" مقدمة الكتاب " ......


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى الأتقياء الأوفياء من آله وصحبه ، من الأولين والآخرين ، أما بعد :

اعتبروا هذا الكتاب كله في تفسير معنى أول آيات سورة الإسراء التي فيها خبر الإسراء بروح المصطفى صلى الله عليه وسلم للمسجد الأقصى وهو مسجده في المدينة المنورة محل قدس الرحمان عز وجل آخر الزمان ، وأجمعت الأمة على خلاف هذا ونحن بمشيئة الله تبارك وتعالى وهداه لإجماعها ناقضون .

تلك الآيات التي وقع عليها من اللبس والتحريف ما يعجب المرء أشد العجب لما يكشف عن عينيه بعد كتابي هذا ويرى كيف كان لأمته من الخلط في اعتقادها بذلك أشد ما يكون التلبيس والتحريف والطمس على كتاب الله عز وجل ومواعيده وبينات أخباره وذكره الحكيم ، لقد أذهبوا عن إيمانهم وعقولهم وقلوبهم عظيم ما لطيبة من منزلة عند الله تبارك وتعالى وفضل عظيم وتقديس ، ويكفي في معرفة ذلك أن الله عز وجل بعظمته وجبروته سيحل على تلك المدينة من فوق جبلها المقدس أحد آخر الزمان ، جبل الله وبذلك تدركون سر النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يرى جبل أحد وهو مقبل للمدينة أنه كان يقول : ( أحد جبل يحبنا ونحبه ) . روي ذلك عنه وهو عائد من غزوه لتبوك رواه أبو حُميد قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة , قال : " هذه طابة وهذا أحد , جبل يحبنا ونحبه " .متفق عليه

مع قوله : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) . لما يدرك ويعلم من تلك الحقائق العظيمة التي ادخرت لهذه الأمة في آخر زمانها .

تلك الآيات التي وقع عليها من كبار القوم التلبيس فسرى بسبب ذلك على اعتقاد كل الأمة تحريفات اذهبت حقيقة ذلك الاعتقاد العظيم الكبير الذي لا زالت رسل الله تعالى وأنبياءه يتغنون بذكر ذلك ويرددونه بين شعوبهم حتى قتل أو شرد واضطهد الكثير منهم بسبب ذلك ، لكن هذه الأمة والتي سيكون فيها تأويل كل ذلك هي بالمقابل في غفلة منه وجهل وضلال مبين عنه ، ضلوا عن ذلك حتى أجمعوا على هذا الضلال ولم يتصل ذكره بهم مطلقا بعد التأسيس لكل تلك التحريفات والتبديلات .

وأكبر من تولى كبر ذلك للأسف الشديد البخاري ومسلم لا من أنفسهم حاشاهم ذلك ، لكن بسبب اعتمادهم على مرويات البعض ممن يرونهم حفاظ وأئمة كبار وهم ممن يعتمد الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى ، ما داخل ذلك الأمر وغيره الخلل الكثير خصوصا في مسائل الإعتقاد وهو الباب الذي وقع عليه من الخلط والجهل الشيء الكثير .

اعتمدوا على البعض وتركوا الأكثر بحجة أنهم أوثق من غيرهم وأحفظ ، ولو بدلوا وحرفوا بحجة الرواية بالمعنى ، وهو ما وقع منه على بابنا هذا في الاعتقاد وبشدة حتى حرف بسبب ذلك تفسير تلك الآيات وبدل الاعتقاد الصحيح فيها الذي يريده تعالى ذكره لهذه الأمة باعتقاد يهودي زائف كاذب .

الرواية بالمعنى التي أجازوا الإخبار بها ما لم يخل ذلك بالمعنى ويقع من أحدهم فيه تصحيفا معنويا ، لكن هذا مما وقع بسببه من ذلك على هذا الاعتقاد ، بل ما جرى هو بحكم التحريف الصريح ، لكن ماذا أقول وهم لا علم لهم بحقيقة ذلك حتى يدركوا مدى خطورة ما داخل تلك المرويات من خلل بسبب الرواية بالمعنى ، ومن لم يدرك حقيقة اعتقادهم في ذلك الباطل أنى له ادراك ومعرفة ما أخل به أولئك الرواة حين رووا تلك الأخبار بالمعنى ولم يلتزموا منطوقه صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا يحيدوا عنه .

ورحم الله من أدرك متقدما خطورة ذلك فمنع الرواية عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى ، بل أوجب التزام ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن يحيد عن ذلك ، ويرى بالمخالفة هنا مسؤولية كبيرة جدا جدا ، حتى أن بعضهم ألتزم عدم الرواية عنه خشية أن يبدل عليه صلى الله عليه وسلم ويغير فيأثم بذلك ، كأنس رضي الله عنه ولو أن له حديثا كثيرا لكن بالتأكيد صاحب هذا القول التالي ممتنع عند نفسه عن الكثير ، قال : " إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :من تعمد علي كذباً ؛ فليتبوأ مقعده من النار " . متفق عليه 

ومنهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه كان شبه معدم من الحديث لذات السبب ، وغيرهم كثير لا يسعني هنا سرد ذلك من أقوالهم .

