهم أعظم من أن يتساهل معه هنا ، والذي ذكر عن حفيد عبدالرحمان بن عوف لا يعول عليه بتاتا ويجب أن لا يهتم له أبدا ولا يقال عن مثل هذا شبهة بل الشبهة ما التبس أمره حقا حتى لا يمكن يميزه كثير أحد ، وما ذكره هذا الرجل ليس كذلك والبينة في تفصيل جوابي عليها هنا ، فهي لا شيء لا حرفا ولا معنى .
فادعهم عزيزي لإثبات سندها عن ابن أبي حاتم وحثهم يرفعوها لما بعد سعد بن ابراهيم فلن يجدوا لذلك سبيلا فهي والله مجذومة ، وسيجلسون مع تابع لبعض التابعين لم يدرك أيا من الصحابة ، ومن يكون هذا مع حرف لا زال يتلوه صحابي هو أقرأ الصحابة رضوان الله عليهم لكتاب الله تعالى وأكثرهم ثقة في ذلك ، وقد علم عنه صلابته في ذلك وثقته فيما اعتقد أنه من كلام الله عز وجل ، وحق له حين أمر الله تعالى من فوق عرشه نبيه صلوات ربي وسلامه عليه أن يقرأ عليه القرآن وقد سماه تعالى من فوق عرشه ، فهل مثل هذا لا يوثق به أو أنه يجهل ما علمه سعد بن ابراهيم ، وتلك السخافة دعوى النسخ التي نضطر لتصويب أفهام أولئك السفهاء بأن مقصده من باب احسان الظن طرح ذلك الحرف من المصحف ولا معنى لذلك كما لا معنى بل جهل الزعم بأن الأخبار تنسخ ، فكيف ينسخ ما أخبر عنه تعالى أنه فعله في السابقين ولو نازع هؤلاء في أن ذلك لن يكون في الأمة وقد كذبوا فأدلة تحقق ذلك من غير ذلك الحرف حقيقة ايمانية اليوم لا يجهلها ويكذبها إلا مطموس بصيرة معاند مكابر بل كافر من تقوم عليه الحجة في بسط أدلة ذلك ثم هو يصر على التكذيب والجحد بعد ذلك ، فهذا حرف من حروف القرآن السبعة نزل في القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم هو يودعه عند اقرأ أمته أبي بن كعب ، ثم لا يزال مستمسكا به أبي ويأخذه عنه مثل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ثم يأتي من يزعم أن ذلك قد نسخ ، وبأي برهان ؟!
يدعي هذا على حرف نزله تعالى في القرآن أنه نسخ وزال خبره ، وأي عاقل يعتقد بنسخ الأخبار ؟!!
ثم جرأ هذا الأثر بعض تلك الحثالات فأنكروا ذلك الحرف ومنهم من جرأ وزعم بأنه شاذ ، وكان أئمة كبار يخشون الله تعالى من أن يزعموا على آية من كتاب الله تعالى أن بها واو أو ليس بها واو ، وقد بوب لهذا المعنى ابن أبي شيبة في مصنفه رحمه الله تعالى فقال : باب من كره أن يقول إذا قرأ القرآن : ليس كذا . وذكر جملة من الآثار في ذلك ومنها عن الأعمش عن إبراهيم قال : إني لأكره أن أشهد عرض القرآن فأقول كذا وليس كذا اهـ .
وانظروا بالمقابل لجرأة أولئك الجهلة في نفيهم حرف من حروف القرآن من غير خشية من الله تعالى في جرأة على التقول على كتاب الله عز وجل وغيبه .
الحاصل أن دعوى النسخ على ذلك الحرف من كلا الوجهين المذكورين هنا باطل ، وأشد ما يعترضهم في ذلك عدم ذكر آية الرجم في القرآن والتي تكلم حولها كثيرا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه ، وشهد أنه سمع رسول الله تعالى يتلوها فقال : بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأ بها ، ورجم ورجمنا بعده ، وأخاف إن طال بالناس زمان أن يقول : ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم حق .. ، وأيم الله لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها اهـ (4) .
وفي لفظ : فقرأناها وعقلناها ووعيناها (5) .
ومما ذكر في خطبته تلك أنهم كانوا يقرأون كذلك مما لم يدون في القرآن أيضا قوله تعالى : ( لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) . المصدر السابق .
فهل عدم ذكر ذلك في المصحف مع ثبوت إنزال الله تعالى لهما على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم دال على نسخ حكمهما ، وللأمة في ذلك ورطة عظيمة خصوصا في حكم الرجم وآيته ، ومن ذلك اخلالهم بعدم تدوينها في المصحف وتركهم في الأخير العمل بآية الرجم على التمام لتصور وقوع شيء من النسخ فيها لعدم ذكرها .
وما وجه النسخ في قوله تعالى : ( لا ترغبوا عن آبائكم .. ) ؟! ، وهي كذلك لم تدون في المصحف اسقطت ، وها هو عمر ينص على أنها مما كان يقرأ لكن رغم هذا لم تدون في المصحف ، لكن في خصوص آية الرجم ربما فهم عليها النسخ من كلام قاله عمرو بن العاص لإمتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الإذن له بكتابتها ، ففهم من ذلك وقوع النسخ عليها ، وسأرجئ التفصيل في هذا لآخر الفصل لأبين أن لهم هناك ارتباك غير معلن ولا مكشوف حول ذلك ، وخلاصة الكلام في ذلك الحجة على السفهاء في أن عدم ذكر الحرف في القرآن ليس دليلا على نسخ حكمه ، فكيف على هذا بأن يكون دليلا على نسخه وهو خبر وهذا محال ، وكيف يكون عدم ذكره دليلا على نسخه وها هو زيد يقرر عن آية أنها منسوخة مع أنها مدونة في المصحف ، وهذا قطعا مما يدل على أن عدم الذكر ليس دليلا على النسخ ، مثل ما أن القول بالنسخ على آية لم يمنع من كتابتها ، فيحتاجون هنا لتحرير ما الضابط في ذلك أكثر من ادعاء كاذب على حرف أنه لم يكتب إذا هذا دليلا على أنه منسوخ ، وأعني هنا تحديدا الحرف الذي كان يقرأ به أبي رضي الله تعالى عنه ( ولا محدث ) .
أقول : ولا أشد في ذلك مما قاله عمر رضي الله تعالى عنه من كثر ولعه واهتمامه بتقرير تلك المسألة أو قولوا إن شئتم المعضلة حتى قرن ذكرها بخطبته تلك مع أمور جسام كاختيار الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان ، واختيار الخليفة من بعد عمر نفسه ، قرن بالذكر كل ذلك لأهميته العظيمة عنده وقال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل : لا أجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله ورجمنا ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ﴿الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة﴾ . فإنا قد قرأناها (6) .
