بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمــة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد ، وعلى الأتقياء الأوفياء من آله وصحبه ، من الأولين والآخرين ، أما بعد :

 

لا زالت شبهة اعتقاد العامة في هذه الأمة ختم الله تعالى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم الرسل مثل ما ختم النبيين لا تنفك عن رؤوس الكثير ممن غفل عن حقيقة الدين ودلالة كتاب رب العالمين في هذا الأمر الجلل ، مع أنهم يرون الله عـز وجـل ينص في كتابه على الختم به الأنبياء دون المرسلين ثم لا يلتفتون لدلالـة ذلك التخصيص ولا يعتبرون الخطاب الرباني فيه ، قال سبحانه : ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً 0 مَّــا كَــانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ .

 

فنص على الإخبار بالختم به الأنبياء دون المرسلين على الرغم من افتتاحه بأشرف صفاتهم وهي إبلاغ رسالات ربهم فابتدئ ذلك في وصفهم ، ثم ختم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ، مع إعلامه أنه خاتم النبيين دون المرسلين ، فكـان في هـذا التخصيص بكتاب الله تعالى بيانا لمراده سبحانه وهـو المحيط بكل شيء علما ، وفي علمه أنه سيرسل حفيده المهدي عليه السلام آخر الزمان مثل ما أرسل من المحدثين في السابقين وقد أخبر عن ذلك بكتابه العزيز في آيات سورة الدخان ، لذا لم ينص بكتابه على أنه خاتم المرسلين بل الأنبياء ، وهذا منه سبحانه إخبار بهذه الحقيقة العظيمة والتي رد تصديقها من الذين لا يعلمون ولا يعقلون من جهلة زماننا ، حتى انتهت قضيتهم في آخرهم ممن ابتلوا بمعاصرة هذه الدعوة المباركة وأدركوا بعث ولي الله تعالى المهدي عليه السلام للتكفير بهذا الاعتقاد وهذا التصديق ، فكانت محنتهم في هذا الإدراك من البلاء العظيم والامتحان الشديد ما جرهم لتكذيب القرآن وسنة سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام ، فكانوا بذلك ما بين الكفر بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ، وبين الإيمان بهذا الحق ، لا نجاة لهم بغير ذلك لمن أدرك من يكون المهدي ، أو هو الكفر لتكذيب الكتاب العزيز وخبر الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه .

 

وكان مما زين بعقولهم الشيطان هذه الشبهة فحسبوها من وحي الله وما هي من وحيه ، إنما الشيطان يزخرف لهم بها ليصدهم عن الحق لما جاء والرب يقضي بما يشاء ويحكم سبحانه لا معقب لحكمه ولا مغير لقدره ، فكان منهم فوق الإعراض عن دلالة تلك الآية من كتاب الله تعالى ، عدم إلتفاتهم لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم وقوفا عند حد الله تعالى الذي حده بكتابه ، أنه خاتم النبيين لا المرسلين ، فما كان يخبر صلوات ربي وسلامه عليه إلا على وفق ذلك ، تكرر منه هذا مرارا وهو لا يتجاوزه ، وكان في ذلك على ظاهر القرآن وباطنه ، ثم هو لا يحيد عن ما نص عليه الرحمن عز وجل بأنه خاتم النبيين لا المرسلين في جملة من الأخبار ، وحتى أصحابه كانوا رضوان الله عليهم لا يجوزون هذا الحد وهذه الحقيقة إلتزاما منهم بما أخبر جل وعز ووقف عنده كتابه ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما خُتِمَ به النبيين لا المرسلين .

 

من ذلك حديثه في مسند أحمد والصحيحين وغيرهم ، ولفظه : ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بنيانا ، فأحسنه وأجمله ، خلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ، ويتعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال ، فأنا تلك اللبنة ، وأنا خاتم النبيين )(1).

 

وفي حديث للطبراني عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا قائدُ المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر )(2).

 

وكما يرى أخـي المؤمن أنه صلى الله عليه وسلم عـد نفسه قائدا للمرسلين وفي النبيين الخاتم ، ولو كان لا اعتبار لهـذا التفريق والتخصيص بالختم عنده ، وأنه في علم الله تعالى خاتمهم أجمعين لما صح هذا التفريق بتاتا ، بل لاعتبره أي عربي فصيح مجرد حشو كلام ولغو لا معنى له ، ولكان الأصح عندهم بل الأوفق لكونه أفصح العرب وأكثر تحدثا بمجتمع الكلام أن يقول : ( أنا قائد المرسلين والنبيين وخاتمهم ) . لكنه يواطئ القرآن ويعلم حقيقة معنى الآية ، وسيأتي مزيد تعليق على هذا لاحقا مع ذكر بعض أخبار عنه صلى الله عليه وسلم من جنسها مع التعليق عليها بإذن الله تعالى .

 

كذلك من أصحابه ممن وعى هذه الحقيقة ابن مسعود فكان رضي الله عنه في صلاته بعد التشهد يصلي على نبي الله صلى الله عليه وسلم ويقرر هذه الحقيقة ويعمل بها دينا بقوله لمن سأله أن يعلمهم كيف يصلون على النبي على ما ورد بهذا الخبر ، حين قال : إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنكم لا تدرون ، لعل ذلك يعرض عليه ، فقالوا له : فعلمنا ، قال ، قولوا :

 

" اللهم اجعل صلاتك ، ورحمتك ، وبركاتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير ، وقائد الخير ، ورسول الرحمة ، اللهم ابعثه مقاما محمودا ، يغبطه به الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " (3).

 

قال بسيادته على المرسلين وإمامته للمتقين ، أمـا النبيين فنص على أخص صفة له فيهم وهي " الختم " ، ولو كان شرعا هو خاتم جميع المرسلين والأنبياء لما غاير بينهم في الصفات مثل ما هو ظاهر هذا الأثر عنه رضي الله عنه .

 

وابن مسعود لعلكم لا تعلمون شأنه في هذا ، فحديثه فيما يقول المرء آخر صلاته في الجلوس للتشهد أصح الأحاديث على الإطلاق اتفق على ذلك الشيخان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه ذلك كما يعلمه السورة من القرآن ، حتى روي عنه ذلك من أوجه كثيرة ، لحرص الناس على تعلم ما يقولون في آخر صلاتهم منه ، فقد كان يأخذ التشهد والتحيات من في رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريف ! ، ولم يتفق البخاري ومسلم إلا على حديثه دون غيره من الصحابة .

 

وقريب من قول ابن مسعود هذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مولى لبني هاشم يقال له ثوير أنه قال : قلت لابن عمر : كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال ابن عمر : قل " اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ، اللهم ابعثه يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه الأولون والآخرون ، وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد " (4). مثل ما قال ابن مسعود سواء .

 

وليس ببعيد أن هذا أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي بالرفع مثل لفظه لكنه مختصر والموقوفات هنا أتم لفظا .

 

 

(1) متفق عليه ورواه أحمد وغيرهم .

(2) الطبراني في الأوسط (1/61) والبخاري في الكبير (4/286) والبيهقي في دلائل النبوة (5/480) .

(3) رواه ابن ماجة والطبراني في الكبير وابن أبي عمر وأبو يعلى ، قال البوصيري : موقوف وإسناده حسن .