وأقول بعد ذلك : 

وإن ضم لذلك جهل الأمة اليوم بما تحقق من آيات خلاص الله عز وجل وتأويل بيناته العظيمة في علامات ودلالات تحقق بعثه على ما هو ثابت اليوم ولا يجهله إلا هؤلاء نتيجة أثر ما سبق وأشرت له من التحريفات والتبديلات ، حتى ما يدركوا عظيم ذلك الفضل لتلك المدينة المقدسة ، وقرب تحقق ذلك بما تحقق من تلك الدلالات التي ذكرها الأنبياء ، ليفرحوا اليوم ويَجدّوا للقاء الله عز وجل حتى يوفقوا ويصحبوه ويجاوروه هناك ، لكن هيهات إن الله تعالى يضل من يشاء عن أمره هذا ويهدي من يشاء : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ ، ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ، ﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ ، ﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ . 

ومن أبرز تلك الدلالات ذوبان الجليد والذي تحقق الآن يقينا وتحققت معه كافة تلك العلامات وكان أخبر الله تعالى عنها بكتبه السابقة وعلى ألسنة الكثير من رسله ، وبين أنها لا تكون إلا بعد بعث مختاره ورسوله وخليفته المهدي ، كما بين أنها حين يكون تحقق ابتدائها لا تكون إلا على سبيل التواتر والإقتران ، فإن شكك الشيطان بواحدة فرد وأخرى لا يمكن يسعه أن يشككهم بتواترها على الدلالة التي وضعها الله عز وجل للتعريف بتحقق بعث ذلك الرسول والخليفة لله عز وجل .

ورغم هذا نجد هذه الأمة التعيسة مغيبة ذاكرتها وإدراكها عن كل ذلك وكأنهم يعيشون خارج التأريخ والأديان بل خارج عالم المشاهدة مثل ما هم خارج عالم الغيب من قبل ، فلا علم لهم بتاتا عن كل ذلك مما نبأ الله تعالى البشرية للعلم بغيبه ذلك ، ولم يدركوا مدى فرح الله عز وجل بإخباره عن ذلك وعنايته حتى أنه في السابقين لم يخبر الأنبياء وأتباعهم عن ذلك فقط بل أخبر أشر الناس ومن سلطهم على قدسه الأول ببيت المقدس وهو نبوخذ نصر فلقد أوحى له برؤيا عما سيكون في زمان هؤلاء الدراويش وخبر ذلك مسطور بسفر النبي دانيال عليه الصلاة والسلام فقال له النبي لتفسير رؤياه هناك :
 

﴿ لكِنْ يُوجَدُ إِلهٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَاشِفُ الأَسْرَارِ ، وَقَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ نَبُوخَذْنَصَّرَ مَا يَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ ، حُلْمُكَ وَرُؤْيَا رَأْسِكَ عَلَى فِرَاشِكَ هُوَ هذَا



أما هؤلاء فلا علم ولا وعي لهم بذلك ، وكيف لهم أن يدركوا مدى فرحه تعالى بتحقق ذلك وسرور نفسه ببعث خليفته ورسوله عليه الصلاة والسلام وهم في غفلة شديدة عن ذكره تعالى ، والويل لمن سيكذيه في ذلك ويكذب رسوله كما قال المسيح عليه الصلاة والسلام : "فليحذر الذين يكذبونه فإنه سيأتي بقوة على الفجار ، ويبيد عبادة الأصنام من العالم " .

ويقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام في ذلك :
 

﴿ فَعُيُونُ الْبَشَرِ الْمُتَشَامِخَةُ تُخْفَضُ ، وَكِبْرِيَاؤُهُمْ تَذِلُّ ، وَيَتَعَظَّمُ الرَّبُّ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتُبَادُ الأَصْنَامُ كُلُّهَا ، وَيَلْجَأُ النَّاسُ إِلَى مَغَاوِرِ الْجِبَالِ ، وَإِلَى حَفَائِرِ الأَرْضِ ، مُتَوَارِينَ مِنْ هَيْبَةِ الرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ جَلاَلِهِ ، عِنْدَمَا يَهِبُّ لِيُزَلْزِلَ الأَرْضَ ﴾



ويقول النبي ميخا عليه الصلاة والسلام :
 

﴿ فَتَتَعَاظَمُ يَاشَعْبِي عَلَى مُبْغِضِيكَ وَيَبِيدُ جَمِيعُ أَعْدَائِكَ ، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَسْتَأْصِلُ خُيُولَهمْ مِنْ بَيْنِكُمْ وَأُدَمِّرُ مَرْكَبَاتِ حَرْبِهمْ ، وَأُخَرِّبُ مُدُنَهمْ وَأَهْدِمُ جَمِيعَ حُصُونِهمْ ، وَأَقْضِي عَلَى السِّحْرِ فِي دِيَارِهُمْ وَلاَ يَبْقَى لَهمْ عَرَّافُونَ ، وَأَنْتَزِعُ تَمَاثِيلَهمْ وَأَنْصَابَهُمْ مِنْ وَسَطِكُمْ ، فَلاَ يعُودُونَ يسْجُدُونَ لأَصْنَامٍ مِنْ صُنْعِ أَيْدِيهمْ 