قال ذلك لأهميته عنده وقاله في أهم مقاماته وآخر خطبه يوم جمعة له رضوان الله تعالى عليه ، وفيها أوصى للستة بأن ينتخب منهم أميرا للمسلمين ، فعدد ما همه ذكره ومن ذلك ذكر آية الرجم ، ولو كان يرى أن الحكم الذي فيها نسخ لم يقل ذلك .
فهل يدل هذا الكلام على أن عدم ذكر الحرف في المصحف دليل على أنه منسوخ حكما ؟!
ولمزيد من احكام الخناق على هؤلاء سأنقل لك ما أريدك تبقى تنخس به في وجوههم لعلهم يعقلون ويدركون بأن مثل هذه العلوم إنما تؤخذ من أهلها لا غيرهم ، ممن لو كان الإيمان معلقا بالثريا لنالوه بفضل من الله تعالى لأنه لهم وحدهم وليس لسواهم ذلك الإيمان ، وإنما يفلح من يتبعهم ويصدقهم .
قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه " الاعتقاد " تعليقا على ما روي عن ابن مسعود وابن عمر عن عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه :
ما رأيت عمر قط إلا وكأن بين عينيه ملكا يسدده . ابن مسعود
كان عمر يقول القول فننتظر متى يقع . ابن عمر
علق على ذلك البيهقي بالقول :
وكيف لا يكون وقد قال صلى الله عليه وسلم : إنه كان في الامم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر بن الخطاب .
وهذا الحديث أصل في جواز كرامات الأولياء وفي قراءة أبي بن كعب : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ﴾ .
وقرأ ابن عباس كذلك ، في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل : كيف يحدث ؟
قال : تتكلم الملائكة على لسانه اهـ .
قلت : هذه القراءة المشهورة عن الصحابيين لذلك الحرف ورواه البعض عن ابن عباس من طريق سفيان عن عمرو عنه كما أشار لذلك البيهقي وعلقه البخاري في صحيحه وعزاه ابن حجر في شرحه لسفيان في أواخر جامعه وقال : وأخرجه عبد بن حميد من طريقه وإسناده إلى ابن عباس صحيح وقال لفظه عن عمرو بن دينار : كان ابن عباس يقرأ : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ﴾ اهـ .
أقول : ورواها ابن ابي داود في كتابه المصاحف من طريق كثير بن عبيد عن سفيان عن عمرو عن ابن عباس بلفظ : ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي محدث ﴾ .
وكأن لفظها هنا أكثر ضبطا ، أولا : لكثرة ما حصل عليها من اختلاف بين أهل العلم في هذه الأمة على اللفظ المشهور .
وثانيا : لأن الأنبياء فعلا ينقسمون إلى نبي رسول ، ونبي غير رسول محدث ومكلم كآدم عليه الصلاة والسلام وهارون الذي كان نبيا لكن محدث مكلم أي يرى بالمنام ولا يوحى له يقظة مباشرة ، لكنه من الصنف المكلم المحدث الذي أرسل ، وعلى ذلك يتم تفصيل تلك الآية ويخرج النزاع والخلاف بينهم في تلك القرآءة على وفق المروي عند ابن أبي داود عكس لفظ القراءة المشهورة والتي ورد فيها ذكر المحدث على الفصل بـ ( ولا ) ، والقلب أميل لصحة ضبط الرسم لها هنا على وفق رواية ابن أبي داود خلاف غيره .
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره تعليقا على تلك القراءة المشهورة ما يلي :
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَجَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول وَلا نَبِيّ وَلا مُحَدَّث " ذَكَرَهُ مَسْلَمَة بْن الْقَاسِم بْن عَبْد اللَّه , وَرَوَاهُ سُفْيَان عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ مَسْلَمَة : فَوَجَدْنَا الْمُحَدَّثِينَ مُعْتَصِمِينَ بِالنُّبُوَّةِ - عَلَى قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس - لأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِأُمُورٍ عَالِيَة مِنْ أَنْبَاء الْغَيْب خَطَرَات , وَنَطَقُوا بِالْحِكْمَةِ الْبَاطِنَة فَأَصَابُوا فِيمَا تَكَلَّمُوا وَعُصِمُوا فِيمَا نَطَقُوا ; كَعُمَرَ بْن الْخَطَّاب فِي قِصَّة سَارِيَة , وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ الْبَرَاهِين الْعَالِيَة .
قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَر أَبُو بَكْر الأَنْبَارِيّ فِي كِتَاب الرَّدّ لَهُ , وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّه حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن حَرْب حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول وَلا نَبِيّ وَلا مُحَدَّث " قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا حَدِيث لا يُؤْخَذ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْآن . وَالْمُحَدَّث هُوَ الَّذِي يُوحَى إِلَيْهِ فِي نَوْمه ; لأَنَّ رُؤْيَا الأَنْبِيَاء وَحْي .
الثَّانِيَة : قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّ هَذِهِ الآيَة مُشْكِلَة مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ أَنَّ الأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ فِيهِمْ مُرْسَلُونَ وَفِيهِمْ غَيْر مُرْسَلِينَ . وَغَيْرهمْ يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ لا يَجُوز أَنْ يُقَال نَبِيّ حَتَّى يَكُون مُرْسَلا . وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول وَلا نَبِيّ " فَأَوْجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّسَالَة . وَأَنَّ مَعْنَى " نَبِيّ " أَنْبَأَ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَمَعْنَى أَنْبَأَ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الإِرْسَال بِعَيْنِهِ .
وَقَالَ الْفَرَّاء : الرَّسُول الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْق بِإِرْسَالِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام إِلَيْهِ عِيَانًا , وَالنَّبِيّ الَّذِي تَكُون نُبُوَّته إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا ; فَكُلّ رَسُول نَبِيّ وَلَيْسَ كُلّ نَبِيّ رَسُولا . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , أَنَّ كُلّ رَسُول نَبِيّ وَلَيْسَ كُلّ نَبِيّ رَسُولا . وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَاب الشِّفَا قَالَ : وَالصَّحِيح وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمّ الْغَفِير أَنَّ كُلّ رَسُول نَبِيّ وَلَيْسَ كُلّ نَبِيّ رَسُولا اهـ .
قلت : لم يأخذوه قرآنا على مقولة الأنباري على اللفظ الذي ذكره لكن على اللفظ المروي عند ابن ابي داود يعد من المشكل عدم اعتباره قرآنا وعلى وفقه كما قلت ينتظم رسم وسياق تلك الآية فتتفق مع معناه حرفا ومعنى ، ويخرج كذلك خلافهم على ذلك في معنى ذكر الأنبياء هناك مع ارسال الرسل ، والآية تنص على ارسال الصنفين الرسل والأنبياء المحدثين ، لأن النبي المحدث لا يتلقى الوحي كما الرسل المقدمين بالذكر على معنى تلك الآية ، فيكون الرسول بالوحي المطلق الصريح أحق بالإرسال لهذا قدمه الله تعالى بالذكر ، ومعهم ممن يرسل من الأنبياء بالتحديث والإلهام والمنامات ، وعلى وفق ذلك يتم وضوح المعنى بتلك الآية ، ويخرج كل خلاف عليها .
وعليه أقول ردا على أولئك السفهاء المقلدة لما أورد السيوطي في دره المنثور وعزاه لتفسير ابن أبي حاتم وليس فيه ، فهل يعقل اعتبار وقوع النسخ على أي وجه كان مقصد القائل ببعث النبي المحدث ؟!
وهنا ستكون ورطتهم عظيمة وانكسارهم أكيد ، فمصحف أبي غير ممكن الوقوف عليه لا من قبل ولا بعد ، وما ذكر لفظ القراءة عنه إلا نشرا من الذكر هنا وهناك كما عن ابن عباس وقد ثبت وقوع الخلاف في ذكر ذلك على ما بينت هنا ، وإن النزاع معهم يثبت على هذا باسقاط دعوى النسخ على بعث الأنبياء المحدثين ، وهذا مما لا يقول به عاقل بتاتا اللهم إلا بسحب الزعم في ذلك على أن النسخ ببعثهم على اعتبار من قائله أنه في هذه الأمة ، وهذا كما أنه لم يثبت أنه المراد من قول سعد بن ابراهيم ، يعارضه أولا :
بعث المسيح ابن مريم في هذه الأمة ما يبطل فيه دعوى النسخ ، وقد بوب ابن أبي شيبة في مصنفه هذا الباب : من كره أن يقول لا نبي بعد النبي . وروي فيه عن جرير بن حازم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قولوا : خاتم الأنبياء ولا تقولوا : لا نبي بعده .
وذكر رجل عند المغيرة بن شعبة : صلى الله على محمد خاتم الأنبياء ، لا نبي بعده . قال المغيرة : حسبك إذا قلت : خاتم الأنبياء ، فإنا كنا نحدث أن عيسى خارج ، فإن هو خرج فقد كان قبله وبعده (7) .
وسبق لي التطرق لشيء من ذلك في كتاب " القول المبين في الختم بمحمد المصطفى الأنبياء لا المرسلين " ، وبين هناك بالنقل عن بعض العلماء وجه الإستثناء في انقطاع النبوة والرسالة ، عن ابن عبد البر والغزالي والقاضي أبو الطيب ومناقشة القرطبي لما قيل . ص 48
وخلاصة هذا تثبيت القول هنا للفصل في خلافهم ذاك بأن التفسير الحق لقوله تعالى : َ﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ ، معناه ليس هو آخر من يوحى له في هذه الأمة ، بل سيكون وحي بعده إما على ما عليه وجه الإستثناء المشار له قبل ، بالرؤيا الصالحة المبشرات ، أو بأن يبعث مجددا نبي في هذه الأمة كالمسيح وغيره من أنبياء أشهاد سيكون أمرهم في خاتمة الأمور في آخر هذه الأمة والبشرية ، ويكون المعنى الصحيح للختم به أنه سيكون بمنزلة الختم لشرعية صحة نبوة كل نبي ، فلا يبعث نبي إلا برؤيا مثاله صلوات ربي وسلامه عليه بالمنام ، ومن لم يبعث من خلال مثاله الشريف بالمنام فلن يكون ذلك البعث من الله عز وجل ، وعليه جاء الإنجيل بالتأكيد على هذه الحقيقة الشرعية ، وهو الوجه الحق الفاصل في تفسير معنى تلك الآية عنه صلوات ربي وسلامه عليه ، والأولى أخذه عن المسيح في الإنجيل ، لا عن تفسيرات مبناها على أفهام أناس يصيبون ويخطئون ، وتلك الآية حمالة أوجه كما ترون وأولى القول بتفسيرها على الوجه الذي تقرر في الإنجيل لا غيره ممن هم دون الانبياء قد يصيب تفسيرهم على كتاب الله تعالى وقد يخطئ ، وما أكثر ما يخطئون عليه والله المستعان .
قال المسيح عليه الصلاة والسلام :
فهذا التفسير الحق لمعنى تلك الآية أن يري كل نبي روح المصطفى صلى الله عليه وسلم بمنامه وينال الشرعية بذلك ، ومن لم يقع له ذلك فليس مبعوثا من الله تعالى ، وهذا ما حصل في بعث المهدي تفسيرا لمعنى تلك الآية ، ففي أول رؤيا عنه صلوات ربي وسلامه عليه ، جاء المهدي وجلس بين يديه وتم بتلك الرؤيا اعلان اختيار الله عز وجل له ، تماما كما نصت على ذلك نبوءة دانيال صلوات ربي وسلامه عليه .
ثانيا : يبطله بعث الأشهاد من كل أمة الذين سيأتي بهم الله تعالى في آخر هذه الأمة ليشهد كل منهم على أمته ، ناهيكم عن ثبوت ارسال المهدي عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة ثبوتا عن كتب الله تعالى لا ينكر ذلك بعد قيام الحجة إلا كافر لأنه تكذيب لما أخبر تعالى وإنما رد من هذه الأمة لجهلها المطبق المركب في هذا الأمر .
وعليه سيكون النزاع معهم الآن لا في مدى ثبوت إرسال المهدي في هذه الأمة وكونه محدث أو مكلم أو معلم أو يرى أمره من خلال جزء من النبوة وهو الرؤيا الصادقة ، أو أن الله تعالى سيكلمه كما كلم موسى فيكون بذلك عندهم يلزم منه أن يكون نبيا محدثا ومعلما وعلى أي وجه كان التفسير في ذلك والإلزام ، ما يجب على وفقه التخريج الحق لثبوت ارساله بكتب الله تعالى القرآن والزبور والإنجيل ، وسيبقون في ورطتهم الكبرى : دعوى نسخ ارسال النبي المحدث . والتي لا يقول بها عاقل ، فسلم العقلاء وثبت للمخابيل رباطهم يا ابن عقيل .
وأنا لعلى يقين أنهم لن يستطيعوا على رد لا الأولى ولا الثانية في بيان هذا الأصل العظيم في ثبوت بعث وارسال المهدي عليه الصلاة والسلام على أي الوجهين كان التقرير والتفصيل .
وأقول أيضا : يجدر التنبيه هنا ونحن بصدد التفصيل في بيان وجه هذه المسألة العظيمة على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في شأن المحدثين من طريق أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لم يبعث نبيا إلا كان في أمته محدث وإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فهو عمر . قالوا : كيف محدث ؟ قال : تتكلم الملائكة على لسانه .
رواه الطبراني في الأوسط وأعله الذهبي ونسبه للبطلان ، وروى أيضا الطبراني رحمه الله تعالى عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم : لو كان الله باعثا رسولا من بعدي لبعث عمر .