وبذلك يسر الرب وتفرح نفسه :
 

﴿ هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ ﴾ " اشعيا عليه الصلاة والسلام "



كذلك من أبرز تلك الدلالات جلب الحرارة على مناخ الأرض كلها والذي صار بسببها ذوبان الجليد والعالم كله اليوم يشهد على تحقق الحرارة بشكل غير مسبوق وأيضا ذوبان تلك الثلوج بمقاييس غير مسبوقة هي الأخرى ، وسيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى فصل خاص يفصل فيه عن ذلك ويبين عن عذاب القضاء وكيف أنه عذابين أكبر وعذاب أدنى منه ليمتحن الخلق يتوبون ويرجعون لله تعالى أو لا يفعلوا ذلك ، فيحل بهم الأكبر العذاب المقيم اللازم الماحق .

ثم صار بسبب تحقق تلك الدلالتين حتمية تحقق دلالة أخرى وهي هيجان الأنواء لكثرة الأمطار وما ترتب على ذلك من كثرة للسيول وفيضان الأنهر بكل العالم ، شيء رتب على شيء بحكمة الإله الحق القوي الذي بيده إنشاء السحاب وتسييره وتصريفه كيفما يشاء عز وجل .

ومع ذلك كله تحقق تواتر الزلازل من كل مكان في العالم وبشكل لافت وغير مسبوق ، بل مع عجائب لم يعهدها البشر من قبل ، مثل أن الزلازل الضعيفة يتبعها زلازل أقوى وقد تكرر ذلك حتى فتح لتقرير حقيقة ذلك ملفا في منتديات المهدي ردا على أحد الجهلة من حنابلة الوقت وعنوانه : " يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا " .

لقد تعهد تعالى عند بعثه بأن يزلزل الأمم ويزلزل السماء والأرض ، وبينما هو يفعل ذلك تعهد أيضا أثناء عمله كل ذلك بأن يفهمه لما يبعثه تفاصيل هذا الأمر العظيم الجلل وما يريد من كل ذلك ليهيئه تعالى لما قدر عليه واجتباه له :
 

﴿ هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ ، فَفِي السَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً ... لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي ﴾ " الزبور "



ولما كان مكان سكنى المهدي متعلق لهذا الحد بذلك القضاء وتلك الآزفة ، قدر تعالى أن يتعلق به الكثير من بينات الذكر للحد الذي هو فوق التصور ولن يعلم ويدرك ذلك إلا بهدى خاص من المولى عز وجل ، وذلك العلم هو ما اصطفى له ذلك العبد الذي كان ميتا فأحياه وجعل له نورا يمشي به في الناس ، هداه وعلمه فأيقن أن هذا الأمر أمر الله تعالى حدث به عبيده الرسل من قديم الأزمان ، يخص هذا بنبوءة وذاك بنبوءة ليست عند غيره وبمجموع ما أوحى بذلك لرسله الأنبياء والذي كان بمنزلة حروف القرآن أي نبوءاته تتفرق قراءاتها على صحابي دون غيره مثل ما فعل ذلك مع أبي رضي الله عنه حين استودع حرفا زائدة على غيره وأعني إرسال المحدث ، فاجتمع كل ذلك من خلال رسله ليتحقق في هذا الجيل المرحوم قليل منه ، الملعون الكثير منه .

في هذا الكتاب سأبسط التفاصيل عن كل ذلك ، وأجتهد أبين أدلة كل ذلك ، وكيف ارتبطت علامات الخلاص الأول في بني إسرائيل بالخلاص الثاني في هذه الأمة بآخرها ، حتى تكرر الكثير من تلك الدلالات ومثل ما تحققت في السابقين في زمان موسى وبني إسرائيل ستتحقق في هذا الجيل لكن بشكل موسع ، ومثل ما كان هناك تابوت عهد وعصا سلطان رباني للخلاص الأول سيكون مثل ذلك من دلالات إلا أن التابوت سيكون ذات التابوت والعصا ذات العصا ، ويكون لذلك أيضا ارتباطا عجبا بمحل سكنى المهدي ، فسبحان المبدئ المعيد والفعال لما يريد .