فالحديثان من الافراد ولا تقوم باسناديهما حجة في الفروع فكيف في الأصول لكن لا بد من التعليق بما أنهما مما رويا عنه صلى الله عليه وسلم ، وبان من لفظ الأول المغايرة ما بين النبي والمحدث والفصل بينهما ، ودلت الثانية على جواز ارسال المحدث غير النبي ، وأيضا على أن الإرسال للمحدث كما يقع على الأنبياء يقع على المحدثين كذلك ، وهو مفهوم تلك الآية التي يحذر من دلالتها على ذلك أولئك السفهاء ويزعمون عليها ما يزعمون من دعوى النسخ على الوجه الذي قصدوا ، لكن ما روي هنا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يساعدهم على ذلك .
وقوله " من بعدي " في الخبر هنا نظير قوله لعلي ر ضي الله تعالى عنه في الحديث المشهور : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي (9) . أي يخلفني في أمتي ، وتكون البعدية هنا المراد بها المجاورة ، لا أنه لن يكون بعده رسول لله تعالى مطلقا ، وإلا عارض هذا صريح القرآن كما في سورة الدخان وغيرها ، وأيضا عارض ذلك ما نبأ عنه تعالى في كتابه الزبور والانجيل على ما بين في الكثير من كتبي من قبل ، وأيضا لعارض ذلك قوله الثابت الصحيح المشهور : لا يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات . ووجه الاستثناء هنا يمنع انقطاع الوحي والنبوة من كل وجه كما هو ظاهر من معنى الخبر ، وكيف يعمل الله تعالى بذلك ، هذا مما لا يمكن للسفهاء الايمان به وتيقنه ولا العلم بأدلة ذلك ولوازمه .
والقول : بجواز ارسال المحدث هنا كما جاز ارسال الأنبياء المكلمين المحدثين ، لا ينافي اشتراكهما بجنس الوحي مثل ما أنه لا ينافي اشتراكهما بالإرسال ، فكلا الصنفين من المرسلين هنا جاز عليهما نوع الوحي مع البعث والإرسال ، وإنما قال بالمنع هؤلاء السفهاء الذين لا يعقلون ولا يسمعون ، وكل تلك المرويات تنافي ما هم عليه وتصادم اعتقاداتهم في ذلك مصادمة تضاد على ما بين ذلك في أكثر من مكان ، وتقرير بطلان ما هم عليه من أبين أصول دعوة الله تعالى المهدية هذه المباركة .
وأحب هنا أن أؤكد على بيان مدى ثبات أبي رضي الله تعالى عنه فيما يعتقد أنه من كلام الله عز وجل ولو زعم من زعم أنه غير كلام الله تعالى مزيدا عليه أو أنه مما نسخ ، ومواقفه مع عمر رضي الله تعالى عنهما في الكثير من ذلك تؤكد على هذا ، ومنه ما ذكره ابن شبة في تأريخ المدينة رواه عن عمرو بن دينار عن بجالة أنه قال :
مر عمر رضي الله عنه بغلام معه مصحف وهو يقرأ : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) ، ( وهو أب لهم ) فقال عمر رضي الله عنه : يا غلام حكها ، فقال : هذا مصحف أبي بن كعب ، فذهب إلى أبي فقال : ما هذا ؟ فنادى أبي بأعلى صوته ، أن كان يشغلني القرآن ، وكان يشغلك الصفق بالأسواق ، فمضى عمر رضي الله عنه " .
وفي مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ في كِتَابُ اللُّقَطَةِ بَابُ قَتْلِ السَّاحِرِ عن ابن جريج , عن عمرو بن دينار , قال :
سمعت بجالة التميمي , قال : وجد عمر بن الخطاب مصحفا في حجر غلام في المسجد فيه : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم ) , فقال : " احككها يا غلام " , فقال : والله لا أحكها وهي في مصحف أبي بن كعب فانطلق إلى أبي فقال له : إني شغلني القرآن , وشغلك الصفق بالأسواق إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء . ( ذكرها الحافظ في المطالب العالية ج4 /143 وقال إسناده صيح على شرط البخاري )
وعند ابن شبة عن الحسن : قرأ عمر رضي الله عنه : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان ) فقال أبي : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقال عمر رضي الله عنه : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان) ، وقال عمر رضي الله عنه : أشهد أن الله أنزلها هكذا فقال أبي رضي الله عنه : أشهد أن الله أنزلها هكذا ، ولم يؤامر فيه الخطاب ولا ابنه " .
وقال القاسم ابن سلام في فَضَائِلُ الْقُرْآنِ : بَابُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي خُولِفَ بِهَا الْخَطُّ فِي الْقُرْآنِ :
حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : أخبرني حبيب بن الشهيد ، وعمرو بن عامر الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب ، قرأ : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ) فرفع الأنصار ، ولم يلحق الواو في الذين ، فقال له زيد بن ثابت : والذين اتبعوهم بإحسان فقال عمر : ( الذين اتبعوهم بإحسان ) فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم .
فقال عمر : " ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك فقال أبي : ( والذين اتبعوهم بإحسان ) فقال عمر : " فنعم إذا " . فتابع أبيا اهـ .
وهذا ولو فيه رجوع عمر لما قاله أبي إلا أن فرق ما بين لفظي الروايتين بعيد جدا بالحرف لا المعنى ، لأنه بالحرف السقط سيكون كثيرا على هذا وعمر كان تركيزه على المعنى دون الحرف المهم أن لا يعد الأنصار إلا ممن اتبع بإحسان سواء نصت الآية على ذكر اسمهم أو لا ، وأبي أصر على ذكرهم وأدخلهم فوق من اتبع بإحسان كحال المهاجرين ، فتخيلوا نسبة هذا مع اسقاط فقط ( ولا ) في ذكر بعث الرسل والأنبياء المحدثين ؟!!
وعليه كان قولي : القلب إلى أن ما أخرجه ابن أبي داود هو الأرجح ، لأن تصرف الرواة واسع بالألفاظ وتلاعبهم بالرسم واختلافهم في ذلك وتفاوتهم بالنقل ما بين ذكر الحرف والمعنى .
وما لنا ولما نقل عن سعد بن ابراهيم دعواه النسخ فقد ذكر ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه في عموم ما تمسك به أبي رضي الله تعالى عنه فقد كان يقول : أبي كان أقرأنا للمنسوخ اهـ . (أخرجه أبو عبيد بن سلام في فضائل القرآن )
مع أنه سلم له ببعض شيء ومع هذا يقول أنه كان أقرأ للمنسوخ ، وحتما مراد الفاروق رضي الله تعالى عنه ما لم يرده هؤلاء السفلة الرعاع .
وكانوا في السلف يعممون الوصف على ما يستنكرون من أحرف منعت من رسم المصحف أو ثبتت فيه ، تارة كما قال عمر نسخ ، وغيره يسمي ذلك لحنا وعليه يحمل المروي عنهم في ذلك كعثمان وعائشة وعمر نفسه في وجود اللحن في المصحف على هذا النحو الذي أقرره هنا ، أما ما روي عن بعضهم كأبان وعائشة وابن عباس في حصول خطأ من النساخ في رسم المصحف فهذا شأن آخر تطرقت للحديث عنه في الفصل السابق .