تقرير كل ذلك سيمر معكم في هذا الكتاب الذي أصل وضعه من أجل الكشف عن مجد مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام وما خصها به تعالى آخر الزمان من عظيم الكرامات وباهر التجليات الربانية ، حتى أن الرب عز وجل سيحل فوقها وينير جوانبها ويبارك أهلها وأرضها وسماءها كعهدها السابق في زمان الخليل عليه الصلاة والسلام ، أو في زمان آدم عليه الصلاة والسلام ، فبركتها آخر الزمان لن تخطئ أحد عهدي الجدين أولئك والعلم عند الله تعالى ، وعلى ذلك خرجت آيات سورة الإسراء قوله تعالى :
 

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ 


طيبة التي رأى في مجدها النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام ، فقال :
 

﴿ وَإِذَا بِمَجْدِ الله جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْقِ وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ ، وَالأَرْضُ أَضَاءَتْ مِنْ مَجْدِهِ 


وقال قبله صاحب النبي إرميا عليه الصلاة والسلام " باروك " :  ﴿ فإن الله يُظهر سناك لكل ما تحت السماء ﴾


وفي الزبور :  ﴿إنك تنير بأبهة من الجبال الأبدية ﴾


سيفعل ذلك فيها مثل ما فعل مع بني إسرائيل في سنيهم الأولى مع النبي موسى صلى الله عليه وسلم ، ففي الزبور قال :
 

﴿ قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ ، شَقَّ الْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ ، وَنَصَبَ الْمِيَاهَ كَنَدٍّ . وَهَدَاهُمْ بِالسَّحَابِ نَهَارًا ، وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ . شَقَّ صُخُورًا فِي الْبَرِّيَّةِ ، وَسَقَاهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ ، وَأَجْرَى مِيَاهًا كَالأَنْهَارِ ﴾



ومثل هذا سيكون في هذه الأمة والبشرية من حولها كما كان في زمان النبي موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، وأكثر من ذلك كما سيمر معكم في هذا الكتاب .

فهناك ضربهم بالبرد والصقيع والظلمة والغبار والصواعق والوبأ : ﴿ أَهْلَكَ بِالْبَرَدِ كُرُومَهُمْ ، وَجُمَّيْزَهُمْ بِالصَّقِيعِ وَدَفَعَ إِلَى الْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ ، وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ ﴾ " الزبور "

وضربهم بالنار : ﴿ وَنَارًا مُلْتَهِبَةً فِي أَرْضِهِمْ ضَرَبَ كُرُومَهُمْ وَتِينَهُمْ ، وَكَسَّرَ كُلَّ أَشْجَارِ تُخُومِهِمْ﴾ " الزبور "


والآن يضرب العالم بالنار وتفسد غاباتهم .

وهناك أورثهم أراضي أعدائهم : ﴿ وَأَعْطَاهُمْ أَرَاضِيَ الأُمَمِ ، وَتَعَبَ الشُّعُوبِ وَرِثُوهُ ، لِكَيْ يَحْفَظُوا فَرَائِضَهُ وَيُطِيعُوا شَرَائِعَهُ ﴾ " الزبور "

ومثل ذلك وأكثر سيكون لهذه الأمة :
 

﴿ لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ ﴾ " الزبور "

﴿ أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ ﴾ " الزبور "

﴿ لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ ﴾ " الزبور "

﴿ وَشَعْبُكِ كُلُّهُمْ أَبْرَارٌ إِلَى الأَبَدِ يَرِثُونَ الأَرْضَ ، غُصْنُ غَرْسِي عَمَلُ يَدَيَّ لأَتَمَجَّدَ ﴾ " اشعيا "



كالخلاص الأول سيكون الخلاص الثاني ومن المدينة المقدسة ومسجدها المقدس وجبلها المقدس سيكون جلال الله تعالى وظهور مجده العظيم ، وسخطه الثائر على كل الأمم .

فهل تصورتم ذلك يوما أن يكون بالمدينة ؟!

هل عرفتم إيمانا يوما يحكي صاحبه بهذا ويفصله ويسوق أدلته ؟!

اليوم عليكم تعلموا ذلك وتعرفوه لطيبة المقدسة من الله تعالى .


تحريف حديث شد الرحال وتوهمهم عليه في تعيين المسجد الأقصى :

اتفق الشيخان البخاري ومسلم على رواية خبر شد الرحال للثلاثة مساجد عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما ، ولا بد لنا من وقفة مع ذلك لما أثار صنيعهما من لبس في الأمة حتى تقرر على وفقه خلل عظيم في تحريف معنى آيات سورة الإسراء في خبر الإسراء بروح المصطفى صلى الله عليه وسلم لمسجد المدينة ، وكان المعنى من ذلك الإسراء الأساس هو تعيين ذلك المسجد لما له من شأن وقدر عظيم في الإسلام ومصير البشرية بتحقيق قضاء الله عز وجل وعظيم بيناته ، ولقد كان ذلك التعيين بالتدرج حتى لنبيه صلى الله عليه وسلم نفسه إذ اتفق الشيخان على رواية حديث عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
 

رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل , فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب "



في جملة امثلة ضربت له بالمنام قبل هجرته وتأولها حين وقوعها ومن ذلك تعيين دار هجرته ولم يصرح له عنها كما هو ظاهر منامه هذا ، وسواء قلت هذا مما رأى بالاسراء به أو غير ذلك ، فالمتعين على وفق هذا الحديث أنه لم يفصح له عن طيبة ومكانها وأنها دار هجرته وقت ذلك المنام ويقينا وقت ذلك الإسراء لأن هذا المنام إما مما رأى بالإسراء أو أنه بعد ما وقع له الإسراء وأراه تعالى ما أراه فيه ، ويقينا ليس قبل الإسراء ، ومن لم يعلم بدار هجرته بهذا لم يكن يعلمه على القطع بالإسراء ، لكنه كان يهيأ لذلك نفسيا وشرعا .

أقول : والذي حصل بسبب تحريف ذلك التعيين للأسف الشديد صرف الناس عما أراد الله تعالى وقدر لما أراد يهود وشيطانهم ودبر ، لأن بذلك التحريف وضعت مصداقية للوهلة الأولى في ذلك التعيين لما مكر يهود وكادوا لأمر الله عز وجل هذا ، ألا ترونهم كيف وضعوا على لسان حذيفة رضي الله تعالى عنه حديثا موضوعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سيمر معنا لاحقا في الفصل الخاص بتفسير آيات سورة الإسراء ، وصبغوا مرجعهم لفلسطين بالشرعية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما افتروه على الله تعالى ورسله فأتوا بالوضع ليلزقوه بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبوحي الله تعالى له .

نعم ، تم بذلك الإفتراء بتعيين المسجد إيهام المسلمين بأن الإسراء إنما كان لبيت المقدس وهو المعني بذلك لا مسجد مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أراد تعالى تعيينه بذلك الإسراء ، وكل ما ترونه من صنيعهم في ذلك التحريف إنما هو من كيد الشيطان وتزيينه ذلك بعقولهم ، فيلقي هنا ويلقي هناك ليجتمع في النهاية أصولا لذلك التحريف فينتهوا لما انتهوا إليه بالفعل ودبر له ابليس ، ابطال تدبير الله عز وجل بتدبيره على ما أراد وخطط ، وكان له ذلك ليضل الله من يشاء ويهدي من يشاء .

واتفقا على حديثان في شد الرحال جعلوا فيهما مسجد المدينة مقارن بالذكر للمسجد الأقصى حتى لا يكون هو المقصود ، والحق فيهما أن مسجد المصطفى صلى الله عليه في الخبرين مقارن لبيت المقدس لا للمسجد الأقصى ، لأن المسجد الأقصى هو مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فأسقطوا ما في مخيلتهم على ما في أصل ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم فتم بذلك تحريف الشيطان ليضل الخلق عما أراد تعالى بتلك الحقيقة الشرعية .

والعجب أن ذلك سرى على ما روي عن أولئك الصحابيين ، وأين ؟، بما في البخاري ومسلم فاعتمد الناس ذلك لثقتهم بأولئك وما اعتمدوا من سلسلات الرواة ، فثبت ذلك في الأمة وصار المسجد الأقصى هو بيت المقدس وهذا كذب على الله ورسوله روج له بما أثبت في كتابيهما .


الحديث الأول : عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ولفظه عندهما : أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وأنقنني : " أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم ... ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد الأقصى " .

هذا الحديث اتفق على لفظه البخاري ومسلم ولم يخالف عند أي منهما بلفظه مثل ما حصل مع حديث أبي هريرة إذ روي عند مسلم على الوجهين الوجه المحرف والوجه الصحيح ، أما البخاري فثبت المحرف عن الصحابيين بالمتفق والإفراد عن مسلم .

والحديث في أصله من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم كما الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، لم يذكر فيه المسجد الأقصى بل بيت المقدس أو إيليا هكذا ، فأتى أحد الرواة متساهلا برأيه فيرويه بالمعنى وهو لا يعي الفرق لأن بمخيلته كان ثابتا أن مراد الله تعالى بذكر الإسراء لنبيه للمسجد الأقصى إنما يعني بيت المقدس فلا يضره بعد ذلك أن يقول و "مسجد الأقصى " بدلا من بيت المقدس لأنه لا يعي الفرق ولا يدريه بتاتا ، ثم أتى من ينزل كلام الرواة الذين يختارهم بالمنزلة من الصحة والحق بعد كلام الله عز وجل مع ما يداخله مثل هذا الخلل والباطل حتى يوضع ذلك التصرف بالمضادة مع كلام الله تعالى ومراده .

فرسخ ذلك عندهم حتى قال شارح البخاري ابن حجر : قوله :ومسجد الأقصى ) أي بيت المقدس ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقد جوزه الكوفيون ، واستشهدوا له بقوله تعالى : (وما كنت بجانب الغربي) والبصريون يؤولونه بإضمار المكان ، أي الذي بجانب المكان الغربي ، ومسجد المكان الأقصى ، ونحو ذلك ، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة ، وقيل : في الزمان ، وفيه نظر ، لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة ، وسيأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء ، وبيان ما فيه من الإشكال والجواب عنه اهـ .