وللنظر كمثال على مخالفة عمر لأبي فيما وصفه بالمنسوخ ، فقد ذكر خرشة بن الحر أن عمر رأى معه لوحا مكتوبا فيه ﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله﴾ ، فقال من أقرأك هذا ؟ فقال : أبي بن كعب . قال عمر : إن أبيا كان أقرأنا للمنسوخاهـ . ( فضائل القرآن لإبن سلام )
وهذا الحرف هو المثبت في رسم المصحف المعمم ، وعمر بانكاره هذا كان على قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما : ﴿ فامضوا إلى ذكر الله ﴾ . وكان يقول ابن مسعود : لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط رداءي اهـ . ( المرجع السابق )
وهذا يعني أنهم يقرأون بالمصحف حرفا منسوخا على اختيار عمر رضي الله تعالى عنه هنا كما في غيره ومر معنا ذكر ذلك عن زيد رضي الله تعالى عنه ، والسؤال هنا المتبادر للذهن من الحكم في منع تدوين الحرف المنسوخ في المصحف أو السماح بتدوينه وهو منسوخ ؟!!
وقول ابن مسعود في قراءته تلك لعله مندرج تحت ما غمز به من بعضهم أنه يجيز القراءة بالمعنى ، وسبق التطرق لشيء من ذلك وهناك من نفى صحة ذلك عنه كابن تيمية ومعتمد من قال عنه ذلك غير رواية سعيد بن منصور بأقبل وهلم ، مارواه ابن سلام في كتابه فضائل القرآن أنه أقرأ رجلا : ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ) فقرأ الرجل : ( طعام اليتيم ) فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه ، فقال : أتستطيع أن تقولطعام الفاجر ؟ قال : نعم ، قال : فافعل .
وروي عنه قوله : استمعت إلى القراءة فلم أسمعهم إلا متقاربين فاقرؤا على ما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنما هو كقول أحدكم : أقبل وهلم وتعالى اهـ . ( سنن سعيد بن منصور )
وما أجود ما قاله ابن سلام في فضائل القرآن في هذا الباب لو يعي معناه أولئك الحثالات الجهلة ولا أن يتوهموا ويزعموا عليه باطلا من القول ، قال رحمه الله تعالى :
فهذه الحروف وأشباهٌ لها كثيرة قد صارت مفسرة للقرآن وقد كان يروى هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك ، فكيف إذا روي عن لباب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم صار في نفس القراءة ، فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى .
وأدنى ما يستنبط من علم هذه الحروف معرفة صحة التأويل على أنها من العلم الذي لا يعرف العامة فضله ، إنما يعرف ذلك العلماء اهـ .
قلت : يستثنى من ذلك ما يتخالف معناه أو يتضاد ومنه بعض الشيء كقراءة عمر رضي الله تعالى عنه لما يقرأه الناس كما في المصحف : ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ﴾ ، فيخالفهم ليقرأ : ( وطور سينا ) . وروي عنه قوله لا معنى لسينين ولا يحضرني مصدره حاليا لكني متيقن أني قرأته . ولهذا كان يقرأها على ما ذكره عنه أبو عمرو بن العلاء . ( ذكره الدارقطني في أطراف الغرائب والأفراد )
وذكر الذهبي رحمه الله تعالى في سير اعلام النبلاء في ترجمة أبي رضي الله تعالى عنه عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال : اقضانا عليٌ وأقرأنا أبيٌّ وإنا لندع من قراءة أبي . وهو يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله ، وقد قال الله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) اهـ(10) .
وهنا يصرح بمعنى النسخ حمله على التلاوة لقرينة ذكر النسيان في الآية بعد ذلك ، التي احتج بها ، وهذا خلاف ما عليه السفهاء اليوم بما نقل الأخ لأن المراد من احتجاجهم نسخ الحكم لا مجرد التلاوة أو نسيانها وحملهم الكلام المروي عن سعد بن ابراهيم على ذلك صريح ، ومن المعلوم أن النسيان للتلاوة من النبي عليه الصلاة والسلام ليس دليلا على النسخ وقد ثبت هذا فيما رواه ابن حبان والطبراني عن المسور بن يزيد قال : شهدت رسول الله قرأفي الصلاة فتعايى في آية فقال رجل : إنك تركت آية ، قال : فهلا أذكرتنيها ؟
قال : ظننت أنها قد نسخت . قال : إنها لم تنسخ اهـ .
قرر له المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه أنها لم تنسخ لمجرد أنه نسيها وبين أنه كان الأجدر أن يفتح عليه بها لما نسي تلاوتها .
ووصفه باللحن في موضع آخر عن ابن عباس وهو الخبر المذكور عند الذهبي في السير ذاته لكنه قال بأنه من لحن أبي ، ذكره المستغفري في كتابه ( فضائل القرآن ) فقال : وإنا لندع من لحن أبي وأبي يقول : أخذته من فيِّ رسول الله فلا أتركه لشيء . قال الله جل ثناؤه : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) اهـ (10) .
وأخرج المستغفري عن سليمان بن يسار قال : خرج عمر من خوخته فأتى على قوم يقرؤون فلما رأوه أنصتوا ، فقال : ما كنتم تراجعون ؟ قالوا : كان يقرئ بعضنا بعضا ، قال : فاقرؤوا ولا تلحنوا اهـ .
سمى الحروف الغريبة عليه لحنا ، وعلى هذا المعنى يحمل قوله : تعلموا الفرائض والسنن واللحن كما تعلمون القرآن . يريد لتجتنبوه فلا تدرجونه بما تتلون من القرآن هذا معنى قوله هنا ، لا ما توهم عليه كثير ولم يدرك مقصده وحملوه على لحن الكلام الخطأ بالنطق وليس فيه .
ومما أخرجه المستغفري : جمع عثمان رضي الله تعالى عنه اثني عشر رجلا من المهاجرين والأنصار فيهم زيد وأبي ثم أرسل إلى الرَّبعة التي في بيت عمر فجيء بها ، ثم جعلوا يكتبون القرآن فإذا شكوا في آية أخروها اهـ .
ويفهم من هذا أن بعض تلك الحروف أخرت للشك فقط لا لدعوى أخرى جازمة قاطعة بالنسخ مثل ما عليه هؤلاء السفهاء المعاصرون .
﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾
سأفند هنا بالشرح كاشفا عن مدى اللبس الحاصل في الأمة في حكم الرجم لنوع خاص للزناة ، فتصديق القرآن لما بين يديه من الكتاب ومراده هنا التوراة يقتضي تأييدها في أحكام الرجم ، مثل ما أن معنى تصديق الإنجيل للتوراة تأييد ما فيها من شريعة وعقيدة ، وقد صرح بذلك المسيح في أن كل ما في التوراة حق ، ولو أنه لم يفصل بحكم التوراة على تلك الزانية التي جلبها الكتبة والكهنة بين يديه لإحراجه كما في القصة التالي :
وبعد أن دخل يسوع الهيكل أحضر إليه الكتبة والفريسيون امرأة أخذت في زنى ، وقالوا فيما بينهم : إذا خلصها فذلك مضاد لشريعة موسى فيكون عندنا مذنبا وإذا دانها فذلك مضاد لتعليمه لأنه يبشر الرحمة ، فتقدموا إلى يسوع وقالوا : يا معلم لقد وجدنا هذه المرأة وهي تزني ، وقد أمر موسى أن ( مثل هذه ) ترجم ، فماذا تقول أنت ؟
فانحنى من ثم يسوع وصنع بإصبعه مرآة على الأرض رأى فيها كل اثمه ، ولما ظلوا يلحون بالجواب انتصب يسوع وقال مشيرا بإصبعه إلى المرآة : من كان منكم بلا خطيئة فليكن أول راجم لها ، ثم عاد فانحنى مقلبا المرآة ، فلما رأى القوم هذا خرجوا واحدا فواحدا مبتدئين من الشيوخ لأنهم خجلوا أن يروا رجسهم ، ولما انتصب يسوع ولم ير أحدا سوى المرأة قال : أيتها المرأة أين الذين دانوك ؟ ، فأجابت المرأة باكية : يا سيد قد انصرفوا فإذا صفحت عني فإني لعمر الله لا أخطئ فيما بعد ، حينئذ قال يسوع :تبارك الله ، اذهبي في طريقك بسلام ولا تخطئي فيما بعد لأن الله لم يرسلني لأدينك اهـ(11) .
فهو من أولي العزم من الرسل لكنه أرسل للبشارة والنذارة ولم يرسل ليكون ملكا يقضي بينهم بأحكام التوراة الشرعية ، فقد كان في حكم الإعتزال وعدم التصدر بمهام الملوكية والحكم ، لكن يبقى تصديقه بما جاء فيه للتوارة هو الأساس والحكم العام ، لهذا لن تجدوا في الإنجيل شريعة لأن شريعة المسيح شريعة التوراة وناموسها ، وحتى أمه صلوات ربي وسلامه عليها لما قدر الله تعالى عليها ما قدر ، خشت من أن ترجم :
أما مريم فإذ كانت عالمة مشيئة الله وموجسة خيفة أن يغضب الشعب عليها لأنها حبلى ليرجمها كأنها ارتكبت الزنا اتخذت لها عشيرا من عشيرتها قويم السيرة يدعى يوسف ، لأنه كان بارا متقيا لله يتقرب إليه بالصيام والصلوات ويرتزق بعمل يديه لأنه كان نجارا ، هذا هو الرجل الذي كانت تعرفه العذراء واتخذته عشيرا وكاشفته بالإلهام الإلهي ، ولما كان يوسف بارا عزم إذ رأى مريم حبلى على إبعادها لأنه كان يتقي الله ، وبينا هو نائم إذا بملاك الله يوبخه قائلا : لماذا عزمت على إبعاد امرأتك ، فاعلم أن ما كون فيها إنما كوّن بمشيئة الله فستلد العذراء ابنا ، وستدعونه يسوع اهـ (12) .
هذا رغم أنها بكر فلم خشت من الرجم ؟ ، هكذا مصرح به في الإنجيل .
لأن حكم الرجم بالتوراة ليس ممنوعا عن الأبكار فهناك نوع خاص من زنا غير المحصنين مستحقا لحكم الرجم ولا يشترط له الزواج ، بل لو كانت بكرا مخطوبة ويتحقق منها الزنا ، ترجم ما لم تكن مجبرة أما برضاها فالرجم حكمها المستحق .
وعدم حكم المسيح بحكم التوراة على تلك المرأة شيء ، وتعطيلهم اليوم لحكم الله تعالى في الزناة أمر آخر ، فهم كفرة لإمتناعهم عن تطبيق حكم الله عز وجل سواء لمن استحق الرجم أو الجلد بشريعتهم ، فكل من عطل ذلك وهو قادر على انفاذه بحكم الملك وتملك سلطة القضاء فهو كافر معطل لحكم الكتاب وجاحد له ، فكيف إذا أكدوا على كفرهم وجحدهم بتبديل حكم الله تعالى في الحدود .
لكن ما وجه اللبس على تلك الأحكام في شريعة المسلمين ، وما هي أسباب ضعف ذلك فيهم حتى أدى لتعطيل تلك الأحكام والكفر بذلك على من استحق الكفر به ؟
والتعطيل شامل هنا وليس هو بخصوص حكم الرجم ، فمثلا في التوراة تحقق الزنى من بكر وغير محصن بالتراضي حكمه اجباره على الزواج واجباره على دفع تعويض مالي لأهل الزانية معه ، ويعاقبان لذلك بالزواج المؤبد الذي لا فكاك منه عقوبة ، ولهذا ترون من شدة انطماس بصائر عباد الصليب وامتناعهم عن التصديق والعمل بشريعة موسى أن عوقبوا بأخذهم زواج الحكم بعقوبة الزناة في بني إسرائيل لهذا يمنعون الطلاق مع تحريم تعدد الزوجات ، فانقلبت عليهم الشريعة لسوء مقاصدهم وعقائدهم ، فمنعوا الزواج المشروع ، واستمسكوا بحكم زواج الزناة بعضهم من بعض ، ومصداق هذا في كتاب الله تعالى تأييدا لما في التوراة قوله عز وجل في حكم زواج الزناة : ﴿ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، فيكون لمن سلم من الرجم هذا الحكم المؤبد ، وتعطيل هذا الحكم وعدم التشهير بالزناة زيادة على كفر من عطله يترتب عليه مفاسد عظيمة بأن يختلط الشريف العفيف بالزناة والملوثين ، وينكح الشريف زانية وهو محرم بالشريعة لأن الزانية لا تنكح إلا زان مثلها ، وإذا عطل الحكم ولم يعمل بتلك الشريعة ويشهر بالزناة ليعرفوا تطبيقا لذلك الحكم الشرعي ، ودون ذلك كيف سيتم التمييز ليمنع الإختلاط ؟!
كذلك في التوارة حكم الزانية ذات الزوج الرجم ومن يزني معها ورد أنه يرجم من غير تفصيل هل هو محصن أو لا ، فمن يثبت زناه مع امرأة ذات زوج حكمهما الرجم ، لكن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فصل إن كان غير محصن أن حكمه الجلد .
كذلك المخطوبة ولم يدخل بها أن ثبت عليها حكم الزنى برضاها ، ترجم مع الزاني أمام بيت أبيها ، وكل هذا مما لم يبين في المسلمين كشريعة ، وقد يعمل بخلافه قبل ، وفي الأخير طمس كل ذلك وعطل .
وهنا يرد سؤال لا بد منه وهو كيف أن القرآن مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه كذلك ، ثم يكون ما بين يديه تفصيلي بتلك الأحكام ومثبتة فيه ، أما هو فليس كذلك ، حتى ثبتت شكات أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه من عدم اثبات حكم الرجم في المصحف ؟!!