قلت : أما في الزمان فخلطهم في ذلك غير خاف ، فلا مقاربة ما بين بناء البيت الحرام ومسجد سليمان ، فالأول بناه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام والثاني بناه سليمان عليه الصلاة والسلام ، فأي مقاربة ممكن يأتون بها .

أما عن بعد المكان فلأن يكون المقصود مسجد المدينة بذاك الوصف وهو الحق ، أولى من المسجد الذي بناه النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، ولا يقال لما بعد وعزل بينهما مثل نهر الأردن ذاك الأقصى إنما يقال هذا لما قرب منك لكنه على مسافة متصلة لا فصل طبيعي بينهما مثل البحر أو النهر ، فيقولون : أقصى النهر أو الجزيرة ويريدون ما اتصل بالمكان لا ما تجاوز حدهما ، فعبر النهر وعبر الجزيرة شيء واقصاهما شيء آخر لا بد يعني بقاء الإتصال لا الإنفصال ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى عن مريم : ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ ، فلا يريد بذلك المكان البعيد المنفصل ، فلو عبرت الأردن لتعين التعريف بذلك لكن حين تنأى بجانبها لمكان قريب من أهلها قال بأنها بمكان أقصى منهم ، ولا يصح هذا بما هو بعيد غير متصل بالمكان .

إذا معنى الأقصى حتما ما اتصل بمكان المسجد الحرام ومراده أرضه فما انفصل عن المكان لا يقال أنه أقصى منه بل لا بد من بيان أكثر للإفادة بالتعيين ، لكنه اقتصر على ذلك الوصف لأنه يريد مكان المدينة من مكان المسجد الحرام ، لا ما بعد عن الجزيرة العربية وفصل مكانهما فاصل طبيعي يعزلهما عن بعض كنهر الأردن مع بعد المسافة بينهما بعدا شاسعا يعزل بقرى وأمصار عبر النهر وقبل النهر ، عكس المدينة فلا عازل بينهما كما الحاصل بينه وبين مكان المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام .

وروى الحديث الترمذي بلفظه المحرف وقال : حديث حسن صحيح . لكن عند أحمد بن حنبل روي على وجهين المحرف والذي نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال به وهو الأصل ولم يلتزموه لما قررت روايتهم له بالمعنى ، ولأنهم يعتقدون أن المسجد الأقصى المراد به مسجد سليمان عليه الصلاة والسلام فكانت تلك حقيقة مسلمة عندهم فلا يضرهم بعد ذلك خلطهم وكذبهم ، فصاروا يروونه تارة هكذا وتارة هكذا ولا يمكن خرج من فيه الشريف صلى الله عليه وسلم إلا على أحد الوجهين .

فعن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس .

وفي لفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس .

وخالفه عبد الملك بن عمير فحدث به عن قزعة أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأعجبني فدنوت منه وكان في نفسي حتى أتيته فقلت أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فغضب غضبا شديدا قال فأحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمعه ، نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى اهـ .

ومثل ما اختلفوا على قزعة في لفظه ، اختلفوا كذلك على لفظه من طريق شهر بن حوشب فروي تارة كذا وتارة كذا : عن شهر قال لقينا أبا سعيد ونحن نريد الطور فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوللا تشد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة وبيت المقدس . ورواه عن ليث لكن من طريق عبد الحميد خالف فقال : حدثني شهر قال سمعت أبا سعيد الخدري وذكرت عنده صلاة في الطور فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا اهـ .

ومثل ما حصل مع الرواية عن أبي سعيد حصل مثله تماما مع الرواية عن أبي هريرة ، وهذا كله يدل على ما قررت هنا أن ذلك من جراء الرواية بالمعنى ولأن بتصورهم هذا هو مراد الله تعالى بالآيات الأول من سورة الإسراء .

ولا بد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قال بأحد اللفظين ، لأنه ليس مثلهم متوهما ولا مفتريا ، بل نطق عن وحي من الله عز وجل والله تبارك وتعالى لم يرد إلا مدينته ومسجده لم يرد مسجد سليمان ولا تلك المدينة التي كانت يوما ما مقدسة بقداسة ذلك المسجد فزال عنها ذلك بزوال قداسة ذلك المسجد .

وأعود للتنبيه هنا بأن البخاري رحمه الله تعالى لم يروه إلا بلفظ " المسجد الأقصى " لا حديث أبي سعيد هذا ولا حديث أبي هريرة ، أما مسلم فقد رواه عن أبي هريرة تارة " إيليا" و تارة "الأقصى " ، وعن أبي سعيد بالمحرف ولم ينقل الصحيح عنه ، وأعني افراد كل منهما ، أما المتفق فبالاتفاق لم يروياه إلا بما حرف لفظه . 


الحديث الثاني : عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام , ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم , ومسجد الأقصى " .