فهذا مناقض لروح تلك الآية : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ ، فالتصديق والهيمنة يجب أن تكون كما في العقائد في الشرائع كذلك ، ولا ينافي هذا قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ ، فإنا هنا نتكلم عن إزالة الحكم وعدم ذكره لا تبديله ، لماذا أزيل من المصحف ولم يثبت به كما ثبت في التوارة عند اليهود ، وهذا يناقض التصديق والهيمنة على ما سبق ، وما أنزل بالتوارة حق ولا يجوز نقضه وتبديله بالظن قاله المسيح عليه الصلاة والسلام :
﴿أتظنون إني جئت لأجل الشريعة والأنبياء ؟ ، الحق أقول لكم لعمر الله أني لم آت لأبطلها ولكن لأحفظها ، لأن كل نبي حفظ شريعة الله وكل ما تكلم الله به على لسان الأنبياء الآخرين ، لعمر الله الذي تقف نفسي في حضرته لا يمكن أن يكون مرضيا لله من يخالف أقل وصاياه ، ولكنه يكون الأصغر في ملكوت الله ، بل لا يكون له نصيب هناك ، وأقول لكم أيضا أنه لا يمكن مخالفة حرف واحد من شريعة الله إلا بإجتراح أكبر الآثام ﴾ (13)
وقال في موضع آخر بعد أن سأل أحد تلاميذه : " ولكن كيف يعرف الحق ؟
أجاب يسوع : كل ما ينطبق على كتاب موسى فهو حق فاقبلوه ، لأنه لما كان الله واحدا كان الحق واحدا ، فينتج من ذلك أن التعليم واحد وأن معنى التعليم واحد فالإيمان إذا واحد " اهـ(14)
وهذا يؤكد على أن الشريعة في التوراة حق لا تبدل ، بدليل أنه لما حرفوا وأفسدوا في التوارة قال المسيح لأجل ذلك أوتي داود الزبور ، ولما حرف الزبور آتاه الله تعالى الإنجيل ، والزبور والإنجيل لم يأتيا بشريعة قط ، بل كل ما هنالك كان متعلق بالأخبار لا الشرائع ، أما الشريعة فواحدة بأصولها ، نعم يتطرق الخلل من جهة عملهم على وفقها ، بالحيل والتحريف للمعنى ، أما نصها فمثبت لا يمكنهم العبث بذلك لأن النسخ متعددة والأصل مثبت بالتابوت لا يمكنهم مسه بقي هناك محفوظا ما دام بينهم ثم أخذه تعالى لديه لحين يرجع به آخر الزمان لتقام الشهادة على أولئك الكفرة المحرفة المبدلة للنبوءات لكن الشريعة لم يمكنهم تحريفها ولا حاجة لهم لذلك إنما شغلهم الشاغل كان في النبوءات .
أما الحال عند المسلمين فكما رأيتم حكم الرجم تطرق له ما تطرق حتى لم يكتب في المصحف أزيل من القرآن بامتناعهم من كتابة آيته في المصحف واللبس كان من عمرو بن العاص هذا ما انتهيت إليه بتحقيقي ونظري ، لأنه أوهمهم بما قاله في مجلسهم الذي كانوا ينسخون به من تلك الصحف القرآن للمصحف الذي قرر عثمان رضي الله تعالى عنه جمع الناس عليه ، وكانوا كما مر معنا يؤخرون الآيات التي يشكوا بها على أمل النظر بها لاحقا ، وكان من ذلك آيات سورة الأحزاب في الرجم أخرت ولم تدون أبدا في المصحف ، وبقت إلى زمان عمر رضي الله تعالى عنه غير مذكورة مع آيات القرآن ولا يدرون أين كتبت إنما سمعوها من رسول الله يتلوها ، وعند من استحفظت كتابة أو تحفيظا ، بقي كل ذلك في غياهب المجهول ، عكس الحال مع التوراة كتابة من الإبتداء ، نسخ وحفظ ، ولما تقادم عليهم العهد بدأوا التحريف وتبديل الكلم عن مواضعه ، إلا أن أحكام الشريعة لم تمس إنما وقع التحريف والتبديل على معنى النبوءات فما أمكنهم العبث بها كما عبثوا في النبوءات والأخبار بتحريف المعنى وإن عسر عليهم ذلك بدلوه حرفيا ، ولم يمكنهم فعل ذلك إلا من بعد ما ذهب الله تعالى بنص التوراة الأساس الأول المحفوظ بجانب أو في تابوت العهد والشهادة ، فهذا النص لما زال منهم وحفظه الله تعالى وطهره منهم حينها تسنى لهم العبث الذي حكاه تعالى في القرآن عنهم : ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾.
أما مع المسلمين فالحال مختلف وقد كان عمدتهم على الحفظ والوسيط السماع ، ولا يتحقق النسخ للقرآن بعيدا عنه صلى الله عليه وسلم ، وكان للوحي كتبة معينون يستأمنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه وليس أي أحد يمكن من ذلك ، والآيات يستودعها عليه الصلاة والسلام مفرقة بين أصحابه حفظا ، فيجدون عند صحابي ما لا يجدون عند غيره ، بل قد يزيد في السورة الواحدة عند صحابي ما ليس عند غيره ، حتى وقع التباس عند بعضهم بسبب ذلك ومنهم أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه في قصة مشهورة في ذلك ، حتى أنه حكى عن نفسه أنه بسبب ذلك داخله شك كبير جدا بسبب هذا ، فضرب بيده على صدره عليه الصلاة والسلام فزال عنه ذلك الشك ، وقد تواترت الرويات في هذا المعنى بما لا مجال لإنكاره ، وكل هذا مما يدل على المنهاج في حفظ آيات القرآن ، ولهذا لما كثر القتل في القراء ممن كان يحفظ القرآن على تلك الطريقة خشى عمر من ذهابه وحث الصديق على جمعه كتابة حتى ما يذهب ، وقيل من الأسباب لقرار عمر جمع القرآن غير موت الكثير من القراء طلبه آية كان سمعها فقيل له هي عند فلان وقد توفي فأسف لذلك وقرر حينها جمع القرآن كتابة وصوبه .
أقول : قد يكون عمرو بن العاص كما قلت بما قاله أوقع في أنفسهم الشك بأن آية الرجم تلك منسوخة فأخروها ثم قضي عليها بانعدام ذكرها ولم يتبين أي أحد ماذا حصل لها بعد ذلك المجلس ، والمرجح أنهم قرروا أنها منسوخة لذا لم تكتب في المصحف المجموع .
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بإسناده إلى شعبة عن قتادة عن يونس ابن جبير عن كثير بن الصلت قال : كان سعيد بن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصحف فمروا على هذه الآية فقال زيد : سمعت رسول الله يقول : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) .
فقال عمر : لما أنزلت أتيت رسول الله فقلت : أكتبنيها . قال شعبة : فكأنه كره ذلك . فقال عمر : ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد ، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم (15).
فكأنه كره ذلك محكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه قال له : ( لا أستطيع ) . وهذا دال على أن ذلك لا يتاح لأي أحد ليكتب من القرآن ما يشاء ، وأيضا من الوهم اعتبار ذلك تحفظا منه صلى الله عليه وسلم على حكم الآية فهي للتو نزلت لما طلب عمرو بن العاص كتابتها لديه ، لكن المنع إنما يدل على أنه ليس ممن يصلح له استحفاظ شيء من كتاب الله عز وجل كأبي وابن مسعود وغيرهما من القراء الذين كان يودع عندهم عليه الصلاة والسلام شيئا من كتاب الله عز وجل ، هذا فضلا على أن عمرو بن العاص طلبها كتابة تحفظ لديه وهذا ما لا يمكن له ، وعليه أتت رواية أنه قال له صلى الله عليه وسلم : (لا أستطيع ) .
وهناك مروية عن زيد مع مروان بن الحكم تدل على أن من رجح نسخ حكم تلك الآية هو زيد سواء قلنا بناء على ما قاله عمرو بن العاص أو هو رأي شخصي له المهم هو من اختار أن لا تكتب بالمصحف فقد روى النسائي والبيهقي عن محمد بن سيرين قال :نبئت عن إبن أخي كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد بن ثابت قال زيد : كنا نقرأ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة . فقال مروان : أفلا نجعله في المصحف ؟ ، قال : لا ، ألا ترى الشابين يرجمان . وهذا القول : ( ألا ترى الشابين ) ، حكاه بروايته أحمد لعمرو بن العاص معللا بذلك أنها منسوخة ، وبعضهم حمل ذلك القول بلا والتعليل برواية النسائي والبيهقي عن زيد نفسه ، ويبدو أن المروي عند أحمد في المسند في مجلس والذي عند النسائي والبيهقي في مجلس آخر ، والمرجح أن من أجاب مروان بلا وذلك التعليل هو زيد لأنه بان أنه المرجع بكتابة تلك الآية في المصحف أو عدم كتابتها لأنه أجاب مروان بقوله : لا .
المهم هنا أن نبين كيف صحف اسم عمرو برواية أحمد إلى عمر وهذا باطل ، فعمر لم يدرك ذلك المجلس لأنه منعقد بأمر عثمان في ولايته حين قصد لجمعهم على مصحف واحد ، وهذا مما حصل بعد ولاية عمر رضي الله تعالى عنه قطعا ، في عهد عثمان كان انعقاد تلك الجلسة لجمع المصحف وكان قرن عثمان مع زيد لتلك الغاية كل من سعيد بن العاص وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمان بن هشام وأمر أن ينسخوا الصحف التي جاء بها من حفصة وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فإن القرآن أنزل بلسانهم . رواه ابن أبي داود في المصاحف (16) .
إلا أن المستغفري روى أن المكلف مع زيد أبان بن سعيد بن العاص رواه عن الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال : أمرني عثمان أن اكتب له المصحف وقال : إني جاعل معك رجلا لبيبا فصيحا فما اجتمعتما عليه فاكتباه وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي ، فجعل أبان بن سعيد بن العاص ، فلما بلغنا ( ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت ) قال زيد : التابوه ، وقال أبان بن سعيد التابوت ، قال : فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب (التابوت ) اهـ . ( 17)
وأيا يكون أبان أو والده سعيد فاليقين أن عمرو بن العاص هو من كان في ذلك المجلس على ما رواه ابن حنبل في مسنده لكن على التصحيف فكتب هناك خطأ عمر بدلا من عمرو بن العاص ، لأن ذلك المجلس في عهد عثمان بعد موت عمر رضي الله تعالى عنه .
وقد ورد في مستدرك الحاكم على الصحيح عمرو بن العاص وليس عمر وذكر هناك سعيد بن العاص رواه عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت قال : كان ابن العاص وزيد يكتبان المصاحف فمرا على هذه الآية ، فقال زيد : سمعت رسول الله يقول : (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) ، فقال عمرو : لما نزلت أتيت النبي فقلت : اكتبها فكأنه كره ذلك .
فقال عمرو : ألا ترى أن الشيخ إذا زنى وقد أحصن جلد ورجم ، وإذا لم يحصن جلد وأن الثيب إذا زنى وقد أحصن رجم . صححه ووافقه الذهبي (18) .
لكن عمر رضي الله تعالى كاد يكتبها في القرآن ولم يقل أنها منسوخة ، وهذا مما يثبت أنهم أخذوا برأي فاسد تعطل بسببه كتابة تلك الآية وحكمها كذلك .
وعليه كما تقرر في هذا الفصل بان أن دعوى نسخ الآية لا يلزم منه عدم تدوينها في المصحف كما مر معنا عن زيد في آية سورة الفرقان في قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها ، كذلك في قول عمر رضي الله تعالى عنه في قراءة لأبي ( فاسعوا إلى ذكر الله ) أنها منسوخة وهي مثبتة في المصحف المجموع ، ثم نجد مظنة أحدهم بالنسخ تمنع كتابة آية في المصحف ، وإن لم يكن هذا مجرد تحكم غير مستند لدليل شرعي ، فما ندري ما التحكم .
وننتهي في تقرير هذا إلى أن من قرر منع تدوين الحرف عند أبي : ( ولا محدث ) بالمصحف أنه متحكم لا أكثر .
...............
(1) نشر السؤال والجواب عليه قبل في منتدى " الشبه والردور " تحت عنوان : سؤال حول قراءة أبي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) .. .
وضمن هنا في هذا الفصل في هذا الكتاب مع التصرف والإضافة ليناسب نشره في هذا الكتاب للرد على العاوي العطاوي .
(2) رواه عن زيد الطبراني في الكبير 5/149 .
(3) منهم أبو العينين في تحقيقه على كتاب البيهقي رحمه الله تعالى الإعتقاد ص 433 قال : هي قراءة شاذة ، يريد الحرف عند أبي : ( ولا محدث ) . بعد ما نقل قول السيوطي بتلك الكذبة .
(4) رواه ابن حبان في صحيحه 2/147 . مطولا ورواه البخاري ومسلم وغيرهم كثير .
(5) ابن حبان في صحيحه 2/154 .
(6) رواه بهذا اللفظ عن مالك الشافعي رحمهما الله تعالى كما في كتاب اختلاف الحديث .
(7) المصنف لإبن أبي شيبة 6/259 .
(8) الفصل 44 ص63 .
(9) راجع مزيد تعليق على هذا الخبر في مقدمة كتاب " التابوت والعصا " ص 18 .
(10) سبق تخريج هذا الأثر وذكر ألفاظه ومصادره في الفصل السابق .
(11) الفصل 201 ص 251 .
(12) الفصل 2 ص 9 .
(13) الفصل 38 ص 54 .
(14) الفصل 124 ص 161 .
(15) رواه جماعة منهم النسائي والحاكم والبيهقي والدارمي .
(16) المصاحف 1/200 .
(17) المستغفري فضائل القرآن 1/352 .
(18) المستدرك 8/2868 .