رواه غيرهما بغير هذا اللفظ وأبرزهم وأقدمهم مالك رحمه الله تعالى وفيه قصة عن أبي هريرة وكعب أحبار اليهود ، وكان موهم الصحابي بتعيين جبل الطور وأخذ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يشد له الرحل مثل القصة مع أبي سعيد لما كان سبب تحديثه بذات الخبر لمن كان يشد رحله لجبل الطور وكلهم معتمد على تعيين كعب الأحبار ، الذي كان الصحابي يحدث يوما كاملا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكعب يحدث عن التوراة المحرفة ، ولم يبلغنا عنه نصح في حقيقة تلك التوراة وكيف تم تبديل ما فيها ، ولا أدري من أين أتى لهم بتعيين جبل الطور ذلك المنافق الكذاب ، ولم يصدق إلا بذكر كثرة السيول آخر الزمان لما نصح ابن الزبير يرفع اساسات البيت الحرام ، ومع هذا ضل بتقارب ذلك الأمر يتأوله قريبا سيقع ولم يصب بذلك التقريب ، مثل انه لم يصب بذلك التعيين لا مكان مسجد سليمان عليه الصلاة والسلام ولا للجبل الذي كلم الله تعالى من على ظهره نبيه ورسوله موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، وما كتمه أكثر مما أبداه ، ومما أبدى من الخبال وسفه العقل عجب وربي ويقره على ذلك مثل عمر الفاروق للأسف ولا ينكر عليه ، مثل فتواه بحل أكل الجراد للمحرم بحجة أنه من صيد البحر وأن الجراد ما هو إلا عطسة من عطسات الحوت ويقسم على ذلك !!

ثم أخذوا يروون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا حول ولا قوة إلا بالله .


قال مالك عن يزيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فيما حدثته أن قلت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة .
قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، فقلت بل في كل جمعة، ( فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله )

قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور ، فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس يشك .

قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة فقلت : قال كعب ذلك في كل سنة قال عبد الله بن سلام كذب كعب .

( أو ) قال إلىبيت المقدس ) بدل مسجد إيليا ( يشك ) الراوي في اللفظ الذي قاله وإن كان المعنى واحدا . وفي رواية الصحيحين : والمسجد الأقصى اهـ . هكذا قال الشارح صاحب المنتقى لأن هذا من المسلم به في تصوراتهم وأحال للصحيحين فهم العمدة في ذلك بما فعلوا من منكر على خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهنا تثبت هذه الرواية في هذا الخبر من طريق مالك أن شك الراوي يعد منتهى الضبط الذي وقف عند حد الشك هل قال : مسجد إيليا أو قال : بيت المقدس . ونرى هنا خروج المسجد الأقصى من تلك الرواية بالمرة لأن الراوي دار شكه حول اسمين لمسجد سليمان ولم يذكر بتاتا المسجد الأقصى لأنه لم يذكر من الأصل إنما أقحموه اقحاما فيما بعد لتصورهم أن المقصود بتلك الآيات من سورة الإسراء مسجد سليمان ، ولما ثُبت ذلك في الصحيحين اعتمد وصار عليه الإجماع ، ولهذا نرى كيف عول صاحب المنتقى على ما ثبتوا حين وقع الشك للراوي ، وهذا بين وظاهر بصحة ما تقرر من الحق بكتابنا هذا ولله الحمد والفضل .

ويروي الحديث هذا بعينه أحمد من الوجهين من طريق مالك بالشك ومن طريق آخر بغير شك لكن بذكر أنه المسجد الأقصى ، وإلى هذا المنتهى ببيان مدى خلطهم والتباس تلك العقيدة عليهم .

وفي مسلم من طريق سلمان الأغر عن أبي هريرة من غير شك قال ( ومسجد إيلياء ) . ومن وجه آخر عند مسلم : ( ومسجد الأقصى ) 

وعند النسائي رحمه الله تعالى قال : أخبرنا قتيبة قال حدثنا بكر يعني ابن مضر عن ابن الهادبه وقال :ومسجد بيت المقدس )

وأما البخاري كما قلت قبل لم يروه إلا على الوجه المحرف لا عن أبي هريرة ولا أبي سعيد , لا بما انفرد به عن مسلم ولا بما اتفقوا عليه ، عكس مسلم فقد رواه عن أبي هريرة تارة الأقصى وتارة إيليا .

الحاصل أن أصل الحديث عن أبي هريرة هو المروي عند مالك رحمه الله تعالى وليس به ذكر المسجد الأقصى وكل من خالف لفظ تلك الرواية فقد حرف وبدل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومردود عليهم ذلك مع الإثبات هنا لله الحمد ، وعليه لا يجوز حمل ذلك التحريف والنهوض به لمعارضة ما قررت هنا في تعيين المسجد الأقصى أنه مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى أسرى برسوله له ومن ثم لبيت المقدس ثم عرج به إلى السماء ، فلا يجوز المعارضة بذلك التحريف بحجة المغايرة ما بين المسجد النبوي والمسجد الأقصى ما يلزم منه برأيهم وحسب تحريفهم أن المسجد النبوي ليس هو المسجد الأقصى ، بعد ما بينت هنا ونقضت عليهم تلك الكذبة .

والإعتقاد الحق أنه أسري به بروحه عليه الصلاة والسلام بمنامه وأراه تعالى رؤيا حق ورؤيا الأنبياء حق ، والخليل ابراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد تعالى يبتليه بمحبته لابنه اسماعيل ويمتحنه لم يرسل له ملاكه جبريل أشكرة ليقول له اذبح ابنك اسماعيل وضحي به ، بل أراه ذلك بالمنام ، ولما جاء عليه الصلاة والسلام يتأول رؤياه تلك على أنها حق من الله عز وجل ويجب عليه تنفيذ دلالتها ، حينئذ فداه الكريم بذبح عظيم ولم يعنف عليه لأن رؤياه كانت حق ومن باب الإمتحان والإبتلاء ، وإلا محرم التضحية بالأولاد لا بالنحر ولا بطرحهم في النار كفداء لله عز وجل ، والإسراء دون ذلك وجاهل من يتحكم ويمنع الإسراء بروحه عليه الصلاة والسلام بالمنام إلا أن يكون ذلك يقظة ، ولهذا لما كانوا جهلة بهذه العقيدة أصروا بعدم صحة أن يكون ذلك مناما حتى قال قائلهم بتأويلات سخيفة لإصرارهم على الجهالة مثل دعوى أن معاوية القائل أن الإسراء رؤيا منام أنه كان كافر يومها ، أو القول عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت صغيرة يومها ولا علم لها بذلك ، وغير هذا من أقوال تدل على المكابرة والمعاندة بالجهل ، فرؤياهم حق عليهم الصلاة والسلام ومهما يكون فيها فهو حق ، وقد ضرب له بذلك المنام من آيات الله تعالى العجب والذي لا يمكن يكون باليقظة ولا يكون مثل ذلك إلا من باب ضرب الأمثلة بالمنام مثل طواف الدجال بالكعبة أو منادات الشيطان له ليتوقف فيحدثه أو مشاهداته لآكلي الربا أو الزناة وغير ذلك .

ومن هذا الباب مشاهداته لبناء بيت المقدس سواء قيل المقصود المسجد ذاته أو المدينة ، فكل ذلك والتوصيف والتمثيل هو مما يناسب المشاهدات بالمنام لا اليقظة ، وكل من أصر على غير هذا فقد كابر وخلط وستضطرب عليه الأصول وتتفلت منه الفروع ، وكيف لا والجهال يعتقدون بشق صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم وغسل اعضائه باليقظة وليس ذلك من ضرب الأمثلة والتهيئة لتلقي الدعوة ومهام البعث العظيم ، هذا وهم يروون بتعدد تلك القصة مرة وهو صغير ومرة أخرى في الإسراء ثم لا يعون ويفهمون المعنى .

فهل أدرك وعلم أولئك الجهلة أن المسيح أطعم الإنجيل بالمنام ، أو أن حزقيال فتح فمه فأكل ما أوحى له تعالى من مشاهدات المستقبل : ﴿ يَا ابْنَ آدَمَ ، كُلْ مَا تَجِدُهُ كُلْ هذَا الدَّرْجَ ، وَاذْهَبْ كَلِّمْ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ فَفَتَحْتُ فَمِي فَأَطْعَمَنِي ذلِكَ الدَّرْجَ ﴾ . بالله يا مخابيل أترونه أكل النبي ذلك الدرج باليقظة أو أن الله تعالي لم يتم له تطهير صدر ذلك الطفل الصغير حين شقه فيعاوده ليشقه وهو كبير عند الإسراء ؟!

فما يحصل للأنبياء بالمنام حق وأثره حق ، مثل كذلك ما حصل للنبي دانيال عليه الصلاة والسلام قال :
 

﴿ وَهُوَذَا كَشِبْهِ بَنِي آدَمَ لَمَسَ شَفَتَيَّ ، فَفَتَحْتُ فَمِي وَتَكَلَّمْتُ وَقُلْتُ لِلْوَاقِفِ أَمَامِي : « يَا سَيِّدِي ، بِالرُّؤْيَا انْقَلَبَتْ عَلَيَّ أَوْجَاعِي فَمَا ضَبَطْتُ قُوَّةً 


لكن أولئك الجهلة يقولون ما لا يعون دلالته هنا ويخوضون كثيرا بالجهالات المضحكات ، فهل أعظم من وضع كفه الله عز وجل بين ثدييه عليه الصلاة والسلام ؟! ، كان ذلك بالمنام وشأن الله تعالى مع الأنبياء بالمنام ورؤى الحق أكبر من تصور عقول أولئك المحرفة .

 

كتبه / 

أبو عبد الله الحسين بن موسى بن الحسين اللحيدي

3 شعبان 1434 الموافق12/6/2013

....

 

 

 

 

 

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الفصل الثامن

الفصل التاسع